والحق سبحانه حين يعرض هذه القضية، يبين لنا موقف الجزاء من الذين يكتمون ما أنزل الله، لقد كتم بعض من أهل الكتاب البينات التي أنزلها الله في الكتاب الذي معهم، بينات تثبت صدق محمد صلى الله عليه وسلم في نبوته، وهذا الكتمان سيورث شرورا، وكلما نال العالم شر من كتمانهم فسيلعنهم، واللعن هو الطرد والإبعاد من رحمة الله.
والحق سبحانه وتعالى ينبه المؤمنين بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى أن هذا الجزاء من الطرد ومن اللعن ليس مقصورا على هؤلاء، وإنما ينسحب ويشمل كل من يكتم ما أنزل الله من البينات، إذن فذلك فيه واقع مما حدث من أهل الكتاب، وفيه أيضا تحذير للذين يؤمنون بالإسلام أن يكتموا بينات الله؛ وإلا صاروا إلى ما صار إليه هؤلاء، وهو اللعن.
وكلمة (اللعن) وردت في القرآن إحدى وأربعين مرة،
وساعة تأتي للعذاب تكون للطرد والإبعاد بغضب، وهو الخلود في النار،
وساعة يكون الطرد إبعاد تأديب، فلا يوجد بغضب؛ لأن المؤدب لا يغضب على من يؤدبه، وإنما يغضب لمن يؤدبه.
وعندما يحدث الطرد من بعد غضب، فذلك دليل على أنه ليس من بعد ذلك رجعة، فالإنسان إذا ترك لشيء صامت ليعذب به كالنار، يقول لنفسه: (ربما جاء من يرق لحالي ويعطف علي فيخرجني من النار)، إنه يقول ذلك لنفسه: لأن الذي يعذب به صامت لا عاطفة له، لكن ما المخرج إذا كانت اللعنة من الله والملائكة والناس؟ كما يقول الحق في آية أخرى: {أولئك جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ} [آل عمران: 87].
ويتضح لنا هنا أن لعنة الله تكون في الدنيا وفي الآخرة، ويلعنهم اللاعنون من الناس، وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا فيها نجد أن اللعنة أشمل، لأن (اللاعنون) تضم الناس وغير الناس من الكائنات الأخرى، كأن كل من في الوجود يشترك في لعنهم،
وعلى سبيل المثال، إذا حبس الله الماء عن قوم لعصيانهم، فالنبات يلعنهم لأنه حُرم من الماء، وتلعنهم الحيوانات لأنها حُرمت من الماء، وتلعنهم الأمكنة لأنهم خالفوا ما عليه الأمكنة من التسبيح لله. أما لعنة الآخرة حيث لا ري لنبات أو حيوان؛ فسيكون اللعن لهم صادرا من الله والملائكة والناس أجمعين. والناس هم بنو آدم إلى أن تقوم الساعة، وهؤلاء منهم كافر ومنهم مؤمن، كيف إذن يوجد اللعن ممن كفر مع أنه هو أيضا ملعون؟
نقول: نحن في الدنيا نجد من يخدع غيره في دين الله، وهناك من ينخدع، فإذا ما انجلت الأمور في الآخرة، وانفضح الخادعون، وأسقط في يد المخدوعين، فهنا يتبرأ الذين اتُّبِعُوا من الذين اتَّبَعُوا، يتبرأ الخادع من المخدوع، ويتبرأ المخدوع من الخادع، وكلما دخلت أمة من المخدوعين إلى النار لعنت الأمة التي خدعتها، وكلما دخلت أمة خادعة إلى النار، فإنها تلعن الذين استسلموا للخديعة، ويتبادلون اللعن.
يقول الحق: {إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا} [البقرة: 166].
ويقول أيضا: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف: 38].
إذن فاللعنة موجودة بين الكافرين بعضهم لبعض، كما هي موجودة في الدنيا أيضا، فالذين يكفرون بمنهج الله وينحرفون ويظلمون، هؤلاء يتلقون اللعنة من أهل منهج الله، ويتلقون اللعنة من المظلومين منهم، ثم يأتي لهم موقف آخر، يأتي لهم من يظلمهم، فيلعنونه ويلعنهم، وهكذا يلعنهم الناس أجمعون.
