{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)}
لقد جاء الحق سبحانه بعد عرضه لمسألة المكر بهذا القول الحكيم، وذلك دليل على أن عيسى عليه السلام أحس من بني إسرائيل الكفر، والتبييت، ومؤامرة للقتل فطمأن الله عيسى إلى نهاية المعركة. {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُواْ إلى يَوْمِ القيامة}. إنها أربعة مواقف، أرادها الله لعيسى ابن مريم عليه السلام.
ونريد أن نقف الآن عند كلمة قول الحق: {مُتَوَفِّيكَ}.
نحن غالبا ما نأخذ معنى بعض الألفاظ من الغالب الشائع، ثم تموت المعاني الأخرى في اللفظ ويروج المعنى الشائع فنفهم المقصد من اللفظ. إن كلمة (التوفي) نفهمها على أنها الموت، ولكن علينا هنا أن نرجع إلى أصل استعمال اللفظة، فإنه قد يغلب معنى على لفظ،
وهذا اللفظ موضوع لمعان متعددة، فيأخذه واحد ليجعله خاصا بواحد من هذه. إن كلمة (التوفي) قد يأخذها واحدا لمعنى (الوفاة) وهو الموت. ولكن، ألم يكن ربك الذي قال: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ}؟ وهو القائل في القرآن الكريم: {وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم بالليل وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ليقضى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأنعام: 60].
إذن {يَتَوَفَّاكُم} هنا بأي معنى؟
إنها بمعنى ينيمكم. فالنوم معنى من معاني التوفي.
ألم يقل الحق في كتابه أيضا الذي قال فيه: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ}. {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ التي قضى عَلَيْهَا الموت وَيُرْسِلُ الأخرى إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر: 42].
لقد سمى الحق النوم موتا أيضا. هذا من ناحية منطق القرآن، إن منطق القرآن الكريم بين لنا أن كلمة (التوفي) ليس معناها هو الموت فقط ولكن لها معان أخرى، إلا أنه غلب اللفظ عند المستعملين للغة على معنى فاستقل اللفظ عندهم بهذا المعنى، فإذا ما أطلق اللفظ عند هؤلاء لا ينصرف إلا لهذا المعنى، ولهؤلاء نقول: لا، لابد أن ندقق جيدا في اللفظ ولماذا جاء؟
وقد يقول قائل: ولماذا يختار الله اللفظ هكذا؟
والإجابة هي: لأن الأشياء التي قد يقف فيها العقل لا تؤثر في الأحكام المطلوبة ويأتي فيها الله بأسلوب يحتمل هذا، ويحتمل ذلك، حتى لا يقف أحد في أمر لا يستأهل وقفة. فالذي يعتقد أن عيسى عليه السلام قد رفعه الله إلى السماء ما الذي زاد عليه نت أحكام دينه؟ والذي لا يعتقد أن عيسى عليه السلام قد رُفع، ما الذي نقص عليه من أحكام دينه، إن هذه القضية لا تؤثر في الأحكام المطلوبة للدين، لكن العقل قد يقف فيها؟ فيقول قائل: كيف يصعد إلى السماء؟ ويقول آخر: لقد توفاه الله.
وليعتقدها أي إنسان كما يريد لأنها لا تؤثر في الأحكام المطلوبة للدين.
إذن، فالأشياء التي لا تؤثر في الحكم المطلوب من الخلق يأتي بها الله بكلام يحتمل الفهم على أكثر من وجه حتى لا يترك العقل في حيرة أمام مسألة لا تضر ولا تنفع. وعرفنا الآن أن (توفى) تأتي من الوفاة بمعنى النوم من قوله سبحانه: {وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم بالليل وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ليقضى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأنعام: 60].
ومن قوله سبحانه وتعالى: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ التي قضى عَلَيْهَا الموت وَيُرْسِلُ الأخرى إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر: 42].
إن الحق سبحانه قد سمى النوم موتا لأن النوم غيب عن حس الحياة. واللغة العربية توضح ذلك، فأنت تقول- على سبيل المثال- لمن أقرضته مبلغا من المال، ويطلب منك أن تتنازل عن بعضه لا، لابد أن أستوفي مالي، وعندما يعطيك كل مالك، تقول له: استوفيت مالي تماما، فتوفيته، أي أنك أخذته بتمامه.
إذن، فمعنى {مُتَوَفِّيكَ} قد يكون هو أخذك الشيء تاما. أقول ذلك حتى نعرف الفرق بين الموت والقتل، كلاهما يلتقي في أنه سلب للحياة، وكلمة (سلب الحياة) قد تكون مرة بنقض البنية، كضرب واحد لآخر على جمجمته فيقتله، هذا لون من سلب الحياة، ولكن بنقض البنية. أما الموت فلا يكون بنقض البنية، إنما يأخذ الله الروح، وتبقى البنية كما هي، ولذلك فرق الله في قرآنه الحكيم بين (موت) و(قتل) وإن اتحدا معا في إزهاق الحياة. {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً وَسَيَجْزِي الله الشاكرين} [آل عمران: 144].
إن الموت والقتل يؤدي كل منهما إلى انتهاء الحياة، لكن القتل ينهي الحياة بنقض البنية، ولذلك يقدر بعض البشر على البشر فيقتلون بعضهم بعضا. لكن لا أحد يستطيع أن يقول: (أنا أريد أن يموت فلان)، فالموت هو ما يجريه الله على عباده من سلب للحياة بنزع الروح. إن البشر يقدرون على البينة بالقتل، والبينة ليست هي التي تنزع الروح، ولكن الروح تحل في المادة فتحيا، وعندما ينزعها الله من المادة تموت وترم أي تصير رمة.
إذن، فالقتل إنما هو إخلال بالمواصفات الخاصة التي أرادها الله لوجود الروح في المادة، كسلامة المخ أو القلب. فإذا اختل شيء من هذه المواصفات الخاصة الأساسية فالروح تقول: (أنا لا أسكن هنا).
إن الروح إذا ما انتزعت، فلأنها لا تريد أن تنتزع.. لأي سبب ولكن البنية لا تصلح لسكنها. ونضرب المثل ولله المثل الأعلى.
إن الكهرباء التي في المنزل يتم تركيبها، وتعرف وجود الكهرباء بالمصباح الذي يصدر منه الضوء. إن المصباح لم يأت بالنور، لأن النور لا يظهر إلا في بنية بهذه المواصفات بدليل أن المصباح عندما ينكسر تظل الكهرباء موجودة، ولكن الضوء يذهب. وكذلك الروح بالنسبة للجسد. إن الروح لا توجد إلا في جسد له مواصفات خاصة. وأهم هذه المواصفات الخاصة أن تكون خلايا البنية مناسبة، فإن توقف القلب، فمن الممكن تدليكه قبل مرور سبع ثوان على التوقف، لكن إن فسدت خلايا المخ، فكل شيء ينتهي لأن المواصفات اختلت.
إذن، فالروح لا تحل إلا في بنية لها مواصفات خاصة، والقتل وسيلة أساسية لهدم البنية؛ وإذهاب الحياة، لكن الموت هو إزهاق الحياة بغير هدم البنية، ولا يقدر على ذلك إلا الله سبحانه وتعالى. ولكن خلق الله يقدرون على البينة، لأنها مادة ولذلك يستطيعون تخريبها.
إذن، (فمتوفيك) تعني مرة تمام الشيء، (كاستيفاء المال) وتعني مرة (النوم). وحين يقول الحق: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} ماذا يعني ذلك؟ إنه سبحانه يريد أن يقول: أريدك تماما، أي أن خلقي لا يقدرون على هدم بنيتك، إني طالبك إلى تاما، لأنك في الأرض عرضة لأغيار البشر من البشر، لكني سآتي بك في مكان تكون خالصا لي وحدى، لقد أخذتك من البشر تامّاً، ومعنى (تاما)، أي أن الروح في جسدك بكل مواصفاته، فالذين يقدرون عليه من هدم المادة لم يتمكنوا منه.
إذن، فقول الحق: {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} هذا القول الحكيم يأتي مستقيما مع قول الحق: {مُتَوَفِّيكَ}. وقد يقول قائل: لماذا نأخذ الوفاة بهذا المعنى؟
نقول: إن الحق بجلال قدرته كان قادرا على أن يقول: إني رافعك إليّ ثم أتوفاك بعد ذلك. ونقول أيضا: من الذي قال: إن (الواو) تقتضي الترتيب في الحدث؟ ألم يقل الحق سبحانه: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر: 16].
