منتدى قصة الإسلام

منتدى قصة الإسلام (http://forum.islamstory.com//index.php)
-   لغتنا العربية (http://forum.islamstory.com//forumdisplay.php?f=95)
-   -   تفسير الشيخ الشعراوى( سورة ال عمران) (http://forum.islamstory.com//showthread.php?t=131224)

امانى يسرى محمد 24-05-2021 07:43 PM

تفسير الشيخ الشعراوى( سورة ال عمران)
 

http://quranbysubject.com/quran/bin/...hotshort-1.jpg

تفسير الآية رقم (1):

{الم (1)}

جاءت أيضاً في سور أخرى، في سورة العنكبوت، وفي سورة الروم، ولقمان، والسجدة، وزاد عليها راءً في بعض السور، وزاد عليها صاداً في بعض السور (المص) و(المر) كل ذلك جاء تأكيداً للمعاني أو تأكيداً للسر الذي وضعه الله في هذه الحروف، وإن لم نكن ندرك ذلك السر.

والإنسان ينتفع بأسرار الأشياء التي وضعها من أوجد الأشياء وإن لم يعلم هذه الأشياء فهو منتفع بها، وضربنا المثل وقلنا: إن الريفي الذي ليس عنده ثقافة في الكهرباء، أيستفيد بالكهرباء أم لا؟ إنه يستفيد بها ويحرك زر المصباح لينيره أو ليطفئه، أهو يعلم سر ذلك؟ لا، لكنه إنما انتفع به، فكذلك المؤمن حين يقول: (ألف لام ميم)، يأخذ سرها من قائلها، فهمها أم لم يفهمها، إذن فالمسألة لا تحتاج إلى أن نفلسفها، صحيح أن العقل البشري يحول حول شيء ليستأنس به، ولكن عطاء الله وحكمة العطاء فوق ما يستأنس به وفوق ما نستوحش منه.

وقول الحق سبحانه في ختام سورة البقرة: {فانصرنا عَلَى القوم الكافرين}
يناسب أيضاً سورة آل عمران،
لماذا؟

لأن الإسلام سيأتي ليواجه معسكر كفر ومعسكر أهل الكتاب، فحتى لا تتشقق دعوة الله التي صدرت عن الله بمواكب الرسل جميعاً الذين سبقوا محمداً صلى الله عليه وسلم وأن هذا جاء ليناقض شيئاً منه، إنه قد جاء ليعزز دعوة الله، ولتكون هذه الأمم التي تبعت هذه الديانات في صف الإسلام. ولذلك حينما أنكر العرب رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله لهم: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} أي أن من عنده علم الكتاب يشهد أنك رسول الله. {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} [الرعد: 43].
فكان المفروض في أهل الكتاب أنهم حينما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكونوا هم أول المؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه جاء ليؤكد موكب الإيمان ويأتي لهم بسورة يسميها آل عمران حتى يعلم الجميع أنك يا محمد لم تأتي لتهدم ديانة عيسى، ولكن لتبقى ديانة عيسى ولتؤيد ديانة عيسى، فإن كنتم يا من آمنتم بعيسى مؤمنين بعيسى فاهرعوا حالاً إلى الإيمان بمحمد؛ فقد سماها الله آل عمران، وجعل لهم سورة في القرآن.

إن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لم تأت للعصبية، أو لتمحو ما قبلها كما تأتي عصبيات البشر حين يأتي قوم على أنقاض قوم، ويهدمون كل ما يتصل بهؤلاء القوم حتى التاريخ يمحونه، والأشياء يمسخونها؛ لأنهم يريدون أن ينشئوا تاريخاً جديداً. لا إن هذا القرآن يريد أن يصوب التاريخ، فيأتي بسورة اسمها (آل عمران) وذلك تكريم عال لهذه الديانة ولتابعيها.
وبعد ذلك يأتي الحق فيستهلها: بقوله جل شأنه: {الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم}


https://media.gemini.media/img/large...2_13_2_811.jpg


.تفسير الآية رقم (2):

{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)}

تلك هي قضية القمة، ولذلك يتكرر في القرآن التأكيد على هذه القضية،
{الله لا إله إِلاَّ هُوَ}.
و{الله} كما يقولون مبتدأ، و{لا إله إِلاَّ هُوَ} خبر، والمبتدأ لابد أن يكون متضحاً في الذهن، فكأن كلمة {الله} متضحة في الذهن، ولكنه يريد أن يعطي لفظ {الله} الوصف الذي يليق به وهو {لا إله إِلاَّ هُوَ}. ولذلك يقول الحق: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض وَسَخَّرَ الشمس والقمر لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت: 61].

إذن فالله متضح في أذهانهم، ولكن السلطات الزمنية أرادت أن تطمس هذا الإيضاح، فجاء القرآن ليزيل ويمحو هذا الطمس مؤكدا {الله لا إله إِلاَّ هُوَ} فهذه قضية أطلقها الحق شهادة منه لنفسه: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} [آل عمران: 18].
وكفى بالله شهيداً؛ لأنها شهادة الذات للذات، وشهدت الملائكة شهادة المشهد فلم يروا أحداً آخر إلا هو، وكذلك، شهد أولو العلم الذين يأخذون من الأدلة في الكون ما يثبت صدق الملائكة ويؤكد صدق الله، فإذا ما نظرنا نظرة أخرى نقول: إن الحق أطلقها على نفسه وقال: {لا إله إِلاَّ هُوَ}؛ وجعلها كلمة التوحيد وجعل الأمر في غاية اليسر والسهولة والبساطة؛ فلم يشأ الله أن يجعل دليل الإيمان بالقوة العليا دليلاً معقداً، أو دليلاً فلسفياً، أو لا يستطيع أحد أن يصل إليه إلا أهل الثقافة العالية، لا، إن الدين مطلب للجميع؛ من راعي الشاة إلى الفيلسوف؛ إنه مطلوب للذي يكنس في الشارع كما هو مطلوب من الأستاذ الجامعي.

