هذه مقولة ظالِم لنفسه، ملَّكه الله رقابَ خَلْقه، فبغى عليهم، وأنعَم الله عليه، فطَغى، وأمْهَله، فخُيِّل إليه من طُغيانه وبَغيه أنه إله، إنه فرعون - قاتَله الله - بنى قصره من خير الله فوق نهرٍ يجري بأمر الله، وحكَم شعبًا من خَلْق الله، فنَسِي نفسه وادَّعى أنه الله، فلا حول ولا قوة إلا بالله، إنه أذلَّ أعناق الرجال، واستحيى النساء، وذبَح الأطفال؛ ليَخلو له الأمر بلا منازع، الجبار العظيم القاهر فوق عباده.
ذبَح الأطفال؛ لأن عرَّافيه قالوا له: سيولَد طفل من بني إسرائيل، سوف تكون نهايتك على يديه، ففعَل فَعْلته؛ ليكون في مأمنٍ، أنه يؤتَى الحَذِر من مَأْمنه، فربَّى ذلك الطفل "موسى" في بيته، وتحت رعايته وأُبوَّته؛ ليقضي الله أمرًا كان مفعولاً؛ ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ﴾ [القصص: 8].
ولقد كان فرعون سادرًا في ظُلمه وبَغيه وقَهره للناس؛ ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا ﴾ [القصص: 4]، فساء فِعْل الظالمين، وحينما جاءه موسى بالبيِّنات رَكِب رأسه، وتعجَّب من الأمر؛ إذ كيف يدعو موسى إلى إله غيره، فأمَر أن يُبنى له صرحٌ عالٍ؛ ليرى إله موسى، فقال: ﴿ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى ﴾ [القصص: 38].
لذلك حينما آمَن الناس مع موسى، دارَت رأس فرعون، ورَكِبه الشيطان، فذكَر الله على لسانه أنه قال: ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾ [القصص: 38].
ولقد لخَّص الله حال فرعون في سورة النازعات؛ حيث قال تعالى لموسى: ﴿ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى * فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى * فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى ﴾ [النازعات: 17 - 26].
هذه مقدمة سورة الفتح التي قال الرسول الكريم في حقِّها بعد نزولها عليه: ((نزَل عليّ البارحة سورة هي أحبُّ إليّ من الدنيا وما فيها: ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ﴾)) أخرَجه أحمد، ورواه البخاري.
﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ﴾؛ أي: نصَرناك يا محمد نصرًا ظاهرًا بيِّنًا، حينما تَمَّ لك صُلح الحديبية، فإنه ترتَّب عليه خيرٌ كثير، وآمَن كثيرٌ من الناس، واجتمَع بعضهم ببعض، وتفاوَض المؤمن مع الكافر، وما سيترتَّب على هذا الفتح من عزٍّ للمؤمنين ونصرٍ لرسول الله الكريم.
هنيئًا لك ومريئًا يا نبي الله، بيَّن الله - عزَّ وجلَّ - ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟
هكذا قال أصحاب رسول الله له حينما قرأ عليهم الآيات، فنزَلت عليه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ﴿ لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الفتح: 5].
لقد غفَر الله لرسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، ومع ذلك روى الإمام أحمد عن المغيرة بن شُعبة أنه كان - صلَّى الله عليه وسلَّم - يصلي حتى تورَّمت قدماه، فقيل له: أليس قد غَفَر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟! هل تعلم ماذا كان ردُّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم؟ قال: ((أفلا أكون عبدًا شكورًا؟!)).
صلوات ربي عليك يا رسول الله وتسليماته.
إنك لعلى خُلق عظيم، وإنك لسيِّد الشاكرين، وهذا من خصائصه - صلَّى الله عليه وسلَّم - التي لا يُشاركه فيها غيره، وما غفَر الله لأحدٍ قبله - فيما أعلم - ولا بعده ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر.
وهذا تشريف عظيم لَم يَنله سواه من البشر، فهو أكمل البشر على الإطلاق، وسيِّد ولد آدم في الدنيا والآخرة؛ ليتمَّ نعمته عليه في الدنيا والآخرة، ويَهديه صراطًا مستقيمًا، وشرعًا عظيمًا، ودينًا قويمًا؛ ﴿ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ﴾.
وإنَّ الله ناصرك ومؤيِّدك - لخضوعك لأمره - على جميع أعدائه، نصرًا قويًّا حاسمًا، فيه عِزُّك الذي يترك في نفوس الكافرين المَذلَّة والهَوَان.
صدقت يا ربي، فقد نَصَرت رسولك والذين آمنوا معه نصرًا عزيزًا، وفتَحت له مكة بعد ذلك، فتَحت لرسولك - صلَّى الله عليه وسلَّم - فتحًا مبينًا، ودخلَ الناس في دين الله أفواجًا، وخَسِئ الكافرون، وكانوا هم الخاسرين.
الإسلام دين الفطرة، يدعو إلى التأمُّل، واستخدام العقل فيما حولنا من ملكوت السموات والأرض، ولقد دعا القرآن الكريم الناس إلى تأمُّل خَلْق السموات والأرض، والليل والنهار، والحياة والموت، ولقد استخدَم مرات كثيرة الفعل: "ينظرون" من النظرة بالعين، نحو قوله تعالى: ﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ﴾ [الغاشية: 17 - 20].