هل جاء العذاب قبل النذر أو بعدها؟ إن العذاب إنما يكون من بعد النذر. إن (الواو) تفيد الجمع للحدثين فقط. ألم يقل الله في كتابه أيضا: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً} [الأحزاب: 7].
إن (الواو) لا تقتضي ترتيب الأحداث، فعلى فرض أنك قد أخذت {مُتَوَفِّيكَ} أي (مميتك)، فمن الذي قال: إن (الواو) تقتضي الترتيب في الحدث؟ بمعنى أن الحق يتوفى عيسى ثم يرفعه. فإذا قال قائل: ولماذا جاءت {مُتَوَفِّيكَ} أولا؟ نرد على ذلك: لأن البعض قد يظن أن الرفع تبرئة من الموت.
ولكن عيسى سيموت قطعا، فالموت ضربة لازب. ومسألة يمر بها كل البشر. هذا الكلام من ناحية النص القرآني. فإذا ما ذهبنا إلى الحديث وجدنا أن الله فوّض رسوله صلى الله عليه وسلم ليشرح ويبين، ألم يقل الحق: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44].
فالحديث كما رواه البخاري ومسلم: (كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم)؟.
إي أن النبي صلى الله عليه وسلم بين لنا أن ابن مريم سينزل مرة أخرى. ولنقف الآن وقفة عقلية لنواجه العقلانيين الذين يحاولون إشاعة التعب في الدنيا فنقول: يا عقلانيون أقبلتم في بداية عيسى أن يوجد من غير أب على غير طريقة الخلق في الإيجاد والميلاد؟ سيقولون نعم. هنا نقول: إذا كنتم قد قبلتم بداية مولده بشيء عجيب خارق للنواميس فكيف تقفون في نهاية حياته إن كانت خارقة للنواميس؟. إن الذي جعلكم تقبلون العجيبة الأولى يمهد لكم أن تقبلوا العجيبة الثانية. إن الحق سبحانه يقول: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُواْ إلى يَوْمِ القيامة} [آل عمران: 55].
إنه سبحانه يبلغ عيسى إنني سأخذك تاما غير مقدور عليك من البشر ومطهرك من خبث هؤلاء الكافرين ونجاستهم، وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة. وكلمة (اتبع) تدل على أن هناك (مُتَّبعاً) يتلو مُتّبعا. أي أن المتبِّع هو الذي يأتي بعد، فمن الذي جاء من بعد عيسى بمنهج من السماء؟ إنه محمد صلى الله عليه وسلم. ولكن على أي منهج يكون الذين اتبعوك؟ أعلى المنهج الذي جاؤا به أم المنهج الذي بلغته أنت يا عيسى؟ إن الذي يتبعك على غير المنهج الذي قلته لن يكون تبعا لك، ولكن الذي يأتي ليصحح الوضع على المنهج الصحيح فهو الذي اتبعك. وقد جاء محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحح الوضع ويبلغ المنهج كما أراده الله. {وَجَاعِلُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُواْ إلى يَوْمِ القيامة} فإن أخذنا المعنى بهذا؛ فإن أمة محمد صلى الله عليه وسلم هي التي اتبعت منهج الله الذي جاء به الرسل جميعا، ونزل به عيسى أيضا، وأن أمة محمد قد صححت كثيرا من القضايا التي انحرف بها القوم. نقول ليس المراد هنا من (فوق) الغلبة والنصر، ولكننا نريد من (فوق) الحجة والبرهان. وذلك إنما يحدث في حالة وجود قوم منصفين عقلاء يزنون الأمور بحججها وأدلتها وهم لن يجدوا إلا قضية الإسلام وعقيدة الإسلام.
إذن، فالفوقية هي فوقية ظهور دليل وقوة برهان. ولذلك قال الحق سبحانه: {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المشركون} [التوبة: 33].
وفي موقع آخر من القرآن الكريم، يؤكد الحق ظهور الإسلام على كافة الأديان وهو الشاهد على ذلك: {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وكفى بالله شَهِيداً} [الفتح: 28].
ومعنى ذلك أن الله قد أراد للإسلام أن يظهر على كل الأديان. وقد يقول قائل: إن في العالم أديانا كثيرة، ولم يظهر عليها الإسلام، والموجودون من المسلمين في العالم الآن مليار وأضعاف ذلك من البشر على ديانات أخرى. نقول لمثل هذا القائل: إن الله أراد للإسلام أن يظهره إظهار حجة، لا من قِبَلِكم أنتم فقط ولكن من قِبلهم هم كذلك، والناس دائما حين يجتمعون ليشرعوا القوانين وليحددوا مصالح بعضهم بعضا، يلجأون أخيرا إلى الإسلام. فلننظر إلى من يشرع من جنس تشريع الأرض ولنسأل أرأيت تشريعا ارضيا ظل على حاله؟ لا، إن التشريع الأرضي يتم تعديله دائما.
لماذا لأن الذي وضع التشريع الأول لم يكن له من العلم ما يدله على مقتضيات الأمور التي تَجدّ، فلما جَدّت أمور في الحياة لم تكن في ذهن من شرع أولا، احتاج الناس إلى تعديل التشريع. ولنمسك بأي قانون بشرى معدل في أي قضية من قضايا الكون، ولننظر إلى أي اتجاه يسير؟ إنه دائما يتجه إلى الإسلام، وإن لم يلتق مع الإسلام فإنه يقرب من الإسلام. وعندما قامت في أوروبا ضجة على الطلاق في الإسلام، ما الذي حدث؟ جاء التشريع بالطلاق في إيطاليا تحت سمع وبصر الفاتيكان. هل شرعوا الطلاق لأن الإسلام أباح الطلاق؟ لا. إنما شرعوه لأن أمور الحياة أخضعتهم إلى ضرورة تشريع الطلاق، فكأنهم أقاموا الدليل بخضوعهم لأمور الحياة على أن ما جاء به الإسلام قبل التجربة كان حقا. بدليل أن أوربا لجأت إلى تشريع الطلاق لا كمسلمين ولكن لأن مصالح حياتهم لا تتأتى إلا به.
وهل هناك ظهور وغلبة أكثر من الدليل الذي يأتي من الخصم؟ تلك هي الغلبة. لقد وصلوا إلى تشريع الطلاق، رغم كراهيتهم للإسلام كدليل على صدق ما جاء به الإسلام. وفي الربا، الذي يريد البعض هنا أن يحلله، تجد أوربا تحاول التخلص منه، لأنهم توصلوا بالتجربة إلى أن المال لا يؤدي وظيفته في الحياة إلا إذا انخفضت الفائدة إلى الصفر أي؟أنهم عرفوا أن إلغاء الربا ضروري حتى يؤدي المال وظيفته الحقيقية في الحياة، والذي ألجأهم إلى الوصول إلى هذه الحقيقة هو أن فساد الحياة سببه الربا، فأرادوا أن يمنعوا الربا. لقد وصلوا إلى ما بدأ به الإسلام من أربعة عشر قرنا. أتريد غلبة، وتريد فوقا، وتريد ظهورا، أكثر من هذا بالنسبة لدين الله؟
إذن، ففهم الخصوم ما يصلح أمر الحياة اضطرهم إلى الأخذ بمبادئ الإسلام ونتابع بالتأمل قول الحق: {وَجَاعِلُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُواْ إلى يَوْمِ القيامة}، أي أن الحق جاعل الذين ساروا على المنهج الأصيل القادم من الله فوق الذين كفروا.
فالذين يقولون فيك يا عيسى ابن مريم ما لا يقال من ألوهية، هل اتبعوك؟ لا.. لم يتبعوك.
إن الذي يتبع عيسى هو الذي يأتي على المنهج القادم من الله. إن عيسى ابن مريم رسول إلى بني إسرائيل. وديانات السماء لا تأتي لعصبيات الجنس أو القومية أو الأوطان أو غير ذلك، ولكن المنهج هو الذي يربط الناس بعضهم ببعض، ولذلك جاء لنا الحق بقصة سيدنا نوح لنتعرف على هذه المعاني. لقد وعد الله سيدنا نوحا أن ينجي له أهله. وعندما دعا نوح عليه السلام ابنه ليركب معه: ولكن ابن نوح رفض، فقال نوح عليه السلام لله: {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين} [هود: 45].
فهل الأهلية بالنسبة للأنبياء هي التي قالها نوح هل أهلية الدم؟ لا، لأن الحق قال: {قَالَ يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين} [هود: 46].