فيجب أن تكون قضية الإيمان في مستوى هذه العقول جميعاً؛ فلا فلسفة في هذه المسألة، لذلك شاء الحق أن يجعل هذه المسألة في منتهى البساطة فأوضح الله: أنا شهدت ألا إله إلا أنا، فإما أن يكون الأمر صدقاً وبذلك تنتهي المشكلة، وليس من حق أحد الاعتراض، وإن لم تكون صدقاً فقولوا لنا: أين الإله الآخر الذي سمع التحدي، وأخذ الله منه ذلك الكون، وقال: أنا وحدي في الكون، وأنا الذي خلقت، ثم لم نسمع رداً عليه ولا عن معارض له، ألم يدر ذلك الإله الآخر؟
إذن فذلك الآخر لا ينفع أن يكون إلهاً، فإن علم ذلك الآخر ولم يدافع عن نفسه وملكيته للكون فإنه لا يصلح أن يكون إلهاً. وتصبح القضية لله إلى أن يظهر مدع ليناقضها، ف {لا إله إِلاَّ هُوَ} كلمة حق، وبالعقل والمنطق هو إله ولم نجدً معارضاً. وقلنا سابقاً: إن الدعوى حين تُدعى ولا يوجد معارض حين نَسمعها تكون لصاحبها إلى أن يوجد المعارض.

وضربنا مثلا: نحن مجتمعون في حجرة، عشرة أشخاص، وبعد ذلك انصرفوا فوجد صاحب البيت حافظة نقود، فجاء واحد متلهفا وقال: لقد ضاعت مني حافظة نقود.
فقال له صاحب البيت: وجدنا حافظة ولكن كان هنا عشرة، فلما جئ بالعشرة، وسئلوا لم يدعها أحد، إذن فهي له.

إن الله قد قال: {لا إله إِلاَّ هُوَ}، فإن كان هناك إله آخر فليظهر لنا، ولكن لا تظهر لنا إلا قوة الله {لا إله إِلاَّ هُوَ} ومادام لا إله إلا هو، وهذا الكون يحتاج إلى قيومية لتدبيره، فلابد أن يكون حيا حياة تناسبه، لأنه سيهب حيوات كثيرة لكل الأجناس، للإنسان وللحيوان وللنبات وللجماد، إذن فالذي يوجدها لابد أن يكون حياً ولابد أن تكون حياته مناسبة له.

و
(قيّوم) هذه يسمونها صيغة مبالغة؛ لأنّ الحدث إذا وقع فإنه يقع مرة على صورة عادية، ومرة يقع على صورة قوية. مثلما تقول: فلان أكول، و(أكول) غير (آكل)، فكلنا نأكل، وكلنا يطلق علينا (آكل)، لكن ليس كلنا يُطلق علينا (أكول) لأن هذه اسمها صيغة مبالغة في الحدث.
وإذا كان الله هو الذي يدبر ويقوم على أمر كل عوالم الكون هل يكون قائما أو قَيُّوماً؟
لابد أن يكون قَيُّوماً. و(قيوم) معناها أيضا: قائم بذاته. فما شكل هذا القيام؟ إنه قيام أزلي كامل.
إذن فكلمة (قيّوم) صيغة مبالغة من القيام على الأمر، قائم بنفسه، قائم بذاته، ويُقيم غيره، والغير متعدد متكرر، فعندما يكون هذا الغير متعدداً ومتكرراً فهو يحتاج إلى صفة قوية في خالقه، فيكون الخالق قيّوما.

إن قوله الحق:
{الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم} هو سند المؤمن في كل حركات حياته، عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قلت: {الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم} فضرب في صدري وقال: ليهنك العلمُ أبا المنذر».

وقولوا لنا بالله: حين يوجد ولد وأب، هل يحمل الولد همّا لأي مسألة من مسائل الحياة؟ لا؛ لأن الأب متكفل بها، والمثل العامي يقول: الذي له أب لا يحمل همّا، إذن فالذي له ربٌّ عليه أن يستحي؛ لأنه سبحانه يقول: أنا حيّ، وأنا قيّوم، و(قيّوم) يعني قائم بأمرك.
ويؤكد سبحانه هذه القيّومية في سورة البقرة، فقال في آية الكرسي: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ}، كأنه يقول لنا: ناموا أنتم لأنني لا أنام، وإلا فإن نمت أنت عن حراسة حركة حياتك فمن يحرسها لك؟ إنه سبحانه يتفضل علينا بقيوميته فـ: {الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم}، وما دام هو الحيّ والقيّوم فأمر منطقي أنه قائم بأمر الخلق جميعا وقد وضع لكل الخلق ما تقوم به حياتهم من مادة وصيانة مادة ومن قيم وصيانة قيم.

ومادام هو القيوم القائم بالأمر والمتولي الشئون للخلق فلابد أن يؤدي لهم مطلوبات مادتهم وما يبقيها، ومطلوبات قيمهم وما يبقيها. أما مطلوبات المادة فيقول فيها: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ} [فصلت: 10].
إنه سبحانه يطمئنا على القوت، وأما مطلوبات القيم فقال سبحانه: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ...}.


https://media.gemini.media/img/large...8_0_51_397.jpg

.تفسير الآية رقم (3):

{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)}

إذن فلم يعطنا سبحانه مقومات المادة فقط، ولكن أعطانا مقومات القيم أيضا؛ لأن المادة بدون قيم تكون شرسة هوجاء رعناء، فيريد الله أن يجعل المادة في مستوى إيماني. إذن لابد أن تنزل القيم.

لذلك قال سبحانه:
{نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق} و{نَزَّلَ} تفيد شيئا قد وجب عليك؛ لأن النزول معناه: شيء من أعلى ينزل، وهو يقول لك: لا تتأبى على القيم التي جاءت لك من أعلى منك؛ لأنها ليست من مساو لك، إنها من خالق الكون والبشر، والذي يمكنك أن تتأبى عليه ما يأتي ممن هو أدنى منك.
لكن حين يجيء لك التقنين ممن هو أعلى منك فلا تتأبّ عليه؛ لأن خضوعك له ليس ذلة بل عزة، فقال: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب}. وفي سياق القرآن نجده سبحانه يقول: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعراء: 193].
ومرة أخرى يقول في القرآن الكريم: {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً} [الإسراء: 105].
ولكن هل نزل القرآن وحده؟ لقد كان جبريل عليه السلام ينزل بالقرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يعني ذلك خروج القرآن عن كونه (نزل)، فجبريل عليه السلام كان ينزل بالقرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم. والحق سبحانه وتعالى يقول: {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً} [الإسراء: 105].
وبذلك تتساوى (أنزل) مع (نزل).

