الفشل هو الجبن، والطائفتان هما (بنو حارثة) من الأوس، (وبنو سلمة) من الخزرج، وهؤلاء كانوا الجناح اليمين والجناح اليسار، فجاءوا في الطريق إلى المعركة وسمعوا كلام المنافق ابن سلول، إذ قال لهم: لن يحدث قتال؛ لأنه بمجرد أن يرانا مقاتلو قريش سيهربون.
وقال ابن سلول المنافق للرسول: لو نعلم قتالاً لاتبعناكم. إلا أن عبد الله ابن حارثة قال: أنشدكم الله وأنشدكم رسول الله وأنشدكم دينكم. فساروا إلى القتال وثبتوا بعد أن همّوا في التراجع.
وما معنى (الهمّ) هنا؟
إن الهم هو تحرك الخاطر نحو عملية ما، وهذا الخاطر يصير في مرحلة ثانية قصداً وعزماً، إذن فالذي حدث منهم هو مجرد هَمّ بخاطر الإنسحاب، لكنهم ثبتوا.
ولماذا ذلك؟ لقد أراد الله بهذا أن يُثبت أن الإسلام منطقي في نظرته إلى الإنسان، فالإنسان تأتيه خواطر كثيرة. لذلك يورد الحق هذه المسألة ليعطينا العلاج. فقال: {إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ}.
وقد قال واحد من الطائفتين: والله ما يسرني أني لم أهم- أي لقد انشرح قلبي لأني هممت- لأني ضمنت أين من الذين قال الله فيهم: {والله وَلِيُّهُمَا}، وحسبي ولاية الله. لقد فرح لأنه أخذ الوسام، وهو ولاية الله.
وهكذا نلتقط العبر الموحية من الآيات الكريمات حول غزوة أحُد، ونحن نعلم أن هذه الغزوة التالية لغزوة بدر الكبرى. وغزوة بدر الكبرى انتهت بنصر المسلمين وهم قلة في العدد والعُدة، ففي بدر لم يذهب المسلمون إلى المعركة ليشهدوا حرباً، وإنما ليصادروا أموال قريش في العِير تعويضاً لأموالهم التي تركوها في مكة. ومع ذلك شاء الله ألاّ يواجهوا العير المحملة ولكن ليواجهوا الفئة ذات الشوكة، وجاء النصر لهم. ولكن هذا النصر، وإن يكن قد ربّى المهابة للمسلمين في قلوب خصومهم، فإنه قد جمّع همم أعداء الإسلام ليتجمعوا لتسديد ضربة يردون بها اعتبار الكفر؛ ولذلك رأينا رءوس قريش وقد منعت نساءها أن يبكين على قتلاهم؛ لأن البكاء يُريح النفس المتعبة، وهم يريدون أن يظل الحزن مكبوتاً ليصنع مواجيد حقدية تحرك النفس البشرية للأخذ بثأر هؤلاء، هذا من ناحية العاطفة التي يحبون أن تظل مؤججة، ومن ناحية المال فإنهم احتفظوا بمال العير الذي نجا ليكون وسيلة لتدبير معركة يردون فيها اعتبارهم.
وقد حاولوا قبل أحُد أن يفعلوا شيئاً، ولكنهم كانوا يُرَدّون على أعقابهم. فمثلاً قاد أبو سفيان حملة مكونة من مائة، وأراد أن يهاجم بها المدينة فلما نمى خبرها إلى سيدنا رسول الله نهض بصحابته إليهم، فبلغ أبو سفيان خروج رسول الله، ففرّ هارباً وألقى ما عنده من مؤنة في الطريق ليخفف الحمل على الدواب لتسرع في الحركة، ولذلك يسمونها (غزوة السويق) لأنهم تركوا طعامهم من السويق.
كما حاول بعض الكفار أن يُغيروا على المدينة بعد ذلك أكثر من مرة ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يذهب إليهم على رأس مقاتلين فمرة عددهم مائة ومرة مائة وخمسون ومرة مائتان، وفعلاً شتت الرسول صلى الله عليه وسلم شملهم. وكان من خطته صلى الله عليه وسلم حين يذهب إلى قوم كان يبلغه أنهم يُريدون أن يتآمروا لغزو المدينة أن يظل في بلدهم وفي معسكرهم وقتا ليس بالقليل.
كل ذلك سبق غزوة أُحد. وبعد ذلك تجمعوا ليجيئوا لغزوة أُحد، وكان ما كان، والآيات التي تعالج هذه الغزوة فيها إيحاءات بما جاء في المعركة، فالرسول صلى الله عليه وسلم بوأ للمقاتلين مقاعد للقتال، وأمرهم بالثبات في تلك المواقع لكن بعضا من المقاتلين ترك مكانه، والبعض الآخر همّ بالانسحاب، لكنه ثبت أخيراً، وفرّ كفار قريش. وقد تجلت في هذه المعركة آيات الله الكبيرة.
فحين نصر الله سبحانه وتعالى المسلمين (ببدر) وهم قلة، لم يخرجوا لمعركة وإنما خرجوا لمصادرة عير. وربما ظن أناس أنهم بمجرد نسبتهم إلى الله وإلى الإسلام سينصرون على هذه الوتيرة، ويتركون الأسباب فأراد الله أن يعلمهم أنه لابد من استنفاد الأسباب، إعداداً لعدة ولعدد، وطاعة لتوجيه قائد.
فلما خالفوا كان ولابد أن يكون ما كان. والمخالفة لم تنشأ إلا بعد استهلالٍ بالنصر، ولذلك سيجيء فيما بعد ستون آية حول هذه الغزوة؛ لتبين لنا مناط العبرة في كل أطوارها لنستخرج منها العظة والدرس. ونعلم أن المنتصرين عادةً يكون الجو معهم رخاءً. ولكن الكلام هنا عن هزيمة من لا يأخذون بأسباب الله، وهذا أمر يحتاج إلى وقفة، فجاء القرآن هنا ليقص علينا طرفاً من الغزوة لنستخرج منها العبرة والعظة، العبرة الأولى: أنهّم حينما خرجوا، تخلف المنافقون بقيادة ابن أبَيّ، إذن فالمعركة إنما جاءت لتمحص المؤمنين. والتمحيص يأتي للمؤمن ويعركه عركا، ويبين منه مقدار ما هو عليه من الثبات ومن اليقين، والحق إنما يمحص الفئة المؤمنة لأنها ستكون مأمونة في التاريخ كله إلى أن تقوم الساعة على حماية هذه العقيدة، فلا يمكن أن يتولى هذا الأمر إلا أناس لهم قلوب ثابتة، وجأش قوي عند الشدائد، وهمة دونها زخارف الدنيا كلها.
وبعد ذلك يعالج النفس البشرية في أوضاعها البشرية، فعقائد الإيمان لا تنصب في قلوب المسلمين بمجرد إعلان الإيمان، ولكن كل مناسبة تعطي دفعة من العقيدة يتكون بعد ذلك الأمر العقدي كله. ولذلك يبين لنا الحق أن طائفتين من المؤمنين قد همت بالتراجع، فهم نفوس بشرية، ولكن أنفّذت الطائفتان ذلك الهم أم رجعت وفاءت إلى أمر الله؟ لقد رجعت الطائفتان.