وفي النظر دعوة لاستعمال العين المجرَّدة في هذه الأشياء؛ لتأمُّل خَلْقها، والاستدلال على خالقها - سبحانه، ومرات كثيرة أخرى يستخدم القرآن الفعل: "يُبصرون"، وهذا الفعل وإن كان فيه معنى النظر والإبصار بالعين، إلاَّ أنَّ معنى التأمُّل فيه أكثر، فعادةً يُستخدم في الدعوة إلى استخدام البصيرة، وليس الإبصار؛ لتأمُّل ما لا يمكن أن تقعَ عليه العين المجرَّدة.
وهذه الآية الكريمة تَستصرخ خَلْق الله أن يُبصروا ما بداخل أنفسهم، ففيه أدلة كافية على قدرة الله ووحدانيَّته، وإذا لَم يَكفهم تأمُّل ما حولهم، فعليهم بتأمُّل أنفسهم؛ كيف يَتنفسُّون؟ وكيف تعمل قلوبهم؟ وكيف تُفكِّر عقولهم؟ وكيف يَهضمون؟ وكيف يُخرجون ما في بطونهم؟ وكيف تعمل أكبادهم وأمعاؤهم وكُلاَهم؟ وكيف ينامون ويستيقظون؟ وكيف يتناسلون ويحبون ويكرهون؟ هل هذا كله مَحض صدفة؟ أم أنَّ له خالق مُدبِّر قادرٌ، أحسَن الصُّنع وأحكَم الخَلق، وبذلك يكون جديرًا بالتوحيد والشكر والحمد؟!
نزَلت هذه الآية وأخرى مثلها، هي قوله تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ﴾ [الشورى: 32]، نزَلتا على رجل أُمِّي لَم يَخرج من صحراء العرب، ولَم يرَ بحرًا، ولَم يستعمل الفُلك، حتى الفلك التي كانت في وقته مجرَّدَ قوارب، لَم يكن لها شأنُ ما نراه اليوم يَمخر عُباب البحر والمحيطات، ومع ذلك أنبأهم العلي القدير بأمر تلك الفلك التي هي كالجبال في ضَخامتها، وأنها من آيات قُدرته - سبحانه جلَّ وعلا.
ومن الغريب أن أصحابه البدو لَم يُدهشوا لذلك، ولَم يسألوا عنه؛ إذ كيف يسألون وهم يعلمون أن في القرآن خبرَ مَن قبلهم، ونبأَ مَن بعدهم، وهم به مؤمنون ولكلماته وآياته مُصدِّقون؟!
الجواري هي الفلك، وهي كالأعلام؛ أي: كالجبال الشامخة، تجري في البحر آيةً من آيات الله، لَم يَروها، ولَم يَخطر على بالهم كيفيَّتها، ومع ذلك آمَنوا وصدَّقوا.
وتحقَّق الأمر كفَلق الصُّبح في عصرنا الحديث، فمنها البوارج، وحاملات الطائرات، وقاذفات اللهب، وناقلات البترول العملاقة، وعبارات النقل والشحن، وهي فعلاً كالأعلام - الجبال الشامخة - تعبُّ في مياه البحار والمحيطات عبًّا، بل تكاد الجبال تَصغر دونها.
نزَلت هذه الآية على محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - في قرآن يُتلى، وفي تَحدٍّ واضح لكلِّ ذي لُبٍّ وعقلٍ، وتحقَّق الأمر جليًّا بعد ما يزيد على ألف سنة، فأين ذهَب المنكرون؟ أفلا يُفكِّرون، وبالله يؤمنون؟ إنَّك لا تهدي مَن أحبَبْتَ، ولكن الله يهدي مَن يشاء، وسبحان ربي العظيم.
هذه آية من آيات قدرة الله، يتحدَّى بها خَلقه من جنِّه وإنسه، وأنه - سبحانه وتعالى - مُحيط بهم، لا يستطيعون منه فرارًا ولا هَربًا، وأنَّ حُكمه عليهم واقعٌ لا مَحالة، هكذا شاءَت مَشيئته، دنيا تعيشونها؛ فمنكم السعيد، ومنكم الشقي، وآخرة تُبعثون فيها؛ فإلى الجنة، أو النار، فأين المَهرب؟ لن تستطيعوا هربًا من أمر الله وقدره، ولن تَقدروا على التخلُّص من حُكمه، تَفِرون منه وإليه.
سوف يقع عليكم ما تُنكرونه من بعثٍ ونشور، كذِّبوا ما شئتُهم، فإنَّ أمر الله واقعٌ لا محالة، وإنَّ الحشر واقعٌ لا محالة، وسوف يُحيط بكم أمرُ الله لا محالة، يوم يقول الكافر المُنكر للبعث وقد رآه: ﴿ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا ﴾ [النبأ: 40].
وحيث يرى الملائكة الأطهار مُحَدِّقين به من كلِّ جانب، مُحدِّقين به وبالخَلق أجمعين، سبعة صفوف من كلِّ جانب، فلا يقدر أحدٌ على ذهاب أو فرارٍ ﴿ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ ﴾، لا يكون فرارٌ أو نجاة إلاَّ بأمر الله، إلاَّ مَن رَحِم ربي، وأَذِن له بالنجاة والخلاص، سبحانك ربي، لا فِرار منك إلاَّ إليك، ولا نجاة إلاَّ بإذنك.
