وما الذي أغرقَ أهلَ الأرضِ كلَّهُم حتى علا الماءُ فوقَ رؤوسِ الجبالِ؟ وما الذي سَلَّطَ الريحَ على قومِ عادٍ حتى ألقتْهُم مَوتى على وجهِ الأرضِ كأنَّهُم أعجازُ نخلٍ خاويةٍ. ودَمَّرَتْ ما مَرَّ عليه مِنْ ديارِهم وحرثِهم وزروعِهم ودوابِّهم، حتى صاروا عبرةً للأممِ إلى يومِ القيامةِ؟
وما الذي أرْسَلَ على قومِ ثمودَ الصيحةَ حتى قَطّعَتْ قلوبَهم في أجوافِهم، وماتوا عَنْ آخِرِهِم؟
وَمَا الذي رَفعَ قُرى اللوطيةِ حتى سَمِعَتْ الملائكةُ نبيحَ كلابِهم، ثُمَّ قَلَبَهَا عَليهِم فَجَعَلَ عاليَها سافِلَها فَأهَلَكَم جميعا، ثم أتْبَعَهُم حجارةً مِنَ السماءِ أمطرَها عليهم، فَجَمَعَ عليهم مِنَ العُقوبةِ ما لم يَجْمَعْهُ على أُمّةٍ غيرِهم؟ ولإخوانِهِم أمثالُها، وما هيَ مِنَ الظالمينَ ببعيد.
وما الذي أرسلَ على قومِ شُعيبٍ سحابَ العذابِ كالظُّلَلِ فلما صَارَ فوقَ رؤوسِهِم أمْطرَ عَليهِم نارًا تلظى؟
وما الذي أغْرقَ فِرعونَ وقومَه في البحْرِ، ثم نَقَلَ أرواحَهم إلى جهنمَ؛ فالأجسادُ للغرقِ، والأرواحُ للحَرَقِ؟
ومَا الذي خَسَفَ بِقارونَ ودارهِ ومالِهِ وأهلِه؟
وما الذي أهلكَ القرونَ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ بأنواعِ العقوباتِ ودمَّرها تدميرا؟
وما الذي بعثَ على بني إسرائيلَ قومًا أُولِي بأسٍ شديدٍ فجاسُوا خلالَ الديارِ، وقَتَّلُوا الرِّجَالَ، وسَبَوا الذراريَ والنِّساءَ، وأحرَقُوا الديارَ ونَهَبُوا الأمَوالَ، ثم بَعَثَهُم عَليهِم مرةً ثانيةً فأهْلَكُوا ما قَدَرُوا عليه، وتَبَّرُوا ما عَلَو تتبيرا؟
رَوَى الإمامُ أحمدُ في الزُّهدِ وغيرُه عَنْ جُبيرِ بنِ نُفيْرٍ قَالَ: لَمَّا فُتِحَتْ قبرصُ فُـرِّقَ بين أهلِها فبكى بَعضُهم إلى بعضٍ، ورأيتُ أبا الدرداءِ جالسًا وَحْدَه يَبْكي، فَقُلتُ: يا أبا الدرداءِ! ما يُبْكِيكَ في يومٍ أعزَّ اللهُ فيه الإسلامَ وأهلَه؟ قَالَ: ويحَك يا جبيرُ؛ ما أهْونَ الخلقَ على اللهِ إذا أضاعوا أمرَه. بينا هِيَ أمةٌ قاهرةٌ ظاهرةٌ لَهُمُ الملكُ، تركوا أمرَ اللهِ فَصَارُوا إلى ما ترى.
أيّها المؤمنون: إنَّه لو لَمْ يكُنْ مِنْ شُؤمِ المعصيةِ إلا أنَّ صَاحِبَها وإنْ مَضَى في الغابرينَ، وذهَبَ في الذّاهبينَ لا يَزالُ يُكتبُ عليه إثْمُها، ويَجري عليه عَذابُها، إذا كانتْ متعديةً.
قَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "لا تُقتلُ نفسٌ ظُلما إلا كانَ على ابنِ آدمَ الأولِ كِفلٌ مِنْ دمِهَا لأنَّه أولُ مَنْ سَنَّ القتلَ" رَوَاهُ البخاريُّ ومسلمٌ.
وَمِثْلُهُ آثامُ المُغنّينَ والمُغنّياتِ، ومَنْ يَنشُرُ السُّوءَ والكَذِبَ، وسائرُ أهلِ المعاصي الذين لا تزالُ معاصيهُم بينَ الناسِ عَبْرَ الوسائل المرئيةِ والمسموعةِ، فإنَّه كُلما استمعها مُستَمِعٌ أو شاهَدَها مُشاهِدٌ كُتِبَ عَليهِم مِثْلُ آثامِ مَنْ استمعَ أو شاهَدَ، ويتوبُ اللهُ على مَنْ تَابَ.
قال ابنُ عباسٍ وأنسُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم: إنَّ للحسنةِ نورا في القلبِ، وزينا في الوَجْهِ، وقوةً في البَدَنِ، وَسِعَةً في الرِّزْقِ، وَمحبةً في قلوبِ الخلْقِ، وإنَّ للسيئةِ ظُلمةً في القلْبِ، وشينا في الوَجْهِ، وَوَهنا في البَدَنِ، ونقصا في الرِّزْقِ، وبُغْضَةً في قلوبِ الخلقِ.
أمَّا صاحبُ الطاعةِ فقَالَ فِيهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ وملائكتَهُ وأهلَ السماواتِ والأرَضينَ حتى النَّملةَ في جُحرِهَا وحتى الحوتَ لَيُصَلُّون على مُعلِّمِ الناسِ الخيرَ" رَوَاهُ التـرمذيُّ وابنُ ماجه، وهُو حديثٌ صحيحٌ.
وقَالَ صلى الله عليه وسلم لَمّا مُرَّ عليه بجنازةٍ: "مستريحٌ ومُستراحٌ منه" قَالُوا: يا رسولَ اللهِ مَا المستـريحُ والمستـراحُ مِنهُ؟ فقَالَ: "العبدُ المؤمنُ يستـريحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنيا، والعبْدُ الفَاجِرُ يَستـريحُ مِنهُ العِبادُ والبلادُ والشَّجَرُ والدَّوابُ" رواه البخاري ومسلم.
وصحَّ عنِ المعصومِ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: "الدُّنيا سِجْنُ المؤمنِ، وَجَنَّةُ الكافِرِ". رَوَاهُ مسلِمٌ.
وإذا كَانَ الأمرُ كذلِكَ فإنَّ الكُفَّارَ يَعيشونَ جَنّتَهُم في هذه الحياةِ الدُّنيا، وما يُصيبُهم مِنْ أمراضٍ وكوارِثَ وغيرِها إنّما هِيَ بَعْضُ عقوباتِهِم، بخلافِ المسلمِ فإنَّ ما يُصيبُهُ في هذه الحياةِ الدُّنيا إنما هو كَفّارةٌ لذنوبِهِ وتمحيصٌ ةرِفْعةٌ لِدرجاتِه.