وهكذا رأينا بين الذين أعلنوا إيمانهم فئة نكصت من أول الأمر وفئة خرجت ثم عادت.
لقد تحدثت النفوس ولكن أفراد تلك الفئة لم يقفوا عند حديث النفس بل ثبتوا إلى نهاية الأمر، ومنهم من ثبت إلى الغاية السطحية من الأمر كالرماة الذين رأوا النصر أولا، وهؤلاء من الذين ثبتوا، ما فرّوا أولاً مع ابن أبيّ، وما كانوا من الطائفة التي همت، ولكنهم كانوا من الذين ثبتوا. لكنهم عند بريق النصر الأول اشتاقوا للغنائم، وخالفوا أمر الرسول، ولنقرأ قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حتى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ ما أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين} [آل عمران: 152].
وبعد ذلك تأتي لقطة أخرى وهي ألا نفتن في أحد من البشر، فخالد بن الوليد بطل معسكر الكفر في أُحد، وهو الذي استغل فرصة نزول الرماة عن أماكنهم، وبعد ذلك طوق جيش المؤمنين، وكان ما كان، من خالد قبل أن يسلم، ألم يكن في غزوة الخندق؟ لقد كان في غزوة الخندق. وكان في غزوات كثيرة غيرها مع جند الشرك، فأين كانت عبقريته في هذه الغزوات؟.
إن عبقرية البشر تتصارع مع عبقرية البشر ولكن لا توجد عبقرية بشرية تستطيع أن تصادر ترتيباً ربانياً، ولذلك لم يظهر دور خالد في معركة الخندق، لقد ظهر دوره في معركة أُحد؛ لأن المقابلين لخالد خالفوا أمر القيادة فبقيت عبقرية بشر لعبقرية بشر، ولكنهم لو ظلوا في حضن المنهج الإلهي في التوجيه لما استطاعت عبقرية خالد أن تطفو على تدبيرات ربه أبدا.
والتحقيق التاريخي لكل العسكريين الذين درسوا معركة أُحد قالوا: لا هزيمة للمسلمين ولا انتصار للكفار؛ لأن النصر يقتضي أن يُجلي فريق فريقاً عن أرض المعركة، ويظل الفريق الغالب في أرض المعركة. فهل قريش ظلت في أرض المعركة أو فرّت؟ لقد فرّت قريش.
ويُفسر النصر أيضاً بأن يؤسر عدد من الطائفة المقابلة، فهل أسرت قريش واحداً من المسلمين؟ لا. ولقد علموا أن المدينة خالية من المؤمنين جميعا وليس فيها إلا من تخلف من المنافقين والضعاف من النساء والأطفال، ولم يؤهلهم فوزهم السطحي لأن يدخلوا المدينة.
إذن فلا أسروا، ولا أخذوا غنيمة، ولا دخلوا المدينة، ولا ظلوا في أرض المعركة، فكيف تسمي هذا نصراً؟ فلنقل: إن المعركة ماعت. وظل المسلمون في أرض المعركة.
وهنا تتجلّى البطولة الحقة؛ لأننا كما قلنا في حالة النصر يكون الأمر رخاء، حتى من لم يُبْلِ في المعركة بلاءً حسناً ينتهز فرصة النصر ويصول ويجول، ولكن المهزومين والذين أصيب قائدهم صلى الله عليه وسلم، وضعف أن يصعد الجبل، حتى أن طلحة بن عبيد الله يطأطئ ظهره لرسول الله ليمتطيه فيصعد على الصخرة.
ورسول الله يسيل منه الدم بعد أن كسرت رباعيته وتأتي حلقتان من حلق المغفر في وجنته، بعد هذا ماذا يكون الأمر؟ حتى لقد أرجف المرجفون وقالوا: إن رسول الله قد قُتل.
وكل هذا هو من التمحيص، فمن يثبت مع هذا، فهو الذي يؤتمن أن يحمل السلاح لنصرة كلمة الله إلى أن تقوم الساعة. ويتفقد رسول الله صلى الله عليه وسلم بطلاً من أبطال المسلمين كان حوله فلا يجده، إنه (سعد بن الربيع).
يقول عليه الصلاة والسلام: (مَن رجل ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع؟ أفي الأحياء هو أم في الأموات؟) فقال رجل من الأنصار هو أُبَيُّ بن كعب: فذهبت لأتحسسه، فرأيته وقد طُعن سبعين طعنة ما بين ضربة سيف وطعنة رمح ورمية قوس. فلما رآه قال له: رسول الله يقرئك السلام، ويقول لك: كيف تجدك- أي كيف حالك-؟
قال سعد بن الربيع: قل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جزاك الله عنّا خير ما جزى نبيا عن أمته، وقل للأنصار ليس لكم عند الله عُذر إن خَلص إلى رسول الله وفيكم عين تطرف. ثم فاضت روحه.
انظروا آخر ما كان منه، حين أُثخن في المعركة فلم يقو على أن يحارب بنصاله، انتهز بقية الحياة ليحارب بمقاله، ولتصير كلماته دوياً في آذان المسلمين. وليعلم أن هؤلاء الذين أثخنوه جراحاً ما صنعوا فيه إلا أن قربوه إلى لقاء ربه، وأنه ذاهب إلى الجنة. وتلك هي الغاية التي يرجوها كل مؤمن.
ونجد أيضاً أن الذين يعذرهم القرآن في أن يشهدوا معارك الحرب، يتطوعون للمعارك! فمثلا عمرو بن الجموح، كان أعرج، والعرج عذر أقامه الله مع المرض والعمى؛ لأنه سبحانه هو القائل: {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ} [النور: 61].
وكان لعمرو بن الجموح بنون أربعة مثل الأسْد قد ذهبوا إلى المعركة، ومع ذلك يطلب من رسول الله أن يذهب إلى المعركة ويقول له: يا رسول الله إن بَنيّ يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه والخروج معك فيه، فوالله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمّا أنت فقد عذرك الله فلا جهاد عليك. وقال لبنيه: ما عليكم ألاّ تمنعوه، لعل الله أن يرزقه الشهادة، فخرج معه فقتل.
وهذا مؤمن آخر يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله إن ابني الذي استشهد ببدر رأيته في الرؤيا يقول لي: (يا أبت أقبل علينا) فأرجو أن تأذن لي بالقتال في (أحُد) فأن له فقاتل فقتل فصار شهيداً. وتتجلى الروعة الايمانية والنسب الإسلامي في حذيفة بن اليمان، لقد كان ابوه شيخاً كبيراً مسلماً فأخذ سيفه ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم لعل الله يرزقه الشهادة في سبيل الله، فدخل في المعركة ولا يعلم به أحد فقتله المسلمون ولا يعرفونه، فقال ابنه حذيفة، أبي والله.
فقالوا والله ما عرفناه، وصدقوا، قال حذيفة: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين. وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤدي ديته، فقال له حذيفة بن اليمان: وأنا تصدقت بها على المسلمين.
