رابعًا: أنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ مهما عَلَو وتَجبّروا في قبضةِ اللهِ ومُلكهِ وتحتَ مشيئتِهِ:
ففي هذا الحَدَثِ: استُنفِرَتْ دُولٌ، وحُوصِرَتْ أخرى، وأُغلِقتْ مطاراتٌ، وتوقّفتْ طائراتٌ، ورَسَتْ سُفُنٌ، وخلَتْ شَوارِعُ مُدنٍ مُزدَحِمَةٍ بِمخلوقٍ غايةً في الصِّغَرِ، فلا يُرى بالعينِ الْمُجرّدةِ، ولكن يُرى أثرُه وفتكُه!
وقال ابنُ القيمِ: ابتلاءُ المؤمنين بِغَلبةِ عَدُوِّهم لهم، وقهرِهم، وكَسْرِهم لهم أحيانا فيه حكمةٌ عظيمةٌ، لا يعلمُها على التفصيلِ إلاّ اللهُ عزَّ وجل.
فمنها: استخراجُ عبوديتِهم وذُلِّهم للهِ، وانكسارِهم له، وافتقارِهم إليه، وسؤالِهم نَصْرَهم على أعدائهم، ولو كانوا دائما مَنصورين قاهِرين غالِبين لبَطِروا وأشِرُوا: ولو كانوا دائما مَقْهُورِين مَغلُوبِين مَنْصُورًا عليهم عُدُوُّهم لَمَا قَامَت للدِّينِ قائمةً، ولا كانت للحقِّ دَوْلةٌ؛ اهـ.
قال ابنُ القيمِ: ابتلاءُ المؤمنِ كالدّواءِ له يَستَخرِجُ مِنه الأدواءَ التي لو بَقِيَتْ فيه أهْلَكَتْه، أو نَقَصَتْ ثَوَابَه، وأنْزَلَتْ دَرَجَتَه، فيَستَخرِجُ الابتلاءُ والامتحانُ مِنه تلك الأدواءَ ويَستعدُّ به لِتمامِ الأجرِ، وعلوِ الْمَنْزِلةِ، ومعلومٌ أنَّ وُجُودَ هذا خيرٌ للمُؤمِنِ مِن عَدَمِه، كما قال النبيُّ صلى الله تعالى عليه وسلم: "والذي نفسي بِيدِه لا يَقضِي اللهُ للمؤمِن قضاءً إلاّ كان خيرًا له، وليس ذلك إلا للمُؤمنِ: إنْ أصابَتْه سَراء شَكرَ، فكان خيرًا له، وإنْ أصابتْه ضَراء صَبَر، فكان خيرًا له".
فأقرُّوا ضِمْنًا أنَّ موسى عليه الصلاة والسلام على الْحَقِّ، وأنه لا يُنجِي مِن ذلك العذابِ إلاّ اللهُ، وهُمُ الذين كانوا يقولون عن موسى: إنه ساحِر، وهو الْمُتّهمُ بأنه سيُغيّرُ الدِّينَ، ويُظهرُ في الأرضِ الفسادَ!
عاشِرًا: أنَّ لُزومَ النساءِ للبيوتِ والحجابِ هو الأصلُ في الشّرْعِ؛
وقبل أكثرِ مِن مائةِ عامٍ قالتِ الكاتبةُ الشهيرةُ النصرانيةُ "آتي رود"؛ حيث قالت: لأن يشتغلَ بناتُنا في البيوتِ خوادمَ أو كالخوادمِ، خيرٌ وأخفُّ بلاءً من اشتغالهن في المعاملِ حيث تُصبحُ البنتُ ملوثةً بأدرانٍ تذهبُ بِرَوْنقِ حياتِها إلى الأبَدِ، ألاَ لَيْتَ بلادَنا كبلادِ المسلمين، فيها الحِشمةُ والعفافُ والطهارةُ، نعم إنه لَعَارٌ على بلادِ الإنجليزِ أنْ تجعلَ بناتَها مثَلًا للرذائلِ بكثرةِ مُخالطةِ الرِّجالِ، فما بالُنا لا نسعى وراءَ ما يجعلُ البنتَ تعملُ بما يُوافق فطرتَها الطبيعيةَ من القيامِ في البيتِ، وتركِ أعمالِ الرجالِ للرجالِ سلامةً لِشَرَفِها؛ (مقالة نُشِرت عام 1901م).
