منتدى قصة الإسلام

منتدى قصة الإسلام (http://forum.islamstory.com//index.php)
-   لغتنا العربية (http://forum.islamstory.com//forumdisplay.php?f=95)
-   -   تفسير الشيخ الشعراوى( سورة ال عمران) (http://forum.islamstory.com//showthread.php?t=131224)

امانى يسرى محمد 24-05-2021 07:43 PM

تفسير الشيخ الشعراوى( سورة ال عمران)
 

http://quranbysubject.com/quran/bin/...hotshort-1.jpg

تفسير الآية رقم (1):

{الم (1)}

جاءت أيضاً في سور أخرى، في سورة العنكبوت، وفي سورة الروم، ولقمان، والسجدة، وزاد عليها راءً في بعض السور، وزاد عليها صاداً في بعض السور (المص) و(المر) كل ذلك جاء تأكيداً للمعاني أو تأكيداً للسر الذي وضعه الله في هذه الحروف، وإن لم نكن ندرك ذلك السر.

والإنسان ينتفع بأسرار الأشياء التي وضعها من أوجد الأشياء وإن لم يعلم هذه الأشياء فهو منتفع بها، وضربنا المثل وقلنا: إن الريفي الذي ليس عنده ثقافة في الكهرباء، أيستفيد بالكهرباء أم لا؟ إنه يستفيد بها ويحرك زر المصباح لينيره أو ليطفئه، أهو يعلم سر ذلك؟ لا، لكنه إنما انتفع به، فكذلك المؤمن حين يقول: (ألف لام ميم)، يأخذ سرها من قائلها، فهمها أم لم يفهمها، إذن فالمسألة لا تحتاج إلى أن نفلسفها، صحيح أن العقل البشري يحول حول شيء ليستأنس به، ولكن عطاء الله وحكمة العطاء فوق ما يستأنس به وفوق ما نستوحش منه.

وقول الحق سبحانه في ختام سورة البقرة: {فانصرنا عَلَى القوم الكافرين}
يناسب أيضاً سورة آل عمران،
لماذا؟

لأن الإسلام سيأتي ليواجه معسكر كفر ومعسكر أهل الكتاب، فحتى لا تتشقق دعوة الله التي صدرت عن الله بمواكب الرسل جميعاً الذين سبقوا محمداً صلى الله عليه وسلم وأن هذا جاء ليناقض شيئاً منه، إنه قد جاء ليعزز دعوة الله، ولتكون هذه الأمم التي تبعت هذه الديانات في صف الإسلام. ولذلك حينما أنكر العرب رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله لهم: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} أي أن من عنده علم الكتاب يشهد أنك رسول الله. {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} [الرعد: 43].
فكان المفروض في أهل الكتاب أنهم حينما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكونوا هم أول المؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه جاء ليؤكد موكب الإيمان ويأتي لهم بسورة يسميها آل عمران حتى يعلم الجميع أنك يا محمد لم تأتي لتهدم ديانة عيسى، ولكن لتبقى ديانة عيسى ولتؤيد ديانة عيسى، فإن كنتم يا من آمنتم بعيسى مؤمنين بعيسى فاهرعوا حالاً إلى الإيمان بمحمد؛ فقد سماها الله آل عمران، وجعل لهم سورة في القرآن.

إن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لم تأت للعصبية، أو لتمحو ما قبلها كما تأتي عصبيات البشر حين يأتي قوم على أنقاض قوم، ويهدمون كل ما يتصل بهؤلاء القوم حتى التاريخ يمحونه، والأشياء يمسخونها؛ لأنهم يريدون أن ينشئوا تاريخاً جديداً. لا إن هذا القرآن يريد أن يصوب التاريخ، فيأتي بسورة اسمها (آل عمران) وذلك تكريم عال لهذه الديانة ولتابعيها.
وبعد ذلك يأتي الحق فيستهلها: بقوله جل شأنه: {الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم}


https://media.gemini.media/img/large...2_13_2_811.jpg


.تفسير الآية رقم (2):

{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)}

تلك هي قضية القمة، ولذلك يتكرر في القرآن التأكيد على هذه القضية،
{الله لا إله إِلاَّ هُوَ}.
و{الله} كما يقولون مبتدأ، و{لا إله إِلاَّ هُوَ} خبر، والمبتدأ لابد أن يكون متضحاً في الذهن، فكأن كلمة {الله} متضحة في الذهن، ولكنه يريد أن يعطي لفظ {الله} الوصف الذي يليق به وهو {لا إله إِلاَّ هُوَ}. ولذلك يقول الحق: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض وَسَخَّرَ الشمس والقمر لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت: 61].

إذن فالله متضح في أذهانهم، ولكن السلطات الزمنية أرادت أن تطمس هذا الإيضاح، فجاء القرآن ليزيل ويمحو هذا الطمس مؤكدا {الله لا إله إِلاَّ هُوَ} فهذه قضية أطلقها الحق شهادة منه لنفسه: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} [آل عمران: 18].
وكفى بالله شهيداً؛ لأنها شهادة الذات للذات، وشهدت الملائكة شهادة المشهد فلم يروا أحداً آخر إلا هو، وكذلك، شهد أولو العلم الذين يأخذون من الأدلة في الكون ما يثبت صدق الملائكة ويؤكد صدق الله، فإذا ما نظرنا نظرة أخرى نقول: إن الحق أطلقها على نفسه وقال: {لا إله إِلاَّ هُوَ}؛ وجعلها كلمة التوحيد وجعل الأمر في غاية اليسر والسهولة والبساطة؛ فلم يشأ الله أن يجعل دليل الإيمان بالقوة العليا دليلاً معقداً، أو دليلاً فلسفياً، أو لا يستطيع أحد أن يصل إليه إلا أهل الثقافة العالية، لا، إن الدين مطلب للجميع؛ من راعي الشاة إلى الفيلسوف؛ إنه مطلوب للذي يكنس في الشارع كما هو مطلوب من الأستاذ الجامعي.

فيجب أن تكون قضية الإيمان في مستوى هذه العقول جميعاً؛ فلا فلسفة في هذه المسألة، لذلك شاء الحق أن يجعل هذه المسألة في منتهى البساطة فأوضح الله: أنا شهدت ألا إله إلا أنا، فإما أن يكون الأمر صدقاً وبذلك تنتهي المشكلة، وليس من حق أحد الاعتراض، وإن لم تكون صدقاً فقولوا لنا: أين الإله الآخر الذي سمع التحدي، وأخذ الله منه ذلك الكون، وقال: أنا وحدي في الكون، وأنا الذي خلقت، ثم لم نسمع رداً عليه ولا عن معارض له، ألم يدر ذلك الإله الآخر؟
إذن فذلك الآخر لا ينفع أن يكون إلهاً، فإن علم ذلك الآخر ولم يدافع عن نفسه وملكيته للكون فإنه لا يصلح أن يكون إلهاً. وتصبح القضية لله إلى أن يظهر مدع ليناقضها، ف {لا إله إِلاَّ هُوَ} كلمة حق، وبالعقل والمنطق هو إله ولم نجدً معارضاً. وقلنا سابقاً: إن الدعوى حين تُدعى ولا يوجد معارض حين نَسمعها تكون لصاحبها إلى أن يوجد المعارض.

وضربنا مثلا: نحن مجتمعون في حجرة، عشرة أشخاص، وبعد ذلك انصرفوا فوجد صاحب البيت حافظة نقود، فجاء واحد متلهفا وقال: لقد ضاعت مني حافظة نقود.
فقال له صاحب البيت: وجدنا حافظة ولكن كان هنا عشرة، فلما جئ بالعشرة، وسئلوا لم يدعها أحد، إذن فهي له.

إن الله قد قال: {لا إله إِلاَّ هُوَ}، فإن كان هناك إله آخر فليظهر لنا، ولكن لا تظهر لنا إلا قوة الله {لا إله إِلاَّ هُوَ} ومادام لا إله إلا هو، وهذا الكون يحتاج إلى قيومية لتدبيره، فلابد أن يكون حيا حياة تناسبه، لأنه سيهب حيوات كثيرة لكل الأجناس، للإنسان وللحيوان وللنبات وللجماد، إذن فالذي يوجدها لابد أن يكون حياً ولابد أن تكون حياته مناسبة له.

و
(قيّوم) هذه يسمونها صيغة مبالغة؛ لأنّ الحدث إذا وقع فإنه يقع مرة على صورة عادية، ومرة يقع على صورة قوية. مثلما تقول: فلان أكول، و(أكول) غير (آكل)، فكلنا نأكل، وكلنا يطلق علينا (آكل)، لكن ليس كلنا يُطلق علينا (أكول) لأن هذه اسمها صيغة مبالغة في الحدث.
وإذا كان الله هو الذي يدبر ويقوم على أمر كل عوالم الكون هل يكون قائما أو قَيُّوماً؟
لابد أن يكون قَيُّوماً. و(قيوم) معناها أيضا: قائم بذاته. فما شكل هذا القيام؟ إنه قيام أزلي كامل.
إذن فكلمة (قيّوم) صيغة مبالغة من القيام على الأمر، قائم بنفسه، قائم بذاته، ويُقيم غيره، والغير متعدد متكرر، فعندما يكون هذا الغير متعدداً ومتكرراً فهو يحتاج إلى صفة قوية في خالقه، فيكون الخالق قيّوما.