وحين نأتي للحدث أي الفعل في أي وقت من الأوقات فإننا نتساءل: أهو موقوت بزمن أم غير موقوت بزمن؟ إن القرآن الكريم قد نزل على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في ثلاثة وعشرين عاما وينزل القرآن حسب الحوادث، فكل نجم من نجوم القرآن ينزل حسب متطلبات الأحداث. ولكن الحق سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1].
والحق هنا يحدد زمنا.
ولنا أن نعرف أن القرآن الذي نزل في ثلاثة وعشرين عاما هو الذي أنزله الله في ليلة القدر.

إذن فللقرآن نزولان اثنان:
الأول: إنزال من (أنزل).
الآخر: تنزيل من (نَزّل).

إذن فالمقصود من قوله سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} أن القرآن نزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ليباشر مهمته في الكون، وهذا ما أنزله الله في ليلة القدر.
والكتاب الكريم الذي أنزله الله في ليلة القدر إلى السماء الدنيا ينزلُ منجما على حسب الأحداث التي تتطلب تشريعا أو إيضاحا لأمر.

لكن الكتب الأخرى لم يكن لها ذلك اللون من النزول والتنزيل، لقد نزلت مرة واحدة؛ لا حسب الأحداث والمناسبات، لقد جاءت مرة واحدة، كما نزل القرآن أولا من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا.
ولننظر إلى الأداء القرآني حين يقول: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل} [آل عمران: 3].

وهنا يجب أن نلتفت إلى أن الحق قال عن القرآن: (نَزَّل) وقال عن التوراة والإنجيل: (أنزل).
لقد جاءت همزة التعدية وجمع سبحانه بين التوراة والإنجيل في الإنزال، وهذا يوضح لنا أن التوراة والإنجيل إنما أنزلهما الله مرة واحدة، أما القرآن الكريم فقد نَزَّله الله في ثلاث وعشرين سنة منجما ومناسباً للحوادث التي طرأت على واقع المسلمين، ومتضمنا البلاغ الشامل من يوم الخلق إلى يوم البعث.
ونَزَّل الله القرآن منجما مناسباً للأحداث، ليثبت فؤاد رسول الله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يتعرض لأحداث شتى، كلما يأتي حدث يريد تثبيتا ينزل نجم من القرآن. {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان: 32].
وكان النجم من القرآن ينزل ويحفظه المؤمنون، ويعملون بهديه، ثم ينزل نجم آخر، والله سبحانه يقول: {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الفرقان: 33].
فمن رحمته سبحانه وتعالى بالمسلمين أن فتح لهم المجال لأن يسألوا، وأن يستوضحوا الأمور التي تغمض عليهم.

وجعل الحق سبحانه لأعمال المؤمنين الاختيارية خلال الثلاثة والعشرين عاما فرصة ليقيموا حياتهم في ضوء منهج القرآن، وصوب لهم القرآن ما كان من خطأ وذلك يدل على أن القرآن قد فرض الجدل والمناقشة، وفرض مجيء الشيء في وقت طلبه؛ لأن الشيء إذا ما جيء به وقت طلبه فإن النفس تقبل عليه وترضى به.
ومثال ذلك في حياتنا اليومية أن الواحد منا قد يملك في منزله صندوقا للأدوية مُمتلئا بألوان شتى من الداء، ولكن عندما يصاب صاحب هذا الصندوق بقليل من الصداع فهو يبحث عن قرص أسبرين، قد لا يعرف مكانه في صندوق الدواء فيبعث في شرائه، وذلك أسهل وأوثق. والحق سبحانه قد جمع للقرآن بين (نزّل) و(أنزل) فقال: {مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الفرقان...}.





نداء الايمان

يتبع


https://media.gemini.media/img/large...6_4_26_745.jpg




امانى يسرى محمد 25-05-2021 02:42 PM

رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة ال عمران)
 

https://akhawat.islamway.net/forum/u...74bd016db.jpeg


قال تعالى: {مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}.. [آل عمران : 4].



ويأتي القول الفصل في: {وَأَنزَلَ الفرقان}.

هنا الجمع بين (نزل) و(أنزل).

وساعة يقول الحق عن القرآن: {مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} فمعنى ذلك أن القرآن يوضح المتجه؛ إنه مصدق لما قبله ولما سبقه، إنه مصدق للقضايا العقدية الإيمانية التي لا يختلف فيها دين عن دين؛ لأن الديانات إن اختلفت فإنما تختلف في بعض الأحكام، فهناك حكم يناسب زمنا وحكم آخر لا يناسب ذلك الزمن. أما العقائد فهي لا تتغير ولا تتبدل، وكذلك الأخبار وتاريخ الرسل، فليس في تلك الأمور تغيير.



ومعنى (مصدق) أي أن يطابق الخبر الواقع، وهذا ما نسميه (الصدق). وإن لم يطابق الخبر الواقع فإننا نسميه (كذبا). إذن، فالواقع هو الذي يحكم. ولذلك قلنا من قبل: إن الصادق هو الذي لا تختلف روايته للأحداث؛ لأنه يستوحي واقعا، وكلما روى الحادثة فإنه يرويها نفسها بكلماتها وتفاصيلها، أما الكاذب فلا يوجد له واقع يحكي عنه، لذلك يُنشئ في كل حديث واقعا جديدا، ولذلك يقول الناس: (إن كنت كذوبا فكن ذكورا). أي إن كنت تكذب والعياذ بالله فتذكر ما قلت؛ حتى لا تناقضه بعد ذلك. فالصادق هو من يستقرئ الواقع، ومادام يروي عن صدق فهو يروي عن أمر ثابت لا تلويه الأهواء، فلا يحكي مرة بهوى، ومرة بهوى آخر.



