والقرآن حبل الله المتين طرفه بيد الله جلّ جلاله وينبغي لنا نحن إن أردنا النجاة أن نتمسك بطرف الحبل الآخر فلا نفلته أبدًا لأننا إن أفلتناه ضللنا وهوينا إلى أسفل سافلين، وقد أوصانا نبينا صلى الله عليه وسلم:
"تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا: كتاب الله وسنتي"
والعلاقة بين رمضان والقرآن علاقة لا تنفكّ ولا تنقطع كيف لا وقد اصطفى الله تعالى من الشهور رمضان ليكون إنزال القرآن فيه
(شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان)
(إنا أنزلناه في ليلة القدر)
تخذه منهجا ودليلا وقيّما وشفاء ورحمة
(ما فرّطنا في الكتاب من شيء)
لكن متى شعرنا بالاستغناء عنه فإنا نكون ممن
(اتخذوا هذا القرآن مهجورا)
لا نذكره إلا في مجالس العزاء وفي افتتاحيات المناسبات العامة ونضعه في السيارة ليحميها من الحوادث وتحت الوسادة ليحفظ به النائم وما كان القرآن تميمة تعلّق!
القرآن يعيد صاحبه إذا قرأه واستشعر فقره إلى ربه وحاجته للاستعانة به والاستعاذة به من سائر الشرور، القرآن يقي صاحِبه إذا صاحَبه في حياته وفي سائر أمره. فلنهيئ قلوبنا قبل رمضان بعودة صادقة للقرآن وبعقد الصلح معه على عدم الافتراق فإذا حققنا هذه العودة الصادقة للقرآن استطعنا بتوفيق الله أن نصلح أنفسنا ونغير ما بها للأحسن وإذا غيّرنا ما بأنفسنا غيّر الله تعالى حالنا كما وعد جلّ جلاله
(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)
وإذا غيّرنا الله تعالى للأحسن تحول صلاحنا إلى إصلاح لمجتمعنا وأمتنا وارتقينا بها تحقيقا لمهمة العبادة والاستخلاف في الأرض وعمارتها.
فلنتصالح مع القرآن قبل أن يأتي رمضان ولنعطه أفضل أوقاتنا وليكن هو الأولوية في حياتنا وبقدر ما نتقرب منه يفتح الله عز وجلّ لنا من فهمه وتدبر آياته والعمل بها فاللهم ربنا ارزقنا صحبة القرآن وتعظيم القرآن وفهمه وتدبره واجعله نور قلوبنا ونور قبورنا ونورا نمشي به على الصراط يا ذا الجلال والإكرام.
التهيئة بالاستعداد لعلاج الفتور
كما أن الإنسان يحتاط لنفسه إن أصابته وعكة صحية خفيفة فيهيئ لها الأدوية التي تساعده في تخطي الوعكة قبل أن تستفحل كذلك العبد المؤمن ينبغي أن يكون حذرا ويقظا ومهتيئا مستعدا لأي طارئ أو عارض قد يسبب له فتورا في عبادته أو ضعفا في إيمانه فيحشد له كل ما آتاه الله من قوة ليعالجه قبل أن يتملك من قلبه فالقلب هو موطن الإيمان ومركزه والعلاج الفوري عند بداية العارض القلبي أمر في غاية الأهمية حتى لا ينتشر فيه فيكون سببا في ظلام القلب والختم عليه والران والعياذ بالله.
والفتور في العبادة أو الضعف في الإيمان أمر متوقع لأن الإنسان ينشغل بأمور الدنيا وسرعان ما ينسى الآخرة وينسى مهمته في الأرض وهو سريع تقلّب القلب وما سمي القلب إلا لتقلبه بين حب الهوى والشهوات وحب الدنيا وزينتها وبين حب الله تعالى والرغبة في طاعته يتصارعان فيه وتكون الغلبة لمن يستحوذ على القلب أكثر فلا بد للإنسان من دواء يضبط ميزان قلبه لتكون كفة حب الله وطاعته هي الراجحة فلا ينحرف عن الصراط المستقيم وبالتالي لا يشعر بالفتور في إيمانه أو البعد عن الله.