واللعن بطرد وغضب وزجر يختلف عن اللعن التأديبي الذي يأخذ صيغة الإبعاد، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المتخلفين في غزوة تبوك، وغزوة تبوك كانوا يسمونها غزوة العسرة، لأنها جاءت في مشقة من كل جهاتها، لبعد المكان بين تبوك والمدينة، ومشقة أخرى من نقص الدواب التي تحمل المقاتلين، فقد كان كل عشرة من المقاتلين يتناوبون على دابة واحدة، ومشقة وعسرة في الزاد، حتى أنهم كانوا يأكلون التمر بدوده، وكانوا يأكلون الشحم والدهن والإهالة الزنخة، وعسرة في الماء حتى أنهم كانوا يذبحون البعير ليشربوا من فرثه وكرشه الماء، وعسرة في الجو القائظ الشديد الحرارة، كانت كل الظروف صعبة وقاسية وتحتم ألا يخرج للغزوة إلا الصادق في يقينه.
لقد كانت تلك الغزوة اختبارا وابتلاء للإيمانية في نفوس الناس. ولذلك فإن بعضهم استسلم لحديث النفس في أن يظل بالمدينة، وقال واحد منهم: (أظل ظليل وراحة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في القيظ؟! والله لا يكون هذا أبدا)، ثم قام وتبع جيش المؤمنين، وآخر عنده بستان فيه ظلال وثمار؛ فنظر إلى بستانه وقال: (أأنت الذي منعتني أن أكون في ركاب رسول الله؟! والله لا تكون ملكي بعد الآن، وأنت لله في سبيل الله)، وثالث جلس في بيته وأمامه زوجته الجميلة وحوله أشجار وزروع، فقال: (أأجلس في ظل ورطب وماء وامرأة حسناء ورسول الله في حمارة القيظ، والله لا يكون هذا أبدا)، وامتطى حصانه إلى الصحراء لينضم لجيش المسلمين.
وعندما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم منتصرا اعتذر له من لم يشاركوه رحلة النصر بأنهم كانوا لا يملكون وسائل الحرب من دواب ودروع وسيوف ونبال، فقبل رسول الله علانيتهم وترك سرائرهم لله، إلا ثلاثة صدقوا وقالوا: (يا رسول الله ما كنا أغنى منا ساعة امتنعنا عن الذهاب معك فعندنا عدة الحرب والدواب).
لقد أمر رسول الله الناس ألا يكلموهم ولا يتعاملوا معهم، واستكان اثنان منهم وظلا في بيتهما، وهما هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، أما كعب بن مالك فكان يخرج ويلقى الناس فلا يكلمه أحد، ويذهب للصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسارق النظر إلى النبي ويسلم عليه، لكن رسول الله لا يرد، ويغض طرفه ويعرض عنه، حتى أن كعباً يقول: (فانظر هل حرك رسول الله شفتيه برد السلام أم لا؟).
لماذا كل ذلك؟. لقد أرادها النبي صلى الله عليه وسلم وسيلة إيضاح لكيفية إبعاد التأديب. وضاقت الدنيا على الثلاثة، وذهب كعب إلى ابن عمه أبي قتادة وتسلق عليه الحائط، لأنه يعلم أنه لو طرق الباب فلن يفتح له. ورغم تسلق الحائط إلا أن ابن العم أعرض عنه، فقال راجيا: (أنشدك الله، أنشدك الله، أنشدك الله) كل ذلك وابن عمه لا يرد عليه، ثم قال له: (تعلم أني أحب رسول الله). فلم يرد عليه ابن العم وظل يتوسل سائلا عن موعد العفو، فقال أبو قتادة: (الله ورسوله أعلم).
فلما مضت أربعون ليلة على هذا الإبعاد، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يصعد التأديب فيطلب من الرجال الثلاثة من خلال رسول أرسله إليهم ألا يقربوا نساءهم.
لقد دخل العزل إلى دائرة جديدة وهي دائرة المجتمع الخاص حيث الرجل وامرأته، فقال كعب لرسول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أطلق زوجتي»؟. قال الرسول: (بل لا تقربها). وقال قوم لكعب: اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فلتذهب امرأتك لتستأذنه في أن تظل معك لتخدمك؛ فقد استأذنت امرأة هلال بن أمية رسول الله؛ فأذن لها أن تخدم زوجها. فقال كعب: والله لا أفعل، لأن امرأة هلال حينما ذهبت إلى رسول الله قال لها: (لا يقربنك) فقالت: (يا رسول الله والله إن هلالا ما به حركة لشيء) فأذن لها أن تظل لتخدمه. لكني رجل شاب وأخاف أن أستأذن رسول الله فلا يعطيني هذا الحق.