ومادام الخبر صادقاً فإنه يصبح حقاً؛ لأن الحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير وسبحانه يقول هنا: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ}.



وقد تكلمنا من قبل عن التوراة، وقلنا: إن بعضاً من العلماء حين يتعرض للفظ من الألفاظ فهو يحاول أن يجعله من اللغة العربية، ويحاول أن يعثر له على وزن من الأوزان العربية، وأن يأتي له بصفة من الصفات العربية، فقال بعضهم من التوراة: إنها (الوَرْى) بسكون الراء وكان الناس قديماً يشعلون النار بضرب عود في عود آخر، ويقولون: الزند قد ورى، أي قد خرجت ناره. وقال بعض العلماء أيضا: إن الإنجيل من النجْل، وهو الزيادة.


وأقول لهؤلاء العلماء: لقد نظرتم إلى هذه الألفاظ على أنها ألفاظ عربية، لكن التوراة لفظ عبري، والإنجيل لفظ سرياني أو لفظ يوناني، وصارت تلك الكلمات علما على تلك الكتب وجاءت إلى لغتنا. ولا تظنوا أن القرآن مادام قد نزل عربياً فكل ألفاظه عربية، لا. صحيح أن القرآن عربي، وصحيح أيضا أنه قد جاء وهذه الألفاظ دائرة على لسان العرب، وإذا تم النطق بها يُفهم معناها.


والمثال على ذلك أننا في العصر الحديث أدخلنا في اللغة كلمة (بنك) وتكلمنا بها، فأصبحت عربية؛ لأنها تدور على اللسان العربي، فمعنى أن القرآن عربي أن الله حينما خاطب العرب خاطبهم بألفاظ يفهمونها، وهي دائرة في ألسنتهم، وإن لم تكن في أصلها عربية. وحينما تكلم الحق عن التوراة والإنجيل وقال: إن القرآن جاء مصدقا لهما قال جل شأنه: {مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الفرقان إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام}... [آل عمران: 4].


فأي ناس هؤلاء الذين قال عنهم: {هُدًى لِّلنَّاسِ}؟

لاشك أنهم الناس الذين عاصروا الدعوة لتلك الكتب. وإذا كان القرآن قد جاء مصداقا لما في التوراة والإنجيل ألا تكون هذه الكتب هداية لنا أيضا؟ نعم هي هداية لنا، ولكن الهداية إنما تكون بتصديق القرآن لها، حتى لا يكون كل ما جاء فيهما ومنسوبا إليهما حجة علينا. فالذي يصدقه القرآن هو الحجة علينا، فيكون {هُدًى لِّلنَّاسِ} معناها: الذين عاصروا هذه الديانات وهذه الكتب، ونحن مؤمنون بما فيها بتصديق القرآن لها.



وحين يقول الحق سبحانه وتعالى: (وأنزل الفرقان) يدل على أن الكتاب أي القرآن سيعاصر مهمة صعبة؛ فكلمة (الفرقان) لا تأتي إلا في وجود معركة، ونريد أن نفرق بين أمرين: هدى وضلال، حق وباطل، شقاء وسعادة، استقامة وانحراف، إذن فكلمة (الفرقان) تدل على أن القرآن إنما جاء ليباشر مهمة صعبة وهو أنه يفرق بين الخير والشر، ومادام يفرق بين الخير والشر إذن ففيه خير وله معسكر، وفيه شر وله معسكر، إذن ففيه فريقان. ويأتي للفريق الذي يدافع عن الحق نضالاً وجهاداً بما يفرق له ويميز به بين الحق والباطل ويختم الحق هذه الآية بقوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام}.



ولماذا جاء هذا التذييل على هذه الصورة في هذه الآية؟

أي مادام القرآن فرقاناً فلابد أن يفرق بين حق وباطل، والحق له جنوده، وهم المؤمنون، والباطل له جنوده وهم الكافرون، والشر قد جاء من الكافرين فلابد أن يتكلم عن الذين كفروا {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}. والعذاب إيلام، ويختلف قُوّة وضعفا باعتبار المؤلم المباشر للعذاب. فصفعة طفل غير صفعة شاب غير صفعة رجل قوي، كل واحد يوجه الصفعة بما يناسب قوّته، فإذا كان العذاب صادراً من قوة القوي وهو الله، إذن فلابد أنه عذاب لا يطاق. {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام} أي لا يُغلب على أمره، ولا توجد قوة أخرى ضده، وانتقامه لن يستطيع أحد أن يرده.



وقوله الحق سبحانه وتعالى: إنه (قيّوم) أي يقوم بشئون خلقه إيجاداً وإمداداً، بناء مادة وإيجاد قيم، لابد أن يتفرع من ذلك أنه يعلم كل الخلق ويعلم الخبايا، ولذلك يضع التقنين المناسب لكل ما يجري لهم، والتقنينات التي تأتي من البشر تختلف عن التقنينات الموجودة من الله، لماذا؟
لأن الله حين يقنن بكتاب ينزله على رسوله ليبلغ حكم الله فيه فهو سبحانه يقنن لما يعلم، وما يعلمه سبحانه قد يعلمه خلقه وقد لا يعلمونه، وقد تأتي الأحداث بما لم يكن في بال المشرع البشري المقنن حين يقنن، ولذلك يضطرون عادة إلى تغيير القانون؛ لأنه قد جدّت أحداث لم يلتفت إليها المشرع البشري.



ولماذا لم يلتفت إليها المشرع البشري؟ لأن علمه مقصور على المرئيات التي توجد في عصره وغير معاصر للأشياء التي تحدث بعد عصره، وأيضا يقنن لملكات خفية عنه.


إن الحق سبحانه وتعالى لكونه قيّوما ويُنزل ما يفرق بين الحق والباطل، فهو سبحانه يعلم علماً واسعاً، بحيث لا يُستدرك عليه، ولذلك فالذين يحاولون أن يقولوا: إن هذا الحكم غير ملائم للعصر، نقول لهم: أتستدركون على الله؟! كأنكم تقولون: إن الله قد فاته مثل هذه الحكاية ونريد أن نصححها له!.
لا، لا تستدركوا على الله، وخذوا حكم الله هكذا؛ لأن هذا هو الحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ لأنه حكم من عالم لا يتجدد علمه، ولا يطرأ شيء على علمه، وفوق كل ذلك فهو سبحانه لا ينتفع بما يقنن، وهو سبحانه يقول: {إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء}


https://media.gemini.media/img/large..._15_49_630.jpg



قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ}.. [آل عمران : 5].