يؤذون رسول الله بالقول، بألْسِنة حداد، ويؤذونه بالفعل والتآمُر والتربُّص به، ويؤذونه بالحسد؛ حسدًا من عند أنفسهم.
﴿ وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ ﴾؛قال ابن عباس ومجاهد: "ليزلقونك" ليُنفذونك بأبصارهم؛ أي: يَحسدونك لبُغضهم إيَّاك.
والمعنى عندي - والله أعلم - أنهم من حسدهم وشِدَّة بُغضهم، تكاد عيونهم تَخرق جسد الرسول الكريم من شِدَّة تسلُّطها عليه، وهذا المعنى قريب مما يقوله الناس: "كاد أن يأكلني بعينه".
وفي هذا دليلٌ على أنَّ العين إصابتها، وتأثيرها حقٌّ بأمر الله - عزَّ وجلَّ - فقد ورَد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يعوِّذ الحسن والحسين، يقول: ((أُعيذكما بكلمات الله التامَّة من كلِّ شيطان وهامَّة، ومن كلِّ عين لامَّة))، ويقول: ((هكذا كان إبراهيم يُعوِّذ إسحاق وإسماعيل - عليهما السلام))أخرَجه البخاري.
وحسَد الكفَّار للرسول الكريم ناتجٌ عن سماعهم للقرآن الكريم، ولَم يَكتفوا بحسدهم له، فهم يَزدرونه ويَحسدونه بأعينهم، ويُؤذونه بألْسِنتهم، ويقولون: إنه لمجنون؛ أي: أصابَتْه جِنَّة، فهو يَهذي.
انظر كيف يُطيِّر الحقدُ العقول؟ وانظر كيف يزيغ الحسدُ العيون؟ ألا ساء فِعل الكافرين.
وقد خَسِئوا بشهادة الله - عزَّ وجلَّ - حيث قال:﴿ وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ﴾ [القلم: 52].
هذه الآيات الكريمة ردٌّ فاصل على قول الكفار، وادِّعائهم زورًا وبُهتانًا بأنَّ الرسول الكريم مجنون، إنهم يعلمون أنهم كاذبون، ولكنَّه الحسد الذي أعمى قلوبهم؛ ﴿ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46].
ومن هنا، فإنَّ الله - سبحانه - يُقسِم تشريفًا وتكريمًا لرسوله الكريم بأنه: ﴿ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ﴾؛أي: جاءه به ملكٌ كريم من عند ربٍّ كريم؛ أي: إنَّ هذا القرآن الذي يتلوه محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - ليس من عنده، وإنما بلَّغه به من ربِّه ملكٌ شريف، له مكانة عند الله ومنزلة رفيعة، وهو جبريل - عليه السلام.
ولقد أقسَم الله على ذلك: ﴿ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ ﴾، الخُنَّس: هي النجوم، تَخنِس بالنهار - أي تختفي - وتظهر بالليل؛ كذا رُوِي عن علي - رضي الله عنه - حيث قال: "هي النجوم تَخنِس بالنهار، وتظهر بالليل"، اخرجة ابن جرير وتَبِعه في ذلك ابن عباس، ومجاهد، والحسن.
﴿ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ ﴾؛أي: الجواري التي تجري في مجاريها المحدَّدة لها ليلاً، وهي كُنَّس حين تختفي نهارًا، ومنه قول العرب عن الظبي حين يختفي: "أوى الظبي إلى كِناسه"؛ أي: أوى إلى مَخبئه، كما أقسَم - سبحانه - بالليل ﴿ إِذَا عَسْعَسَ ﴾؛ أي: إذا أدبَر، وبالصُّبح ﴿ إِذَا تَنَفَّسَ ﴾؛ أي: إذا بثَّ ضياءَه، ونفَثَ نوره.
لقد كان عند الله ذلك مُمكنًا أن يجعل الدنيا نهارًا مستمرًّا دون ليلٍ، أو يجعل الليل مستمرًّا دون نهارٍ، لكن رحمته بنا وعِلْمه بحالنا جعَل الليل والنهار متعاقبين، لكنَّهم لا يسمعون ولا يُبصرون، ولا يتدبَّرون.
إنه عليم بخَلقه؛ يعلم ظاهرهم وباطنَهم، يعلم مَسلكهم وتصرُّفاتهم؛ لذلك يُحَذِّر عباده؛ ليَحوزوا رضاه، ويفوزوا بثوابه وحُسن جزائه؛ لذلك قال - وهو أصدق القائلين -:
﴿ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ﴾ [التغابن: 14].
﴿ إِنَّ ﴾ تفيد التوكيد، وأنَّ ما بعدها أمرٌ مؤكَّد الحدوث.
و﴿ مِنْ ﴾ تفيد التبعيض؛ أي: بعض أزواجكم وأولادكم، فالحكم في الآية مُنصبٌّ على البعض منهم.
﴿ أَزْوَاجِكُمْ ﴾ الزوج يُطلق على الواحد من الزوجين، فالرجل زوج والمرأة زوج، وهما زوجان؛ لذلك ينبغي أن يكون الكلام على الرجل والمرأة، فقد تكون المرأة عدوًّا لزوجها، وقد يكون الرجل هو العدو.