لماذا؟ لأن أهل النبوة هم المؤمنون بها فالذين اتبعوا المنهج الذي جاء به المسيح من عند الله ليس من يطلق على نفسه النسب للمسيح، ومن يطلق على نفسه أنه يهودي إن هذه أسماء فقط. إن المتبع الحق هو من يتبع المنهج المنزل من عند الله. إن الأنبياء ميراثهم المنهج والعلم. ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم على سلمان وهو فارسي لا يجتمع مع رسول الله في أرومة عربية: (سلمان منا آل البيت).
وهكذا انتسب سلمان إلى آل البيت بحكم إيمانه، وبنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذن: (وجاعل الذي اتبعوك فوق الذي كفروا إلى يوم القيامة)، أي أن الحق سبحانه قد جعل الفوقية للذين يتبعون المنهج الحق القادم من عند الله. والذي يصوب منهج عيسى هو محمد رسول الله هل تكون الفوقية هي فوقية مساحة جغرافية؟ لأن رقعة من الأرض التي تتبع الديانات الأخرى غير الإسلام أكبر مساحة من رقعة أرض المؤمنين بالإسلام؟ لا.. فالفوقية تكون فوقية دليل.
وقد يقول قائل: إن الدليل لا يلزم. نرد قائلين: كيف لا يلزم الدليل؟ ونحن نرى الذين لا يؤمنون به يدللون عليه. كيف يدللون عليه؟ إنهم يسيرون فيما يقننون من قوانين البشر إلى ما سبق إليه تقنين السماء. وما دام هنا في هذه الآية كلمة (فوق) وكلمة (كفروا) وهناك أتباع إذن، فهناك قضية وخصومة، وهناك حق، وهناك باطل، وهناك هدى، وهناك ضلال. فلابد من الفصل في هذه القضية.
ويأتي الفصل ساعة ألا يوجد للإنسان تصرف إرادى لا على ذات نفسه ولا على سواه.
إن الظالمين يستطيعون التصرف في الأرض، لكن عندما يكون المرجع إلى الله فالله يقول: أنا ملكتكم وأنتم عصاة لي في كثير من الأسباب، لكن هناك وقت تزول فيه ملكيتكم للأسباب. إذن.. فالظالم قد يتحكم على الأرض وكذلك الباطل لأن الله أوجد لنا جميعا إرادات ومرادات اختيارية. لكن في يوم القيامة فلا إرادات إلا إرادة الله: {يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16].
إذن فالحكم قادم بدون منازع.. والذي يدل على ذلك قوله الحق: {إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا وَرَأَوُاْ العذاب وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب وَقَالَ الذين اتبعوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النار} [البقرة: 166-167].
إن الذي اتبع واحدا على ضلال يأتي يوم القيامة ليجد أن صاحب الضلال يتبرأ منه، فيقول المتبعون سائلين الله: يارب ارجعنا إلى الدنيا لننتقم ممن خدعونا، هذا من ناحية علاقة البشر بالبشر. أما من ناحية الجسد الواحد نفسه، فسوف نجد شهادة الجلود والألسنة والأيدي، بعد أن تسقط عنها إرادة الإنسان ويسقط تسخير الحق لهذه الجوارح والحواس لخدمة الإنسان، تقول الجوارح والحواس: لقد كانت لصاحبي إرادة ترغمني على أن أفعل ما لا أحب، لكن ها هو ذا يوم القيامة، فلا قهر ولا إرغام ولا تسخير لأن الملك كله لله.. لذلك تشهد الألسنة والجلود ولهذا يقول الحق: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}.
إن الحق يحكم فيما كانوا فيه يختلفون لتكون ثمرة الحكم هي ماذا؟ هل هناك تكليف بعد ذلك؟ لا.. لكن ثمرة الحكم هي الجزاء. ففي الآخرة لا عمل هنالك، والحكم فيها للجزاء، وكما قلنا: مادام هناك متبعون وكافرون، وجماعة فوق جماعة، وإلى الله مرجعهم، فلابد لنا أن نرى ما هو الحكم الذي سوف يكون؟ ها هو ذا القول الحكيم: {فَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدنيا والآخرة...}.
لأن المؤمنين يؤمنون بذلك تماما، إنهم بإيمانهم يعرفون ذلك ويعونه. ولننتبه هنا إلى أن الحكم لا يشمل العذاب في الآخرة فقط ولكنه يشتمل على العذاب في الدنيا أيضا، فعذاب الدنيا سيكون قبل الحكم، وكأن الحق يقول لنا: لا تعتقدون أن تعذيبي إياهم في الدنيا يعفيهم من تعذيبي إياهم في الآخرة لأن التعذيب في الدنيا فقط قد يصيب من آمن بي.
أما من كفر بي، فإني أعذبه في الدنيا وأعذبه في الآخرة إنني لا أؤجل العذاب للكافرين إلى الآخرة فقط ولكن سأضم عذاب الدنيا إلى عذاب الآخرة.
إن الحصيلة بعد كل شيء هي أن يعذب الكافر في الدنيا وفي الآخرة. ويقول الحق عن هذا العذاب: إنه عذاب شديد؛ لأن الحدث حين يقع لابد أن تلحظ فيه القوة التي تناسب من أحدث.
ولنضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى: إن الطفل قد يكسر شيئا في حدود قوته كطفل، والشاب قد يكسر شيئا مناسبا لقوته. إذن فالحديث يجب أن نأخذه قياسا بالنسبة لفاعله؛ فإذا كان الفاعل هو الله، فهل لأحد طاقة على عذاب الله؟ لا أحد يتصور ذلك، وليس لأحد من هؤلاء من ناصر، لأن الذي يهزمه الله ويعذبه لا ناصر له، وبعد ذلك يأتي الحق بالمقابل: {وَأَمَّا الذين آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ...}.
يقول الحق تبارك وتعالى: {ذلك} إشارة لما سبق من الأحداث، في شأن امرأة عمران، ومريم، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وكان لكل واحد من هؤلاء قضية عجيبة يخرق فيها ناموس الكون، وكلها آيات، أي عجائب.
وقد نقلت إلينا هذه العجائب من واقع ما رآه الذين عاصروا تلك الأحداث، وجاء الخبر اليقين بتلك العجائب في قرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو الكتاب الحق الموصوف من الله بأنه {الذكر الحكيم} فاطمئنوا- أيها المؤمنين- إلى أن ما وصلكم عن طريق القرآن، إنما حكى واقعا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فما جاء به من أخبار عن تلك الآيات هو ما يطابق الواقع الذي عاصره الناس وحكوه.
وبعد ذلك يعرض الحق لنا سبحانه قضية سيدنا عيسى عليه السلام، وهي قضية يجب أن نتنبه إليها تنبها جديدا فنعرض وجهة نظر الذين يضعونه في غير الموضع الذي أراده الله، كما نعرض وجهة نظر الذين يضعونه في الموضع الذي يريده الله، فالمسألة ليست انتصارا منا في الدنيا على فريق يقول: كذا، لأنها مسألة لها عاقبة تأتي في الآخرة ويحاسبنا عليها الحق تعالى، لذلك كان من المهم جدا أن نصفيها تصفية يتضح فيها الحق، حتى لا يظلم أحد نفسه.
لقد جاء عيسى عليه السلام على دين اليهودية، أي طرأ على دين اليهودية ونحن نعلم أن دين اليهودية قد تم تحريفه من اليهود تحريفا جعله ينحاز إلى الأمور المادية الصرفة، دون أدنى اعتبار للأمور الروحية والإيمان بالغيب، فهم ماديون، وتتمثل ماديتهم في أنهم قالوا لموسى عليه السلام ما حكاه القرآن الكريم: {وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} [البقرة: 55].
إنهم لم يلتفتوا إلى أن بعضا من كمال وجلال الله غيبٌ؛ لأنه لو كان مشهودا محسا، لحدد- بضم الحاء وكسر الدال- وحُيِّزَ، وما دام قد حُدِدَ وحُيِّزَ في تصورهم فذلك يعني أنه سبحانه قد يوجد في مكان ولا يوجد في مكان آخر، والحق سبحانه منزه عن مثل ذلك لأنه موجود في كل الوجود، ولا نراه بالعين، لكن نرى آثار أعماله وجميل صنعه في كل الكون.
إذن فكون الله غيبا هو من تمام الجلال والكمال فيه.
لكن اليهود قد صوروا الأشياء كلها على أنها حسية، حتى أمور اقتيات حياتهم وهي الطعام، لقد أرادها الله لهم غيبا حتى يريحهم في التيه، فأرسل عليهم المنّ والسلوى، كرزق من الغيب الذي يأتي إليهم، لم يستنبتوه. ولم يستوردوه، ولم يعرفوا كنهه، ولم يجتهدوا في استخراجه، إنه رزق من الغيب، ومع ذلك تمردوا على هذا الرزق القادم لهم من الغيب وقالوا كما أخبر الله عنهم: {وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ فادع لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرض مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ اهبطوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق ذلك بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61].