هذه الأحداث التي دارت في المعركة تدلنا على أن غزوة أُحد كان لابد أن تكون هكذا، لتمحص المؤمنين تمحيصاً يؤهلهم لأن يحملوا كلمة الله ويعلوها في الأرض.
ويقول الحق سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ...}.
لقد نقلهم من معركة فيها شبه هزيمة أو عدم انتصار إلى نصر، فكأنه يريد أن يقول: إن الأمر بالنسبة لكم أمر إلهكم الذي يرقبكم ويعينكم ويمدكم ويرعاكم. وإياكم ان تعتمدوا على العدد والعُدة ولكن اعتمدوا على الحق سبحانه وتعالى وعلى ما يريده الحق توجيها لكم، لأن مدد الله إنما يأتي لُمستَقْبل لمدد الله، ولا يأتي المدد لغير مستقبل لمدد الله.
ونعرف أن فيه فرقاً بين الفاعل وبين القابل، فالفاعل شيء والقابل للانفعال بالفعل شيء آخر.
وضربنا لذلك مثلاً: بأن الفاعل قد يكون واحداً، ولكن الانفعال يختلف، وحتى نقرب المسألة نقول: كوب الشاي تأتي لتشرب منه فتجده ساخناً فتنفخ فيه ليبرد، وفي الشتاء تصبح لتجد يدك باردة فتنفخ فيها لتدفأ، إنك تنفخ مرة لتبرد كوب الشاي، ومرة تنفخ لتدفئ يدك، إذن فالفاعل واحد وهو النافخ، ولكن القابل للانفعال شيء آخر، ففيه فاعل وفيه قابل
ومثال آخر: إن القرآن كلام الله ولو أنه نزل على الجبال لخرّت خاشعة، ومع ذلك يسمعه أناس، لا يستر الله عليهم بل يكشفهم لنا ويفضحهم بعظمة ألوهيته: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم مَاذَا قَالَ آنِفاً أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ} [محمد: 16].
إنهم لم ينفعلوا بالقرآن، وقولهم: (ماذا قال آنفاً) معناه استهتار بما قيل. ونجد الحق يرد على ذلك بقوله تعالى: {أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ} [محمد: 16].
إن الفاعل واحد والقابل مختلف.
ويتابع الحق بلاغه الحكيم في قوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فاتقوا الله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} إذن فمدد الله لكم إنما يتأتى لمستقبلٍ إيماني، فان لم يوجد المستقبل- بكسر الباء- فلا يوجد المدد. فاذا كنت لا تستطيع ان تستقبل ما ترسله السماء من مدد نقول لك: أصلح جهاز استقبالك؛ لأن جهاز الاستقبال كالمذياع الفاسد، إن الإرسال من الإذاعات مستمر، لكن الذياع الفاسد هو الذي لا يستقبل. إذن فإن كنت تريد أن تستقبل عن الله فلابد أن يكون جهاز استقبالك سليما. ويوضح الحق ذلك بقوله جل جلاله: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الملائكة مُنزَلِينَ}
ويبين سبحانه وتعالى كيفية إصلاح جهاز الاستقبال لتلقي مدد الله فيقول: {بلى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا...}.
{بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)}
إن الحق سبحانه وتعالى ضرب المثل بالصبر والتقوى في بدر مع القلة فكان النصر، وهنا في أُحد لم تصبروا؛ فساعة أن رأيتم الغنائم سال لعابكم فلم تصبروا عنها، ولم تتقوا أمر الله المبلغ على لسان رسوله في التزام أماكنكم.. فكيف تكونون أهلاً للمدد؟
إذن من الذي يحدد المدد؟ إن الله هو الذي يعطي المدد، ولكن من الذي يستقبل المدد لينتفع به؟ إنه القادر على الصبر والتقوى.
إذن فالصبر والتقوى هما العُدّة في الحرب.
لا تقل عدداً ولا عدة. لذلك قال ربنا لنا: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ} ولم يقل: أعدوا لهم ما تظنون أنه يغلبهم، لا. أنتم تعدون ما في استطاعتكم، وساعة تعدون ما في استطاعتكم وأسبابكم قد انتهت.. فالله هو الذي يكملكم بالنصر.
والبشر في ذواتهم يصنعون هذا، فمثلا- ولله المثل الأعلى من قبل ومن بعد- لنفترض أنك تاجر كبير. وتأتيك العربات الضخمة محملة بالبضائع، صناديق وطرود كبيرة، وأنت جالس بينما يفرغ العمال البضائع، وجاء عامل لينزل الطرد فغلبه الطرد على عافيته، وتجد نفسك بلا شعور منك ساعة تجده سيقع تهب وتقوم لنصرته ومعاونته، لقد استنفد هذا العامل أسبابه ولم يقدر، فالذي يعنيه الأمر يمد يده إليه، فما بالنا بالحق سبحانه وتعالى. كأنه يقول ابذل وقدّم أسبابك، فإذا ما رأيت أسبابك انتهت والموقف أكبر منك، فاعلم أنه أكبر منك أنت ولكنه ليس أكبر من ربك إنه سبحانه يقول: {وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ...}.
فإياك أن تظن أن المدد بالثلاثة آلاف أو الخمسة آلاف، الذين أنزلهم الله وأمدكم بهم أو بالملائكة المدربين على القتال.. إياكم أن تظنوا أن هذا المدد، هو شرط في نصر الله لك. بذاتك أو بالملائكة؛ إنه قادر على أن ينصرك بدون ملائكة، ولكنها بشرى لتؤنس المادة البشرية، فساعة يرى المؤمنين أعداداً كبيرة من المدد، والكفار كانوا متفوقين عليهم في العدد، فإن أسباب المؤمنين تطمئن وتثق بالنصر. إذن فالملائكة مجرد بُشرى، ولكن النصر من عند الله العزيز الذي لا يٌغلب. وكل الأمور تسير بحكمته التي لا تعلوها حكمة أبداً. ويقول الحق من بعد ذلك: {لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الذين كفروا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ}
{لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)}
وقطع الطرف يتحدد بمعرفة ما هو طرف لماذا؟ فإن كان الطرف هو العدد الكثير فقطع الطرف أن يُقتل بعضه. وإن كان الطرف هو أرضا واسعة فقطع الطرف أن يأخذ من أرضهم. ولذلك يقول الحق سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا والله يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الحساب} [الرعد: 41].
لقد كانت الأرض الكُفْرٍيّة تخسر كل يوم جزءاً منها لينضم هذا الجزء إلى الأرض الإيمانية، هذا بالنسبة لسعة الأرض، وافرض أن الطرف هو المال، فقطع الطرف هنا يكون بأن نأخذ بعض المال كغنائم، ثم هناك المنزلة التي كانت تهابها الجزيرة كلها، كل الجزيرة تهاب قريشاً، وقوافلها التجارية للشمال والجنوب لا تستطيع قبيلة أن تتعرض لها؛ لأن كل القبائل تعرف أنها ستذهب إلى البيت في موسم الحج، فلا توجد قبيلة تتعرض لها لأنها غداً ستذهب إلى قريش، إذن فالسيادة والعظمة كانت لقريش، وساعة تعلم القبائل أن رجال قريش قد كسروا وانهزموا، وأن رحلتهم إلى الشام أصبحت مهددة، فإنهم يبحثون عن فريق آخر يذهبون إليه.