وعلى الرغم من أن الفتور أمر طبيعي يمر به الإنسان بين وقت وآخر فالإيمان يزيد وينقص إلا أنه ينبغي أن يحذر الإنسان أشد الحذر من أن يطول زمن الفتور أو أن يتزامن هذا الفتور في وقت الغنائم في مواسم الطاعات التي هي من أيام الله جلّ جلاله التي تتجلى فيها نفحاته وعطاياه على عباده المؤمنين. فعلى كلّ من أصابه الفتور أو كاد أن يذكّر نفسه في هذه المواسم بقول الله تعالى
(أيامًا معدودات)
فرمضان أيام معدودات والحج أيام معدودات بل العمر كله بالنسبة للآخرة ما هو إلا أيام معدودات سرعان ما تنقضي ولا يبقى منها إلا أثرها وما عملنا فيها خيرا كان أو شرّا!
ومن علاج الفتور الاستماع والإنصات بحضور قلب إلى آيات القرآن العظيم تذكره بعظمة الله عز وجلّ ووبما أعده لعباده المؤمنين وتخوفه بآات الوعيد ليرتدع العبد ويستيقظ من غفلته ويعود منيبا إلى ربه مستعينا به راجيا ما عنده.
ومن علاج الفتور الحرص على صحبة صالحة تذكّرك بالله عز وجلّ وتذكرك بالآخرة وتذكرك بالأجر العظيم والمثوبة من الله الكريم فتحفّز في قلبك الهمّة على الجدّ في الطاعة من جديد.
ومن علاج الفتور صدق الدعاء والتضرع إلى الله عز وجلّ فالدعاء يرقق القلب فيبثّ شكواه إلى من بيده كشف الضرّ وتفريج الغموم والهموم وكل ما يسبب فتور الإيمان في قلب العبد.
ويحرص الداعي على أوقات الإجابة في ثلث الليل الأخير وبين الأذان والإقامة وفي عصر الجمعة.
ومن علاج الفتور الاستمرار على النوافل وإن قلّت عملا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلّ. لأن الفتور قد يأتي من شدة اندفاع العبد للطاعة والإكثار منها في بداية الأمر ثم يشعر بالتعب ثم الفتور، احرص على القليل الذي ليس فيه مشقة عليك ويكون في وسعك وكلما شعرت بنشاط أكثرت تدريجيا حتى تصبح سهلة ميسرة عليك.
وليس علاج الفتور في العبادات بتركها كلها كما يتوهم البعض والاستعاضة عنها بمتع الدنيا التي يظن أنها ستعالج فتوره بحجة ساعة لقلبك وساعة لربك لأنه سرعان ما سيكتشف أنها فتوره سيزيد ويضيق صدره لأنه ابتعد عن ربه أكثر فأكثر..
فلنبحث في أنفسنا ونتدارك حالنا قبل دخول رمضان فمن عرف في نفسه ميلا للفتور فيه فليبدأ بالعلاج من اليوم ليدخل عليه رمضان وهو معافى صحيح البدن والقلب متحفّزا للصيام والقيام والعبادة إيمانا واحتسابا ويصل للعشر الأواخر وقد بلغت همّته ذروتها فأحيا العشر واعتكف واغتنم الزمن الفاضل واستمطر رحمات الكريم وعطاءاته في ليلة القدر فيخرج من رمضان بهمّة تبلّغه رمضان القادم وهو متعلّق قلبه بالله وطاعته والسعي إلى مرضاته.
اللهم ربنا يا حيّ يا قيوم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك، اللهم ارزقنا صحبة صالحة تعيننا على الخير وتذكّرنا بك، اللهم يا مقلب القلوب ثبّت قلوبنا على طاعتك ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
التهيئة بالتخلية قبل التحلية
إذا علمنا أن مقصد العبادات في الإسلام هو تربية النفس البشرية وتزكيتها بالفضائل ومحاسن الأخلاق علمنا أنه سيكون هناك أمور نحتاج أن نتخلّى عنها ونستبدلها بأخرى تقرّبنا إلى تلك التزكية المرجوّة للنفس. فالتخلية والتحلية هما جناحا الإصلاح والتربية الصحيحة فلا يكون العبد مؤمنا إلا إذا تخلى عن الشرك
(فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِالله فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ) [البقرة:265]
ولا يكون العبد صادقًا إلا إذا تخلّى عن الكذب ولا أمينًا إلا إذا تخلى عن الغشّ وهكذا..
والصيام تدريب للنفس على التخلي عن الرذائل من خلال ترك المباح من الملذّات والتحلّي بالفضائل
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله :
"الصيام جُنّة فلا يرفث ولا يصخب..."