والمعنى العام في الآية الكريمة: يُخبر أنَّ بعض الأزواج أو الزوجات، وكذا بعض الأولاد، عدوٌّ للمؤمنين من أهلهم، فقد يُفْتَتن الرجل بزوجته، فيُطيعها في معصية الله، فيقطع رَحِمه، وتُلهيه عن ذِكر الله والصلاة، والعمل الصالح، أو قد تكون غير مُطيعة له فيما يَطلب منها، فتَزوغ عيناه إلى غيرها، فلا تَعصمه عمَّا حرَّم الله.
أو تكون بكَّاية شكَّاية، تؤرِّق جَنْبَيه عن مَضجعهما، فيَندفع في خصومات مع جيرانه وأهله، لا يعلم مداها إلاَّ الله، وهذا الأمر ليس وقفًا على المرأة، فقد يرتكب الرجل مثل هذا الحُمْق، فيَدفع بزوجته إلى ما يُغضب الله ورسوله.
إذًا أليس الزوج - رجلاً أو امرأة - بهذه التصرُّفات وغيرها، يكون عدوًّا لزوجه، يستحقُّ الحذر منه ومن تصرُّفاته؟
وكذلك الأولاد فتنة لوالديهم؛ قال عنهم الرسول الكريم: ((الولد ثمرة القلوب، إنهم مَجبنة مَبخلة مَحزنة))
أخرَجه الحافظ ابن كثير، وأخرَجه الهيثمي في "كشف الأستار عن زوائد البزَّار" بلفظ: ((إنَّ الولد ثمرة القلب)).
وقال - تعالى -: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [الأنفال: 28].
كما أنَّ الرجل منَّا قد يَرتكب حماقات تُورث المهالك؛ بسبب حبِّه لأولاده وانسياقه وراءَهم، فيَسرق ويَضرب ويَبطش، ويعادي جيرانه وأهله بسببهم.
أفلا يستحق هذا الأمر التنبيه من الله؛ ليَحذر المؤمنون ما قد يكون فتنة لهم وعدوًّا، يُوردهم المهالك وسوء العاقبة؟ بلى يستحقُّ، وقول الله هو الحق، وسبحان ربي العظيم.
أي: أنت دَعي في نَسَبك، وحُسِبت على آلِ هاشمٍ، ولستَ منهم.
قال ابن عباس فيما رواه مجاهد: الزنيم، المُلحق النَّسَب.
وقال سعيد بن المُسيَّب: هو المُلصق بالقوم ليس منهم.
وقال سعيد بن جُبير: الزنيم: الذي يُعرف بالشر، كما تعرف الشاة بزنيمها، والزنيم اللصيق، وهو الذي يتسلَّط عليه الشيطان كما لَم يتسلَّط على غيره.
إذًا فالعُتل الزَّنيم، شخص جامع لكلِّ منابع السوء والشر، مع سوء في الطبع والأصل؛ لذلك حذَّر الله رسوله الكريم ومَن تَبِعه من المؤمنين من هذه الأصناف السيِّئة من البشر، فقال:
﴿ فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ * وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ * أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ﴾ [القلم: 8 - 16].
لا تُطع المكذِّبين الذين يَكذبون في حديثهم، بعد أن أنْعَمنا عليك بالإسلام والخُلق العظيم، أولئك الذين يَوَدُّون أن تركنَ إلى آلهتهم، وتترك ما أنزَلنا عليك من الحقِّ، كما لا تُطع كلَّ حلاَّف كاذبٍ يَجترئ على الله يَحلف به كاذبًا، فهو مُكابر ضعيف مهين.
﴿ هَمَّازٍ ﴾: يَغتاب الناس.
﴿ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ﴾، َيمشي بين الناس بالنميمة والفتنة، وبثِّ العداوة بينهم، ويُفسد ذات بينهم.
﴿ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ ﴾: يَمنع الخير عن الناس؛ لكُرهه الشديد لهم، مع أنه خيرُ الله قد وهَبه إيَّاه.
﴿ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ﴾، يتعدَّى حدود الشرع، ويَفعل المُحرَّمات.
﴿ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ﴾: جمَع كلَّ مظاهر الشرِّ والجَشَع، دَعِيّ لئيمٌ، كافر بالله على الرغم مما أنعَم الله به عليه؛ ﴿ أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ ﴾.
يَدَّعي أن ما أُنزِل على الرسول منقولٌ عن قَصص الأوَّلين، ذلك من كفره وضلاله، وسوء طبعه ولُؤمه.
﴿ سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ﴾؛ أي: سوف نُبيِّن أمره بيانًا واضحًا، ونَجعل له علامة واضحة يُعرف بها يوم القيامة، مع ما ينتظره من عذاب شديدٍ.
يوم يقول الكافر فيه: ﴿ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا ﴾ [النبأ: 40]، ويَعضُّ أصابع الندم على ما فرَّط في حقِّ الله، يوم يقول: ﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ﴾ [المؤمنون: 99 - 100].
هَيْهات هَيْهات أن تعود، بَئِسْتَ مَسلكًا، وخَسِئتَ عملاً، وإنك لكاذب، ولو عَلِم الله فيك خيرًا، لهداك في مَحياك، إنه الموقف العظيم والهول والفَزَع هو الذي جعَلك تتلمَّس المهرب والنجاة، وكم مرات في الدنيا ضاقَت بك السُّبل، فقلت: يا رب، نَجِّني، وتضرَّعت إليه، حتى إذا ما نجَوتَ، نَسِيتَ ما قلت، وَعُدت إلى مسالك الظالمين الضالين.