إنهم يريدون أن يكون طعامهم كما ألفوا، وأن يروا هذا الطعام كأمر مادي من أمور الحياة؛ لذلك تشككوا في رزق الغيب، وهو المن والسلوى، وقالوا: (من يدرينا أن المن قد لا يأتي، وأن السلوى قد لا تنزل علينا) فلم تكن لهم ثقة في رزق وُهب لهم من الغيب؛ لأنهم تناولوا كل أمورهم بمادية صرفة. وما دامت كل أمورهم مادية فهم في حاجة إلى هزة عنيفة تهز أوصال ماديتهم هذه؛ لتُخرجهم إلى معنى يؤمنون فيه بالغيب.
ونحن نعلم أن الفكر المادي لا يرى الحياة إلا أسبابا ومسببات، فأراد الحق سبحانه وتعالى أن يخلع منهم ذلك الفكر المادي، لذلك جاء بعيسى عليه السلام على غير طريق الناموس الذي يأتي عليه البشر، فجعله من امرأة دون أب، حتى يزلزل قواعد المادية عند اليهود. لكن الفتنة جاءت في قومه، فقالوا ببنوته للإله، وسبحانه منزه عن أن يكون له ولد.
ولنا أن نسأل ما الشبهة التي جعلتهم يقولون بهذه البنوة؟
قالوا: إن الأمومة موجودة والذكورة ممتنعة، والشبهة إنما جاءت من أن الله نفخ فيه الروح، فالله هو الأب.
نقول لهم: لو أن الأمر كذلك لوجب ان تفتنوا في آدم أولى من أن تفتنوا في عيسى؛ لأن عيسى عليه السلام كان في خلقه أمومة، أما آدم فلا أمومة ولا أبوة، فتكون الفتنة في آدم عليه السلام أكبر، وإن قلتم: (إن الحق قال: إنه نفخ فيه من روحه)، فلكم أن تعرفوا قول الله في آدم عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 28-29].
إذن فالنفخ هنا في آدم موجود، فلماذا سكتم عن هذه الحكاية منذ آدم وحتى مجيء عيسى عليه السلام، وهكذا يتم دحض تلك الحجة ونهايتها، وبعد ذلك نأتي إلى قضية أخرى، وهي توفيه أو وفاته، إلى القضيتين معا- توفيه ووفاته- حتى نُبَيِّن الرأيين معا: وهنا نتساءل: لماذا فتنتم في ذلك؟
يقولون: لقد أحيا عيسى الموتى، ونقول لهم: ألم تأخذوا تاريخ إبراهيم عليه السلام حينما قال الله له: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطير فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجعل على كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادعهن يَأْتِينَكَ سَعْياً واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260].
إذن فمجال الفتنة في إبراهيم عليه السلام كبير، وكذلك، ألم يجيء موسى عليه السلام بآية هي العصا؟ إنه لم يجيء ميتا كانت فيه حياة، إنما أجرى الله على يديه خلق الحياة فيما لم تثبت له حياة، فأصبحت العصا- وهي جماد- حية تسعى لماذا إذن لم تفتنوا في عصا موسى عليه السلام؟
وهكذا نعرف انه لا يصح أن يفتن أحد في المعجزة التي جاءت بعيسى عليه السلام، أو في إحيائه الموتى بإذن الله، وأتباع عيسى عليه السلام يتفقون معنا أن الله سبحانه وتعالى غيب، ولكنهم يختلفون معنا فيقولون: إن الله أراد أن يؤنس البشر بصورة يتجلى لهم فيها بشرا فجاء بعيسى عليه السلام ليتحقق لهم ذلك الأنس.
ونقول لهم: سنبحث هذه المسألة بدون حساسية، وبدون عصبية، بل بالعقل، ونسأل: هل خلق الله عيسى ليعطي صورة للإله؟ إن عيسى كان طفلا، ثم كبر من بعد ذلك، فأي صورة من صورة المرحلية كانت تمثل الله؟
إن كانت صورة طفل فهل هي صورة الله؟ وإن كانت صورة كهل فهل هي صورة الله؟ إن لله صورة واحدة لا نراها ولا نعرف كنهها فهو سبحانه {ليس كمثله شيء}، فأية صورة من الصور التي تقولون: إنها صورة الله؟
وإن كان الله على كل هذه الصور فمعنى ذلك أن لله أغيارا وهو سبحانه منزه عن ذلك، ولو كان على صورة واحدة لقلنا: إنه الثبات والأمر كذلك فهو سبحانه الحق الذي لا يتغير إنهم يقولون: إن الله أراد أن يجعل صورته في بشر ليؤنس الناس بالإله، فتمثل في عيسى.
ولنا أن نسأل: كم استغرق وجود عيسى على الأرض؟
والإجابة: ثلاثين عاما أو يزيد قليلا. وهكذا تكون فترة معرفة الناس بالصورة الإلهية محدودة بهذه السنوات الثلاثين طبقا لتصوركم. ولابد ان نسأل: ما عمر الخلق البشرى كله؟ إن عمر البشرية هو ملايين السنين. فهل ترك الله خلقه السابقين الأولين بدون أن يبدي لهم صورته، ثم ترك خلقه الآخرين الذين قدموا إلى الحياة بعد وفاة عيسى- أي تمام مهمته- ورفعه، بدون أن يعطيهم صورة له؟ إن هذا تصور لإله ظالم، وسبحانه وتعالى منزه عن الشرك والظلم. فلا يعقل أن يضن بصورته فلا يبقيها إلا ثلاثين عاما؟ إن هذا القول لا يقبله عقل يثق في عدالة الله المطلقة.
ثم إنهم يقولون: إن عيسى عليه السلام قد صلب، وهم معذورون والحق سبحانه وتعالى قد عذرهم في ذلك فأورد التأريخ الحق العادل، حين يقول: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ الله وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} [النساء: 157].
لقد جعل الله لهم عذرا في أن يقولوا: إنه قتل أو صلب؛ لأنه شبه لهم وكان من المعقول أن يلتمسوا من الإسلام حلا لهذه المشكلة، لأن الإسلام جاء ليقول: لا، لقد شبه لكم، فما قتلوه وما صلبوه؛ لأن هذا الفعل- القتل أو الصلب- ينقض فكرتهم عن أنه إله أو ابن إله. لأن المصلوب لو كان إلها أو ابن إله، لكانت لديه القدرة التي تغلب الصالب، فكيف يعقل الإنسان أن ينقلب الإله- أو ابن الإله- مقدورا عليه من مخلوق؟ والإسلام عندما يقول: إن عيسى ابن مريم لم يصلب فقد كرمه الله. وهكذا ترى أن الإسلام قد جاء ليصفى العقائد كلها من عيوب التحريف التي قام بها المتبعون لتلك الأديان.
وبعد ذلك يأتي الحق سبحانه وتعالى ليعرض علينا قضية جدلية حدثت في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى يخرج الناس- مسلمين ونصارى ويهودا- من هذه البلبلة، وأن يتم ذلك في مودة، لأنهم كلهم مؤمنون بالعبودية لمعبود واحد.
فقد جاء وفد من نصارى نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، والتقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لهؤلاء القوم جدل مع اليهود، ولهم جدل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كان لليهود والنصارى معا جدل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والجدل بين اليهود والنصارى مصدره أن لليهود والنصارى قولا متضاربا في بعضهم بعضا يرويه لنا الحق: {وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَيْءٍ وَقَالَتِ النصارى لَيْسَتِ اليهود على شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الكتاب كَذَلِكَ قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فالله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [البقرة: 113].
فاليهود يقولون:كان إبراهيم يهوديا. والنصارى يقولون: لا، كان إبراهيم نصرانيا. وأما الجدل بين النصارى وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسببه أنهم قد أرادوا ان يتكلموا في مسألة عيسى وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يصفى القضية تصفية نهائية حتى لا تظل معلقة تلوكها الألسنة وتجعلها مثارا للفتن. فلما اجتمع نصارى نجران تحت لواء رؤسائهم، ومن هؤلاء الرؤساء من اسمه السيد، ومنهم من يسمى العاقب صاحب المشورة، ومعهم قسيس، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: «ماذا تقولون في عيسى؟» قالوا: إنه ابن الله. وقال لهم الرسول: «إن عيسى عليه السلام قال: {إني عبد الله} وهو عبده ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول»، فغضبوا وقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: هل رأيت إنسانا قط من غير أب؟ إن كنت قد رأيت مثل ذلك فأخبرنا به.