انظروا إلى خدمة الآية لكل الأغراض التي سبقتها،

مادام قيُّوما وقائما بأمور الخلق، فلابد أن يعلم كل شيء عن الخلق، فلا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ومادام سيفرق بين الحق والباطل وينزل بالكفار عذاباً شديداً فلا يخفى عليه شيء. إن الآية تخدم كل الأغراض، وهو سبحانه يعلم كل الأغراض، فحين يقنن بقيوميته، فهو يقنن بلا استدراك عليه، وحين يخرج أحد عن منهجه لا يخفى عليه. إذن فالآية حصاد على التشريع وعلى الجزاء {إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء}. وبعد ذلك يتكلم الحق عن مظهر القيوميّة الأول بالنسبة للإنسان فيقول: {هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ...}.



المصدر: موقع نداء الإيمان


https://media.gemini.media/img/large...0_10_13_42.jpg




امانى يسرى محمد 26-05-2021 09:28 PM

رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة ال عمران)
 

https://encrypted-tbn0.gstatic.com/i...7TOFQ&usqp=CAU

{هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.. [آل عمران : 6].


والتصوير في الرحم هو إيجاد المادة التي سيوجد منها الإنسان على هيئة خاصة؛ هذه الهيئة تختلف نوعيتها: ذكورة وأنوثة. والذكورة والأنوثة تختلفان أشكالاً؛ بيضاء وسمراء وقمحية وخمرية وقصيرة وطويلة، هذه الأشكال التي يوجد عليها الخلق والتي منها: {واختلاف أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ}.. [الروم: 22].
هذا الاختلاف في الألوان والألسنة والأشياء المتعددة يَدُل على أنها ليست من إنتاج مصنع يصنع قالباً ثم يشكل عليه، لا؛ فكل إنسان يولد يصنع بيد قديرة بقدرة ذاتية.

إن الصانع الآن إذا أرادت أن يصنع لك كوباً يصنع قالباً ويكرره، لكن في الخلق البشري كل واحد بقالبه الخاص، وكل واحد بشكله المخصوص، وكل واحد بصوته الذي ثبت أن له بصمة كبصمة اليد، وكل واحد بلون، إذن فهي من الآيات، وهذا دليل على طلاقة القدرة، وفوق كل هذا هو الخلق الذي لا يحتاج إلى عملية علاج، معنى عملية علاج أي يجعل قالباً واحدا ليصب فيه مادته. لا، هو جل شأنه يقول: {بَدِيعُ السماوات والأرض وَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.. [البقرة: 117].


إن الأب والأم قد يتحدان في اللون ولكن الابن قد ينشأ بلون مختلف، ويخلق الله معظم الناس خلقاً سويا، ويخلق قلة من الناس خلقاً غير سوي؛ فقد يولد طفل أعمى أو مصاب بعاهة ما أو بإصبع زائدة أو إصبعين.. وهذا الشذوذ أراده الله في الخلق ليلفتنا الحق إلى حسن وجمال خلقه. لأن من يرى وهو السويّ إنساناً آخر معوَّقاً عن الحركة فإنه يحمد الله على كامل خلقه.


وحين يرى إنسان له في كل يد خمس أصابع إنساناً آخر له إصبع زائدة يعوق حركة يده، يعْرف حكمة وجود الأصابع الخمس، فالجمال لا يثبت إلا بوجود القبح، وبضدها تتمايز الأشياء، الإنسان الذي له سبع أصابع في يد واحدة، يضع الطب أمام مهمة يجند نفسه لها؛ حتى يستطيع الطبيب أن يستأصل الزائد عن حاجة الإنسان الطبيعي. ولو خلق الله الإنسان بثلاث أصابع لما استطاع ذلك الإنسان أن يتحكم عند استعماله الأشياء الدقيقة.


إن الإنسان العادي في حركته اليومية لا يدرك جمال استواء خلقه إلا إذا رأى فرداً من أفراد الشذوذ. والحق يلفت الناس الساهين عن نعم الله عليهم لرتابتها فيهم بفقدها في غيرهم. فساعة أن يرى مبصرٌ مكفوفاً يسير بعكاز، يفطن إلى نعمة البصر التي وهبها له الله فيشعر بنعمة الله عليه. إن الشذوذ في الخلق هو نماذج إيضاحية تلفت الناس إلى نعم الله التي أنعم الله عليهم بها.


هذه المُثُل في الكون تلفت الناس إلى نعم الله فيهم، ولذلك تجدها أمامك، وأيضا كي لا تستدرك على خالقك، ولا تقل ما ذنب هذا الإنسان أن يكون مخلوقاً هكذا؟ فهو سبحانه سيعوضه في ناحية أخرى؛ فقد يعطيه عبقرية تفوق إمكانات المبصر.


ونضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى عن الذي ساح في الدنيا (تيمور لنك الأعرج) وهو القائد الذي أذهل الدنيا شجاعة، إن الله قد أعطاه موهبة التخطيط والقتال تعويضاً له عن العرج. ونحن نجد العبقريات تتفجر في الشواذ غالباً، لماذا؟ لأن الله يجعل للعاجز عجزاً معيناً همة تحاول أن تعوض ما افتقده في شيء آخر، فيأتي النبوغ. إذن ف {هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ} وكل تصوير له حكمة. ومادام كل تصوير له حكمة فكل خلق الله جميل.


عليك ألاّ تأخذ الخلق مفصولاً عن حكمة خالقه، بل خُذ كل خلق مع حكمته. إن الذي يجعلك تقول: هذا قبيح، إنك تفصل المخلوق عن حكمته، ومثال ذلك: التلميذ الذي يرسب قد يحزن والده، ولكن لماذا يأخذ الرسوب بعيداً عن حكمته؟ لقد رسب حتى يتعلم معنى الجدية في الاستذكار، فلو نجح مع لعبه ماذا سيحدث؟ كل أقرانه الذين عرفوا أنه لعب ونجح سيلعبون ويقولون: هذا لعب ونجح.. إذن فلابد أن تأخذ كل عمل ومعه حكمة وجوده.