﴿ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ﴾ [المؤمنون: 100]، ولن يعود، وهذا شأن يوم القيامة.
﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ﴾طالبًا النجاة، مذهولاً عنه، بل يفرُّ من كلِّ أهله وذَوِيه، ﴿ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ﴾، ليس هذا فقط، بل ﴿ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ﴾ أعَز مَن كان يحب في الدنيا: زوجته وأولاده، ولكلٍّ من هؤلاء وهؤلاء ﴿ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾ عن الآخرين.
وعَظَمة الآية الكريمة في أنها رتَّبت أهل المرء وأهميَّتهم بالنسبة له من الأبعد إلى الأقرب.
والأخ وإن كان حبيبًا إلى النفس، لكنَّه أبعد الأحباب إليها، وأقرب منه حبًّا الأم ثم الأب اللذان منهما أتى، فهما أصلُه الذي منه نَما وتَرَعْرَع.
وطبيعة الحياة البشرية تجعل الزوجة أقربَ إلى النفس بحُكم العِشرة ومشاركتهما حُلوَ الحياة ومُرَّها؛ لأنها هي التي أنجبَت له قُرة عينه، أولادَه الذين هم زينة الحياة الدنيا.
ما أعظم شأنك يا رب، فأنت بنفوس خَلقك عليم، وقولك الحق، ومَن أحسن منك قولاً، أفلا يعقلون؟!
أيُّها الإنسان، إنَّك صائر إلى ربِّك طوعًا أو كرهًا، فمُلاقيه حَتمًا، فيُحاسبك على عملك، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، وسوف يُجازيك بعملك، ويُكافئك على سَعْيك.
قال ابن عباس: تعمل عملاً تَلقى الله به؛ خيرًا كان أو شرًّا.
كلُّ شيء في كتاب تجده محصورًا لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها، ويَعجب الناس من أمر هذا الكتاب، ينكرونه في الدنيا، ويعجبون لأمره في الآخرة، هل هذا معقول؟
فقد وهَب الله لنا في رؤوسنا عقولاً تُسَجِّل كلَّ كبيرة وكلَّ صغيرة، لا تَخفى عليها خافية، ولا يكشف عنه إلاَّ بعد سقوطها.
أو هو كـ(الديسك) والذاكرة في الكمبيوتر، يَحفظ لك كلَّ ما تكتب عليه، لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلاَّ كتَبها وسجَّلها.
هكذا العقل به ذاكرة تُسجِّل عليك كلَّ كبيرة وصغيرة فعَلتها، أو قلتَها، أو رأيتَها، كيف لا تتذكَّر خَلْق الله فيك وما أوْدَعك من أسرار، أو تَعترف بما صنَع عقلك من صناديق سود وأجهزة كمبيوتر.
اجْلِس أيها الإنسان مع نفسك، واسترجِع تاريخ حياتك، فسوف يمرُّ أمامك شريط ذكريات في لحظات، فيه كلُّ ما فعَلت إن خيرًا وإن شرًّا.
هذا شريط الذاكرة المُودَع برأسك، هو كتابك الذي يَبعثك الله به، إن كان عملك خيرًا، أُوتيتَه بيمينك، وسوف تُحاسب حسابًا يسيرًا، وإن كان عملك شرًّا، أُوتيتَه من وراء ظهرك؛ لتأخُذه بيسارك، وعندها ستحسُّ بالخسارة والهلاك، وسوف تلقى سعيرًا لا مَحالة.
تذكَّر أيها الإنسان أنَّ كتابك معك، يُسَجِّل لك كلَّ كبيرة وكلَّ صغيرة، وسوف تُبعث به، وحاوِل أن يكون ما به خيرًا لتَلقى خيرًا.
والله - جلَّت قدرته - يُقسم بأشياء مما خَلَق؛ تعظيمًا لقَدرها، وتنبيهًا لخَلقه بأهميَّتها، وله - سبحانه عز وعلا - أن يُقسم بما يشاء، ولنا أن نُقسِم - إذا أقْسَمنا - به وحده.
﴿ وَالْفَجْرِ ﴾ في الآية الكريمة هو الصُّبح، وعن مسروق: أنه فجر يوم النحر خاصة، وهو أوقعُ؛ لأنَّ مسار الآية يدلُّ على ذلك، فهي تعظيم لشعائر الحج، وتخصيصٌ لِما به من فضلٍ.
﴿ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾،والليالي العشر: المراد بها الأيام العشرة الأُولى من شهر ذي الحجَّة، وقد ثبَت في صحيح البخاري قولُ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما من أيام العمل الصالح أحبُّ إلى الله فيهنَّ من هذه الأيام))، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلاَّ رجل خرَج بنفسه وماله، ثم لَم يرجع من ذلك بشيء))[3].
﴿ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ﴾ الشفع في اللغة: ما كان زوجًا، والوتر ما كان واحدًا.
وعن مجاهد: الشفع: الزوج، والوتر: الله - عزَّ وجلَّ.
وعنه: الله الوتر، وخَلقه الشفع: الذَّكر والأُنثى.
أمَّا الشفع والوتر المقصودان في الآية - والله أعلم - فالوتر يوم عرفة (اليوم التاسع)، والشفع يوم النحر (اليوم العاشر)، وهذا ما رواه جابر: ((إنَّ العَشر عشر الأضحى، والوتر يوم عرفة، والشفع يوم النحر))
أخرَجه أحمد والنسائي، وابن أبي حاتم.
﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ﴾إذا أدبَر، وهو قَسَمٌ بإدبار الليل، كما أنَّ القسم بالفجر قسمٌ بإقبال النهار، وعن عكرمة أيضًا: ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ﴾؛ يعني: ليلة المُزدلفة، وهي واسطة بين يوم عرفة ويوم النحر، وهذا أوقعُ.
ويتَّضح من هذه الأقوال إظهارُ ما في هذه الأيام العشرة من خير وبركةٍ، ونفعٍ وقُربى وفوز، بما فيها من يوم عرفة وليلِ المُزدلفة، وفجر النحر ويومه.
﴿ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ﴾؛ أي: هل يفهم كلُّ ذي عقلٍ ولُبٍّ مَغزى ما أقسَم الله به، فالحِجر هو العقل، وسُمِّي حجرًا؛ لأنه يَمنع الإنسان من التردي فيما لا يَليق من أفعال وأقوال.
سبحانك ربي؛ بيَّنت لنا مسالك القربى منك، وعَددت لنا مناهلَ الملاذ بك، وأقسَمت وقولك الحق، لتبيِّن لنا منابعَ الخير، ومنازل السَّعد، وأيام البركة والفوز، فهل هناك مَن يَعقل؟ وهل هناك مَن يَفقه؟
هاتان آيتان كريمتان من سورة الزلزلة، وهي سورة مدنيَّة من قِصار السور، آياتها ثمان، تضمَّنت آيات من الترهيب والترغيب؛ حيث تُنبِّه العباد، وتوقِظ الألباب من الغَفلة، وهى ذات فضل كثير، وتحتوي على أمر عظيمٍ؛ فقد ورَد عن الرسول الكريم أنه قال: ((مَن قرأ: ﴿ إِذَا زُلْزِلَتِ ﴾، عُدِلت له بنصف القرآن))، ورُوي عن علي بن أبي طالب أنه قال: "مَن قرأ: ﴿ إِذَا زُلْزِلَتِ ﴾أربع مرات، كان كمَن قرأ القرآن كله".
وكيف لا، وإنَّ لنا في زلزال أكتوبر 1992 لعبرةً، وهو لا يُقاس بزلزال الآخرة وزلزال البَعث؛ حيث خرَجت النساء من البيوت عَرايا والرجال مذهولين، وترَكوا أطفالهم وأموالهم، وذهل خليلٌ عن خليله، كلٌّ يجري على غير هدًى، يطلب النجاة بنفسه، مذهولاً عن غيره، فكان كيومٍ عظيم الشأن؛ ﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾ [عبس: 34 - 37].
هذا ما حدَث في الدنيا، فما بالك بزلزلة الآخرة؟ لذلك يقول ابنُ آدمَ ما حكاه الله عنه: ﴿ وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا ﴾ [الزلزلة: 3]؛ أي: ماذا حدَث للأرض؛ حيث يُصيبه ذهول عظيمٌ، وكَرْبٌ شديد، فها هو ذا مبعوث للحساب ويرى عجبًا، فإن الأرض ﴿ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ﴾ [الزلزلة: 4]، وتشهد لله خالقها وبارئها بما فعَل الإنسان على ظهرها، شاهدة له أو عليه، وهي فعَلَت ذلك بأمر الله لها؛ ﴿ بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ﴾ [الزلزلة: 5]،ولقد قال بعض العلماء: إنَّ نُطق الأرض على الحقيقة، فإن الله - سبحانه - يُنطقها؛ فقد ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قرأ هذه الآية ﴿ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ﴾،ثم قال: ((أتدرون ما أخبارها؟))، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإنَّ أخبارها أن تَشهد على كلِّ عبدٍ أو أَمَة بما عَمِل على ظهرها، تقول: عَمِل يوم كذا، كذا وكذا))، قال: ((فهذه أخبارها)).
الويل: العذاب الشديد، وقيل: وادٍ في جهنَّم لأولئك الذين هم من أهل الصلاة، ثم هم عنها ساهون؛ قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: يعني المنافقين الذين يُصَلُّون في العلانية، ولا يصلون في السرِّ.
الذين هم من أهل الصلاة، ثم هم عنها ساهون؛ إمَّا عن فِعلها بالكليَّة، أو يُخرجها عن وقتها، ومن دِقَّة ألفاظ القرآن، ومن رحمة الله بالمؤمنين، أنه قال: الذين هم عن صلاتهم ساهون، ولَم يقل: في صلاتهم ساهون.
فالسَّهو في الصلاة أمر واردٌ، وله كفَّارته بسجود السهو، وإلاَّ شقَّ الأمر علينا وصَعُب.
قال عطاء بن دينار: الحمد لله الذي قال: ﴿ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ﴾، ولَم يقل: "في صلاتهم ساهون".
لذلك فإنَّ معنى: ﴿ عَنْ صَلَاتِهِمْ ﴾؛ أي: الذين يَسهون عنها، فيؤخِّرونها إلى آخر الوقت أو بعده؛ كما ثبَت في الصحيحين أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يجلس يرقُب الشمس، حتى إذا كانت بين قرني الشيطان، قام فنقَر أربعًا، لا يَذكر الله فيها إلاَّ قليلاً))[5].
هؤلاء هم المنافقون الذين يتكاسَلون، ﴿ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى ﴾ [النساء: 142]. لا يريدون بها وجه الله، وإنما رياء ومظهر؛ حتى يقال: إنهم من المُصلِّين.
