طريق السعادة) (1) الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد :
السعادة في الدنيا هي الحياة الطيبة التي وعد اللهُ بها عبادَه المؤمنين قال - تبارك وتعالى -{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }النحل97 وللسلف فى تفسير الحياة الطيبة أقوال، منها أنه الرزق الحلال، ومنها القناعة، ومنها توفيقه الى الطاعات فانها تؤدي الى رضوان الله... وكلها أقوال صحيحة، هذا هو معنى السعادة في المفهوم العام.
أما معناها من حيث هي مطلب ومقصد يعمل ويسعى اليه كل البشر، فهي - أي السعادة – من هذه الحيثية(مفهوم غامض يكاد يكون سرًا أودعه الله في العلاقة القائمة بين الانسان والأشياء).(1) وكذلك بين الانسان وبين نفسه(ذلك العالم الداخلي)الذي هو أشد تعقيدًا من العالم الخارجي، وبين هذين العالمين علاقةٌ جدلية، فكلٌ منهما يؤثر في الأخر بنسب متفاوتة، - ولذلك نقول لمن يريد نيل السعادة أن لاينشغل الا بمعرفة الأسباب التى تؤدي الى السعادة ثم يجاهد نفسه لكي يأخذ بهذه الأسباب، فاذا عمل بها وجد حلاوة السعادة تلقائيًا - وهذه العلاقات بيّن اللهُ - تبارك وتعالى - حدودَها وضوابطها أتمّ بيان وأكملَه، ولذلك فنحن نعتقد أن سعادتنا لن تحصُل الا باتباع المنهج الرباني، سواءً علمنا الحكمةَ من التشريعات أم لم نعلمها، لأنه تشريع العليم بكل شئ{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }الملك14 ، أما مناهج البشر فهي لاتحقق السعادة، لأن صانعوها صغار وناقصين، والصغيرُ لايحيط علمًا بالكبير {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }غافر57 هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، فان كل الكون مسلم لله - تبارك وتعالى -{وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً }الإسراء 44 {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ }آل عمران،83 ولذلك فعلى من يريد العيش فى هذا الكون بسلام أن يتلائم ويتناسق مع(هذا الكون) بأن يُسلم هو الأخر لله- تبارك وتعالى –
يقول صاحب الظلال - عليه رحمة الله -: (ولا مناص للإنسان حين يبتغي سعادته وراحته وطمأنينة باله وصلاح حاله، من الرجوع إلى منهج الله في ذات نفسه، وفي نظام حياته، وفي منهج مجتمعه، ليتناسق مع النظام الكوني كله. فلا ينفرد بمنهج من صنع نفسه، لا يتناسق مع ذلك النظام الكوني من صنع بارئه, في حين أنه مضطر أن يعيش في إطار هذا الكون, وأن يتعامل بجملته مع النظام الكوني.. والتناسق بين نظامه هو في تصوره وشعوره، وفي واقعه وارتباطاته، وفي عمله ونشاطه، مع النظام الكوني هو وحده الذي يكفل له التعاون مع القوى الكونية الهائلة بدلا من التصادم معها. وهو حين يصطدم بها يتمزق وينسحق؛ أو لا يؤدي - على كل حال - وظيفة الخلافة في الأرض كما وهبها الله له. وحين يتناسق ويتفاهم مع نواميس الكون التي تحكمه وتحكم سائر الأحياء فيه, يملك معرفة أسرارها، وتسخيرها، والانتفاع بها على وجه يحقق له السعادة والراحة والطمأنينة، ويعفيه من الخوف والقلق والتناحر.. الانتفاع بها لا ليحترق بنار الكون، ولكن ليطبخ بها ويستدفىء ويستضيء!