إن قطع الطرف كان على أشكال متعددة، فإن كان طرفَ عددٍ فيقتل بعضهم، وإن كان طرف أرض فبعضها يؤخذ وتذهب إلى أرض إيمانية، وإن كانت عظمة وقهرا تأتهم الهزيمة، وإن كان نفوذاً في الجزيرة فهو يتزلزل {لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الذين كفروا}.
ولنلاحظ أن الحق قد قال: {لِيَقْطَعَ طَرَفاً}- لم يقل ليستأصل- لأن الله سبحانه وتعالى أبقى على بعض الكفار لأن له في الإيمان دوراً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ممتلئا بالعطف والرحمة والحنان على أمته، وكان يحسن الظن بالله أن يهديهم، ولذلك تعددت آيات القرآن التي تتحدث في هذا الأمر. ها هو ذا الحق يقول: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً} [الكهف: 6].
وفي موقع آخر بالقرآن الكريم يقول الحق: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 3-4].
والله يقول لرسول صلى الله عليه وسلم: «فإنّما عليك البلاغ» والرسول يحب أن يهتدي إلى الإيمان كل فرد في أمته، فقال الحق: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}
أي ليس لك يا محمد من الأمر شيء إلا أن يتوب الله عليهم فتفرح بتوبتهم، إو يعذبهم، فلا يحزنك ذلك لأنهم ظالمون أي ما عليك يا محمد إلاّ البلاغ فقط. أما هم فقد ظلموا أنفسهم بالكفر. والظلم كما نعرف هو أخذ الحق من ذي الحق وإعطاؤه لغيره. وقمة الظلم هو إضفاء صفة الألوهية على غير الله وهو الشرك. ولذلك يقول الحق: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
إن الحق يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128].
وهذه مسألة لم تخرج عن ملك الله، لماذا؟
لأن السماوات والأرض وما فيهن ملك لله: قيل أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم- بعد أن خضّب المشركون وجهه بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم- أراد عليه الصلاة والسلام أن يدعو عليهم فنهاه الله لعلمه سبحانه أن فيهم من يؤمن وأنزل قوله تعالى: {وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}
وبما أننا نتحدث عن ملامح في غزوة أحد أريد أن أقول: (جبل أًُحدٍ رضي الله عنه)؛ لأننا سمعنا بعض العارفين بالله حين تذكر كلمة (أحد) قال: أحد رضي الله عنه- فتعجب القوم لقول الشيخ عبد الله الزيدان الذي قال ذلك، فما رأى عجبهم قال لهم: ألم يخاطبه رسول الله بقوله: (اثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان)، ألم يقل فيه رسول الله: (أحد جبل يحبنا ونحبه) أتريدون أحسن من ذلك في الصحبة! قل: أحد رضي الله عنه.
وقلنا سابقاً: إنك إذا وقف عقلك في حاجة فلا تأخذها بمقاييسك أنت، بل خذها بالمقاييس الأعلى. ونحن نقول هذا الكلام لأن العلم الآن يجري ويسعى سعياً حثيثا مسرعاً حول استخراج بعض أسرار الله في الكون، فبين لنا أن الحيوانات لها لغات تتفاهم بها ويحاولون الآن أن يضعوا قاموسا للغة الأسماك. والحق سبحانه وتعالى ذكر لنا حكاية النملة مع سليمان- عليه السلام- فقال: {ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [النمل: 18]. هذا القول يدل على أنّ نملة خرجت وقامت بعمل (وردية) كي تحافظ على من معها ثم عادت لتتكلم مع أبناء فصيلتها، وسمعها سيدنا سليمان، فتبسم من قولها. إذن العلم يتسابق ويجد وَيُسَارع الآن ليثبت أن لكل جنس في الوجود لغة يتفاهم بها، وكل جنس في الوجود له انفعال، وكل جنس في الوجود له تكاثر، ولذلك قال الحق لنا على لسان سيدنا سليمان: {ياأيها الناس عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الفضل المبين} [النمل: 16]. وكانت هذه خصوصية لسيدنا سليمان عليه السلام، إذن فللطير منطق. وعندما نتسامى ونذهب إلى الجماد نسمع قول الحق سبحانه في آل فرعون وعدم بكاء الجماد عليهم: {كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ} [الدخان: 25-29]. هل تبكي السماء والأرض؟ إنه أمر عجيب؛ فالجماد من سماء وأرض لا تتفاهم فقط ولكن لها عواطف أيضاً؛ لأن البكاء إنما ينشأ عن إنفعال عاطفي وجداني. هذا يعني أن الجمادات لا تتكلم فقط، ولكنها تحس أيضاً. فالأرض تخرج أثقالها، وتحدث أخبارها، كيف؟ {بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} [الزلزلة: 5]. والسماء والأرض أتيا إلى الله في منتهى الطاعة والخشوع: {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [فصلت: 11]. إذن فهناك ما هو أكثر من التفاهم، إن لها عواطف مثلك تماما، وكما تحزنك حاجة فالأرض أيضاً تبكي، وما دامت تبكي إذن فلها مقابل بأن يفرح، ويقول الله تعالى عن أرض فرعون: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض} فلو أنها لم تبك مع بعض الناس؛ لما كان لهذا الكلام ميزة.
لذلك قال الإمام علي- كرم الله وجهه-: إذا مات المؤمن بكى عليه موضعان: موضع مصلاه؛ لأنه سيحرم من نعمة الإيمان، ومصعد عمله، موضع في الأرض وموضع في السماء. إذن فلابد أن نفهم أن لكل شيء شعوراً. وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا مات المؤمن استبشرت له بقاع الأرض فليس من بقعة إلا وهي تتمنى أن يدفن فيها». لماذا نقول هذا الكلام الآن؟ نقول ذلك حتى إذا ثبت بالعلم أن لكل شيء لغة، ولكل شيء في أجناس الكون تفاهما، يقال إن فيه ناساً هبت عليهم نسمات الإيمان فأدركوها وأحسوها من القرآن، فلا يدعي أحد أنه ابتكر من ذات نفسه لأنها في القرآن وإن كنا لا نعرف كيف تأتي.
وهذه المعركة- معركة أُحد- التي أخذت ستين آية، نجد أن الحق تكلم عنها هنا فقال: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} و{إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ} وقوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ}، وبعد ذلك يترك الغزوة في حرارتها ويأتينا بأشياء يضعها هنا، ثم يأتي ليكمل الغزوة. لو أن هذه لقطة من الغزوة وتنتهي ثم يأتي موضوع آخر، لما شغلنا أنفسنا، إنما الغزوة ستأتي فيها ستون آية، فكيف ينهي الكلام في الغزوة ولا يعطينا إلا استهلال الغزوة، وبعد ذلك ينصب القرآن على معانٍ بعيدة عن الغزوة؟ فما الذي يجعله سبحانه يترك أمر الغزوة ليقول: {يَآ أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الربا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ واتقوا النار التي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَأَطِيعُواْ الله والرسول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الذين يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ والضرآء والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أولئك جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين هذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَِ} [آل عمران: 130-138].