وهنا نزلت الآية الكريمة: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءَادَمَ...}.
لقد جاء القول الفصل بالحجة الأقوى، فإذا كان عيسى عليه السلام قد جاء بدون أب، فإن آدم عليه السلام قد جاء بدون أب، وبدون أم، وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعلمون أني رسول الله وأنني نبي هذه الأمة؟»، فقالوا: أنظرنا غدا نتكلم في هذه المسائل، ودعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان فقالوا: لا.
وعندما يعرض الحق سبحانه صراع قضية حق مع قضية باطل فهو يقول: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 24].
أي إن طرفا واحدا على الهدى، والطرف الآخر على ضلال مبين، لماذا؟ لأن القضيتين متناقضتان، ولا يمكن أن يجتمعا، ودعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يجتمع بهم في مكان ظاهر، ويدعو الطرفان الأبناء والنساء، ويبتهل الجميع إلى الله الحق أن تُسْتَنْزلَ لعنة الله على الكاذبين، وفي هذا جاء القول الكريم: {الحق مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الممترين...}.
لقد جاء الحق البيّن والقول الفصل من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم فلا مجال للشك أو المراء، ومن يرد أن يحتكم إلى أحدٍ فليقبل الاحتكام إلى الإله العادل الذي لن يحكم بالباطل أبدا، فهو سبحانه الحق، ويجيء هذا القول: {تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ الله عَلَى الكاذبين}. إن الطرفين مدعوان ليوجها الدعوة لأبنائهم ونسائهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم مدعو لدعوة أبنائه ونسائه، ومن له الولاية عليهم، وبحضوره هو صلى الله عليه وسلم، وهم مدعون لدعوة أبنائهم ونسائهم وأنفسهم للابتهال.
وقد يسأل سائل: ولماذا تكون الدعوة للأبناء والنساء؟ والإجابة هي: أن الأبناء والنساء هم القرابة القريبة التي تهم كل إنسان، وإن لم يكن رسولا، إنهم بضعة من نفسه وأهله. فكان الرسول صلى الله عليه وسلم مأمور بأن يقول لهم: هاتوا أحبابكم من الأبناء والنساء لأنهم أعزة الأهل وألصقهم بالقلوب وادخلوا معنا في مباهلة. (والمباهلة): هي التضرع في الدعاء لاستنزال اللعنة على الكاذب، فالبهلة- بضم الباء- هي اللعنة، وعندما يقول الطرفان: (يارب لتنزل لعنتك على الكذاب منا) فهذا دعاء يحمل مطلق العدالة، فالإله الذي يستطيع أن ينزل اللعنة هو الإله الحق. وهو سينزل اللعنة على من يشركون به، ولو كانت اللعنة تنزل من الآلهة المتعددة فسوف تنزل اللعنة على أتباع الإله الواحد.
ولهذا كانت الدعوة إلى المباهلة والبهلة- كما قلنا- وهي ضراعة إلى القوة القاهرة التي تتصرف في الأمر لتنهى الخلاف، ثم صار المراد بالمباهلة هنا مطلق الدعاء، فنحن نقول: (نبتهل إلى الله)، أي ندعو الله.
إذن فالرسول صلى الله عليه وسلم جاءهم بالأمر المنزل من عند الله الحق بدعوة الأبناء والنساء والأنفس، لكنهم قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: «أَنْظِرْنا إلى غد ونأتي إليك».
ثم أرسلوا في الصباح واحدا منهم ليرى ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهل هو مستعد لهذا الأمر حقيقة، أو هو مجرد قول منه أراد به التهديد فقط؟ ووجد رسولهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء ومعه الحسين والحسن وفاطمة وعلي بن أبي طالب، لذلك قالوا: لا لن نستطيع المباهلة، والله ما باهل قوم نبيا إلا أخذوا، وحاولوا ترضية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: لنظل على ديننا ويظل محمد وأتباعه على دينه لقد ظنوا ان الدعوة إلى المباهلة هي مجرد تهديد لن ينفذه الرسول، لكن صاحب اليقين الصادق جاء ومعه أهله استعدادا للمباهلة، ولن يُقبل على مثل هذا الموقف الا من عنده عميق الإيمان واليقين، أما الذي لا يملك يقيناً فلن يقبل على المباهلة بل لابد ان يرجع عنها.
وقد رجعوا عن المباهلة، وقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: لنتفق معا ألا تغزونا أو تخيفنا على أن نرسل لك الجزية في رجب وفي صفر وهي من الخيل وغير ذلك! لقد فروا من المباهلة لمعرفتهم أنهم في شك من أمرهم، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان على يقين بما أنزل الله عليه وكان العرب إذا خرجوا إلى الحرب يأخذون نساءهم معهم، لذلك حتى يخجل الرجل من الفرار، وحتى لا يترك أولاده ونساءه لكيلا يذلوا من بعد موته، فإن قُتِلَ قُتلوا معه هم أيضا.
إذن إن أردنا نحن الآن أن ننهي الجدل في مسألة عيسى عليه السلام فلنسمع قول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ الحق مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الممترين} إنه الحق القادم من الربوبية فلا تكن أيها السامع من الشاكين في هذه المسألة. ومن أراد أن يأتي بحجة مضادة للحجة القادمة من الله فلنا أن نحسمها بأن نقول: {تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ الله عَلَى الكاذبين}.
ولن يجرؤ واحد منهم على ذلك. لماذا؟ لأن السابقين عليهم قد فروا من المباهلة ولأن الله سبحانه يريد ان يزيد المؤمنين إيمانا واطمئنانا إلى أن ما ينزله على رسوله هو الحق قال- جل شأنه-: {إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق...}.
وقوله الحق: {إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق} يلفتنا إلى أن ما يرويه الحق لنا هو الحق المطلق، وليس مجرد حكاية أو قصة، أو مزج خيال بواقع، كما يحدث في العصر الحديث، عندما أُخذت كلمة القصة في العرف الأدبي الحديث- القادم من حضارة الغرب- إن القصة بشكلها الحديث المعروف إنما يلعب فيها الخيال دورا كبيرا، لكن لو عرفنا ان كلمة (قصة) مشتقة من قص الأثر لبحث أهل الأدب فيما يكتبون من روايات وخيالات عن كلمة أخرى غير (قصة)، فالقصص هو تتبع ما حدث بالفعل لا تبديل فيه ولا أخيلة.
وها هو ذا الحق سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله} فإذا جاء القصص من الإله الواحد فلنطمئن إلى أنه لا يوجد إله آخر سيأتي بقصص أخرى، ولأن الله الواحد هو {العزيز الحكيم} أي الغالب على أمره، ومع أنه غالب على أمره فهو حكيم في تصرفه.
لكن هل اتعظ القوم الذين جادلوا؟ لا، إن الحق يقول: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بالمفسدين...}.
إن قوله {فَإِن تَوَلَّوْاْ} يدل على أن الله قد علم أزلا أنهم لن يقبلوا المباهلة، وهكذا حكموا على أنفسهم بأنهم المفسدون، فصدق الحق سبحانه في قوله: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بالمفسدين} ومع ذلك فقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم إلى الدين الكامل لأنهم مؤمنون بالإله، وبالسماء، وبالكتاب، لذلك يقول الحق: {قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ...}.
إنها دعوة إلى كلمة مستوية لا التواء فيها {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله} وهذا أمر لا جدال فيه، ثم {وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} أي لا ندخل معه من لا يقدر على الارتفاع إلى جلال كماله، فالعقول السليمة ترفض كلمة (الشرك)؛ لأن الشرك يكون على ماذا؟ هل الشرك على خلق الكون؟ إن كل مخلوق أشركوه في الألوهية إنما جاء من بعد أن خلق الله الكون. أو يكون الشرك على إدارة هذا الكون؟
إذا كان هذا هو السبب في الشرك فهو أتفه من أن يكون سببا لأن الحق سبحانه قادر على إدارة هذا الكون، وأنزل منهجا إذا ما اتبعه الإنسان صار الكون منسجما، إذن فأي شرك لا لزوم له. وإن كان- والعياذ بالله- له شريك وتمتع إله ما بقدرات خاصة فهذه القدرات تنقص من قدرات الإله الثاني. وهذا عجز في قدرة هؤلاء الآلهة، ولهذا يحسم الحق هذا الأمر بقوله الكريم: {مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91].