إن قوله الحق:
{الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم} هو سند المؤمن في كل حركات حياته، عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قلت: {الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم} فضرب في صدري وقال: ليهنك العلمُ أبا المنذر».

وقولوا لنا بالله: حين يوجد ولد وأب، هل يحمل الولد همّا لأي مسألة من مسائل الحياة؟ لا؛ لأن الأب متكفل بها، والمثل العامي يقول: الذي له أب لا يحمل همّا، إذن فالذي له ربٌّ عليه أن يستحي؛ لأنه سبحانه يقول: أنا حيّ، وأنا قيّوم، و(قيّوم) يعني قائم بأمرك.
ويؤكد سبحانه هذه القيّومية في سورة البقرة، فقال في آية الكرسي: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ}، كأنه يقول لنا: ناموا أنتم لأنني لا أنام، وإلا فإن نمت أنت عن حراسة حركة حياتك فمن يحرسها لك؟ إنه سبحانه يتفضل علينا بقيوميته فـ: {الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم}، وما دام هو الحيّ والقيّوم فأمر منطقي أنه قائم بأمر الخلق جميعا وقد وضع لكل الخلق ما تقوم به حياتهم من مادة وصيانة مادة ومن قيم وصيانة قيم.

ومادام هو القيوم القائم بالأمر والمتولي الشئون للخلق فلابد أن يؤدي لهم مطلوبات مادتهم وما يبقيها، ومطلوبات قيمهم وما يبقيها. أما مطلوبات المادة فيقول فيها: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ} [فصلت: 10].
إنه سبحانه يطمئنا على القوت، وأما مطلوبات القيم فقال سبحانه: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ...}.


https://media.gemini.media/img/large...8_0_51_397.jpg

.تفسير الآية رقم (3):

{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)}

إذن فلم يعطنا سبحانه مقومات المادة فقط، ولكن أعطانا مقومات القيم أيضا؛ لأن المادة بدون قيم تكون شرسة هوجاء رعناء، فيريد الله أن يجعل المادة في مستوى إيماني. إذن لابد أن تنزل القيم.

لذلك قال سبحانه:
{نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق} و{نَزَّلَ} تفيد شيئا قد وجب عليك؛ لأن النزول معناه: شيء من أعلى ينزل، وهو يقول لك: لا تتأبى على القيم التي جاءت لك من أعلى منك؛ لأنها ليست من مساو لك، إنها من خالق الكون والبشر، والذي يمكنك أن تتأبى عليه ما يأتي ممن هو أدنى منك.
لكن حين يجيء لك التقنين ممن هو أعلى منك فلا تتأبّ عليه؛ لأن خضوعك له ليس ذلة بل عزة، فقال: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب}. وفي سياق القرآن نجده سبحانه يقول: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعراء: 193].
ومرة أخرى يقول في القرآن الكريم: {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً} [الإسراء: 105].
ولكن هل نزل القرآن وحده؟ لقد كان جبريل عليه السلام ينزل بالقرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يعني ذلك خروج القرآن عن كونه (نزل)، فجبريل عليه السلام كان ينزل بالقرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم. والحق سبحانه وتعالى يقول: {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً} [الإسراء: 105].
وبذلك تتساوى (أنزل) مع (نزل).

وحين نأتي للحدث أي الفعل في أي وقت من الأوقات فإننا نتساءل: أهو موقوت بزمن أم غير موقوت بزمن؟ إن القرآن الكريم قد نزل على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في ثلاثة وعشرين عاما وينزل القرآن حسب الحوادث، فكل نجم من نجوم القرآن ينزل حسب متطلبات الأحداث. ولكن الحق سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1].
والحق هنا يحدد زمنا.
ولنا أن نعرف أن القرآن الذي نزل في ثلاثة وعشرين عاما هو الذي أنزله الله في ليلة القدر.

إذن فللقرآن نزولان اثنان:
الأول: إنزال من (أنزل).
الآخر: تنزيل من (نَزّل).

إذن فالمقصود من قوله سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} أن القرآن نزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ليباشر مهمته في الكون، وهذا ما أنزله الله في ليلة القدر.
والكتاب الكريم الذي أنزله الله في ليلة القدر إلى السماء الدنيا ينزلُ منجما على حسب الأحداث التي تتطلب تشريعا أو إيضاحا لأمر.

لكن الكتب الأخرى لم يكن لها ذلك اللون من النزول والتنزيل، لقد نزلت مرة واحدة؛ لا حسب الأحداث والمناسبات، لقد جاءت مرة واحدة، كما نزل القرآن أولا من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا.
ولننظر إلى الأداء القرآني حين يقول: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل} [آل عمران: 3].

وهنا يجب أن نلتفت إلى أن الحق قال عن القرآن: (نَزَّل) وقال عن التوراة والإنجيل: (أنزل).
لقد جاءت همزة التعدية وجمع سبحانه بين التوراة والإنجيل في الإنزال، وهذا يوضح لنا أن التوراة والإنجيل إنما أنزلهما الله مرة واحدة، أما القرآن الكريم فقد نَزَّله الله في ثلاث وعشرين سنة منجما ومناسباً للحوادث التي طرأت على واقع المسلمين، ومتضمنا البلاغ الشامل من يوم الخلق إلى يوم البعث.
ونَزَّل الله القرآن منجما مناسباً للأحداث، ليثبت فؤاد رسول الله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يتعرض لأحداث شتى، كلما يأتي حدث يريد تثبيتا ينزل نجم من القرآن. {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان: 32].
وكان النجم من القرآن ينزل ويحفظه المؤمنون، ويعملون بهديه، ثم ينزل نجم آخر، والله سبحانه يقول: {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الفرقان: 33].
فمن رحمته سبحانه وتعالى بالمسلمين أن فتح لهم المجال لأن يسألوا، وأن يستوضحوا الأمور التي تغمض عليهم.

وجعل الحق سبحانه لأعمال المؤمنين الاختيارية خلال الثلاثة والعشرين عاما فرصة ليقيموا حياتهم في ضوء منهج القرآن، وصوب لهم القرآن ما كان من خطأ وذلك يدل على أن القرآن قد فرض الجدل والمناقشة، وفرض مجيء الشيء في وقت طلبه؛ لأن الشيء إذا ما جيء به وقت طلبه فإن النفس تقبل عليه وترضى به.
ومثال ذلك في حياتنا اليومية أن الواحد منا قد يملك في منزله صندوقا للأدوية مُمتلئا بألوان شتى من الداء، ولكن عندما يصاب صاحب هذا الصندوق بقليل من الصداع فهو يبحث عن قرص أسبرين، قد لا يعرف مكانه في صندوق الدواء فيبعث في شرائه، وذلك أسهل وأوثق. والحق سبحانه قد جمع للقرآن بين (نزّل) و(أنزل) فقال: {مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الفرقان...}.





نداء الايمان

يتبع


https://media.gemini.media/img/large...6_4_26_745.jpg




امانى يسرى محمد 25-05-2021 02:42 PM

رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة ال عمران)
 

https://akhawat.islamway.net/forum/u...74bd016db.jpeg


قال تعالى: {مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}.. [آل عمران : 4].



ويأتي القول الفصل في: {وَأَنزَلَ الفرقان}.

هنا الجمع بين (نزل) و(أنزل).

وساعة يقول الحق عن القرآن: {مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} فمعنى ذلك أن القرآن يوضح المتجه؛ إنه مصدق لما قبله ولما سبقه، إنه مصدق للقضايا العقدية الإيمانية التي لا يختلف فيها دين عن دين؛ لأن الديانات إن اختلفت فإنما تختلف في بعض الأحكام، فهناك حكم يناسب زمنا وحكم آخر لا يناسب ذلك الزمن. أما العقائد فهي لا تتغير ولا تتبدل، وكذلك الأخبار وتاريخ الرسل، فليس في تلك الأمور تغيير.