لماذا لم يعطنا الحق إلا استهلاك غزوة أحد وبعد ذلك انصب على قضايا أولها قضية الربا، ما العلاقة بين هذه القضايا وتلك الغزوة؟. وأقول: رحم الله صاحب الظلال الوارفة الشيخ سيد قطب فقد استطاع أن يستخلص من هذه النقلة مبادئ إيمانية عقدية لو أن المسلمين في جميع بقاع الأرض جعلوها نصب أعينهم لما كان لأي دولة من دول الكفر غلب علينا. ونريد أن نفهم هذه اللقطات، ولماذا استهلت بمسألة الربا؟ لأن الذي كان سبباً في الهزيمة أو عدم النصر في معركة أُحد أنهم طمعوا في الغنيمة. والغنيمة مال زائد، والربا فيه طمع في مال زائد. والقرآن حين يعالج هنا قضية حدثية، والأحداث أغيار تمر وتنتهي، فهو سبحانه يريد أن يستبقي عطاء الحدث ليشيع في غير زمان الحدث، وإلا فالحدث قد يمر بعظاته وعبره وينتهي ولا تكون له فائدة. والنفس حين تمر بالأحداث تكون ملكاتها متفتحة؛ لأن الحدث- كما قال المغفور له الشيخ سيد قطب- يكون ساخناً، فحين يستغل القرآن الحدث قبل أن يبرد فإن القضية التي تتعرض لها الموعظة تتمكن من النفس البشرية. وهو سبحانه لم يرد أن تمر أحداث أُحد بما فيها من العبر والعظات إلا ويستغلها القرآن الكريم ليثبت بها قضايا إيمانية تشيع في غير أزمنة الحدث من الحروب وغيرها لتنتظم أيضاً وقت السلام. فآية الربا هنا كأنما سقطت وسط النصوص التي تتعرض لغزوة أحد. والسطحيون قد يقولون: ما الذي جعل القرآن ينتقل من الكلام عن أُحد إلى أن يتكلم في الربا مرة ثانية بعد أن تكلم عنه أولاً؟
ونقول: إن القرآن لا يؤرخ الأحداث، وإنما يُريد أن يستغل أحداثاً ليبسط ويوضح ما فيها من المعاني التي تجعل الحدث له عرض وله طول وله عمق؛ لأن كل حدث في الكون يأخذ من الزمن قدر الحدث، والحدث له طول هو قدر من الزمن، يكون ساعة أو ساعتين أو ليلة مثلا، هذا هو طول الحدث. والأحداث التي يجريها الله لها طول يحدده عمر الحدث الزمني، ولها عرض يعطيها الاتساع، فبعد أن كانت خطاً مستقيماً صارت مساحة، ويجعلها الحق شاملة لأشياء كثيرة، فهو لا يريد للحدث أن يسير كخط مستقيم، بل يريده طريقا واسعاً له مساحة وله عرض. هذا العرض يعطيه رقعة مساحية تأخذ كثيراً من الأشياء، وهذا أيضا قد ينتهي مع الحدث، لذلك يريد الله أن يعطي للحدث بعداً ثالثاً وهو العمق في التاريخ فيعطي عطاءه، كما نستفيد نحن الآن من عطاء حدث هو غزوة أُحد.
إذن فالحدث له حجم أيضاً، وهذا ما يجعل الناس تقف لتقول: إن صلة الرحم تطيل العمر، والعمر له حد زمني محدد وهو الخط المستقيم له، فهناك واحد يزيد من عرض عمره، فبدلاً من أن ينفع الناس في مجال صغير فهو يعمل وينفع في مجال أوسع، إذن فهو يعطي لعمره مساحة. وهناك إنسان يريد أن يكون أقوى في العمر، فماذا يعمل؟ إنه يعطي لعمره عمقاً، فبدلاً من أن يعمل لمجرد حياته وينتهي عمره مهما كانت رقعته واسعة، فهو يزيد من عمله الصالح ويترك أثراً من علم أو خير يستمر من بعد حياته كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له». ولذلك يقول الحق: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السمآء تؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم: 24-25]. هي كلمة طيبة قيلت، لكنّها مثل الشجرة الطيبة؛ لأنها ترسخ في أذن من يسمعها فتصير حركة خاضعة للكلمة، وكلما فعل السامع لهذه الكلمة فعلاً ناتجاً من تأثير هذه الكلمة فإن بعض الثواب يعود إلى من قال هذه الكلمة حتى ولو كان قد مات.
فكأن قائل هذه الكلمة ما زال يعيش، وكأن عمره قد طال بكلمته الطيبة إذن فأعمال الخير التي تحدث من الإنسان ليس معناها أنها تطيل العمر؛ لأن العمر محدود بأجل، ولكنْ هناك إنسان يعطي عمره عرضاً، وآخر يعطيه عمقاً ويظل العطاء منه موصولاً إلى أن تقوم الساعة، فكأنه أعطى لنفسه عمراً خالداً. ويقولون: والذكر للإنسان عمر ثان.
والحق سبحانه وتعالى يوضح الدروس المستفادة من غزوة أُحد إن أول مخالفة كانت سبباً ليس في الهزيمة، ولكن دعنا نقل: (في عدم إتمام النصر)، لأنهم بدأوا منتصرين، ولم يتم النصر لأنه قد حدثت مخالفة، ودوافع هذه المخالفة انهم ساعة رأوا الغنائم، اندفعوا إليها، إذن فدوافعها هي طلب المال من غير وجه مشروع؛ لأن النبي قال لهم: (انضحوا عنا الخيل ولا نؤتين من قبلكم، الزموا أماكنكم إن كانت النوبة لنا أو علينا، وإن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم) وبهذا صارت مبارحة المكان أمراً غير مشروع، فتطلع النفس إلى شيء في غير ما أمر به رسول الله يعتبر أمراً غير مشروع والتطلع هنا كان للمال، وهكذا الربا. وأراد الحق أن تكون سخونة الحدث، والأثر الذي نشأ من الحدث في أن المسلمين لم يتم نصرهم، وتعبوا، وكان مصدر التعب أن قليلاً منهم أحبوا المال الزائد من غير وجهه المشروع. فأراد سبحانه أن يكون ذلك مدخلا لبيان الأثر السيء للتعامل بالربا. إذن فهذه مناسبة في أننا نجد آية الربا هنا وهي توضح الآثار السيئة للطمع في المال الزائد عن طريق غير مشروع، والقرآن فيه الكثير من المواقف التي توضح آثاراً تبدو في ظاهرها غير مترابطة، ولكن النظرة العميقة تؤكد الترابط.
