"من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدَّم من ذنبه". وهذه الليلة في العشر الأواخر من رمضان؛ لقول النبي : "تحرُّوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان"[متفق عليه.].
معنى ( القدر ) التعظيم ، أي أنها ليلة ذات قدر ، لهذه الخصائص التي اختصت بها ، أو أن الذي يحييها يصير ذا قدر . وقيل : القدر التضييق ، ومعنى التضييق فيها : إخفاؤها عن العلم بتعيينها ، وقال الخليل بن أحمد : إنما سميت ليلة القدر ، لأن الأرض تضيق بالملائكة لكثرتهم فيها تلك الليلة ، من ( القدر ) وهو التضييق ، قال تعالى : ( وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه ) سورة الفجر /16 ، أي ضيق عليه رزقه .وقيل : القدر بمعنى القدَر - بفتح الدال - وذلك أنه يُقدّر فيها أحكام السنة لأن المقادير تقدر وتكتب فيها .فسماها الله تعالى ليلة القدر وذلك لعظم قدرها وجلالة مكانتها عند الله ولكثرة مغفرة الذنوب وستر العيوب فيها فهي ليلة المغفرة
وهي في الأوتار منها أحرى وأرجى، وفي الصحيحين أن النبي قال: "التمسوها في العشر الأواخر في الوتر". أي: في ليلة إحدى وعشرين، وثلاث وعشرين، وخمس وعشرين، وسبع وعشرين، وتسع وعشرين. وقد ذهب كثير من العلماء إلى أنها لا تثبت في ليلة واحدة، بل تنتقل في هذه الليالي، فتكون مرة في ليلة سبع وعشرين، ومرة في إحدى وعشرين، أو ثلاث وعشرين، أو خمس وعشرين، أو تسع وعشرين.
وقد أخفى الله -سبحانه- علمها على العباد رحمة بهم؛ ليجتهدوا في جميع ليالي العشر، وتكثر أعمالهم الصالحة فتزداد حسناتهم، وترتفع عند الله درجاتهم {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 132]. وأخفاها -سبحانه- حتى يتبين الجادّ في طلب الخير الحريص على إدراك هذا الفضل، من الكسلان المتهاون؛ فإن من حرص على شيء جدَّ في طلبه، وسهل عليه التعب في سبيل بلوغه والظفر به، فأروا الله من أنفسكم خيرًا، واجتهدوا في هذه الليالي المباركات، وتعرّضوا فيها للرحمات والنفحات؛ فإن المحروم من حُرم خير رمضان، وإن الشقي من فاته فيه المغفرة والرضوان، يقول النبي : "رغم أنف من أدرك رمضان ثم خرج ولم يُغفر له"[رواه ابن حبان والحاكم وصححه الألباني.].
إن الجنة حُفّت بالمكاره، وإنها غالية نفيسة، لا تُنال بالنوم والكسل، والإخلاد إلى الأرض، واتباع هوى النفس؛ يقول النبي : "من خاف أدلج[ يعني من أول الليل.]، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة"أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن.. وقد مثّل النبي المسافر إلى الدار الآخرة -وكلنا كذلك- بمن يسافر إلى بلد آخر لقضاء حاجة أو تحقيق مصلحة، فإن كان جادًّا في سفره، تاركًا للنوم والكسل، متحملاً لمشاق السفر، فإنه يصل إلى غايته، ويحمد عاقبة سفره وتعبه، وعند الصباح يحمد القوم السرى.
وأما من كان نوّامًا كسلان، متبعًا لأهواء النفس وشهواتها، فإنه تنقطع به السبل، ويفوته الركب، ويسبقه الجادّون المشمّرون، والراحة لا تُنال بالراحة، ومعالي الأمور لا تُنال إلا على جسر من التعب والمشقات {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200].
لأن الإنسان يسعد بها،
ما الذي يشقي الإنسان؟
الخوف، الخوف يشقيه، إذا قال الخائف: حسبنا الله ونعم الوكيل، قال: الله عز وجل: ﴿ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴾
[ سورة آل عمران: 174]
إذا قال الإنسان الذي أصابه غم: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، قال تعالى: ﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ* فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾
[ سورة الأنبياء: 87-88]
إذا قال العبد وقد شعر أن مؤامرة تحاك ضده: وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد، فقال الله عز وجل: ﴿ فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ﴾
[ سورة غافر: 45]
إذا الإنسان خاف من المكر وفوض أمره إلى الله عز وجل يقيه الله سيئات الماكرين، وإذا أصابه غم فقال: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، (فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين)، وإذا قال الإنسان وقد أصابه خوف: حسبي الله ونعم الوكيل (فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله)، فإذا عرفت الله تعرف كيف تدعوه، وتعرف كيف تفوض أمرك له، وتعرف كيف تتوكل عليه، وتعرف كيف تستسلم له، وتعرف كيف تطيعه، وتعرف كيف تناجيه، لذلك ليلة القدر خير من ألف شهر.