ومعنى (مصدق) أي أن يطابق الخبر الواقع، وهذا ما نسميه (الصدق). وإن لم يطابق الخبر الواقع فإننا نسميه (كذبا). إذن، فالواقع هو الذي يحكم. ولذلك قلنا من قبل: إن الصادق هو الذي لا تختلف روايته للأحداث؛ لأنه يستوحي واقعا، وكلما روى الحادثة فإنه يرويها نفسها بكلماتها وتفاصيلها، أما الكاذب فلا يوجد له واقع يحكي عنه، لذلك يُنشئ في كل حديث واقعا جديدا، ولذلك يقول الناس: (إن كنت كذوبا فكن ذكورا). أي إن كنت تكذب والعياذ بالله فتذكر ما قلت؛ حتى لا تناقضه بعد ذلك. فالصادق هو من يستقرئ الواقع، ومادام يروي عن صدق فهو يروي عن أمر ثابت لا تلويه الأهواء، فلا يحكي مرة بهوى، ومرة بهوى آخر.



ومادام الخبر صادقاً فإنه يصبح حقاً؛ لأن الحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير وسبحانه يقول هنا: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ}.



وقد تكلمنا من قبل عن التوراة، وقلنا: إن بعضاً من العلماء حين يتعرض للفظ من الألفاظ فهو يحاول أن يجعله من اللغة العربية، ويحاول أن يعثر له على وزن من الأوزان العربية، وأن يأتي له بصفة من الصفات العربية، فقال بعضهم من التوراة: إنها (الوَرْى) بسكون الراء وكان الناس قديماً يشعلون النار بضرب عود في عود آخر، ويقولون: الزند قد ورى، أي قد خرجت ناره. وقال بعض العلماء أيضا: إن الإنجيل من النجْل، وهو الزيادة.


وأقول لهؤلاء العلماء: لقد نظرتم إلى هذه الألفاظ على أنها ألفاظ عربية، لكن التوراة لفظ عبري، والإنجيل لفظ سرياني أو لفظ يوناني، وصارت تلك الكلمات علما على تلك الكتب وجاءت إلى لغتنا. ولا تظنوا أن القرآن مادام قد نزل عربياً فكل ألفاظه عربية، لا. صحيح أن القرآن عربي، وصحيح أيضا أنه قد جاء وهذه الألفاظ دائرة على لسان العرب، وإذا تم النطق بها يُفهم معناها.


والمثال على ذلك أننا في العصر الحديث أدخلنا في اللغة كلمة (بنك) وتكلمنا بها، فأصبحت عربية؛ لأنها تدور على اللسان العربي، فمعنى أن القرآن عربي أن الله حينما خاطب العرب خاطبهم بألفاظ يفهمونها، وهي دائرة في ألسنتهم، وإن لم تكن في أصلها عربية. وحينما تكلم الحق عن التوراة والإنجيل وقال: إن القرآن جاء مصدقا لهما قال جل شأنه: {مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الفرقان إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام}... [آل عمران: 4].


فأي ناس هؤلاء الذين قال عنهم: {هُدًى لِّلنَّاسِ}؟

لاشك أنهم الناس الذين عاصروا الدعوة لتلك الكتب. وإذا كان القرآن قد جاء مصداقا لما في التوراة والإنجيل ألا تكون هذه الكتب هداية لنا أيضا؟ نعم هي هداية لنا، ولكن الهداية إنما تكون بتصديق القرآن لها، حتى لا يكون كل ما جاء فيهما ومنسوبا إليهما حجة علينا. فالذي يصدقه القرآن هو الحجة علينا، فيكون {هُدًى لِّلنَّاسِ} معناها: الذين عاصروا هذه الديانات وهذه الكتب، ونحن مؤمنون بما فيها بتصديق القرآن لها.



وحين يقول الحق سبحانه وتعالى: (وأنزل الفرقان) يدل على أن الكتاب أي القرآن سيعاصر مهمة صعبة؛ فكلمة (الفرقان) لا تأتي إلا في وجود معركة، ونريد أن نفرق بين أمرين: هدى وضلال، حق وباطل، شقاء وسعادة، استقامة وانحراف، إذن فكلمة (الفرقان) تدل على أن القرآن إنما جاء ليباشر مهمة صعبة وهو أنه يفرق بين الخير والشر، ومادام يفرق بين الخير والشر إذن ففيه خير وله معسكر، وفيه شر وله معسكر، إذن ففيه فريقان. ويأتي للفريق الذي يدافع عن الحق نضالاً وجهاداً بما يفرق له ويميز به بين الحق والباطل ويختم الحق هذه الآية بقوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام}.



ولماذا جاء هذا التذييل على هذه الصورة في هذه الآية؟

أي مادام القرآن فرقاناً فلابد أن يفرق بين حق وباطل، والحق له جنوده، وهم المؤمنون، والباطل له جنوده وهم الكافرون، والشر قد جاء من الكافرين فلابد أن يتكلم عن الذين كفروا {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}. والعذاب إيلام، ويختلف قُوّة وضعفا باعتبار المؤلم المباشر للعذاب. فصفعة طفل غير صفعة شاب غير صفعة رجل قوي، كل واحد يوجه الصفعة بما يناسب قوّته، فإذا كان العذاب صادراً من قوة القوي وهو الله، إذن فلابد أنه عذاب لا يطاق. {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام} أي لا يُغلب على أمره، ولا توجد قوة أخرى ضده، وانتقامه لن يستطيع أحد أن يرده.



وقوله الحق سبحانه وتعالى: إنه (قيّوم) أي يقوم بشئون خلقه إيجاداً وإمداداً، بناء مادة وإيجاد قيم، لابد أن يتفرع من ذلك أنه يعلم كل الخلق ويعلم الخبايا، ولذلك يضع التقنين المناسب لكل ما يجري لهم، والتقنينات التي تأتي من البشر تختلف عن التقنينات الموجودة من الله، لماذا؟
لأن الله حين يقنن بكتاب ينزله على رسوله ليبلغ حكم الله فيه فهو سبحانه يقنن لما يعلم، وما يعلمه سبحانه قد يعلمه خلقه وقد لا يعلمونه، وقد تأتي الأحداث بما لم يكن في بال المشرع البشري المقنن حين يقنن، ولذلك يضطرون عادة إلى تغيير القانون؛ لأنه قد جدّت أحداث لم يلتفت إليها المشرع البشري.



ولماذا لم يلتفت إليها المشرع البشري؟ لأن علمه مقصور على المرئيات التي توجد في عصره وغير معاصر للأشياء التي تحدث بعد عصره، وأيضا يقنن لملكات خفية عنه.


إن الحق سبحانه وتعالى لكونه قيّوما ويُنزل ما يفرق بين الحق والباطل، فهو سبحانه يعلم علماً واسعاً، بحيث لا يُستدرك عليه، ولذلك فالذين يحاولون أن يقولوا: إن هذا الحكم غير ملائم للعصر، نقول لهم: أتستدركون على الله؟! كأنكم تقولون: إن الله قد فاته مثل هذه الحكاية ونريد أن نصححها له!.
لا، لا تستدركوا على الله، وخذوا حكم الله هكذا؛ لأن هذا هو الحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ لأنه حكم من عالم لا يتجدد علمه، ولا يطرأ شيء على علمه، وفوق كل ذلك فهو سبحانه لا ينتفع بما يقنن، وهو سبحانه يقول: {إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء}


https://media.gemini.media/img/large..._15_49_630.jpg



قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ}.. [آل عمران : 5].


انظروا إلى خدمة الآية لكل الأغراض التي سبقتها،

مادام قيُّوما وقائما بأمور الخلق، فلابد أن يعلم كل شيء عن الخلق، فلا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ومادام سيفرق بين الحق والباطل وينزل بالكفار عذاباً شديداً فلا يخفى عليه شيء. إن الآية تخدم كل الأغراض، وهو سبحانه يعلم كل الأغراض، فحين يقنن بقيوميته، فهو يقنن بلا استدراك عليه، وحين يخرج أحد عن منهجه لا يخفى عليه. إذن فالآية حصاد على التشريع وعلى الجزاء {إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء}. وبعد ذلك يتكلم الحق عن مظهر القيوميّة الأول بالنسبة للإنسان فيقول: {هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ...}.



المصدر: موقع نداء الإيمان


https://media.gemini.media/img/large...0_10_13_42.jpg




امانى يسرى محمد 26-05-2021 09:28 PM

رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة ال عمران)
 

https://encrypted-tbn0.gstatic.com/i...7TOFQ&usqp=CAU

{هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.. [آل عمران : 6].


والتصوير في الرحم هو إيجاد المادة التي سيوجد منها الإنسان على هيئة خاصة؛ هذه الهيئة تختلف نوعيتها: ذكورة وأنوثة. والذكورة والأنوثة تختلفان أشكالاً؛ بيضاء وسمراء وقمحية وخمرية وقصيرة وطويلة، هذه الأشكال التي يوجد عليها الخلق والتي منها: {واختلاف أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ}.. [الروم: 22].
هذا الاختلاف في الألوان والألسنة والأشياء المتعددة يَدُل على أنها ليست من إنتاج مصنع يصنع قالباً ثم يشكل عليه، لا؛ فكل إنسان يولد يصنع بيد قديرة بقدرة ذاتية.