إذن فمسألة الشركاء هذه ليست مقبولة، وبعد ذلك يقول الحق: {وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله}. أي ألا نأخذ من بعضنا كهنوتا وكهنة، يضع الواحد منهم الحلال لنا أو الحرام علينا، فالتحليل والتحريم إنما يأتي من الله، وليس لمخلوق أن يحلل أو يحرم. ثم يقول الحق: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ: اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} أي إن من لا يقبل عبادة الإله الواحد الذي لا شريك له ولا أرباب تحلل أو تحرم، إنما يريد أربابا وشركاء، وهذا معناه أن قلبه غير مستعد لتقبل قضية الإيمان؛ لأن قضية الإيمان تتميز بأن مصدرا واحدا هو الذي له مطلق القدرة، وهو مصدر الأمر في الحركة وهو الواحد الأحد، فلا تتضارب الحركات في الكون.
إن حركاتنا كلها وهي الخاضعة لمنهج الله ب (افعل) و(لا تفعل) فلو أن هناك إلها قال: (افعل) وإلها آخر قال: (لا تفعل)، لكان معنى ذلك والعياذ بالله أن هؤلاء الآله أغيار لها أهواء. والحق سبحانه يحسم هذا بقوله: {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ} [المؤمنون: 71].
وهكذا كانت دعوة الله على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم {قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}، إنها آية تحمل دعوة مستوية بلا نتوءات، فلا عبادة إلا لله، ونحن لا نأخذ (افعل) و(لا تفعل) إلا من الله، ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا كهنوتا أو مصدرا للتحليل أو التحريم، فإن رفضوا وتولوا، فليقل المؤمنون: {اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} أي أنه لا يوجد إلا إله واحد، ولا شركاء له، وبعضنا لا يتخذ بعضا أربابا، وتلك شهادة بأن الإسلام إنما جاء بالأمرالمستوى الذي لا عوج ولا نتوء فيه ونحن متبعون ما جاء به.
وبعد ذلك يقول الحق: {ياأهل الكتاب لِمَ تُحَآجُّونَ في إِبْرَاهِيمَ...}.
إن الحق يسألهم: لماذا يكون جدالكم في إبراهيم خليل الله؟ إن اليهود منكم ينسبون أنفسهم إلى موسى، والنصارى منكم ينسبون أنفسهم إلى عيسى، وإبراهيم عليه السلام لا يمكن أن يكون يهوديا كما يدعي اليهود، فاليهودية قد جاءت من بعد إبراهيم والنصارى لا يمكنهم الادعاء بأن إبراهيم كان نصرانيا، لأن النصرانية قد جاءت من بعد إبراهيم عليه السلام، فلم المحاجة إذن؟ لقد أنزلت التوراة والإنجيل من بعد إبراهيم فكيف يكون تابعا للتوراة والإنجيل؟
وبعد ذلك يقول الحق: {هاأنتم هؤلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ...}.
أي لقد جادلتم فيما بقي عندكم من التوراة وتريدون أن تأخذوا الجدل على أنه باب مفتوح، تجادلوا في كل شيء، وأنتم لا تعلمون ما يعلمه الخالق الرحمن علام الغيوب.
ويوضح الحق هذا الأمر فيقول: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً...}.
وبذلك يتأكد أن إبراهيم عليه السلام لم يكن يهوديا، لأن اليهودية جاءت من بعده. ولم يكن إبراهيم نصرانيا، لأن النصرانية جاءت من بعده، لكنه وهو خليل الرحمن {كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} ونحن نفهم أن كلمة {حَنِيفاً} تعني الدين الصافي القادم من الله، والكلمة مأخوذة من المحسات، فالحنف هو ميل في الساقين من أسفل، أي اعوجاج في الرجلين، ثم نقل الحنف إلى كل أمر غير مستوٍ.
وهنا يتساءل الإنسان، هل كان إبراهيم عليه السلام في العوج أو في الاستقامة؟ وكيف يكون حنيفا، والحنف عوج؟ وهنا نقول: إن إبراهيم عليه السلام كان على الاستقامة، ولكنه جاء على وثنية واعوجاج طاغ فالعالم كان معوجا. وجاء إبراهيم ليخرج عن هذا العوج، وما دام منحرفا عن العوج فهو مستقيم، لماذا؟ لأن الرسل لا يأتون إلا على فساد عقدي وتشريعي طاغ. والحق سبحانه وتعالى ساعة ينزل منهجه يجعل في كل نفس خلية إيمانية. والخلية الإيمانية تستيقظ مرة، فتلتزم، وتغفل مرة، فتنحرف، ثم يأتي الاستيقاظ بعد الانحراف، فيكون الانتباه، وهكذا توجد النفس اللوامة، تلك النفس التي تهمس للإنسان عند الفعل الخاطئ: أن الله لم يأمر بذلك.
ويعود الإنسان إلى منهج الله تائبا ومستغفرا، فإن لم توجد النفس اللوامة صارت النفس أمارة بالسوء، وهي التي تتجه دائما إلى الانحراف، وحول النفس الواحدة توجد نفوس متعددة تحاول أن تقاوم وتقوّم المعوج، وهي نفوس من البيئة والمجتمع، فمرة يكون الاعتدال والاتجاه إلى الصواب بعد الخطأ قادما من ذات الإنسان أي من النفس اللوامة، ومرة لا توجد النفس اللوامة، بل توجد النفس الأمارة بالسوء، لكن المجتمع الذي حول هذا الإنسان لا يخلو من أن يكون فيه خلية من الخير تهديه إلى الصواب، أما إذا كانت كل الخلايا في المجتمع قد أصبحت أمارة بالسوء فمن الذي يعدلها ويصوبها؟
هنا لابد أن يأتي الله برسول جديد، لأن الإنسان يفتقد الردع من ذاتية النفس بخلاياها الإيمانية، ويفتقد الردع من المجتمع الموجود لخلوه كذلك من تلك الخلايا الطيبة، وهكذا يطم الظلام ويعم، فيرسل الله رسولا ليعيد شعلة الإيمان في النفوس. والله سبحانه وتعالى قد ضمن لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ألا يأتي لها نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا فمن الضروري أن يوجد فيها الخير ويبقى، فالخير يبقى في الذات المسلمة، فإذا كانت الغفلة فالنفس اللوامة تصوب، وإن كانت هناك نفس أمارة بالسوء فهناك قوم كثيرون مطمئنون يهدون النفس الأمارة إلى الصواب.
وهكذا لن تخلو أمة محمد في أي عصر من العصور من الخير، أما الأمم الأخرى السابقة فأمرها مختلف؛ فإن الله يرسل لهم الرسل عندما تنطفئ كل شموع الخير في النفوس، ويعم ظلام الفساد فتتدخل السماء، وحين تتدخل السماء يقال: إن السماء قد تدخلت على عوج لتعدله وتقومه.
إذن فإبراهيم عليه السلام جاء حنيفا، أي مائلا عن المائل، وما دام مائلا عن المائل فهو مستقيم، فالحنيفية السمحة هي الاستقامة. وهكذا نفهم قول الحق: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين}.
إن إبراهيم هو أبو الأنبياء، ولم تكن اليهودية قد حٌرفت وبدلت، وكذلك النصرانية لكان من المقبول أن يكون اليهود والنصارى على ملة إبراهيم؛ لأن الأديان لا تختلف في أصولها، ولكن قد تختلف في بعض التشريعات المناسبة للعصور، ولذلك فسيدنا إبراهيم عليه السلام لا يمكن أن يكون يهوديا باعتبار التحريف الذي حدث منهم، أي لا يكون موافقا لهم في عقيدتهم، وكذلك لا يمكن أن يكون نصرانيا للأسباب نفسها، لكنه {كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} أي أنه مائل عن طريق الاعوجاج.
قد يقول قائل: ولماذا لم يقل الله: (إن إبراهيم كان مستقيما) ولماذا جاء بكلمة (حنيفا) التي تدل على العوج؟ ونقول: لو قال: (مستقيما) لظن بعض الناس أنه كان على طريقة أهل زمانه وقد كانوا في عوج وضلال ولهذا يصف الحق إبراهيم بأنه {كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً} وكلمة {مُّسْلِماً} تقتضي (مسلما إليه) وهو الله، أي أنه أسلم زمامه إلى الله، ومُسْلَماً فيه وهو الإيمان بالمنهج.
وعندما أسلم إبراهيم زمامه إلى الله فقد اسلم في كل ما ورد ب (افعل ولا تفعل) وإذا ما طبقنا هذا الاشتقاق على موكب الأنبياء والرسل فسنجد أن آدم عليه السلام كان مسلما، ونوحا عليه السلام كان مسلما، وكل الأنبياء الذين سبقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا مسلمين.