والفطرة البشرية في أصلها متناسقة مع ناموس الكون، مسلمة لربها إسلام كل شيء وكل حي. فحين يخرج الإنسان بنظام حياته عن ذلك الناموس لا يصطدم مع الكون فحسب، إنما يصطدم أولا بفطرته التي بين جنبيه، فيشقى ويتمزق، ويحتار ويقلق. ويحيا كما تحيا البشرية الضالة النكدة اليوم في عذاب من هذا الجانب - على الرغم من جميع الانتصارات العلمية، وجميع التسهيلات الحضارية المادية!.........(2)
ولذلك فانه بقدر ما يقصِّر الانسانُ فى الحفاظ على هذا التناسق بقدر ماتتجهَّم له وتستوحشَ منه نفسُه وعالَمُه الخارجي، انظر مثلًا للثلاثة الذين تخلفوا عن الخروج مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك، هؤلاء الثلاثة الذين حكى اللهُ – تبارك وتعالى - عنهم أنهم ضاقت عليهم الأرضُ وضاقت عليهم أنفسُهم{وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }التوبة118 وانظر لأحد هؤلاء الثلاثة وهو(كعب بن مالك رضي الله عنه) وهو يصور لنا حالتَه النفسية قبل أن يتوب الله عليه، ويحكي لنا عن تجهُّم الأرض له فيقول( حتى تنكرت لى فى نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي أعرف)(3)، وأيضا السماءُ والأرض تتجهَّم للكافر اذا مات، فقد روى بن جرير بسنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال «إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ. ألا لا غربة على مؤمن, ما مات مؤمن في غربة غابت عنه فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض» ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {فما بكت عليهم السماء والأرض} ثم قال: «إنهما لا يبكيان على الكافر».(4 روى البخاري فى صحيحه أن النبي – صلى الله عليه وسلم – مر بجنازة فقال: مستريح ومستراح منه. فقالوا: يارسول الله، من المستريح ومن المستراح منه؟ قال: ان العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها الى رحمة اللهتعالى، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب
)، وانظر للفضيل بن عياض -رحمه الله- وهو يقول:" إني لأعصي الله فأجد ذلك في خلق دابتي وامرأتي". ولذلك قد يعجب البعضُ منا ممَّا يرى من التباغض والتنافُر بين الناس لأتفه الأسباب أوبلاسببٍ أصلا، وماذلك الا لبُعد الناس عن شرع الله، كما يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ( لتسون صفوفَكم أو ليخالفنَّ اللهُبين وجوهكم(متفق عليه)وورد في بعض الألفاظ أو ليخالفن اللهبينقلوبكم، ومن علامات الساعة أن تُنزَع الألفةَ من الناس،كما قال ابنُ عون، عن عمير بن إسحاق قال: كنا نحدث أن أول ما يرفع من الناس -[أو قال: عن الناس] -الألفة.(5)
والحمدلله رب العالمين.
وللحديث بقية.
كتبه/خالد المرسي
(1)من كلام الدكتور عبد الكريم بكار
(2)في ظلال القرءان ج1ص421
(3)صحيح البخاري 4418
(4)تفسير ابن جرير ج22 ص35
(5)تفسير ابن كثير ج4ص85
تكلمنا في مقال سابق عن السعادة، وأن على من يريد العيش في هذا الكون بسلام أن يتلائم ويتناسق مع(هذا الكون) بأن يُسلم هو الأخر لله- تبارك وتعالى وعن ضرورة أن يحافظ المسلم على التزامه الكامل بدين الإسلام (عقيدة وشريعة وأخلاقًا) ليس بالمعنى السطحي عند بعض الناس الذي يقتصر على بعض العبادات دون بعض،ولكن بالمعنى الصحيح الشامل: (وهو أن الله أنزل هذا الدين ليحكم الانسانَ بكل أجزاءه ومكوناته الظاهرة والباطنة التي له إرادة في توجيهها وتحديد مسارها).
وقلنا أنه بقدر ما يقصر الإنسان في حكم نفسه بهذا الدين؛ بقدر ما يقع الخلل والاضطراب في التناسق والملائمة بينه وبين أجزاء الكون المحيط به.
وهذه المسألة هي من أهم عقائد الاسلام التي قررها الله - تبارك وتعالى - بأساليب متعددة: منها كما يقول الإمام ابن القيم: "أن الله يقرن في" القرآن الكريم " بين الهدى والرحمة، والضلال والشقاء، فمن الأول قوله:أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَالبقرة (5) وقال: أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ البقرة(157)" ....إلى أن قال ابن القيم: "وقال الله تعالى:فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىطه(123)والهدى منعه من الضلال، والرحمة منعه من الشقاء ،وهذا هو الذي ذكره في أول السورة في قوله طه(1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى(2) فجمع له بين إنزال القرآن عليه ونفى الشقاء عنه، كما قال في آخرها في حق اتباعه:فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى(123) فالهدى والفضل والنعمة والرحمة متلازمات لا ينفك بعضها عن بعض، كما أن الضلال والشقاء متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر قال تعالىإِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ القمر(47) والسعر جمع سعير وهو العذاب الذي هو غاية الشقاء" ...إلى أن قال ابن القيم: "ومن هذا انه سبحانه يجمع بين الهدى وانشراح الصدر والحياة الطيبة، وبين الضلال وضيق الصدر والمعيشة والضنك، قال تعالى فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًاالأنعام 125 وقال: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِالزمر 22 (1)".
وهنا يمكن أن أقول أن هذا الأثر يُعَد واحدًا من الآثار والعقوبات القدرية المترتبة على المعاصي، كما أنه توجَد أيضا عقوبات شرعية على المعاصي(2).