هكذا كان إبعاد التأديب، وليس بالطرد الكامل من حظيرة الإيمان، بدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل من يتلقون التأديب أهلا لأوامر يلقيها عليهم، ثم جاءت البشرى بالإفراج بعد عشرة أيام عندما أنزل الحق قوله: {وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وظنوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم} [التوبة: 118].
وهكذا لم يقفل الحق الباب بل جعله مفتوحا أمام الإنسان، حتى لمن كفر، وحتى لمن كتم، فلا يظن أن سابق كفره أو تراخيه عن نصرة الحق سيغلق أمامه الباب، أو يحول بينه وبين ربه، لذلك يقول الحق: {إِلاَّ الذين تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فأولئك أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}
أي أعلنوا التوبة وهي أمر ذاتي، وأصلحوا بمقدار ما أفسدوا، وبينوا للناس بمقدار ما كتموا،
إذن شرط التوبة أن يعود كل حق لصاحبه، فالذي كتم شيئا عليه أن يبينه، فالكتمان لا يؤثر فقط في العلاقة بين العبد والرب، ولكنه يضر العباد،
والحق سبحانه حين يفتح باب التوبة للعبد يقول: {تاب عليهم ليتوبوا} [التوبة: 118].
ومادة (تاب) تعني الرجوع إلى الله، فعندما يتوب العبد فهو يعود إلى ربه طالبا المغفرة عن العصيان والذنب، وعندما يتوب الله على عبد، فذلك يعني أن الله قبل توبته، فبعد أن كان مقدرا له أن يعذب فإن الله يعفو عنه فلا يعذبه، إذن فالتوبة كلها رجوع إلى الله، وحين تقدم التوبة من الله على التوبة من العباد في قوله: {تاب عليهم ليتوبوا}، فمعنى ذلك أن الحق شرع التوبة وقننها ليفتح باب الرجوع إليه،
فهناك ثلاث مراحل للتوبة:
المرحلة الأولى: هي أن الله شرع التوبة.
المرحلة الثانية: هي أن يتوب العبد.
المرحلة الثالثة: أن يقبل الله التوبة.
وكلها تعني الرجوع عن المعصية والذنب.
إذن فأي إنسان يذنب ذنبا لابد أن يصلح هذا الذنب من جنس ما فعل، فإن فعل ذنبا سرا فيكفيه أن يتوب سرا، أما إن كسر حدود الله علنا،
فنقول له: لا يستقيم أبدا أن تعصي الله علنا أمام الناس وتكون أسوة سيئة لأناس تجعلهم يتجرأون
ولذلك فالمثل العامي يقول: (تضربني في شارع وتصالحني في حارة).
إن الذي يكسر حداً من حدود الله أمام الناس نقول له: لابد أن تعلن توبتك أمام الناس جميعاً، ولذلك نحن ندرأ الحدود بالشبهات
لكن الذي يتباهى بأنه ارتكب الذنب لا نتركه، مثلا الذي شهد عليه أربعة بأنه ارتكب ذنبا من الكبائر كالزنى، لقد ظل يفعل الذنب باستهتار إلى أن شهد عليه أربعة، هل يعقل أن نقول له: ندرأها بالشبهات؟.
لا. هو كسر الحد علنا فوجبت معاقبته بإقامة الحد.
وأما الذين تابوا وأصلحوا ما أفسدوه وبيَّنوا للناس ما كتموه فجزاؤهم توبة من الله.