كان كل نبي ورسول من موكب الرسل يلقى زمامه في كل شيء إلى مٌسْلَم إليه؛ وهو الله، ويطبق المنهج الذي نزل إليه، وبذلك كان الإسلام وصفا لكل الأنبياء والمؤمنين بكتب سابقة، إلى أن نزل المنهج الكامل الذي اختتمت به رسالة السماء على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ب (افعل ولا تفعل) ولم يعد هناك أمر جديد يأتي، ولن يشرع أحد إسلاما لله غير ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد اكتملت الغاية من الإسلام، ونزل المنهج بتمامه من الله. واستقر الإسلام كعقيدة مصفاة، وصار الإسلام علما على الأمة المسلمة، أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهي التي لا يُستدرك عليها لأنها أمة أسلمت لله في كل ما ورد ونزل على محمد صلى الله عليه وسلم. لذلك قال الحق: {إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه...}.
ولنا أن نلاحظ أن كل رسول من الرسل السابقين على سيدنا رسول الله إنما نزل لأمة محددة، فموسى عليه السلام أرسله الله إلى بني إسرائيل، وكذلك عيسى عليه السلام، قال تعالى: {وَرَسُولاً إلى بني إِسْرَائِيلَ} أي رسولا مسلما في حدود تطبيق المنهج الذي جاء به ونزل إلى هؤلاء الرسل، فلما تغير بعض من التشريع وتمت تصفية المنهج الإيماني بالرسالة الخاتمة، وهي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وهي عامة لكل البشر فقد آمن بعض من أهل تلك الأمم برسالته عليه الصلاة والسلام، كما آمن بها من أرسل فيهم سيدنا رسول الله، واستمر موكب الإيمان بالدين الخاتم إلى أن وصل إلينا. وهكذا صارت أمة محمد صلى الله عليه وسلم هي خاتمة الأمم الإسلامية؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والمرسلين.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين».
وحين يقولون: إن إبراهيم عليه السلام كان يهوديا أو نصرانيا. إنما أوردوا ذلك لأن إبراهيم عليه السلام فيه أبوة الأنبياء. وهم قد أرادوا أن يستحضروا أصل الخلية الإيمانية في محاولة لأن ينسبوها إلى أنفسهم وكأنهم تناسلوا ان المسألة الإيمانية ليست بالجنس أو الوطن أو الدم، أو أي انتماء آخر غير الانتماء لمنهج الله الواحد، ولذلك فأولى الناس بإبراهيم ليسوا من جاءوا من ذريته، بل إن أولى الناس بإبراهيم هم الذين اتبعوه، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم قد اتبع إبراهيم عليه السلام، لذلك فلا علاقة لإبراهيم بمن جاء من نسله، ممن حرفوا المنهج ولم يواصلوا الإيمان، لقد حسم الله هذه القضية مع إبراهيم عندما قال سبحانه: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124].
لقد امتحن الحق إبراهيم بكلمات هي الأوامر والنواهي، فأتمها إبراهيم عليه السلام تماما على أقصى ما يكون من الالتزام، ولم يكن مجرد إتمام يتظاهر بالشكلية، إنما كان إتماما بالشكل والمضمون معا.
والمثال على تمام الأوامر والنواهي بالشكل فقط هو رؤيتنا لمن يتلقى الأمر من الله بأن يصلى خمسة فروض، فيصلي هذه الفروض الخمسة كإجراء شكلي، لكن هناك إنسانا آخر يصلي هذه الفروض الخمسة بحقها في الكمال مضمونا وشكلا، إنه يتم الأوامر الإلهية إتمام يرضى عنه الله.
ولقد أدى إبراهيم عليه السلام الابتلاءات التي جاءت بالكلمات التكليفية من الله على أكمل وجه.
ألم يأمر الله إبراهيم عليه السلام على أن يرفع القواعد من البيت؟ أما كان يكفي إبراهيم عليه السلام لينفذ الأمر برفع بناء الكعبة إلى أقصى ما تطوله يداه؟ إنه لو فعل ذلك لكان قد أدى الأمر، لكن إبراهيم عليه السلام أراد أن يوفي الأمر بإقامة القواعد من البيت تمام الوفاء، فبنى الكعبة بما تطوله يداه، وبما تطوله الحيلة أيضا، فجاء إبراهيم عليه السلام بحجر ليقف من فوقه، ويزيد من طول جدار الكعبة مقدار الحجر، لقد أراد ان يوفي البناء بطاقته في اليدين وبحيلته الابتكارية أيضا، فلم يكن معروفا في ذلك الزمان (السقالات) وغير ذلك من الأدوات التي تساعد الإنسان على الارتفاع عن الأرض إلى أقصى ما يستطيع.
ولو أن إبراهيم عليه السلام قد رفع القواعد من البناء على مقدار ما تطوله يداه؛ لكان قد أدى تكليف الله، لكنه أراد الأداء بإمكاناته الذاتية الواقعية، وأضاف إلى ذلك حيلة من ابتكاره، لذلك جاء بالحجر الذي يقف عليه ليزيد من جدار الكعبة، وهذا ما نعرفه عندما نزور البيت الحرام ب (مقام إبراهيم) فلما أتم إبراهيم الكلمات هذا الإتمام قال الحق سبحانه لإبراهيم: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة: 124].
إي إنك يا إبراهيم مأمون على أن تكون إماما للناس في دينهم لأنك أديت (افعل ولا تفعل) بتمام وإتقان. ولنر غيرة إبراهيم عليه السلام على منهج ربه، إنه لم يرد أن يستمر المنهج في حياته فقط، ولكنه طلب من الله أن يظل المنهج والإمامة في ذريته، فقال الحق سبحانه على لسان إبراهيم طالبا استمرار الأمانة في ذريته: {وَمِن ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124].
إن سيدنا إبراهيم قد امتلأ بالغيرة على المنهج وخاف عليه حتى من بعد موته، لكن الحق سبحانه وتعالى يُعلم الخلق جميعهم من خلال إبراهيم فيقول سبحانه: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124].
أي أن المسألة ليست وراثة، لأنه سيأتي من ذريتك من يكون ظالماً لنفسه ويعدل في المنهج بما يناسب هواه، وهو بذلك لا تتوافر فيه صفات الإمامة. إن الحق يعلمنا قواعد إرث النبوة، إن تلك القواعد تقضي أن يرث الأنبياء من هو قادر على تطبيق المنهج بتمامه دون تحريف، والمثال على ذلك ما علمه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لسلمان الفارسي: (سلمان منا آل البيت).
إن سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم لم يقل لسلمان الفارسي (أنت من العرب) لا. بل نسبه لآل البيت، أي نسبه إلى إرث النبوة بما يتطلبه هذا الإرث من تطبيق المنهج بتمامه، لقد علم الرسول صلى الله عليه وسلم ما علّمه الحق سبحانه لسيدنا إبراهيم عليه السلام عن إرث النبوة، فليس هذا الإرث بالدم، إنما بتطبيق المنهج نصا وروحا، كما تعلم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مما علّمه له الحق عن نوح عليه السلام، لقد وعد الحق نوحا بأن ينجيه وأهله من الطوفان.
ويرى نوح عليه السلام ابنه مشرفا على الغرق، فيتساءل (ألم يعدني الله ان ينجي أهلي؟) فينادي نوح عليه السلام ربَّه، بما أورده القرآن الكريم حين قال: {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين} [هود: 45] فيقول الحق ردا على طلب نوح نجاة ابنه: {قَالَ يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين} [هود: 46].
ولننظر إلى التعليل القرآني لانتفاء الأهلية عن ابن نوح عليه السلام {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ}؟ لماذا؟ {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}. إن الحق لم يقل (إنه عامل غير صالح)- الذاتية ممنوعة- لأن الفعل هو الذي يحاسب به الله؛ فالإيمان ليس نسبا، ولا انتماء لبلد ما، أو انتماء لقوم ما، إنه العمل، فمن يعمل بشرع أي رسول يكون من أهل هذا الرسول، إنَّ النسبة للأنبياء لا تأتي للذات التي تنحدر من نسب النبي، بل يكون الانتساب للأنبياء بالعمل الذي تصنعه الذات.
وفي موقع آخر يعلمنا الحق عن سيدنا إبراهيم موقفا يصور رحمة الخالق بكل خلقه من آمن منهم ومن كفر. لقد طلب إبراهيم عليه السلام سعة الرزق لأهل بيته الذين جعل إقامتهم بمكة، كما جاء في الكتاب الكريم: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} [البقرة: 126].