ونحن مقبلون على شهر رمضان نحتاج أن نبدأ عملية التخلية منذ الآن ونستبدلها بتحلية بفضائل الأخلاق والأعمال حتى نكون ممن يحققون التجلية في عباداتهم وتعاملاتهم وأخلاقهم في رمضان وفي سائر العام بإذن الله. ولن نتمكن من أن نملأ قلوبنا بحب الله عز وجل وطاعته إلا إذا فرّغناه من الذنوب والمعاصي والأمراض والأهواء والشهوات والشبهات.
تخلَّ عن ضياع وقتك بطول النوم وبالانشغال بالجوالات وباللهو واللعب
وحلِّه بعمارته بالأعمال الصالحات على
أنواعها، اعمر وقتك بعبادة ربك وبالإحسان إلى خلقه
تخلَّ عن إطلاق لسانك بالغيبة والنميمة وقيل وقال
وحلِّه بتلاوة القرآن وبالدعاء وبالتلطف مع أهلك وأصدقائك والناس أجمعين
تخلَّ عن تلويث سمعك بالمنكرات من غناء وكلام فاحش وكذب وشتم وصراخ وحلِّه باستماع وإنصات للقرآن الكريم ولطيّب الكلام ونافعه من محاضرات قيمة ومحادثات هادفة تخلَّ عن ضيق صدرك وانقباض قلبك من أمراض الحسد والحقد والقنوط والقلق وحلِّه بالرضى بما قسم الله لك وبقضائه وقدره وبالمحبة الصادقة لكل الخلق والعفو عن الزلات والصفح والمغفرة
(أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ)
تخلَّ عن تعلقك بالمال وعن البخل والشحّ وتحلَّ بالكرم والسخاء وحبّ الإنفاق من مال الله الذي آتاك ورزقك، وأنفق في وجوه الخير كلها وتخلَّ عن المنّ بالنفقة وتحلّى بالقول المعروف
(قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى )
تخلَّ عن الرياء والسمعة في عملك وعبادتك وصدقتك وتحلَّ بالإخلاص فبه تُقبل الأعمال
(إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة:271]
تخلَّ عن صحبة السوء التي تزين لك المعصية وتهوّن أمرها عليك
وتحلَّ بصحبة طيبة توصيك بالحق وبالصبر وتنصحك وتأمرك بالمعروف وتنهاك عن المنكر.
تخلَّ عن متابعة المسلسلات الهابطة والتي لا فائدة منها إلا ضياع الأوقات وتشويه وتدمير القيم الإنسانية وتحلَّ بمتابعة ما فيه نفعك في الدنيا والآخرة من برامج تثقيفية ذات قيمة أخلاقية واجتماعية وإنسانية.
تخلَّ عن إفساد معدتك بالإفراط في الأكل وتحلَّ بالوسطية في مأكلك ومشربك لتكون صحيح الجسم معافى تخلَّ عن الغضب لأتفه الأسباب وتحلَّ بالحُلم والأناة وكظم الغيظ لتكون ممن يحبهم الله عز وجلّ
(وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 134]
تخلَّ عن سوء الظن بالناس في كل صغيرة وكبيرة وإطلاق الأحكام عليهم دون تثبّت وتحلَّ بحسن الظن والتبيّن والتروّي (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) [الحجرات: 12]
تخلَّ عن الإصرار على الذنب وتحلَّ بالاستغفار وتجديد العزم على عدم العودة مستعينا بالله
(وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (آل عمران))
تخلَّ عن الإسراع في نقل الكلام والشائعات سواء باللسان أو بالرسائل عبر وسائل التواصل وتحلَّ بالتثبت مما تسمع أو تقرأ فإن لم تتبين صدقه فلا تنقله تخلَّ عن كل خُلُق سيء وكل ما يجرح في إيمانك وأخلاقك وسلامة قلبك وتحلَّ بطيب القول والفعل والعمل وبسلامة القلب واللسان وكُن قرآنيًا بإيمانك وأخلاقك كما كان نبينا صلى الله عليه وسلم.
اللهم ربنا خلِّ بيننا وبين معصيتك وكل ما يخدش إيماننا بك ويُخرجنا عن دائرة عبادك الصالحين وحلِّنا يا ربنا بأحسن الأخلاق والأعمال وبكل ما يرضيك عنا، اللهم آت نفوسنا تقواها وزكّها أنت خير من زكّاها واعفُ عنا يا عفو يا غفور.