ومن لطف الله بالإنسان أن شرع التوبة حتى يشعر الناس بالذنب، وجعلها من فعل التائب؛ ومن فعل قابل التوبة، وهو الله سبحانه فقال: {تابوا} و{أتوب}، كل ذلك حتى لا يستشعر الإنسان عندما يرتكب ذنبا ويتوب أنها مسألة مستعصية، إن الحق يقول: {فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} إنه سبحانه يتوب على من تاب عن الذنب ويتوب عن المذنبين جميعا، فهو تعالى (تواب) وهي كلمة تعني المبالغة في الصفة. ويقول الحق بعد ذلك: {إِن الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ}
إنهم الذين أصروا على عدم التوبة فكان جزاؤهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
ويضيف سبحانه: {خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ}
وساعة يأتي الحق في عذاب الكافرين ويتكلم عن النار عذابا وعن الزمان خلودا ثم يُصَعِّد الخلود بالأبدية، فنحن نعرف بذلك أن هناك عذاباً في النار، وخلوداً فيها، وأبدية. ولأن رحمة الله سبقت غضبه في التقنين العذابي، لم يذكر الخلود في النار أبداً إلا في سورة الجن، قال: {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} [الجن: 23].
ومادام فيه مقيد، فإن كل مطلق من التأبيد يُحمل عليه،
وكون الحق لم يأت بكلمة (أبداً) عند ذكر العذاب، فهذا دليل على أن رحمته سبقت غضبه حتى في تقنين العذاب، وهناك إشكال يَرِدُ في سطحية الفهم فحين يقول الحق: {يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِي النار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ فَفِي الجنة خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 105-108].
فإنّ الحق يتحدث عن يوم الحشر،
وعن البشر شقيهم وسعيدهم، فالذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق، ولنا أن نتخيل صورة التنفس داخل النار وسط جوها المكفهر باللهب. إن الإنسان يتنفس ليستروح بالهواء؛ فكيف يأخذه من النار؟. إن في ذلك عذاباً عظيماً. وأهل النار خالدون فيها مادامت السماوات والأرض. ويتساءل السطحيون (إن الله يضع الذين شقوا في النار مادامت السماوات والأرض، ويقول القول نفسه عن الذين سعدوا بالجنة) ونقول لهم: السماوات والأرض الآن؛ تختلف عن السماوات والأرض في الآخرة، إن السماوات والأرض في الدنيا هي أسباب ومعاش، أما في الآخرة فنحن لا نأكل بالأسباب، إنما بالمسبب، نحن نحيا في الآخرة بكلمة (كن)، ولا نعيش بأسباب الحرث والزرع والمطر. إن الحق يبدل السماوات والأرض في اليوم الآخر، واقرأ إن شئت قول الحق: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات} [إبراهيم: 48].
ومن هذا القول نفهم أن المقصود هو السماوات والأرض المبدلة. ونلحظ أن الحق جاء في أمر خلود الأشقياء بالمشيئة فقال: {إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ}، فكأن خلود الأشقياء في النار تنقضه وتضع نهاية له مشيئة الله؛ لأن الأشقياء ليسوا هم الكفار فحسب، بل منهم بعض المؤمنين العصاة الأشقياء، وهؤلاء المؤمنون العصاة سيدخلون النار على قدر حظهم من المعاصي، وساعة تقوم الساعة ويأتي الجزاء يدخلون النار ويأخذون جزاءهم، لكن بعد أخذ الجزاء يخرجون، إذن، فسينتهي الخلود من آخر الزمن، فيكون المعنى: {إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} أن يستمروا في النار إلى وقت محدد.
أما بالنسبة للجنة. فالاستثناء يكون من البدء،
لماذا؟
لأن المؤمن الذي عصى الله لن يدخل الجنة من البداية، وإنما سيقضي فترة في النار ثم يدخل الجنة، إذن فالخلود في الجنة بالنسبة له قد نقص من أوليته.
أما الشقي فالخلود في النار نقص من آخريته، إذن {إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ}؛ تعني أن المؤمن العاصي لن يدخل الجنة من بدء الآخرة. إذن: (إلا) هنا جاء لاستثناء الزمن أوله بالنسبة للسعداء، أو استثناء الزمن من آخره بالنسبة للعصاة الأشقياء، ولذلك لا تجد تناقضا، ذلك التناقض الذي تصنعه سطحية الفهم.
أما قوله الحق:
{لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب}
فهو أن الإنسان عندما يعذب بشيء فإن تكرار العذاب عليه ربما يجعله يألف العذاب، لكن الواقع يقول: إن العذاب يشتد عليه، فالتخفيف لا علاقة له بالزمن، وقوله الحق: {وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ} نعرف منه أن الإنظار هو الإمهال، والمعنى أنهم لا يؤخرون عن عذابهم؛ أو لا ينظرون بمعنى لا ينظر إليهم. وهناك آية تفيد هذا المعنى في قوله تعالى: {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة وَلاَ يُزَكِّيهِمْ} [آل عمران: 77].