وقلنا من قبل في قول الله تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَآ أَمِنتُمْ فاذكروا الله كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 238-239]. قد يقول أحد السطحيين: إن الحق سبحانه وتعالى كان يتكلم عن الطلاق قبل هاتين الآيتين فقال سبحانه: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 237]. ويترك الحق الحديث عن الطلاق ويأمر بالحفاظ على الصلاة بقوله الحكيم: {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ}. وبعد ذلك يعود الحق لاستكمال حديث الطلاق والفراق بالموت. {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 240]. إنه يتكلم عن الطلاق، والوفاة، ثم ينزل بينهما آية الصلاة، لماذا؟ ليتضح لنا أن المنهج الإسلامي منهج متكامل. إياك أن تقول: إن الطلاق غير الصلاة، غير الوفاة، أبداً، إنه منهج متكامل. ولأنه سبحانه وتعالى يريد أن ينبهنا إلى أن الطلاق عملية تأتي والنفس فيها غضب وتأتي والزوج والزوجة وأهل الزوج وأهل الزوجة في كدر، فيقول لهم المنهج: لو كنتم تحسنون الفهم لفزعتم إلى الصلاة حين تواجهكم هذه الأمور التي فيها كدر. وساعة تكون في كدر قم وتوضأ وصَلِّ، لأن النبي علمنا أنه إذا حَزَبه أمر قام إلى الصلاة، فساعة تجد الجو المشحون بالتوتر بين الزوج والزوجة وأهلهما قل لهم: المسألة صارت أكبر من حيلنا، فهيا نصل ليساعدنا الله على حل هذه المسائل الصعبة وأنا أتحدى ألا يوجد الله حلاً لمشكلة لجأ فيها المسلم إلى الصلاة قبلها. وهكذا نفهم أن الحق قال: {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى} لأن محافظتكم عليها هي التي ستنهي كل الخلافات؛ لأن الله لايكون في بالكم ساعة ضيقكم وفي ساعة شدتكم فتستسلمون للضيق والشدة وتنسون الصلاة، في الوقت الذي يكون فيه الإنسان أحوج ما يكون إلى الصلاة. إنك في وقت الضيق والشدة عليك أن تذهب إلى ربك، وأقول هذا المثل- ولله المثل الأعلى- إن الولد الذي يضربه أصحابه يذهب إلى أبيه، كذلك زوجتك إذا أغضبتها تذهب إلى أهلها، فكيف لا تذهب إلى ربك وقت شدتك وكربك؟. وهكذا نجد أن قوله الحق: {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى} جاء في المكان الصحيح، وهكذا آية الربا، جاءت في مكانها هنا وخصوصاً أنه تكلم عن الربا أولاً، فتأتي الحادثة وسخونة الحدث وينزل هذا القرآن الكريم. كي يعرف كل من يريد مالاً زائداً على غير ما شرع الله أنّه سيأتي منه البلاء على نفسه وعلى غيره، فالبلاء في أُحد شمل الجميع: الرماة وغير الرماة أيضا. إذن فكل الدنيا تتعب عندما تخالف منهج الله، والمال الزائد من غير ما شرع الله إن لم يترك فقد آذن الله من يأكله بحرب من الله ومن رسول الله.
نعم؛ لأن كل المسائل المالية من أجل اللقمة التي تأكلها، هذا هو الأصل. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «من أصبح منكم آمناً في سِرْبِهِ مُعَافىً في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا».
ونعرف أنه عندما يكون الواحد منا في منطقة ليس فيها رغيف خبز، فلن تنفعه ملكية جبل من الذهب. {لاَ تَأْكُلُواْ الربا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً} وقوله سبحانه: {أَضْعَافاً} و{مُّضَاعَفَةً} هو كلام اقتصادي على أحدث نظام، فالأضعاف هي: الشيء الزائد بحيث إذا قارنته بالأصل صار الأصل ضعيفاً، فعندما يكون أصل المال مائة- على سبيل المثال- وسيؤخذ عليها عشرون بالمائة كفائدة فيصبح المجموع مائة وعشرين. إذن فالمائة والعشرون تجعل المائة ضعيفة، هذا هو معنى أضعاف.
فماذا عن معنى (مضاعفة)؟ إننا سنجد أن المائة والعشرين ستصبح رأس مال جديداً، وعندما تمر سنة ستأخذ فائدة على المائة وعلى العشرين أيضا، إذن فالأضعاف ضوعفت أيضاً، وهذا ما يسمى بالربح المركب، وهل معنى هذا أننا نأكله بغير أضعاف مضاعفة؟! لا؛ لأن الواقع في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هكذا.
وقد يقول لك واحد: أنا أفهم القرآن وأن المنهي هو الأضعاف المضاعفة، فإذا لم تكن أضعافاً مضاعفة فهل يصح أن تأخذ ربحاً بسيطاً يتمثل في نسبة فائدة على أصل المال فقط؟
ولكن مثل هذا القائل نرده إلى قول الله: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279].
إن هذا القول الحكيم يوضح أن التوبة تقتضي أن يعود الإنسان إلى حدود رأس ماله ولا يشوب ذلك ربح بسيط أو مركب. وعندما نجد كلمة {أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً} فهي قد جاءت فقط لبيان الواقع الذي كان سائداً في أيامها.
وبعد ذلك يقول الحق تذييلاً للآية: {واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ونقول دائماً ساعة نرى كلمة (اتقوا) يعني اجعلوا بينكم وبين الله وقاية، وهل تكون الوقاية بينكم وبين الله بكل صفات جماله وجلاله؟ لا، فالوقاية تكون مما يتعب ومما يؤلم ويؤذي، إذن فاتقوا الله يعني: اجعلوا بينكم وبين صفات جلاله من جبروت وقهر وانتقام وقاية، وعندما يقول الحق: {واتقوا الله} فهي مثل قوله: {واتقوا الله}، لأن النار جند من جنود صفات الجلال.
وعندما يقول الحق: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} نعرف أن كلمة (الفلاح) هذه تأتي لترغيب المؤمن في منهج الله، وقد جاء الحق بها من الشيء المحس الذي نراه في كل وقت، ونراه لأنه متعلق ببقاء حياتنا، وهو الزرع والفلاحة، أنت تحرث وتبذر وتروي، وبعد ذلك تحصد.
إذن فهو يريد أن يوضح لك أن المتاعب التي في الحرث، والمتاعب التي في البذر، والمتاعب التي في السقى كلها متى ترى نتيجتها؟ أنت ترى النتيجة ساعة الحصاد، فالفلاح يأخذ (كيلتين) من القمح من مخزنه كي يزرع ربع فدان، ولا نقول له: أنت أنقصت المخزن؛ لأنه أنقص المخزن للزيادة، ولذلك فالذي لم ينقص من مخزنه ولم يزرع، يأتي يوم الحصاد يضع يده على خده نادماً ولا ينفع الندم حينئذ!
إن الحق يريد أن يقول لنا: إن المنهج وإن أتعبك، وإن أخذ من حركتك شيئاً كثيراً إلا أنه سيعود عليك بالخير حسب نيتك وإقبالك على العمل، ولقد ضرب لنا الله المثل في قوله: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261].