عرفت الله وقدرته حقّ قدره أمدك الله بالملائكة فسددوا طريقك وأسعدوك :
أنت إذا عرفت الله صرت أقوى المخلوقات، وإذا أردت أن تكون أقوى الناس فتوكل على الله.
هذا معنى قوله تعالى: (ليلة القدر خير من ألف شهر)،
يصيبك الخير العميم وتسعد في الدنيا والآخرة، لماذا؟
قال تعالى: ﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ﴾
إذا قدرت الله اتصلت به، فإذا اتصلت به جاءتك الملائكة بتجليات الله عز وجل على قلبك، جاءتك الملائكة بتجليات الله فأسعدتك، وجاءتك الملائكة بتوجيهات الله فسددت طريقك، لا ترتكب خطيئة لا تقع في حماقة لا تقع في غضب مفاجئ من غير مبرر، لا تركن إلى إنسان غير موثوق فيه، فهناك ملائكة تسدد عملك. ﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ﴾
إنسان مقدم على صفقة، هذه الصفقة غير رابحة يقول لك: تضايقت، مقدم على شيء فيه خير يقول: انشرح صدري.
﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ﴾
عرفت الله وقدرته حق قدره أمدك الله بالملائكة فسددوا طريقك وأسعدوك ووجهوك وحذروك وأمروك ونهوك، إذا أحب الله عبداً جعل له واعظاً من قلبه، إذا أحب الله عبداً عاتبه في منامه، إذا أحب الله عبداً عجل له في العقوبة، هذا معنى (تتنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر)، إلى أن تصبح حياتك سلاماً في سلام، لا قلق، لا همّ، لا حزن، لا خوف، لا توقع مصيبة، لا مرض، لا خوف، لا يأس، لا قنوط.
يا أيها الأخوة الأكارم، نحن فى العشر الأخير، والنبي عليه الصلاة والسلام كان إذا أقبل العشر الأخير شدّ المئزر وأيقظ أهله واجتهد في العبادة ما لا يجتهد في غير رمضان، النبي الكريم رقي المنبر فقال: آمين، ثم رقي الدرجة الثانية فقال: آمين، ثم رقي الثالثة فقال: آمين، فقالوا: يا رسول الله علام أمنت؟ قال: جاءني جبريل فقال لي: خاب وخسر من أدرك رمضان ولم يغفر له إن لم يغفر له فمتى؟ نحن في رمضان، ونحن في العشر الأخير، أي دقق في سلوكك، راقب هل في بيتك مخالفة؟ هل هناك معصية؟ هل تسمع الغناء؟ هل تشاهد مالا يرضي الله عز وجل من البرامج؟ هل تنظر إلى الحرام؟ هل تغتاب أحداً؟ هل تكذب في البيع والشراء؟ هل تغش مسلماً؟ هل تأكل حراماً؟ دقق إذا تقصيت الحلال في كل شيء تجلى الله على قلبك. يقول العبد:
نحن في مناسبة لا تعود إلى العام القادم، ونحن على فى العشر الأخير نريد صيام الخصوص، صيام الجوارح، بل في العشر الأخير صيام خصوص الخصوص، ترك ما سوى الله عز وجل، معنا كتاب الله عز وجل فيه نبأ من كان قبلنا ونبأ من كان بعدنا، في القرآن آيات لما تؤوَّل بعد، فيه قوانين الحياة، فيه مفتاح السعادة، فيه مفتاح الطمأنينة، فيه مفتاح الإقبال على الله عز وجل، فلذلك هذه السورة على صغرها وعلى إيجازها ثلاثة أسطر لكن يجب أن تعرفها، إذا عرفتها نقلت من العبادة إلى العلم، إن صرت عالماً عندئذ كما قال الإمام علي كرم الله وجهه: العلم خير من المال لأن العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق.
تقول: أنا مشغول عندي موعد، عندنا ضيوف، تعبان، معنى هذا لم تعرف ما عند الله عز وجل، لو لك مع واحد مئتا ألف وقال لك: تعال خذها قبل الآذان بنصف ساعة وأنت صائم ماذا تفعل؟
تشعر بنشاط منقطع النظير، تأخذ سيارة أجرة، وأنت تعد المال هل تنام؟
لو أنك ترى ما عند الله من خير وتخشى ما عنده من عقبات لما فرطت بمجلس علم واحد، يقول لك: حضرت مجالس منذ ثلاثين عاماً ولم أتغيب، دليل اهتمام وصدق لذلك هذه سورة القدر هذه سورة عظيمة وأرجو الله أن تكون في قلوبكم لأن فهمها سهل.