ونشَرَتِ الدكتورةُ "أيدا إيلين" بحثًا بيَّنَتْ فيه: أنَّ سببَ الأزماتِ العائليةِ في أمريكا، وسِرَّ كثرةِ الجرائمِ في المجتمعِ، هو أنَّ الزوجةَ تركتْ بيتَها لِتُضاعِفَ دَخْلَ الأسرةِ، فزادَ الدّخلُ وانخفضَ مستوى الأخلاقِ!
وقالتِ الدكتورةُ "إيلين": إنَّ التجارِبَ أثبتتْ أنَّ عودةَ المرأةِ إلى "الحريمِ" هو الطريقةُ الوحيدةُ لإنقاذِ الجيلِ الجديدِ من التّدهورِ الذي يسيرُ فيه.
وقالت الكاتبةُ الإنجليزيةُ "اللادي كوك": إنَّ الاختلاطَ يألَفُه الرجالُ، ولهذا طَمِعتِ المرأةُ بما يُخالِفُ فِطرتَها، وعلى قَدْرِ كثرةِ الاختلاطِ تكونُ كثرةُ أولادِ الزّنا، وههنا البلاءُ العظيمُ على المرأةِ.
وقال أحدُ أركانِ النهضةِ الإنجليزيةِ، وهو "سامويل سمايلس ": إنَّ النظامَ الذي يقضي بتشغيلِ المرأةِ في المعاملِ - مَهْمَا نشأَ عنه من الثروةِ للبلادِ - فإنَّ النتيجةَ كانت هادمةً لبناءِ الحياةِ المنزليةِ، لأنه هاجَمَ هيكلَ المنزلِ، وقوَّضَ أركانَ الأسرةِ، ومزَّقَ الروابِطَ الاجتماعيةَ.
وقال "جول سيمون": المرأةُ التي تشتغلُ خارجَ بيتِها تؤدِّي عملَ عاملٍ بسيطٍ، ولكنها لا تؤدِّي عملَ امرأةٍ.
وقال الفيلسوفُ " برتراند رِسل ": إنَّ الأُسْرَةَ انحلَّتْ باستخدامِ المرأةِ في الأعمالِ العامةِ.
الحاديَ عشرَ مِن دروسِ الابتلاءاتِ:
أنَّ ما يُصيبُ الْخَلْقَ إنما هو بِبَعضِ ما كَسَبَتْ أيديهم، وما يَعفو اللهُ عنه أكثرَ.
كما قال اللهُ عزَّ وجَلَّ: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30].
قَال أَنَسٌ: مَا سَمِعْتُ حَدِيثًا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَا أَشَدُّ فَرَحًا مِنِّي بِهَذَا الْحَدِيثِ. رواه ابن أبي الدنيا في "العقوبات".
قال ابنُ القيمِ: واللهُ تعالى يَغَارُ على إمَائه وعَبِيدِه مِن الْمُفْسِدِين شَرْعا وقَدَرا، ومِن أجْلِ ذلك حَرَّمَ الفَواحشَ، وشَرَع عليها أعظمَ العقوباتِ وأشْنَعَ القِتْلاتِ لِشِدّةِ غَيرتِه على إمائه وعَبيدِه. فإنْ عُطّلَتْ هذه العُقُوباتُ شَرْعا، أجْرَاها سبحانه قَدَرًا؛ (روضة الْمُحِبِّين).
وظُهورُ الفواحِشِ سَببٌ للعُقُوباتِ:
قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ:
لأنه يُدنِيهم مِنَ الموتِ، وما عَلِموا أنَّ الموتَ أقربُ إلى أحدِهم مِنْ شِرَاكِ نَعلِه!
قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم المَدِينَةَ، وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلاَلٌ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الحُمَّى يَقُولُ:
قال قتادةُ: إنَّ اللهَ يُخوّفُ الناسَ بما شاءَ مِن آيةٍ لعلهم يعتبرون، أو يَذكَّرون، أو يرجعون.
قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ عن خُطبةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الكُسُوفِ:
بَيَّن النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ الشمسَ والقمرَ لا يكونُ كسوفُهما عن موتِ أحدٍ مِن أهلِ الأرضِ ولا عن حياتِه، ونَفَى أنْ يكونَ للموتِ والحياةِ أثرا في كسوفِ الشمسِ والقمرِ، وأخبرَ أنهما منْ آياتِ اللهِ وأنه يُخوّفُ عبادَه.