هذا أمر واضح، حبة نأخذها منك فتنقص ما عندك، لكنها تعطيك سبعمائة، إذن فساعة تؤخذ منك الحبة لا تقل: إنك نقصت، إنما قَدِّرْ أنك ستزيد قدر كذا. ويعطينا الله ذلك المثل في خلق من خلقه وهو الأرض، الأرض الصماء، أنت تعطيها حبة فتعطيك سبعمائة. فإذا كان خلق من خلق الله وهو الأرض يعطيك أضعاف أضعاف ما أعطيت. أفلا يعطيك رَبّ هذه الأرض أضعافاً مضاعفة؟ إنه قادر على أجزل العطاء، هذا هو الفَلاحُ على حقيقته، وبعد ذلك فإنه ساعة يتكلم عن الفلاح يقول لك: إنك لن تأخذ الفلاح فقط ولكنك تتقي النار أيضاً.
فيقول الحق سبحانه: {واتقوا النار التي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}
إذن ففيه مسألتان: سلبٌ لمضرة، وإيجابُ منفعة، إنه يوجب لك منفعة الفلاح ويسلب منك مضرّة النار. ولذلك يقول تعالى: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185].
لأنه إذا زُحزح عن النار وأُدخل الجنة؟ إن هذا هو الفوز الكبير، وهذا السبب في أن ربنا سبحانه وتعالى ساعة السير على الصراط سيُرينا النار ونمرُّ عليها، لماذا؟ كي نعرف كيف نجانا الإيمان من هذه، وما الوسيلة كي نفلح ونتقي النار؟ إن الوسيلة هي اتباع منهج الله الذي جاء به على لسان رسوله: {وَأَطِيعُواْ الله والرسول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}
و(الرحمة) تتجلى في ألا يوقعك في المتعبة، أما الشفاء فهو أن تقع في المتعبة ثم تزول عنك، لذلك فنحن إذا ما أخذنا المنهج من البدء فسنأخذ الرحمة. {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ} [الإسراء: 82].
إن الشفاء هو إزالة للذنب الذي تورطنا فيه ويكون القرآن علاجاً، والرحمة تتجلى إذا ما أخذنا المنهج في البداية فلا تأتي لنا أية متاعب. ويقول الحق من بعد ذلك: {وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}
والسرعة- كما عرفنا- مقابلها العجلة، إن السرعة هي: التقدم فيما ينبغي، ومعنى أن تتقدم فيما ينبغي: أنك تجعل الحدث يأخذ زمناً أقل، والمثال على ذلك عندما يسرع الإنسان بسيارته من القاهرة إلى الإسكندرية فهو يحاول أن يقطع المائتين والعشرة كيلو مترات في زمن أقل، فبدلاً من أن تأخذ منه ثلاث ساعات في السيارة فهو يسرع كي تأخذ منه ساعتين. إذن فالسرعة هي: التقدم فيما ينبغي، وهي محمودة، وضدها: الإبطاء. فالسرعة محمودة، والإبطاء مذموم.
لكن (العجلة) تقدم فيما لا ينبغي، وهي مذمومة، مقابلها (التأني)، والتأني ممدوح، إذن فالسرعة محمودة، ومقابلها الإبطاء مذموم، والعجلة مذمومة، ومقابلها التأنّي ممدوح، والمثل الشعبي يقول: في التأني السلامة وفي العجلة الندامة.
إن الحق يقول: {وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} أي: خذوا المغفرة وخذوا الجنة بسرعة، لأنك لا تعرف كم ستبقى في الدنيا، إياك أن تؤجل عملاً من أعمال الدين أو عملا من أعمال الخير؛ لأنك لا تعرف أتبقى له أم لا. فانتهز فرصة حياتك وخذ المغفرة وخذ الجنة، هذا هو المعنى الذي يأتي فيه الأثر الشائع (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً).
الناس تفهمها فهماً يؤدي مطلوباتهم النفسية بمعنى: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً: يعني اجمع الكثير من الدنيا كي يَكفيك حتى يوم القيامة، وليس هذا فهماً صحيحاً لكن الصحيح هو أن ما فاتك من أمر الدنيا اليوم فاعتبر أنك ستعيش طويلاً وتأخذه غداً، أمَّا أمر الآخرة فعليك أن تعجل به.
{وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض} ونحن نعرف أن المساحات لها طولّ وعرض، لأن الذي طوله كعرضه يكون مربعاً، إنما الذي عرضه أقل من طوله فنحن نسميه (مستطيلا)، وحين يقول الحق {عَرْضُهَا السماوات والأرض} نعرف أن العرض هو أقل البعدين، أي أنها أوسع مما نراه، فكأنه شبّه البعد الأقل في الجنة بأوسع البعد لما نعرفه وهو السموات والأرض ملتصقة مع بعضها بعضا فأعطانا أوسع مَمَّا نراه. فإذا كان عرضها أوسع ممَّا نعرف فما طولها؟ أنه حد لا نعرفه نحن.
قد يقول قائل لماذا بيَّن عرضها فقال: {عَرْضُهَا السماوات والأرض}. فأين طولها إذن؟ ونقول: وهل السموات والأرض هي الكون فقط؟ إنّه سبحانه يقول: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض} [البقرة: 255].
ويقول صلى الله عليه وسلم: «ما السموات والأرض وما بينهما إلا كحلقة ألقاها ملك في فلاة». أليست هذه من ملك الله؟
وهكذا نرى أن هذه الجنة قد أُعدت للمتقين، ومعنى (أُعدت) أي هيئت وصُنعت وانتهت المسألة! يؤكد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: «عرضت عليّ الجنة ولو شئت أن آتيكم بقطاف منها لفعلت».
لماذا؟ لأن الإخبار بالحدث قد يعني أن الحدث غير موجود وسيوجد من بعد ذلك، ولكن الوجود للحدث ينفي أن لا يوجد؛ لأن وجوده صار واقعا، فعندما يقول: (أُعدت) فمعناها أمر قد انتهى الحق من إعداده، ولن يأخذ من خامات الدنيا وينتظر إلى أن ترتقي الدنيا عندكم ويأخذ وسائل وموادّ مما ارتقيتم ليعد بها الجنة، لا.
لقد أخبر سبحانه عنها فقال: «فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»، وأعد سبحانه الجنة كلها ب (كن)، فعندما يقول: (أُعدت) تكون مسألة مفروغاً منها. وما دامت مسألة مفروغاً منها إذن فالمصير إليها أو إلى مقابلها مفروغ منه، والجنة أُعدت للمتقين، فمن هم المتقون؟.
هذه بعض من صفات المتقين {والكاظمين الغيظ} لأن المعركة- معركة أُحد- ستعطينا هذه الصورة أيضاً. فحمزة وهو سيد الشهداء وعم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقتل. وليته يُقتل فقط ولكنه مُثِّل به، وأُخِذ بضع منه وهو كبد فلاكته (هند)، وهذا أمر أكثر من القتل. وهذه معناها ضغن دنيء.
وحينما جاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم خبر مقتل حمزة وقالوا له: إن (هنداً) أخذت كبده ومضغتها ثم لفظتها، إذ جعلها الله عَصِيَّة عليها، قال: (ما كان الله ليعذب بعضاً من حمزة في النار) كأنها ستذهب إلى النار، ولو أكلتها لتمثلت في جسمها خلايا، وعندما تدخل النار فكأن بعضاً من حمزة دخل النار، فلابد أن ربها يجعل نفسها تجيش وتتهيأ للقيء وتلفظ تلك البضعة التي لاكتها من كبد سيد الشهداء.
وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحادثة بأنها أفظع ما لقي. إنها مقتل حمزة فقال: (لئن أظفرني الله على قريش في موطن من المواطن لأمثلن بثلاثين رجلا منهم).
وهنا جاء كظم الغيظ ليأخذ ذروة الحدث وقمته عند رسول الله في واحد من أحب البشر إليه وفي أكبر حادث أغضبه، وينزل قول الحق: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [النحل: 126].
كي نعرف أن ربنا- جل جلاله- لا ينفعل لأحد؛ لأن الانفعال من الأغيار، وهذا رسوله فأنزل سبحانه عليه: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} ويأتي هنا الأمر بكظم الغيظ، وهو سبحانه يأتي بهذا الأمر في مسألة تخص الرسول وفي حدث (أٌحد). وبعد ذلك يُشيعها قضية عامة لتكون في السلم كما كانت في الحرب. وتكون مع الناس دون رسول الله؛ لأنها كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{والكاظمين الغيظ} ونعرف أن كل الأمور المعنوية مأخوذة من الحسّيات. وأصل الكظم أن تملأ القِرْبة، والقِرَب- كما نعرف- كان يحملها (السقا) في الماضي، وكانت وعاء نقل الماء عند العرب، وهي من جلد مدبوغ، فإذا مُلئت القربة بالماء شُدّ على رأسها أي رٌُبط رأسها ربطاً محكماً بحيث لا يخرج شيء مَمّا فيها، ويقال عن هذا الفعل: (كظم القربة) أي ملأها وربطها، والقربة لينة وعندما توضع على ظهر واحد أو على ظهر الدابة فمن ليونتها تخرج الماء فتكظم وتربط بإحكام كي لا يخرج منها شيء.
كذلك الغيظ يفعل في النفس البشرية، إنه يهيجها، والله لا يمنع الهياج في النفس لأنه انفعال طبيعي، والانفعالات الطبيعية لو لم يردها الله لمنع أسبابها في التكوين الإنساني.
إنما هو يريدها لأشياء مثلا: الغريزة الجنسية، هو يريدها لبقاء النوع، ويضع من التشريع ما يهذبها فقط، وكذلك انفعال الغيظ، إن الإسلام لا يريد من المؤمن أن يُصَبَّ في قالب من حديد لا عواطف له، لا، هو سبحانه يريد للمؤمن أن ينفعل للأحداث أيضاً، لكن الانفعال المناسب للحدث، الانفعال السامي الانفعال المثمر، ولا يأتي بالانفعال المدمر.
لذلك يقول الحق: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً} [الفتح: 29].
فالمؤمن ليس مطبوعاً على الشدة، ولا على الرحمة، ولكن الموقف هو الذي يصنع عواطف الإنسان، فالحق سبحانه يقول: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} [المائدة: 54].
وهل هناك من هو ذليلٌ عزيزٌ معاً؟ نقول: المنهج الإيماني يجعل المؤمن هكذا، ذلة على أخيه المؤمن وعزة على الكافر. إذن فالإسلام لا يصب المؤمنين في قالب كي لا ينفعلوا في الأحداث.
ومثال آخر: ألم ينفعل الرسول صلى الله عليه وسلم حين مات ابنه إبراهيم؟ لقد انفعل وبكى وحزن. إن الله لا يريد المؤمن من حجر. بل هو يريد المؤمن أن ينفعل للأحداث ولكن يجعل الانفعال على قدر الحدث، ولذلك قال سيدنا رسول الله عند فراق ابنه: (إن العين تدمع وإن القلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون).
ولا نقول لحظة الانفعال ما يسخط الرب. بل انفعال موجّه، والغيظ يحتاج إليه المؤمن حينما يهيج دفاعاً عن منهج الله، ولكن على المؤمن أن يكظمه.. أي لا يجعل الانفعال غالبا على حسن السلوك والتدبير. والكظم- كما قلنا- مأخوذ من أمر محس. مثال ذلك: نحن نعرف أن الإبل أو العجماوات التي لها معدتان، واحدة يُختزن فيها الطعام، وأخرى يتغذى منها مباشرة كالجمل مثلاً، إنه يجتر.
ومعنى: يجتر الجمل أي يسترجع الطعام من المعدة الإضافية ويمضغه، هذا هو الاجترار. فإذا امتنع الجمل عن الاجترار يقال: إن الجمل قد كظم. والحق سبحانه يقول: {والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس}.
وقلنا: إن هناك فرقاً بين الانفعال في ذاته، فقد يبقى في النفس وتكظمه، ومعنى كظم الانفعال: أن الإنسان يستطيع أن يخرجه إلى حيز النزوع الانفعالي، ولكنّه يكبح جماح هذا الانفعال. أما العفو فهو أن تخرج الغيظ من قلبك، وكأن الأمر لم يحدث، وهذه هي مرتبة ثانية. أما المرتبة الثالثة فهي: أن تنفعل انفعالاً مقابلاً؛ أي أنك لا تقف عند هذا الحد فحسب، بل إنك تستبدل بالإساءة الإحسان إلى من أساء إليك. إذن فهناك ثلاث مراحل: الأولى: كظم الغيظ. والثانية: العفو. والثالثة: أن يتجاوز الإنسان الكظم والعفو بأن يحسن إلى المسئ إليه.
وهذا هو الارتقاء في مراتب اليقين؛ لأنك إن لم تكظم غيظك وتنفعل، فالمقابل لك أيضاً لن يستطيع أن يضبط انفعاله بحيث يساوي انفعالك، ويمتلئ تجاهك بالحدة والغضب، وقد يظل الغيظ نامياً وربما ورّث أجيالا من أبناء وأحفاد.
لكن إذا ما كظمت الغيظ، فقد يخجل الذي أمامك من نفسه وتنتهي المسألة.
{والعافين عَنِ الناس} مأخوذة من (عفّى على الأثر) والأثر ما يتركه سير الناس في الصحراء مثلا، ثم تأتي الريح لتمحو هذا الأثر. ويقول الحق في تذييل الآية: {والله يُحِبُّ المحسنين}.
وقلنا في فلسفة ذلك: إننا جميعاً صنعة الله، والخلق كلهم عيال الله. وما دمنا كلنا عيال الله فعندما يُسيء واحد لآخر فالله يقف في صف الذي أسيء إليه، ويعطيه من رحمته ومن عفوه ومن حنانه أشياء كثيرة. وهكذا يكون المُساء إليه قد كسب. أليس من واجب المُسَاء إليه أن يُحسِن للمسيء؟.
لكن العقل البشري يفقد ذكاءه في مواقف الغضب؛ فالذي يسيء إلى إنسان يحسبه عدوٍّا. لكن على الواحد منا أن يفهم أن الذي يسيء إليك إنما يجعل الله في جانبك؛ فالذي نالك من إيذائه هو أكثر مما سلبك هذا الإيذاء. هنا يجب أن تكون حسن الإيمان وتعطي المسيء إليك حسنة.
ويضيف الحق من بعد ذلك في صفات أهل الجنة: {والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله...}.