كذلك لا تأخذ العقوبة منفصلة عن الجريمة، فكل عقوبة علينا أن نأخذها ملتصقة بجريمتها، فساعة ترى واحداً مثلاً سيحكمون عليه بالإعدام تأخذك الرحمة به وتحزن، هنا نقول لك: أنت فصلت إعدامه عن القتل الذي ارتكبه سابقاً، إنما لو استحضرت جريمته لوجدته يُقتَلُ عدالة وقصاصاً فقد قُتُل غيره ظلماً، فلا تبعد هذه عن هذه.


{هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ}
ومعنى {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} أي سيُصوِّر وهو عالم أن ما يصوِّره سيكون على هذه الصورة؛ لأنه لا يوجد إله آخر يقول له: هذه لا تعجبني وسأصور صورة أخرى، لا؛ لأن الذي يفعل ذلك عزيز، أي لا يغلب على أمر، وكل ما يريده يحدث وكل أمر عنده لحكمة، لأنه عندما يقول: {يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام} قد يقول أحد من الناس: إن هناك صوراً شاذة وصوراً غير طبيعية. وهو سبحانه يقول لك: أنا حكيم، وأفعلها لحكمة فلا تفصل الحدث عن حكمته، خذ الحدث بحكمته، وإذا أردت الحدث بحكمته تجده الجمال عينه، وهو سبحانه المصور في الرحم كيف يشاء، هذا من ناحية مادته.



وهو سبحانه يوضح: فلن يترك المادة هكذا بل سيجعل لهذه المادة قيما كي تنسجم حركة الوجود مع بعضها يقول سبحانه: {هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ...}.

https://media.gemini.media/img/large..._53_37_416.jpg

{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}..[آل عمران : 7].

إذن فبعدما صورنا في الأرحام كيف يشاء على مُقتضى حكمته لن يترك الصور بدون منهج للقيم، بل صنع منهج القيم بأن أنزل القرآن وفيه منهج القيم، ولابد أن نأخذ الشيء بجوار الحكمة منه، وإذا أخذنا الشيء بجوار الحكمة منه يوجد كل أمر مستقيما كله جميل وكله خير. فيقول سبحانه: {هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ}.


ماذا يعني الحق بقول:{آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ}؟
إن الشيء المحكم هو الذي لا يتسرب إليه خلل ولا فساد في الفهم؛ لأنه محكم، وهذه الآيات المحكمة هي النصوص التي لا يختلف فيها الناس، فعندما يقول: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا}.. [المائدة : 38].

هذه آية تتضمن حُكما واضحا. وهو سبحانه يقول: {الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا}.. [النور : 2].
هذه أيضا أمور واضحة، هذا هو المُحكم من الآيات، فالمُحكم هو ما لا تختلف فيه الأفهام؛ لأن النص فيه واضح وصريح لا يحتمل سواه، و(المُتشابه) هو الذي نتعب في فهم المراد منه، ومادمنا سنتعب في فهم المراد منه فلماذا أنزله؟

ويوضح لنا سبحانه كما قلت لك خذ الشيء مع حكمته كي تعرف لماذا نزل؟
فالمُحْكم جاء للأحكام المطلوبة من الخلق، أي افعل كذا، ولا تفعل كذا، ومادامت أفعالا مطلوبة من الخلق فالذي فعلها يُثاب عليها، والذي لم يفعلها يُعاقب، إذن فسيترتب عليها ثواب وعقاب، فيأتي بها صورة واضحة، وإلا لقال واحد: (أنا لم أفهم)، إن الأحكام تقول لك: (افعل كذا ولا تفعل كذا) فهي حين تقول: (افعل)؛ أنت صالح ألا تفعل، فلو كنت مخلوقاً على أنك تفعل فقط؛ لا يقول لك: افعل، لكن لأنك صالح أن تفعل وألا تفعل فهو يقول لك: (افعل).

وساعة يقول لك: (لا تفعل)، فأنت صالح أن تفعل، فلا يقال: (افعل ولا تفعل) إلاّ لأنه خلق فيك صلاحية أن تفعل أو لا تفعل، ونلحظ أنه حين يقول لي: افعل كذا ولا تفعل كذا يريد أن أقف أمام شهوة نفسي في الفعل والترك، ولذلك يقول الحق في الصلاة: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين}.. [البقرة : 45].
فعندما يقول لي: (افعل ولا تفعل) معناها: أن فيه أشياء تكون ثقيلة أن أفعلها، وأن شيئا ثقيلا علي أن أتركه، فمثلا البصر خلقه الله صالحا لأن يرى كل ما في حيِّزه. على حسب قانون الضوء، والحق يقول له: {قُلِ انظروا مَاذَا فِي السماوات والأرض}.. [يونس : 101].
ولكن عند المرأة التي لا يحل لك النظر إليها يقول الحق: اغضض.
{قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذلك أزكى لَهُمْ إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ}.. [النور : 30-31].
ومعنى {يَغُضُّواْ} و{يَغْضُضْنَ} أنه سبحانه حدد حركة العين، ومثال آخر؛ اليد تتحرك فيأمرك سبحانه ألاّ تحركها إلا في مأمور به، فلا تضرب بها أحداً، ولا تشعل بها ناراً تحرق وتفسد بل أشعل بها النار لتطبخ مثلاً.
إذن فهو سبحانه يأتي في (افعل ولا تفعل) ويحدد شهوات النفس في الفعل أو الترك، فإن كانت شهوة النفس بأنها تنام، يقول الأمر التعبدي: قم وصل، وإن كانت شهوة النفس بأنها تغضب يقول الأمر الإيماني: لا تغضب.