إن الصانع الآن إذا أرادت أن يصنع لك كوباً يصنع قالباً ويكرره، لكن في الخلق البشري كل واحد بقالبه الخاص، وكل واحد بشكله المخصوص، وكل واحد بصوته الذي ثبت أن له بصمة كبصمة اليد، وكل واحد بلون، إذن فهي من الآيات، وهذا دليل على طلاقة القدرة، وفوق كل هذا هو الخلق الذي لا يحتاج إلى عملية علاج، معنى عملية علاج أي يجعل قالباً واحدا ليصب فيه مادته. لا، هو جل شأنه يقول: {بَدِيعُ السماوات والأرض وَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.. [البقرة: 117].


إن الأب والأم قد يتحدان في اللون ولكن الابن قد ينشأ بلون مختلف، ويخلق الله معظم الناس خلقاً سويا، ويخلق قلة من الناس خلقاً غير سوي؛ فقد يولد طفل أعمى أو مصاب بعاهة ما أو بإصبع زائدة أو إصبعين.. وهذا الشذوذ أراده الله في الخلق ليلفتنا الحق إلى حسن وجمال خلقه. لأن من يرى وهو السويّ إنساناً آخر معوَّقاً عن الحركة فإنه يحمد الله على كامل خلقه.


وحين يرى إنسان له في كل يد خمس أصابع إنساناً آخر له إصبع زائدة يعوق حركة يده، يعْرف حكمة وجود الأصابع الخمس، فالجمال لا يثبت إلا بوجود القبح، وبضدها تتمايز الأشياء، الإنسان الذي له سبع أصابع في يد واحدة، يضع الطب أمام مهمة يجند نفسه لها؛ حتى يستطيع الطبيب أن يستأصل الزائد عن حاجة الإنسان الطبيعي. ولو خلق الله الإنسان بثلاث أصابع لما استطاع ذلك الإنسان أن يتحكم عند استعماله الأشياء الدقيقة.


إن الإنسان العادي في حركته اليومية لا يدرك جمال استواء خلقه إلا إذا رأى فرداً من أفراد الشذوذ. والحق يلفت الناس الساهين عن نعم الله عليهم لرتابتها فيهم بفقدها في غيرهم. فساعة أن يرى مبصرٌ مكفوفاً يسير بعكاز، يفطن إلى نعمة البصر التي وهبها له الله فيشعر بنعمة الله عليه. إن الشذوذ في الخلق هو نماذج إيضاحية تلفت الناس إلى نعم الله التي أنعم الله عليهم بها.


هذه المُثُل في الكون تلفت الناس إلى نعم الله فيهم، ولذلك تجدها أمامك، وأيضا كي لا تستدرك على خالقك، ولا تقل ما ذنب هذا الإنسان أن يكون مخلوقاً هكذا؟ فهو سبحانه سيعوضه في ناحية أخرى؛ فقد يعطيه عبقرية تفوق إمكانات المبصر.


ونضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى عن الذي ساح في الدنيا (تيمور لنك الأعرج) وهو القائد الذي أذهل الدنيا شجاعة، إن الله قد أعطاه موهبة التخطيط والقتال تعويضاً له عن العرج. ونحن نجد العبقريات تتفجر في الشواذ غالباً، لماذا؟ لأن الله يجعل للعاجز عجزاً معيناً همة تحاول أن تعوض ما افتقده في شيء آخر، فيأتي النبوغ. إذن ف {هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ} وكل تصوير له حكمة. ومادام كل تصوير له حكمة فكل خلق الله جميل.


عليك ألاّ تأخذ الخلق مفصولاً عن حكمة خالقه، بل خُذ كل خلق مع حكمته. إن الذي يجعلك تقول: هذا قبيح، إنك تفصل المخلوق عن حكمته، ومثال ذلك: التلميذ الذي يرسب قد يحزن والده، ولكن لماذا يأخذ الرسوب بعيداً عن حكمته؟ لقد رسب حتى يتعلم معنى الجدية في الاستذكار، فلو نجح مع لعبه ماذا سيحدث؟ كل أقرانه الذين عرفوا أنه لعب ونجح سيلعبون ويقولون: هذا لعب ونجح.. إذن فلابد أن تأخذ كل عمل ومعه حكمة وجوده.

كذلك لا تأخذ العقوبة منفصلة عن الجريمة، فكل عقوبة علينا أن نأخذها ملتصقة بجريمتها، فساعة ترى واحداً مثلاً سيحكمون عليه بالإعدام تأخذك الرحمة به وتحزن، هنا نقول لك: أنت فصلت إعدامه عن القتل الذي ارتكبه سابقاً، إنما لو استحضرت جريمته لوجدته يُقتَلُ عدالة وقصاصاً فقد قُتُل غيره ظلماً، فلا تبعد هذه عن هذه.


{هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ}
ومعنى {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} أي سيُصوِّر وهو عالم أن ما يصوِّره سيكون على هذه الصورة؛ لأنه لا يوجد إله آخر يقول له: هذه لا تعجبني وسأصور صورة أخرى، لا؛ لأن الذي يفعل ذلك عزيز، أي لا يغلب على أمر، وكل ما يريده يحدث وكل أمر عنده لحكمة، لأنه عندما يقول: {يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام} قد يقول أحد من الناس: إن هناك صوراً شاذة وصوراً غير طبيعية. وهو سبحانه يقول لك: أنا حكيم، وأفعلها لحكمة فلا تفصل الحدث عن حكمته، خذ الحدث بحكمته، وإذا أردت الحدث بحكمته تجده الجمال عينه، وهو سبحانه المصور في الرحم كيف يشاء، هذا من ناحية مادته.



وهو سبحانه يوضح: فلن يترك المادة هكذا بل سيجعل لهذه المادة قيما كي تنسجم حركة الوجود مع بعضها يقول سبحانه: {هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ...}.

https://media.gemini.media/img/large..._53_37_416.jpg

{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}..[آل عمران : 7].

إذن فبعدما صورنا في الأرحام كيف يشاء على مُقتضى حكمته لن يترك الصور بدون منهج للقيم، بل صنع منهج القيم بأن أنزل القرآن وفيه منهج القيم، ولابد أن نأخذ الشيء بجوار الحكمة منه، وإذا أخذنا الشيء بجوار الحكمة منه يوجد كل أمر مستقيما كله جميل وكله خير. فيقول سبحانه: {هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ}.


ماذا يعني الحق بقول:{آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ}؟
إن الشيء المحكم هو الذي لا يتسرب إليه خلل ولا فساد في الفهم؛ لأنه محكم، وهذه الآيات المحكمة هي النصوص التي لا يختلف فيها الناس، فعندما يقول: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا}.. [المائدة : 38].

هذه آية تتضمن حُكما واضحا. وهو سبحانه يقول: {الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا}.. [النور : 2].
هذه أيضا أمور واضحة، هذا هو المُحكم من الآيات، فالمُحكم هو ما لا تختلف فيه الأفهام؛ لأن النص فيه واضح وصريح لا يحتمل سواه، و(المُتشابه) هو الذي نتعب في فهم المراد منه، ومادمنا سنتعب في فهم المراد منه فلماذا أنزله؟

ويوضح لنا سبحانه كما قلت لك خذ الشيء مع حكمته كي تعرف لماذا نزل؟
فالمُحْكم جاء للأحكام المطلوبة من الخلق، أي افعل كذا، ولا تفعل كذا، ومادامت أفعالا مطلوبة من الخلق فالذي فعلها يُثاب عليها، والذي لم يفعلها يُعاقب، إذن فسيترتب عليها ثواب وعقاب، فيأتي بها صورة واضحة، وإلا لقال واحد: (أنا لم أفهم)، إن الأحكام تقول لك: (افعل كذا ولا تفعل كذا) فهي حين تقول: (افعل)؛ أنت صالح ألا تفعل، فلو كنت مخلوقاً على أنك تفعل فقط؛ لا يقول لك: افعل، لكن لأنك صالح أن تفعل وألا تفعل فهو يقول لك: (افعل).