فهل استجاب الحق لدعوة إبراهيم برزق الذين آمنوا فقط من أهل مكة؟ لا، بل رَزَقَ المؤمن والكافر. وعلّم إبراهيم ذلك حينما قال له: {قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار وَبِئْسَ المصير} [البقرة: 126].
إن الرزق المادي مكفول من الحق لكل الخلق، مؤمنهم وكافرهم، والاقتيات المادي مكفول من قبل الله لأنه هو الذي استدعى المؤمن والكافر إلى هذه الدنيا. أما رزق المنهج فإمر مختلف، إن اتباع المنهج يقتضي التسليم بما جاء به دون تجريف. وهذا المنهج لم يتبعه أحد ممن جاءوا بعد إبراهيم عليه السلام إلا القليل، فمن آمن برسالة موسى عليه السلام دون تحريف هم قلة.
ثم جاء عيسى عليه السلام برسالة تبعد بني إسرائيل عن المادية الصرفة إلى الإيمان بالغيب، لكن رسالة عيسى عليه السلام تم تحريفها أيضا، وعلى ذلك فأولى الناس بإبراهيم عليه السلام هم الذين اتبعوا المنهج الخاتم الصحيح والمصفى لكل ما سبق من رسالات، وهؤلاء هم الذين آمنوا برسالة محمد صلى الله عليه السلام، والله ولي المؤمنين جميعا من آمن منهم برسالة إبراهيم خليل الرحمن، إيمانا صحيحا كاملا، ومن آمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم.. بعد ذلك يقول الحق سبحانه: {وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يُضِلُّونَكُمْ...}.
إن المعنى (ودت) هو (تمنت) و(أحبت). ولماذا أحبوا أن يُضلوا المؤمنين؟ لأن المنحرف حين يرى المستقيم، يعرف أنه كمنحرف لم ينجح في أن يضبط حركته على مقتضى التكليف الإيماني ل (افعل) و(لا تفعل)، أما الملتزم المؤمن فقد استطاع أن يضبط نفسه، وساعة يرى غير الملتزم إنسانا آخر ملتزما، فإنه يحتقر نفسه ويقول بينه وبين نفسه حسدا للمؤمن: لماذا وكيف استطاع هذا الملتزم أن يقدر على نفسه؟
ويحاول المنحرف أن يأخذ الملتزم إلى جانب الانحراف، وعندما لا يستطيع جذب الملتزم إلى الانحراف فهو يسخر منه، ويهزأ به، ويحاول أن يحتال عليه ليأخذه إلى جانب الانحراف. ألم يقل الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين: 29-33].
وهذا ما يحدث الآن عندما يرى أهل الانحراف إنسانا مؤمنا ذا استقامة، فيسخرون منه بكلمات كالتي تسمعها (خذنا على جناحك) أو يحاول النيل من إيمانه وعندما يعود أهل الانحراف إلى أهلهم فهم يروون بتندر كيف سخروا من المؤمنين، وكأنهم يحققون السعادة لهؤلاء الأهل بحكايات السخرية من الإنسان المؤمن، ويطمئن الحق المؤمنين بأن لهم يوما يضحكون فيه من هؤلاء الكفار: {فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ} [المطففين: 34-35].
ويسأل الحق أهل الإيمان: {هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المطففين: 36].
أي قد عرفتم كيف اجازي بالعقاب أهل الكفر.
لذلك فأولى الناس بإبراهيم هم المؤمنين برسالة محمد عليه الصلاة والسلام. ولا يفتأ بعض من أهل الكفر من محاولة جذب المؤمنين إلى الضلال. إنهم يحبون ذلك ويتمنونه، ولكن ليس كل ما يوده الإنسان يحدث، فالتمنى هو أن يطلب الإنسان أمرا مستحيلا أو عسير المنال، هم يحبون ذلك ولكن لن يصلوا إلى ما يريدون، يشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}.
إنهم يتمنون إضلال المؤمنين، لكن هل يستطيعون الوصول إلى ذلك؟ لا: والمثال على ذلك هو ما يفعله بعض أهل الكتاب من اليهود عندما ذهبوا إلى معاذ بن جبل وإلى حذيفة الصحابيين الجليلين، وذهبوا أيضا إلى عمار الصحابي الجليل وحاولوا فتنة معاذ وحذيفة وعمار لكنهم لم يستطعوا.
وعلينا أن نعرف أن (الضلال) يأتي على معان متعددة، فقد يأتي الضلال مرة بمعنى الذهاب والفناء في الشيء، مثل قوله الحق: {وقالوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} [السجدة: 10].
لقد تساءل المشركون (أبعد أن نذوب في الأرض وتتفكك عناصرنا الأولية نعود ثانية، ونُبعث من جديد؟). وقد يأتي الضلال مرة أخرى بمعنى عدم اهتداء الإنسان إلى وجه الحق، كما قال الحق وصفا لرسوله صلى الله عليه وسلم عندما رفض عبادة الأصنام وظل يبحث عن المنهج الحق. {وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى} [الضحى: 7].
أي أنك يا محمد لم يعجبك منهج قريش في عبادة الأصنام، وظللت تبحث عن المنهج الحق، إلى أن هداك الله فأنزل إليك هذا المنهج القويم. لقد كنت ضالا تبحث عن الهداية، فجاءتك النعمة الكاملة من الله.
وهناك لون آخر من الضلال، وهو أن يتعرف الإنسان على المنهج الحق، لكنه ينحرف عنه ويتجه بعيدا عن هذا المنهج مثل قول الحق: {وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ}.
ونتساءل: كيف يحدث إضلال النفس؟ وتكون الإجابة هي: أن الضال الذي يعرف المنهج وينكره إنما يرتكب إثما، ويزداد هذا الإثم جُرماً بمحاولة الضال إضلال غيره، فهو لم يكتف بضلال ذاته بل يزداد ضلالا بمحاولته إضلال غيره. وهذا القول الكريم قد حل لنا إشكالا في فهم قوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قربى} [فاطر: 18].
وفي فهم قوله- جل شأنه-: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25].
وهكذا نعرف أن الوزر في آية فاطر هو وزر الضلال في الذات والأوزار في سورة النحل هي لإضلال غيرهم فهولاء الضالون لا يكتفون بضلال أنفسهم، بل يزيدون من ضلال انفسهم اوزاراً بإضلال غيرهم فهم بذلك يزدادون ضلالا مضافا إلى أنهم يحملون أوزارهم كاملة. {وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}.
إنهم لا يشعرون بالكارثة التي سوف تأتي من هذا الضلال المركب الذي سينالون عليه العقاب. ولو أنهم تعمقوا قليلا في الفهم لتوقفوا عن إضلال غيرهم، ولو بحثوا عن اليقين الحق لتوقفوا عن ضلال أنفسهم.
ومن بعد ذلك يقول الحق: {ياأهل الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله...}.
إن الحق يسألهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لم تكفرون بآيات الله العجيبة وأنتم تشهدون؟ وهنا قد يسأل سائل هل شهد أهل الكتاب الآيات العجيبة في زمن رسول الله؟
والإجابة هي: ألم يستفتح اليهود على من يقاتلونهم بمجيء نبي قادم؟ إنهم كانوا يدعون الله قائلين: إنا نسألك بحق النبي الأميّ الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلا تنصرنا عليهم فكانوا يُنصرون على أعدائهم فلما بعث صلى الله عليه وسلم كفروا به بغيا وحسداً قال الله تعالى: {وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين} [البقرة: 89].
لقد كفروا من أجل السلطة الزمنية. فقد كانوا يريدون الملك والحكم. وهذا عبد الله بن سلام الذي كان يهوديّاً فأسلم قد قال عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد عرفته حين رأيته كمعرفتي لابني ومعرفتي لمحمد أشد».
إذن فمعرفتهم بنعت رسول الله ووصفه موجودة في آيات التوراة ولقد شهدوا الآيات البينات، لكنهم أنكروا الآيات طمعا في السلطة الزمنية حتى ولو تطلب ذلك أن يُحرِّف بعضهم منهج الله سبحانه وتعالي ويحوّلوا هذا التحريف إلى سلطة زمنية فاسدة كهؤلاء الذين باعوا صكوك الغفران ولذلك قال الحق عن هؤلاء الذين يحرفون منهج الله: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79].
إن العذاب هو مصير هؤلاء الدين يحرفون كلام الله ومنهجه.
ويقول الحق سبحانه: {ياأهل الكتاب لِمَ تَلْبِسُونَ الحق بالباطل...}.