إذن فالحكم إنما جاء بافعل ولا تفعل لتحديد حركة الإنسان، فقد يريد أن يفعل فعلاً ضاراً؛ فيقول له: لا تفعل، وقد يريد ألاّ يفعل فعل خير يقول له: افعل. إذن فكل حركات الإنسان محكومة ب (افعل ولا تفعل)، وعقلك وسيلة من وسائل الإدراك، مثل العين والأذن واللسان. إن مهمة العقل أن يدرك، فتكليفه يدعوه إلى أن يفهم أمراً ولا يفهم أمرا آخر، وجعل الله الآيات المحكمات ليريح العقل من مهمة البحث عن حكمة الأمر المحكم؛ لأنها قد تعلو الإدراك البشري. ويريد الحق أن يلزم العبد آداب الطاعة حتى في الشيء الذي لا تدرك حكمة تشريعه، وأيضا لتحرك عقلك لترد كل المتشابه إلى المحكم من الآيات. وإذا قرأنا قول الحق: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار وَهُوَ اللطيف الخبير}.. [الأنعام : 103].

نرى أن ذلك كلام عام. وفي آية أخرى يقول سبحانه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}.. [القيامة : 22-23].
ويتكلم عن الكفار فيقول: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ}.. [المطففين : 15].
إذن فالعقل ينشغل بقوله: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار}، وهذا يحدث في الدنيا، أما في الآخرة فسيكون الإنسان قد تم إعداده إعداداً آخر ليرى الله، نحن الآن في هذه الدنيا بالطريقة التي أعدنا بها الله لنحيا في هذا العالم لا نستطيع أن نرى الله، ومسألة إعداد شيء ليمارس مهمة ليس مؤهلا ولا مهيأ لها الآن، أمر موجود في دنيانا، فنحن نعرف أن إنسانا أعمى يتم إجراء جراحة له أو يتم صناعة نظارة طبية له فيرى. ومن لا يسمع أو ثقيل السمع نصنع له سماعة فيسمع بها.
فإذا كان البشر قد استطاعوا أن يُعِدُّوا بمقدوراتهم في الكون المادي أشياء لتؤهلهم إلى استعادة حاسة ما، فما بالنا بالخالق الأكرم الإله المُربّي، ألا يستطيع أن يعيد خلقنا في الآخرة بطريقة تتيح لنا أن نرى ذاته ووجهه؟! إنه القادر على كل شيء.

إذن فالأمر هنا متشابه، إن الله يُدرَك بضم الياء وفتح الراء أو لا يُدْرَك، فما الذي تغير من الأحكام بالنسبة لك؟ لا شيء. إذن فهذه الآيات المتشابهات لم تأتِ من أجل الأحكام، إنما هي قد جاءت من أجل الإيمان فقط، ولذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم ينهي كل خلاف للعلماء حول هذه المسألة بقوله وهو الرسول الخاتم: «إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه منه فآمنوا به».


إن المُتشَابه من الآيات قد جاء للإيمان به
والمُحْكَم من الآيات إنما جاء للعمل به
والمؤمن عليه دائما أن يرد المُتشَابِه إلى المُحْكَم.

مثال ذلك
عندما نسمع قول الله عز وجل: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ وَمَنْ أوفى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ الله فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً}.. [الفتح : 10].

إن الإنسان قد يتساءل: (هل لله يد)؟ على الإنسان أن يرد ذلك إلى نطاق {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. وعندما يسمع المؤمن قول الحق: {الرحمن عَلَى العرش استوى}... [طه : 5].
فهل لله جسم يستقر به على عرش؟ هنا نقول: هذا هو المُتشَابِه الذي يجب على المؤمن الإيمان به، ذلك أن وجودك أيها الإنسان ليس كوجود الله، ويدك ليست كيد الله وأن استواءك أيضا ليس كاستواء الله. ومادام وجوده سبحانه ليس كوجودك وحياته ليست كحياتك فلماذا تريد أن تكون يده كيدك؟
هو كما قال عن نفسه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. ولماذا أدخلنا الله إلى تلك المجالات؟ لأن الله يريد أن يُلفت خلقه إلى أشياء قد لا تستقيم في العقول؛ فمن يتسع ظنه إلى أن يؤول ويردها إلى المُحْكَم بأن الله ليس كمثله شيء. فله ذلك، ومن يتسع ظنه ويقول: أنا آمنت بأن لله يداً ولكن في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فله ذلك أيضا وهذا أسلم.

والحق يقول:
{مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب}
ومعنى {أُمُّ} أي الأصل الذي يجب أن ينتهي إليه تأويل المُتشَابه إن أوّلت فيه، أو تُرجعه إلى المُحكم فتقول: إن لله يداً، ولكن ليست كأيدي البشر. إنما تدخل في نطاق: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.. [الشورى : 11].

ولماذا قال الحق: {هُنَّ أُمُّ الكتاب}؟ ولم يقل: هن أمهات الكتاب؟ لك أن تعرف أيها المؤمن أنه ليس كل واحدة منهن أما، ولكن مجموعها هو الأم، ولتوضيح ذلك فلنسمع قول الحق: {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَآ إلى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ}.. [المؤمنون : 50].
لم يقل الحق: إنهما آيتان؛ لأن عيسى عليه السلام لم يوجد كآية إلا بميلاده من أمه دون أب أي بضميمة أمه، وأم عيسى لم تكن آية إلا بميلاد عيسى أي بضميمة عيسى. إذن فهما معاً يكونان الآية، وكذلك {هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} فالمقصود بها ليس كل محكم أُمّا للكتاب، إنما المحكمات كلها هي الأم، والأصل الذي يَرُدُّ إليه المؤمن أيَّ متشابهٍ. ومهمة المحكم أن نعمل به، ومهمة المتشابه أن نؤمن به؛ بدليل أنك إن تصورته على أي وجه لا يؤثر في عملك.
فقوله الحق: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} لا يترتب عليه أي حكم، هنا يكفي الإيمان فقط.

لكن ماذا من أمر الذين قال عنهم الله: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة وابتغاء تَأْوِيلِهِ}؟. ولنا أن نعرف أن (الزيغ) هو الميْل، فزاغ يعني مال، وهي مأخوذة من تزايغ الأسنان، أي اختلاف منابتها، فسنَّةٌ تظهر داخلة، وأخرى خارجة، وعندما لا تستقيم الأسنان في طريقة نموها يصنعون لها الآن عمليات تجميل وتقويم ليجعلوها صفاً واحداً.