وساعة يقول لك: (لا تفعل)، فأنت صالح أن تفعل، فلا يقال: (افعل ولا تفعل) إلاّ لأنه خلق فيك صلاحية أن تفعل أو لا تفعل، ونلحظ أنه حين يقول لي: افعل كذا ولا تفعل كذا يريد أن أقف أمام شهوة نفسي في الفعل والترك، ولذلك يقول الحق في الصلاة: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين}.. [البقرة : 45].
فعندما يقول لي: (افعل ولا تفعل) معناها: أن فيه أشياء تكون ثقيلة أن أفعلها، وأن شيئا ثقيلا علي أن أتركه، فمثلا البصر خلقه الله صالحا لأن يرى كل ما في حيِّزه. على حسب قانون الضوء، والحق يقول له: {قُلِ انظروا مَاذَا فِي السماوات والأرض}.. [يونس : 101].
ولكن عند المرأة التي لا يحل لك النظر إليها يقول الحق: اغضض.
{قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذلك أزكى لَهُمْ إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ}.. [النور : 30-31].
ومعنى {يَغُضُّواْ} و{يَغْضُضْنَ} أنه سبحانه حدد حركة العين، ومثال آخر؛ اليد تتحرك فيأمرك سبحانه ألاّ تحركها إلا في مأمور به، فلا تضرب بها أحداً، ولا تشعل بها ناراً تحرق وتفسد بل أشعل بها النار لتطبخ مثلاً.
إذن فهو سبحانه يأتي في (افعل ولا تفعل) ويحدد شهوات النفس في الفعل أو الترك، فإن كانت شهوة النفس بأنها تنام، يقول الأمر التعبدي: قم وصل، وإن كانت شهوة النفس بأنها تغضب يقول الأمر الإيماني: لا تغضب.

إذن فالحكم إنما جاء بافعل ولا تفعل لتحديد حركة الإنسان، فقد يريد أن يفعل فعلاً ضاراً؛ فيقول له: لا تفعل، وقد يريد ألاّ يفعل فعل خير يقول له: افعل. إذن فكل حركات الإنسان محكومة ب (افعل ولا تفعل)، وعقلك وسيلة من وسائل الإدراك، مثل العين والأذن واللسان. إن مهمة العقل أن يدرك، فتكليفه يدعوه إلى أن يفهم أمراً ولا يفهم أمرا آخر، وجعل الله الآيات المحكمات ليريح العقل من مهمة البحث عن حكمة الأمر المحكم؛ لأنها قد تعلو الإدراك البشري. ويريد الحق أن يلزم العبد آداب الطاعة حتى في الشيء الذي لا تدرك حكمة تشريعه، وأيضا لتحرك عقلك لترد كل المتشابه إلى المحكم من الآيات. وإذا قرأنا قول الحق: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار وَهُوَ اللطيف الخبير}.. [الأنعام : 103].

نرى أن ذلك كلام عام. وفي آية أخرى يقول سبحانه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}.. [القيامة : 22-23].
ويتكلم عن الكفار فيقول: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ}.. [المطففين : 15].
إذن فالعقل ينشغل بقوله: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار}، وهذا يحدث في الدنيا، أما في الآخرة فسيكون الإنسان قد تم إعداده إعداداً آخر ليرى الله، نحن الآن في هذه الدنيا بالطريقة التي أعدنا بها الله لنحيا في هذا العالم لا نستطيع أن نرى الله، ومسألة إعداد شيء ليمارس مهمة ليس مؤهلا ولا مهيأ لها الآن، أمر موجود في دنيانا، فنحن نعرف أن إنسانا أعمى يتم إجراء جراحة له أو يتم صناعة نظارة طبية له فيرى. ومن لا يسمع أو ثقيل السمع نصنع له سماعة فيسمع بها.
فإذا كان البشر قد استطاعوا أن يُعِدُّوا بمقدوراتهم في الكون المادي أشياء لتؤهلهم إلى استعادة حاسة ما، فما بالنا بالخالق الأكرم الإله المُربّي، ألا يستطيع أن يعيد خلقنا في الآخرة بطريقة تتيح لنا أن نرى ذاته ووجهه؟! إنه القادر على كل شيء.

إذن فالأمر هنا متشابه، إن الله يُدرَك بضم الياء وفتح الراء أو لا يُدْرَك، فما الذي تغير من الأحكام بالنسبة لك؟ لا شيء. إذن فهذه الآيات المتشابهات لم تأتِ من أجل الأحكام، إنما هي قد جاءت من أجل الإيمان فقط، ولذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم ينهي كل خلاف للعلماء حول هذه المسألة بقوله وهو الرسول الخاتم: «إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه منه فآمنوا به».


إن المُتشَابه من الآيات قد جاء للإيمان به
والمُحْكَم من الآيات إنما جاء للعمل به
والمؤمن عليه دائما أن يرد المُتشَابِه إلى المُحْكَم.

مثال ذلك
عندما نسمع قول الله عز وجل: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ وَمَنْ أوفى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ الله فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً}.. [الفتح : 10].

إن الإنسان قد يتساءل: (هل لله يد)؟ على الإنسان أن يرد ذلك إلى نطاق {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. وعندما يسمع المؤمن قول الحق: {الرحمن عَلَى العرش استوى}... [طه : 5].
فهل لله جسم يستقر به على عرش؟ هنا نقول: هذا هو المُتشَابِه الذي يجب على المؤمن الإيمان به، ذلك أن وجودك أيها الإنسان ليس كوجود الله، ويدك ليست كيد الله وأن استواءك أيضا ليس كاستواء الله. ومادام وجوده سبحانه ليس كوجودك وحياته ليست كحياتك فلماذا تريد أن تكون يده كيدك؟
هو كما قال عن نفسه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. ولماذا أدخلنا الله إلى تلك المجالات؟ لأن الله يريد أن يُلفت خلقه إلى أشياء قد لا تستقيم في العقول؛ فمن يتسع ظنه إلى أن يؤول ويردها إلى المُحْكَم بأن الله ليس كمثله شيء. فله ذلك، ومن يتسع ظنه ويقول: أنا آمنت بأن لله يداً ولكن في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فله ذلك أيضا وهذا أسلم.

والحق يقول:
{مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب}
ومعنى {أُمُّ} أي الأصل الذي يجب أن ينتهي إليه تأويل المُتشَابه إن أوّلت فيه، أو تُرجعه إلى المُحكم فتقول: إن لله يداً، ولكن ليست كأيدي البشر. إنما تدخل في نطاق: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.. [الشورى : 11].

ولماذا قال الحق: {هُنَّ أُمُّ الكتاب}؟ ولم يقل: هن أمهات الكتاب؟ لك أن تعرف أيها المؤمن أنه ليس كل واحدة منهن أما، ولكن مجموعها هو الأم، ولتوضيح ذلك فلنسمع قول الحق: {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَآ إلى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ}.. [المؤمنون : 50].
لم يقل الحق: إنهما آيتان؛ لأن عيسى عليه السلام لم يوجد كآية إلا بميلاده من أمه دون أب أي بضميمة أمه، وأم عيسى لم تكن آية إلا بميلاد عيسى أي بضميمة عيسى. إذن فهما معاً يكونان الآية، وكذلك {هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} فالمقصود بها ليس كل محكم أُمّا للكتاب، إنما المحكمات كلها هي الأم، والأصل الذي يَرُدُّ إليه المؤمن أيَّ متشابهٍ. ومهمة المحكم أن نعمل به، ومهمة المتشابه أن نؤمن به؛ بدليل أنك إن تصورته على أي وجه لا يؤثر في عملك.
فقوله الحق: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} لا يترتب عليه أي حكم، هنا يكفي الإيمان فقط.

لكن ماذا من أمر الذين قال عنهم الله: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة وابتغاء تَأْوِيلِهِ}؟. ولنا أن نعرف أن (الزيغ) هو الميْل، فزاغ يعني مال، وهي مأخوذة من تزايغ الأسنان، أي اختلاف منابتها، فسنَّةٌ تظهر داخلة، وأخرى خارجة، وعندما لا تستقيم الأسنان في طريقة نموها يصنعون لها الآن عمليات تجميل وتقويم ليجعلوها صفاً واحداً.


إن الذين في قلوبهم زيغ أي ميل، يتبعون ما تشابه من الآيات ابتغاء الفتنة. كأن الزيغ أمر طارئ على القلوب، وليس الأصل أن يكون في القلوب زيغ، فالفطرة السليمة لا زيغ فيها، لكن الأهواء هي التي تجعل القلب تزيع، ويكون الإنسان عارفاً لحكم الله الصحيح في أمر ما، لكن هوى الإنسان يغلب فيميل الإنسان عن حكم الله. والميل صنعة القلب، فالإنسان قد يخضع منطقه وفكره ليخدم ميل قلبه.
ولذلك فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به».

لماذا؟
لأن آفة الرأي الهوى، وحتى المنحرفون يعرفون القصد السليم، لكن الواحد منهم ينحرف لما يهوى، ودليل معرفة المنحرف للقصد السليم أنه بعد أن يأخذ شرّته في الانحراف يتوب ويعلن توبته، وهذا أمر معروف في كثير من الأحيان؛ لأن الميل تَكَلَّفٌ تبريري، أما القصد السليم فأمر فطري لا يُرهِق، ومثال ذلك: عندما ينظر الإنسان إلى حلاله، فإنه لا يجد انفعال ملكة يناقض انفعال ملكة أخرى، ولكن عندما ينظر إلى واحدة ليست زوجته، فان ملكاته تتعارك، ويتساءل: هل ستقبل منه النظرة أم لا؟ إن ملكاته تتضارب، أما النظر إلى الحلال فالملكات لا تتعب فيه. لذلك فالإيمان هو اطمئنان ملكات، فكل ملكات الإنسان تتآزر في تكامل، فلا تسرق ملكة من وراء أخرى.