ألا بئس ما فعَلوا، وساء ما يصنعون، فهذا مصيرهم، وهذا جزاء المنافقين.
ثم إنهم لا يكتفون بالمُراءاة في صلاتهم، بل ﴿ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ﴾، فإنهم لَم يُحسنوا في عبادة ربهم، ولَم يُحسنوا إلى عباده، فمَنَعوا الزكاة والصَّدقات؛ قال زيد بن أسلم: "هم المنافقون، ظَهَرت الصلاة فصلوها، وخَفِيت الزكاة فمَنَعوها، حتى إنهم يمنعون الماعون؛ أي: لا يُعيرون المحتاج فأسًا، ولا قِدرًا ولا دَلْوًا، فبئس ما يصنعون".
هذه سورة براءة، التي تبرَّأ فيها الرسول من الكافرين وما يعبدون.
وقد رُوِي عن الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه صلَّى بها وبسورة الصمد ركعتي الفجر، كما رُوِي عنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه وصَّى بعض صحابته أن يقرأها حينما يضع مَضجعه للنوم ليلاً.
وكان الرسول يتبرَّأ بها من الكفَّار حين يبدأ يومه وحينما يُنهيه، وألفاظ السورة الكريمة تومِئ بأن قارئها يتبرَّأ من عبادة الكفار وأعمالهم فيما هو مُقبل من الأيام.
﴿ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴾ كما أنهم لا يعبدون ما يعبد، ﴿ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴾ كما أنه تبرَّأ مما قد عبَدوا من قبلُ، ﴿ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ ﴾، والتَّكرار يفيد التوكيد، والإصرار على الموقف، ﴿ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ، وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴾.
لقد كانت السورة الكريمة وضعًا لحدِّ محاولات الكفار مع الرسول الكريم، وصده عن دعوته التي تُسَفِّه ما يعبدون من دون الله، فقد عرَضوا عليه كلَّ ما يُغرى به البشر.
عرَضوا عليه أن يكون عليهم مَلكًا.
وعرَضوا عليه أن يَجمعوا له مالاً.
وعرَضوا عليه أن يُزَوِّجوه أجمل جميلات العرب.
ووسَّطوا لديه عمَّه أبا طالب.
فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم - قولاً مُحكمًا لا ريبَ فيه: ((والله يا عم، لو وضَعوا الشمس في يميني والقمر في يساري، على أن أتركَ هذه الأمر، أو أهلك دونه، ما تَرَكتُه)).
كيف يقبل هذه الدنايا، وهو الذي بعثَه ربُّه؛ ليُتمِّم مكارم الأخلاق، كيف يَقبل هذه الرذائل مَن أدَّبه ربُّه فأحسَن تأديبه؟ أليس هو الذي قال فيه - عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]؟
تخيَّل أنَّ الله مالك السموات والأرض، ومَن فيهنَّ وما فيهنَّ - يُقسِم بأنَّه على خُلق عظيم، ثم يعرضون عليه عرض الدنيا، فماذا يكون ردُّه؟ قطعًا: ﴿ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴾، يا أيها الكافرون: ﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾.
لكم ما تَعتقدون، ولي اعتقادي، لكم دينكم الذي تَزعمون، ولي ديني الذي ارْتَضَيتُ، رَضِيتُ بالله ربًّا، وبالإسلام دِينًا.
لقد تبرَّأتُ يا ربُّ ممن تبرَّأ منه رسولُك - صلَّى الله عليه وسلَّم - ورضيتُ بك ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ - صلَّى الله عليه وسلَّم - نبيًّا ورسولاً.
هذه رسالة تعريف من ربِّنا بنفسه، أرسَلها إلى خَلْقه؛ مَن آمَنَ منهم، ومَن أشرَك، ومَن كفَر، رسالة قصيرة بليغة، فيها كلُّ معاني التوحيد والتنزيه، ليس بعدها قولٌ، ولو أُفْرِدت كلماتها، وكُتِبت معانيها، وشُرِحت مراميها، لامْتَلأَت بها كتبٌ كثيرة، وقد تَقصر عن المطلوب، ولا تَفي بالمقصود.
فيها رَدٌّ على مَن يَعبد المسيح، وفيها ردٌّ على مَن يعبد عُزيرًا، وادَّعى كلاهما أنهما أبناء الله، وهما خَلْق من خَلْق الله.
وفيها ردٌّ على المجوس وخلافهم، ممن أشرَكوا بالله وعبدوا خَلقًا من خَلْق الله، وفيها ردٌّ على الكافرين بالله، المُنكرين للبعث والنشور.
يا محمد، ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾، ولَم يقل - سبحانه -: الواحد؛ فالواحد له ثانٍ وثالث، أمَّا الأحد فالذي لا قبله ولا بعده عددٌ، هو الأحد الذي لا نظيرَ له ولا وزير، وليس له شبيه ولا مثيل، الفريد في كماله وصفاته وأفعاله.
﴿ اللَّهُ الصَّمَدُ ﴾ هو الذي يَصمد إليه الخلائق في مسائلهم، السيد صاحب منتهى السُّؤدد، الحي القيُّوم الذي لا زوال له، وقال بعض المفسرين: "الصمد: المُصمت الذي لا جوفَ له ولا حاجة له به، فهو لا يأكل ولا يشرب، وهو الباقي بعد خَلْقه، الحاوي لكلِّ صفات الكمال والشرف، والعَظمة والقُدرة، ليس كمثله شيء، سبحان الله الواحد القهَّار".
﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴾ ليس له ولدٌ، ولا والد له، ولا صاحبة، يردُّ بذلك على مَن قال: ﴿ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا ﴾ [مريم: 88]، وقال - سبحانه - عن نفسه: ﴿ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 101].
سبحانك ربي تبارَك اسمُك.
﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ لَم يكن له نظيرٌ ولا مثيل، ولا مكافئ ولا شبيه، فتعالَى الله أحسنُ الخالقين.
فهل بعد هذا القول قولٌ؟ وهل بعد هذا الإيجاز بلاغة؟ ألا خَسِئ المُبطلون والمُشَكِّكون والمُشركون.
وسبحانك ربي، تبارَك اسمُك، وتعالَى جدُّك، وعزَّ جارُك، لا إله غيرك، ولا معبود سواك.
لقد رُوِي عن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ألَم ترَ آيات أُنْزِلت هذه الليلة، لَم ترَ مثلهنَّ قطُّ: ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ﴾ و﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴾)) اخرجة مسلم والترمزى.
ورُوِي عن عائشة - رضي الله عنها -: أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يقرأ بهنَّ - المعوذتين - ويَنفث في كفَّيه، ويَمسح بهما رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده.
ورُوِي عن عائشة - رضي الله عنها - أيضًا: أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان إذا اشتكى - أصابَه مرض - يقرأ على نفسه بالمعوذتين، ويَنفث، فلمَّا اشتدَّ وجعُه، كنتُ أقرأ عليه بالمعوذات، وأمسَح بيدي عليه؛ رجاءَ بركتها اخرجة البخارى والنسائى وابن داود
سبحانك ربي جلَّ شأنُك، وكما قال عمر - رضي الله عنه -: "كَثُر خيرُ ربِّنا وفاضَ".
كلُّ هذا الخير والبركة في القرآن، في كلِّ كلمة وفي كلِّ آية، لكن أين الذين يتدبَّرون؟!
﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ﴾؛ أي: أعوذ وأستجير وأستعين بربِّ الصُّبح وخالقه، فالق الإصباح، وفالق الحَب والنوى، ﴿ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ﴾، من شرِّ جميع خلقه، والأصحُّ الاستعاذة من شِرار خَلْقه، نحو: إبليس وذريَّته، ومن شياطين الإنس والجن، ومن شر النار، وما يُقرِّب منها من قول أو عمل، ﴿ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ﴾؛ أي: من شرِّ الليل إذا أقبَل بظلامه، ﴿ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ﴾؛ أي: من شرِّ السواحر إذا رَقَينْ ونَفَثْنَ في العُقد، وسَحَرْنَ خَلْق الله، ﴿ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ﴾ [طه: 69].
﴿ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ﴾ [الفلق: 5]، ومن شرِّ العين؛ فإن العين تُدخل الجملَ القِدر، وتُدخل الرجلَ القبر، وقد رُوِي أنَّ جبريل جاء إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: اشْتَكَيتَ يا محمد؟ فقال: ((نعم))، فقال: "باسم الله أَرقِيك، من كلِّ داء يُؤذيك، ومن شرِّ كلِّ حاسدٍ وعين، الله يَشفيك".
سبحانك ربي، ما ترَكت لنا من سبيل للخلاص، وبيَّنت لنا طُرق الإخلاص، وأَمَرت الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يُبَيِّن لنا مسالك الخواص، بأن نعوذ بك يا ربَّ الناس ومالكهم وإلههم، فأنت ربُّ الناس، الذي ربَّاهم بما رزَقهم، وأنت مالكهم، وهم عبيدك وحْدك لا شريكَ لك فيهم، وأنت إلههم الواحد القهَّار، خلَقت كلَّ شيء لعبيدك ويسَّرْتَه لهم، وقَهَرته؛ ليَأتمر بأمرهم، وجعَلته لأجلهم، وخَلَقت الناس لأجلك أنت وحدك دون سواك، وحصَّنتهم من شرار خَلْقك، لو ساروا على نَهْجك واتَّبعوا طريقك، ومن هذا أن يَستعيذوا بك من أخطر أعدائهم وأعدائك: الشيطان وجنوده.
﴿ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ﴾، وهو الشيطان الموكَّل بالإنسان، فإنه ما من أحدٍ من بني آدمَ، إلاَّ وله قرين يُزَيِّن له الفواحش، ولا معصوم منه إلاَّ مَن عصَمه الله، وقد روى الحافظ أبو يعلى الموصلي عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله - صلى الله عيه وسلم -: ((إنَّ الشيطان واضع خَطْمه على قلب ابن آدمَ، فإن ذَكَر الله خَنَس، وإن نَسِي الْتَقَم قلبه، فذلك الوسواس الخنَّاس))؛ أي: المُراوغ.
﴿ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ﴾: يأمرهم بالفواحش والشرور، ((وإنَّ الشيطان يجري من ابن آدمَ مَجرى الدم))، فالإنسان متى ذكَر الله في قلبه، تَصاغر الشيطان وخَنَس، ومتى نَسِي ذِكْر الله، تعاظَم وغَلَب، فعلينا أن نستعيذ بالله ربِّنا وخالقنا، ﴿ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ﴾.