لأن النظر يعطي شيئا من الحنان، ولماذا قال: لا ينظرون؟. لأنك قد تتجه ناحيته فتنظره دون قصد، بتلقائية. ولكن النظرة لا تتجه عطفا عليه، وهو سبحانه لا ينظر إليهم أساسا، لأن النظرة قد توحي بلون من الشفقة، بذلك تكون لا يُنظرون؛ أي لا ينظر إليهم أبداً، فكأنهم أهملوا إهمالا تاماً.
ويقول الحق من بعد ذلك: {وإلهكم إله وَاحِدٌ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ الرحمن الرحيم}
وتلك هي قضية الحق الأساسية، و{وإلهكم} يعني أن المعبود إله واحد، فالواقع أن الإله الحق موجود قبل أن يوجد الكفر. و{لاَّ إله إِلاَّ هُوَ} هذه قضية ثانية، لأن غفلة الناس هي التي جعلت بعضا من نفوس الناس تلتفت إلى آلهة أخرى. وقوله الحق أنه سبحانه: {إله وَاحِدٌ} أي ليس له ثان، والفارق بين {واحد} و{أحد} هو أن {واحد} تعني ليس ثان، و{أحد} يعني ليس مركباً ولا مكوناً من أجزاء، ولذلك فالله لا يمكن أن نصفه بأنه (كل) أو (كلي) لأن (كل) يقابلها (جزء) و(كلي) يقابلها (جزئي)، و(كل) هو أن يجتمع من أجزاء. والله متفرد بالوحدانية، وسبحانه المنزه عن كل شيء وله المثل الأعلى، وأضرب هذا المثل للتقريب لا للتشبيه، إن الكرسي (كل) مكون من خشب ومسامير وغراء وطلاء، فهل يمكن أن نطلق على الخشب أنه (كرسي) أو على المسامير أو على الغراء أو على الطلاء؟. لا. إذن كل جزء لا يطلق على (الكل)، بل الكل ينشأ من اجتماع الأجزاء.
و(الكلي) يطلق على أشياء كثيرة؛ لكن كل شيء منها يحقق الكلي، فكلمة (إنسان) نقول عنها (كلي)؛ جزئياتها محمد وزيد وبكر وعمر وخالد، فنقول: زيد إنسان، وهو قول صحيح، ونقول عمر إنسان وذلك قول صحيح. والله سبحانه وتعالى لا هو (كلي) لأنه واحد، ولا هو (كل) لأنه أحد.
إن القضية الأساسية في الدين هي {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو} والقرآن لا ينفي ويقول: {لاَّ إله إِلاَّ هُوَ} إلا حين توجد غفلة تعطي الألوهية لغير الله، أو تعطي الألوهية لله ولشركاء معه، إن القرآن ينفي ذلك ويقول: {لاَّ إله إِلاَّ هُوَ الرحمن الرحيم} وليس هناك شيء غير الله إلا نعمة منه سبحانه أو مُنَعم عليه.
إن ما دون الله إما نعمة وإما منعم عليه بالنعمة، وهذه كلها نفح الرحمن، ونفح الرحيم. ومادام كل شيء ما عدا الله إما نعمة وإما منعم عليه فلا توصف النعمة بأنها إله، ولا يقال في المنعم عليه: إنه إله، لأن المُنعم عليه معناه أن غيره أفاض عليه نعمه، لأن النعمة موهوبة، والمُنَعم عليه موهوب إليه، فإذا كانت هبة أو موهوبة إليه فلا يصح أن تكون إلها، لكن الذين يُفتنون إنما يفتنون في الأسباب، والحق سبحانه وتعالى هو المسبب لكل الأسباب. وبعد ذلك يلفتنا الحق سبحانه إلى خدمة هذه القضية فيدعونا أن ننظر في الكون ونتأمل في النعمة الموجودة لنا، وبعد ذلك فأنت يا من أنعم الله عليه بهذه النعمة إن وجدت أحدا يدعيها لنفسه فأعطها واتركها له وانسب النعم إلى موجدها وهو الله وإياك أن تشرك في نعمة الله أحداً غيره، لأن الله يقول: في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك فيه غيري تركته وشركه).
ويلفتنا الحق إلى الكون فيقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار...}.