مثال آخر: عندما يذهب واحد لإحضار شيء من منزله، فإنه لا يحس بتضارب ملكاته، أما إذا ذهب إنسان آخر لسرقة هذا الشيء فإن ملكاته تتضارب، وكذلك جوارحه؛ لأنها خالفت منطق الحق والاستقامة والواقع.

{فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة وابتغاء تَأْوِيلِهِ} إذن فاتباعهم للمتشابه منه ليؤوّلوه تأويلاً يخالف الواقع ليخدموا الزيغ الذي في قلوبهم. فالميل موجود عند قلوبهم أولاً ثم بدأ الفكر يخضع للميل، والعبارة تخضع للفكر، وهكذا نرى أن الأصل في الميل قد جاء منهم..

ولننظر إلى أداء القرآن الكريم حين يقول: {فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ}.. [الصف : 5].

كأنه يقول: مادمتم تريدون الميل فسأميلكم اكثر وأساعدكم فيه. والحق سبحانه لا يبدأ إنساناً بأمر يناقض تكليفه، لكن الإنسان قد يميله هواه إلى الزيغ، فيتخلى الله عنه: ويدفعه إلى هاوية الزيغ.
وآية أخرى يقول فيها الحق: {وَإِذَا ما أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصرفوا صَرَفَ الله قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ}.. [التوبة : 127].
إنهم الذين بدأوا؛ انصرفوا عن الله فصرف الله قلوبهم بعيداً عن الإيمان. وكذلك الذين يتبعون المتشابه يبتغون به الفتنة أي يطلبون الفتنة، ويريدون بذلك فتنة عقول الذين لا يفهمون، وما داموا يريدون فتنة عقول من لا يفهمون فهم ضد المنهج، وما داموا ضد المنهج فهم ليسوا مؤمنين إذن، وماداموا غير مؤمنين فلن يهديهم الله إلى الخير، لأن الإيمان يطلب من الإنسان أن يتجه فقط إلى الإيمان بالرب الإله الحكيم، ثم تأتي المعونة بعد ذلك من الله. لكن عندما لا يكون مؤمنا فكيف يطلب المعونة من الله، إنه سبحانه يقول: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك».
إنهم يبتغون الفتنة بالمتشابه، ويبتغون تأويله، ومعنى التأويل هو الرجوع، لأننا نقول: (آل الشيء إلى كذا) أي رجع الشيء إلى كذا، فكأن شيئاً يرجع إلى شيء، فمن لهم عقل لا زيغ فيه يحاولون جاهدين أن يؤولوا المُتشَابه ويردوه إلى المُحكم، أو يؤمنوا به كما هو.

يقول الحق بعد ذلك:
{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله}
إن الله لو أراد للمتشابه أن يكون محكما، لجاء به من المُحكَم، إذن فإرادة الله أن تكون هناك آيات المتشابه ومهمتها أن تحرك العقول، وذلك حتى لا تأتي الأمور بمنتهى الرتابة التي يجمد بها عقل الإنسان عن التفكير والإبداع، والله يريد للعقل أن يتحرك وأن يفكر ويستنبط. وعندما يتحرك العقل في الاستنباط تتكون عند الإنسان الرياضة على الابتكار، والرياضة على البحث، وليجرب كل واحد منا أن يستنبط المتشابه إلى المحكم ولسوف يمتلك بالرياضة ناصية الابتكار والبحث، والحاجة هي التي تفتق الحيلة.


إن الحق يريد أن يعطي الإنسان دربة حتى لا يأخذ المسألة برتابة بليدة ويتناولها تناول الخامل ويأخذها من الطريق الأسهل، بل عليه أن يستقبلها باستقبالٍ واع وبفكر وتدبر. {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ}.. [محمد : 24].
كل ذلك حتى يأخذ العقل القدر الكافي من النشاط ليستقبل العقل العقائد بما يريده الله، ويستقبل الأحكام بما يريده الله، فيريد منك في العقائد أن تؤمن، وفي الأحكام أن تفعل {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله}. والذين في قلوبهم زيغ يحاولون التأويل وتحكمهم أهواؤهم، فلا يصلون إلى الحقيقة. والتأويل الحقيقي لا يعلمه إلا الله.
قد رأينا من يريد أن يعيب على واحد بعض تصرفاته فقال له: يا أخي أتَدّعي أنك أحطت بكل علم الله؟ فقال له: لا. قال له: أنا من الذي لا تعلم. وكأنه يرجوه أن ينصرف عنه.

والعلماء لهم وقفات عند قوله الحق: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله}:
بعضهم يقف عندها ويعتبر ما جاء من بعد ذلك وهو قوله الحق: {والراسخون فِي العلم} كلاماً مستأنفاً، إنهم يقولون: إن الله وحده الذي يعلم تأويل المتشابه، والمعنى: {والراسخون فِي العلم} أي الثابتون في العلم، الذين لا تغويهم الأهواء، إنهم: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} وهو ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، إن الراسخين في العلم يقولون: إن المحكم من الآيات سيعلمون به، والمتشابه يؤمنون به، وكل من المتشابه والمحكم من عند الله.

أمّا مَن عطف وقرأ القول الحكيم ووقف عند قوله: {والراسخون فِي العلم} نقول له: إن الراسخين في العلم علموا تأويل المتشابه، وكان نتيجة علمهم قولهم: {آمَنَّا بِهِ}.
إن الأمرين متساويان، سواء وقفت عند حد علم الله للتأويل أو لم تقف. فالمعنى ينتهي إلى شيء واحد. وحيثية الحكم الإيماني للراسخين في العلم هي قوله الحق على لسانهم: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} فالمحكم من عند ربنا، والمتشابه من عند ربنا، وله حكمة في ذلك؛ لأنه ساعة أن يأمر الأعلى الأدنى بأمر ويبين له علته فيفهم الأدنى ويعمل، وبعد ذلك يلقي الأعلى الأمر آخر ولا يبين علته، فواحد ينفذ الأمر وإن لم يعرف العلة، وواحد آخر يقول: لا، عليك أن توضح لي العلة. فهل الذي آمن آمن بالأمر أو بالعلة؟

إن الحق يريد أن نؤمن به وهو الآمر، ولو أن كل شيء صار مفهوماً لما صارت هناك قيمة للإيمان. إنما عظمة الإيمان في تنفيذ بعض الأحكام وحكمتُها غائبة عنك؛ لأنك إن قمت بكل شيء وأنت تفهم حكمته فأنت مؤمن بالحكمة، ولست مؤمناً بمن أصدر الأمر.

وعندما نأتي إلى لحم الخنزير الذي حرمه الله من أربعة عشر قرناً، ويظهر في العصر الحديث أن في أكل لحم الخنزير مضار، ويمتنع الناس عن أكله لأن فيه مضار، فهل امتناع هؤلاء أمر يثابون عليه؟ طبعاً لا، لكن الثواب يكون لمن امتنع عن أكل لحم الخنزير لأن الله قد حرمه؛ ولأن الأمر قد صدر من الله، حتى دون أن يَعْرِّفنا الحكمة، إن المؤمن بالله يقول: إن الله قد خلقني ولا يمكن وهو الخالق أن يخدعني وأنا العبد الخاضع لمشيئته.

إن العبد الممتنع عن أكل لحم الخنزير وشرب الخمر امتثالاً لأمر الله، هو الذي ينال الثواب، أما الذي يمتنع خوفاً من اهتراء الكبد أو الإصابة بالمرض فلا ثواب له. وهناك فرق بين الذهاب إلى الحكم بالعلة. وبين الذهاب إلى الحكم بالطاعة للآمر بالحكم.

إذن فالمتشابه من الآيات نزل للإيمان به، والراسخون في العلم يقابلهم من تلويهم الأهواء، والأهواء تلوي إلى مرادات النفس وإلى ابتغاءات غير الحق. ومادامت ابتغاءات غير الحق، فغير الحق هو الباطل، فكل واحد من أهل الباطل يحاول أن يأتي بشيء يتفق مع هواه.

ولذلك جاء التشريع من الله ليعصم الناس من الأهواء؛ لأن هوى إنسان ما قد يناقض هوى إنسان آخر، والباقون من الناس قد يكون لهم هوى يناقض بقية الأهواء. والحق سبحانه يقول: {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ}.. [المؤمنون : 71].