فَذَكرَ أنَّ مِنْ حِكمةِ ذلك تخويفَ العبادِ، كما يكونُ تخويفُهم في سائرِ الآياتِ: كالرياحِ الشديدةِ والزلازلِ والجدبِ والأمطارِ المتواترةِ، ونحوِ ذلك مِن الأسبابِ التي قد تكونُ عذابا، كما عذّبَ اللهُ أُمَمًا بالريحِ والصيحةِ والطوفانِ.
وقال رحمه اللهُ: هذه الآياتُ السّمَاويةُ قد تكون سببَ عذابٍ؛ ولهذا شَرعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عند وجودِ سببِ الخوفِ ما يَدفعُه مِنَ الأعمالِ الصالحةِ؛ فأمَرَ بِصلاةِ الكسوفِ - الصلاةِ الطويلةِ - وأمَرَ بالعِتقِ والصدقَةِ، وأمَرَ بالدعاءِ والاستغفارِ؛ اهـ.
قال ابنُ جريرٍ الطبريِّ: ذُكِر لَنَا أنَّ الكوفةَ رَجَفَتْ على عهدِ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه، فقال: يأيها الناسُّ، إنَّ ربَّكم يَسْتَعتِبُكم فأعتِبُوه.
قال الراغبُ في "المفرَداتِ": الاسْتِعْتَابُ: أنْ يُطلبَ مِن الإنسانِ أنْ يَذكرَ عَتْبَهُ لِيُعْتَبَ، يقال: اسْتَعْتَبَ فلانٌ؛ قال تعالى: ﴿ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ﴾، يقال: "لك العُتْبَى"، وهو إزالةُ ما لأجلِهِ يُعْتَبُ؛ اهـ.
الثامِنَ عشرَ: يُلاحَظُ الفَرْقُ بين انتشارِ الأوبئةِ والأمراضِ بين دِيارِ المسلمين، وبين ديارِ الكفَّارِ.
قال ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما: إنَّ اللهَ يُصْلِحُ بِصَلاحِ الرّجُلِ وَلَدَه وَوَلَدَ وَلَدِه، ويَحْفَظُه في ذُرَّيَتِه والدُّويْرَاتِ حَوْلَه، فمَا يَزَالُون في سِتْرٍ مِنَ اللهِ وعَافِيةٍ؛ رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره".
وقال محمدُ بنُ المنكَدِرِ: إنَّ اللهَ لَيُصْلِحُ بِصَلاحِ العَبْدِ وَلَدَه، وَوَلَدَ وَلَدِه، ويَحْفَظُه في دُويْرَتِه، والدّويْرَاتِ التي حَولَه ما دام فيهم؛ رواه ابنُ المباركِ في "الزهدِ"، ومِن طريقِه: رواه النسائيُّ في "الكُبرى".
الثالثةُ: أنَّ الكفّارَ يأكلون الميتةَ والخِنْزِيرَ، ويشربون الدّمَ والْخَمْرَ، وهذه مِن شأنِها أنْ تُضعِفَ المناعةَ، وأنْ تَحُلَّ بهم العقوبةُ.
الرابعةُ: أنَّ اللهَ يُجري السُّنَنَ، ويَهلِك مَن هَلَك في الأوبئةِ، ويكونُ رحمةً للمؤمنين، وعذابا ورِجْزا على الكافرين.
ورَوى ابنُ أبي شيبةَ مِن طريقِ عاصِمٍ الأحولِ عن أبي قِلابةَ قال: الْتَقَى رَجُلان في السّوقِ، فقال أحدُهما لصاحبِهِ: يا أخي تعالَ نَدعو اللهَ ونستغفرُه في غَفْلةِ الناسِ لَعَلَّه يُغفَرُ لَنا، فَفَعَلا، فقُضيَ لأحدِهما أنه مات قَبْل صَاحِبه، فأتاه في المنامِ، فقال: يا أخي أشَعَرتَ أنَّ اللهَ غَفَرَ لنا عَشِيّةَ الْتَقَيْنَا في السُّوقِ.
وإذا اضطَرَبَتْ أمورُ الناسِ، وتشاغلوا بالقِيلِ والقالِ، فَعَلى المسلمِ أنْ ينشغِلَ بِطاعةِ اللهِ؛ ففيها النجاةُ، وفيها الثباتُ.