إذن فلابد أن نتبع في حركتنا ما لا هوى له إلا الحق، والدين إنما جاء ليعصمنا من الأهواء؛ فالأهواء هي التي تميلنا، والذي يدل على أن الأهواء هي التي تميل إلى غير الحق أن صاحب الهوى يهوى حكماً في شيء، ثم تأتي ظروف أخرى تجعله يهوى حكماً مقابلاً، إنه يلوي المسألة على حسب هواه، وإلا فما الذي ألجأ دنيا الناس إلى أن يخرجوا من قانون السماء الأول الذي حكم الأرض عند آدم عليه السلام؟

لقد خرجوا من قانون السماء حينما قام قوم بأمر الدين فأخذوا لهم من هذا سلطة زمنية، وأصبحوا يُخضعون المسائل إلى أهوائهم.

ونحن إذا نظرنا إلى تاريخ القانون في العالم لوجدنا أن أصل الحكم في القضايا إنما هو لرجال الدين والكهنة والقائمين على أمر المعابد. كان الحكم كله لهم، لأن هؤلاء كانوا هم المتكلمين بمنهج الله.

ولماذا لم يستمر هذا الأمر، وجاءت القوانين الرومانية والإنجليزية والفرنسية وغيرها؟ لأنهم جربوا على القائمين بأمر الدين أنهم خرجوا عن نطاق التوجيه السماوي إلى خدمة أهوائهم، فلاحظ الناس أن هؤلاء الكهنة يحكمون في قضية بحكم ما يختلف عن حكم آخر في قضية متشابهة. إنهم القضاة أنفسهم والقضايا متشابهة متماثلة، لكن حكم الهوى يختلف من قضية إلى أخرى، بل وقد يتناقض مع الحكم الأول، فقال الناس عن هؤلاء الكهنة: لقد خرجوا عن منطق الدين واتبعوا أهواءهم، ليثبتوا لهم سلطة زمنية، فنحن لم نعد نأمنهم على ذلك. وخرج التقنين والحكم من يد الكهنة ورجال الدين إلى غيرهم من رجال التقنين. لقد كان أمر القضاء بين الكهنة ورجال الدين؛ لأن الناس افترضت فيهم أنهم يأخذون الأحكام من منهج الله، فلما تبين للناس أن الكهنة ورجال الدين لا يأخذون الحكم من منهج الله، ولكن من الهوى البشري، عند ذلك أخذ الناس زمام التقنين لأنفسهم بما يضمن لهم عدالة ما حتى ولو كانت قاصرة.

وبمناسبة كلمة الهوى نجد أن هناك ثلاثة ألفاظ:

أولا: الهواء هو ما بين السماء والأرض، ويراد به الريح ويحرك الأشياء ويميلها وجمعه: الأهوية وهذا أمر حسي.
ثانيا: الهوَى: وهو ميل النفس، وجمعه: الأهواء، وهو مأخوذ من هَوِىَ يَهْوَى بمعنى مال.

ثالثا: الهَوىّ: بفتح الهاء وضمها وتشديد الياء وهو السقوط مأخوذ من هَوَى يَهْوي: بمعنى سقط. وهذا يدل على أن الذي يتبع هواه لابد أن يسقط، والاشتقاقات اللغوية تعطي هذه المعاني.
إنها متلاقية.

إذن الراسخون في العلم يقفون ثابتين عند منهج الله. وأما الذين يتبعون أهواءهم فهم يميلون على حسب ميل الريح. فإن الريح مالت، مالوا حيث تميل.

ويقول الراسخون في العلم في نهاية علمهم: آمنا {والراسخون فِي العلم يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا}. وهنا تلتقي المسألة، فنحن نعرف أن المحكم نزل للعمل به، والمشابه نزل للإيمان به لحكمة يريدها الله سبحانه وتعالى، وهي أن نأخذ الأمر من الآمر لا لحكمة الأمر. وعندما نأخذ الأوامر من الحق فلا نسأل عن علتها؛ لأننا نأخذها من خالق محب حكيم عادل. والإنسان إن لم ينفذ الأمر القادم من الله إلا إذا علم علته وحكمته فإننا نقول لهذا الإنسان: أنت لا تؤمن بالله ولكنك تؤمن بالعلة والحكمة، والمؤمن الحق هو من يؤمن بالأمر وإن لم يفهم.
والراسخون في العلم يقولون: آمنا به، كل من عند الله، المحكم من عند ربنا والمتشابه من عند ربنا: ويضيف سبحانه: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب} و{أُوْلُواْ الألباب} أي أصحاب العقول المحفوظة من الهوى، لأن آفة الرأي الهوى، والهوى يتمايل به. {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب} و(اللب) هو: العقل، يخبرنا الله أن العقل يحكم لُبّ الأشياء لا ظواهر الأشياء وعوارضها، فهناك أحكام تأتي للأمر الظاهر، وأحكام للُبّ.

الحق يأمر بقطع يد السارق. وبعد ذلك يأتي من يمثل دور حامي الإنسانية والرحمة
ويقول: (هذه وحشية وقسوة)!

هذا ظاهر الفهم، إنما لُبّ الفهم أني أردت أن تُقطع يد السارق حتى أمنعه أن يسرق؛ لأن كل واحد يخاف على ذاته، فيمنعه ذلك أن يسرق. وقد قلنا من قبل إن حادثة سيارة قد ينتج عنها مشوهون قدر مِنْ قطعت أيديهم بسبب السرقة في تاريخ الإسلام كله، فلا تفتعل وتدعي أنك رحيم ولا تنظر إلى العقاب حين ينزل بالمذنب، ولكن انظر إلى الجريمة حين تقع منه، فإن الله يريد أن يحمي حركة الحياة للناس بحيث إذا علمت وكددت واجتهدت وعرقت يضمن الله لك حصيلة هذا العمل، فلا يأتي متسلط يتسلط عليك ليأخذ دمه من عرقك أنت.

إذن فهو يحمي حركة الحياة وتحرك كل واحد وهو آمن، هذا (لُبّ) الفهم، ولذلك يقول تعالى: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ}، إياكم أن تقولوا: إن هذا القصاص اعتداء على حياة فرد. لا، لأن {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ} إنّ من علم إنه إن قَتل فسيقتل، سيمتنع عن القتل، إذن فقد حمينا نفسه وحمينا الناس منه، وهكذا يكون في القصاص حياة، وذلك هو لُبّ الفهم في الأشياء؛ فالله سبحانه وتعالى يلفتنا وينبهنا ألا نأخذ الأمور بظواهرها، بل نأخذها بلبها، وندع القشور التي يحتكم إليها أناس يريدون أن ينفلتوا من حكم الله. و{والراسخون فِي العلم} حينما فَصلوا في أمر المتشابه دعوا الله بالقول الذي أنزله سبحانه: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوهاب}


المصدر: موقع نداء الإيمان


امانى يسرى محمد 27-05-2021 09:24 PM

رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة ال عمران)
 



https://akhawat.islamway.net/forum/u...6fe0d8851.jpeg


{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}.. [آل عمران : 8].


فكأن قول الراسخين في العلم: إن كل محكم وكل متشابه هو من عند الله، والمحكم نعمل به، والمتشابه نؤمن به، فهذه هي الهداية؛ ثم يكون الدعاء بالثبات على هذه الهداية، والمعنى: يا رب ثبتنا على عبادتك ولا تجعل قلوبنا تميل أو تزيع. وهذا يدلنا على أن القلوب تتحول وتتغير؛ لذلك يأتي القول الفصل بالدعاء على الثبات الإيماني: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوهاب}.. [آل عمران: 8].



إنهم يطلبون رحمة هبة لا رحمة حق، فليس هناك مخلوق له حق على الله إلا ما وهبه الله له. والراسخون في العلم يطلبون من الله الرحمة من الوقوع في الهوى بعد أن هداهم الله إلى هذا الحكم السليم بأن المتشابه والمحكم كل من عند الله ويعلموننا كيف يكون الطريق إلى الهداية وطلب رحمة الهبة. والراسخ في العلم مادام قد علم شيئا فهو يريد أن يشيعه في الناس، لذلك يقول لنا: إياكم أن تظنوا أن المسألة مسألة فهم لنص وتنتهي، إن المسألة يترتب عليها أمر آخر، هذا الأمر الآخر لا يوجد في الدنيا فقط، فهناك آخرة، فالدنيا مقدور عليها لأنها محدودة الأمد ومنتهية، ولكن هناك الآخرة التي تأتي بعد الدنيا حيث الخلود، فيقول الحق على لسان الراسخين في العلم: {رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ...}.

https://media.gemini.media/img/large..._19_32_496.jpg



{رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}.. [آل عمران : 9].


وقولهم: {رَبَّنَآ} نفهم منه أنه الحق المتولي التربية، ومعنى التربية هو إيصال من تتم تربيته إلى الكمال المطلوب له، فهناك ربٌّ يربي، وهناك عبد تتم تربيته، والربُّ يعطي الإنسان ما يؤهله إلى الكمال المطلوب له.


والمؤمنون يرجون الله قائلين: يا رب من تمام تربيتك لنا أن تحمينا من عذاب الآخرة، فإذا ما عشنا الدنيا وانتهت فنحن نعلم أنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه، ومادمت ربا، ومادمت إلها فإنك لا تخلف الميعاد؛ فالذي يخلف الميعاد لا يكون إلها؛ لأن الإله ساعة الوعد يعلم بتمام قدرته وكمال علمه أنه قادر على الإنفاذ، إنما الذي ليس لديه قدرة على الإنفاذ لا يستطيع أن يعد إلا مشمولا بشيء يستند إليه، كقولنا نحن العباد: (إن شاء الله) لماذا؟ لأن الواحد منا لا يملك أن يفي بما وعد.


حينما تعرضنا إلى قول الحق سبحانه وتعالى: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً}.. [الكهف: 23-24].
قُلنا إياك أن تقول: إني سأفعل شيئا إلا أن تشتمله وتربطه بمشيئة الله؛ لأنك أنت إن وعدت، فأنت لا تضمن عمرك ولا إنفاذ وعدك، إنك لن تفعل شيئا إلا بإرادة الله، لذلك فلا تعد إلا بالمشيئة، لأنك تعد بما لا تضمن، فأنت في حقيقة الأمر لا تملك شيئا، فإن أردت فعل أي شيء أو الذهاب إلى أي مكان فالفعل يحتاج إلى فاعل ومفعول وزمان ومكان وسبب، ثم يحتاج إلى قدرة لتنفيذ الفعل. والإنسان لا يملك من هذه الأشياء إلا ما يشاء الله له أن يملكه. إن الإنسان لا يملك أن يظل فاعلا. والإنسان لا يملك إن وُجد الفاعل أن يوجد المفعول. والإنسان لا يملك الزمن، ولا يملك المكان، بل لا يملك الإنسان أن يظل السبب قائما ليفعل ما كان يريد أن يفعله؛ فكل هذه العناصر، الفاعل والمفعول، والزمان، والمكان، والسبب، لا يملكها إلا الله. لذلك فليحم الإنسان نفسه من أن يكون كاذبا ومجازفا وليكن في ظل قوله تعالى: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً}.. [الكهف: 23-24].
إن كلمة {إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} تعصم الإنسان من أن يكون كاذبا. وعندما لا يحدث الذي يعد به الإنسان فمعنى ذلك أن الله لم يشأ؛ لأن الإنسان لا يملك عنصراً واحداً من عناصر هذا الفعل.


وعندما يقول الحق: {رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} لأن الذي يخلف الميعاد إنما تمنعه قوة قاهرة تأتيه؛ ولو من تغير نفسه تمنعه أن يفعل، أما الله فلا تأتي قوة قاهرة لتغير ما يريد أن يفعل، ولا يمكن أن يتغير؛ لأن التغير ليس من صفات القديم الأزلي.


وحين يؤكد الحق أنه سيتم جمعنا بمشيئته في يوم لا ريب فيه، وأن الله لا يخلف الميعاد، فمن المؤكد أننا سنلتقي. وسنلتقي لماذا؟ لقد قال الراسخون في العلم: عملنا بالمحكم، وآمنا بالمتشابه، ودعوا الله أن يثبت قلوبهم على الهداية رحمة من عنده، وأن يبعد قلوبهم عن الزيغ؛ لأنهم خائفون من اليوم الذي سيجمع الله الناس فيه، إننا سنلتقي للحساب على أفعالنا وإيماننا. وبعد ذلك يقول الحق جل شأنه: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ الله شَيْئاً...}.


https://media.gemini.media/img/large..._27_47_699.jpg






{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ}.. [آل عمران : 10].



ساعة تسمع وأنت المؤمن، ويسمع معك الكافر، ويسمع معك المنافق: {رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} ربما فكر الكافر أو المنافق أن هناك شيئا قد ينقذه مما سيحدث في ذلك اليوم، كعزوة الأولاد، أو كثرة مال يشتري نفسه به، أو خلة، أو شفاعة، هنا يقول الحق لهم: لا، إن أولادكم وأموالكم لا تغني عنكم شيئا.


وفي اللغة يقال: هذا الشيء لا يغني فلاناً، أي أنه يظل محتاجاً إلى غيره؛ لأن الغِنَى هو ألا تحتاج إلى الغير، فالأموال والأولاد لا تُغني أحداً في يوم القيامة، والمسألة لا عزوة فيها، ولا أنساب بينهم يومئذ والجنة ليست للبيع، فلا أحد يستطيع شراء مكان في الجنة بمال يملكه.


وكان الكافرون على أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون ذلك القول الشاذ يقولون: مادام الله قد أعطانا أموالاً وأولاداً في الدنيا فلابد أن يعطينا في الآخرة ما هو أفضل من ذلك. ولذلك يقول الله لهم: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ الله شَيْئاً} إذن فالأمر كله مردود إلى الله. صحيح في هذه الدنيا أن الله قد يخلق الأسباب، والكافر تحكمه الأسباب، وكذلك المؤمن، فإذا ما أخذ الكافر بالأسباب فإنه يأخذ النتيجة، ولكن في الآخرة فالأمر يختلف؛ فلن يملك أحد أسباباً، ولذلك يقول الحق عن اليوم الآخر: {يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار}.. [غافر : 16].


إن البشر في الدنيا يملكون الأسباب، ويعيشون مختلفين في النعيم على اختلاف أسبابهم، واختلاف كدحهم في الحياة، واختلاف وجود ما يحقق للإنسان المُتع، لكن الأمر في الآخرة ليس فيه كدح ولا أسباب؛ لأن الإنسان المؤمن يعيش بالمُسبب في الآخرة وهو الله جلت قدرته فبمجرد أن يخطر الشيء على بال المؤمن في الجنة فإن الشيء يأتي له. أما الكفار فلا يغني عنهم مالهم ولا أولادهم، لأنهم انشغلوا في الدنيا بالمال والأولاد وكفروا بالله. {سَيَقُولُ لَكَ المخلفون مِنَ الأعراب شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فاستغفر لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ}.. [الفتح: 11].


إذن فما انشغل به الكفار في الدنيا لن ينفعهم، ويضيف الحق عن الكفار في تذييل الآية التي نحن بصددها: {وأولئك هُمْ وَقُودُ النار} إنهم المعَذبون، وسوف يتعذبون في النار. ولنر النكاية الشديدة بهم، إن الذين يُعَذَّبون هم الذي يُعَذَّبُون؛ لأنهم بأنفسهم سيكونون وقود النار. إن المعَذَّب بفتح العين وفتح الذال مع التشديد يكون هو المعَذِّب بفتح العين وكسر الذال مع التشديد-
فهذه ثورة الأبعاض. فذرّات الكافر مؤمنة، وذرات العاصي طائعة، والذي جعل هذه الذرات تتجه إلى فعل ما يُغضب الله هو إرادة صاحبها عليها.



وضربنا قديما المثل ولله المثل الأعلى وقلنا: هب أن كتيبة لها قائد فالمفروض في الكتيبة أن تسمع أمر القائد، وتقوم بتنفيذ ما أمر به؛ فإذا ما جاءوا للأمر والقائد الأعلى بعد ذلك فإنهم يرفعون أمرهم إليه ويقولون له: بحكم الأمر نفذنا العمل الذي صدر لنا من قائدنا المباشر وكنا غير موافقين على رأيه. وفي الحياة الإيمانية نجد القول الحكيم من الخالق: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.. [النور : 24].


فكان اللسان ينطق بكلمة الكفر وهو لاعِنٌ لصاحبه. واليد تتقدم إلى المعصية وهي كارهةٌ لصاحبها ولاعِنةٌ له، إن إرادة الله العليا هي التي جعلت للكافر إرادة على يده ولسانه في الدنيا، وينزع الله إرادة الكافر عن جوارحه يوم القيامة فتشهد عليه أنه أجبرها على فعل المعاصي، وتعذب الأبعاض بعضها، وعندما يقول الحق: {وأولئك هُمْ وَقُودُ النار} وهنا مسألة يجب أن نلتفت إليها ونأخذها من واقع التاريخ، هذه المسألة هي أن الذين كفروا برسالات الله في الأرض تلقوا بعض العذاب في الدنيا؛ لأن الله لا يدّخر كل العقاب للآخرة وإلا لشقي الناس بالكافرين وبالعاصين، ولذلك فإن الله يُعَجِّلُ بشيء من العقاب للكافرين والعاصين في هذه الدنيا.


ويقول الحق مثالاً على ذلك: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا...}.



المصدر: موقع نداء الإيمان

https://media.gemini.media/img/large..._11_23_802.jpg





الساعة الآن 06:33 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Content Relevant URLs by vBSEO 3.3.0 , Designed & TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة لمنتدى قصة الإسلام