إن الذين في قلوبهم زيغ أي ميل، يتبعون ما تشابه من الآيات ابتغاء الفتنة. كأن الزيغ أمر طارئ على القلوب، وليس الأصل أن يكون في القلوب زيغ، فالفطرة السليمة لا زيغ فيها، لكن الأهواء هي التي تجعل القلب تزيع، ويكون الإنسان عارفاً لحكم الله الصحيح في أمر ما، لكن هوى الإنسان يغلب فيميل الإنسان عن حكم الله. والميل صنعة القلب، فالإنسان قد يخضع منطقه وفكره ليخدم ميل قلبه.
ولذلك فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به».

لماذا؟
لأن آفة الرأي الهوى، وحتى المنحرفون يعرفون القصد السليم، لكن الواحد منهم ينحرف لما يهوى، ودليل معرفة المنحرف للقصد السليم أنه بعد أن يأخذ شرّته في الانحراف يتوب ويعلن توبته، وهذا أمر معروف في كثير من الأحيان؛ لأن الميل تَكَلَّفٌ تبريري، أما القصد السليم فأمر فطري لا يُرهِق، ومثال ذلك: عندما ينظر الإنسان إلى حلاله، فإنه لا يجد انفعال ملكة يناقض انفعال ملكة أخرى، ولكن عندما ينظر إلى واحدة ليست زوجته، فان ملكاته تتعارك، ويتساءل: هل ستقبل منه النظرة أم لا؟ إن ملكاته تتضارب، أما النظر إلى الحلال فالملكات لا تتعب فيه. لذلك فالإيمان هو اطمئنان ملكات، فكل ملكات الإنسان تتآزر في تكامل، فلا تسرق ملكة من وراء أخرى.

مثال آخر: عندما يذهب واحد لإحضار شيء من منزله، فإنه لا يحس بتضارب ملكاته، أما إذا ذهب إنسان آخر لسرقة هذا الشيء فإن ملكاته تتضارب، وكذلك جوارحه؛ لأنها خالفت منطق الحق والاستقامة والواقع.

{فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة وابتغاء تَأْوِيلِهِ} إذن فاتباعهم للمتشابه منه ليؤوّلوه تأويلاً يخالف الواقع ليخدموا الزيغ الذي في قلوبهم. فالميل موجود عند قلوبهم أولاً ثم بدأ الفكر يخضع للميل، والعبارة تخضع للفكر، وهكذا نرى أن الأصل في الميل قد جاء منهم..

ولننظر إلى أداء القرآن الكريم حين يقول: {فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ}.. [الصف : 5].

كأنه يقول: مادمتم تريدون الميل فسأميلكم اكثر وأساعدكم فيه. والحق سبحانه لا يبدأ إنساناً بأمر يناقض تكليفه، لكن الإنسان قد يميله هواه إلى الزيغ، فيتخلى الله عنه: ويدفعه إلى هاوية الزيغ.
وآية أخرى يقول فيها الحق: {وَإِذَا ما أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصرفوا صَرَفَ الله قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ}.. [التوبة : 127].
إنهم الذين بدأوا؛ انصرفوا عن الله فصرف الله قلوبهم بعيداً عن الإيمان. وكذلك الذين يتبعون المتشابه يبتغون به الفتنة أي يطلبون الفتنة، ويريدون بذلك فتنة عقول الذين لا يفهمون، وما داموا يريدون فتنة عقول من لا يفهمون فهم ضد المنهج، وما داموا ضد المنهج فهم ليسوا مؤمنين إذن، وماداموا غير مؤمنين فلن يهديهم الله إلى الخير، لأن الإيمان يطلب من الإنسان أن يتجه فقط إلى الإيمان بالرب الإله الحكيم، ثم تأتي المعونة بعد ذلك من الله. لكن عندما لا يكون مؤمنا فكيف يطلب المعونة من الله، إنه سبحانه يقول: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك».
إنهم يبتغون الفتنة بالمتشابه، ويبتغون تأويله، ومعنى التأويل هو الرجوع، لأننا نقول: (آل الشيء إلى كذا) أي رجع الشيء إلى كذا، فكأن شيئاً يرجع إلى شيء، فمن لهم عقل لا زيغ فيه يحاولون جاهدين أن يؤولوا المُتشَابه ويردوه إلى المُحكم، أو يؤمنوا به كما هو.

يقول الحق بعد ذلك:
{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله}
إن الله لو أراد للمتشابه أن يكون محكما، لجاء به من المُحكَم، إذن فإرادة الله أن تكون هناك آيات المتشابه ومهمتها أن تحرك العقول، وذلك حتى لا تأتي الأمور بمنتهى الرتابة التي يجمد بها عقل الإنسان عن التفكير والإبداع، والله يريد للعقل أن يتحرك وأن يفكر ويستنبط. وعندما يتحرك العقل في الاستنباط تتكون عند الإنسان الرياضة على الابتكار، والرياضة على البحث، وليجرب كل واحد منا أن يستنبط المتشابه إلى المحكم ولسوف يمتلك بالرياضة ناصية الابتكار والبحث، والحاجة هي التي تفتق الحيلة.


إن الحق يريد أن يعطي الإنسان دربة حتى لا يأخذ المسألة برتابة بليدة ويتناولها تناول الخامل ويأخذها من الطريق الأسهل، بل عليه أن يستقبلها باستقبالٍ واع وبفكر وتدبر. {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ}.. [محمد : 24].
كل ذلك حتى يأخذ العقل القدر الكافي من النشاط ليستقبل العقل العقائد بما يريده الله، ويستقبل الأحكام بما يريده الله، فيريد منك في العقائد أن تؤمن، وفي الأحكام أن تفعل {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله}. والذين في قلوبهم زيغ يحاولون التأويل وتحكمهم أهواؤهم، فلا يصلون إلى الحقيقة. والتأويل الحقيقي لا يعلمه إلا الله.
قد رأينا من يريد أن يعيب على واحد بعض تصرفاته فقال له: يا أخي أتَدّعي أنك أحطت بكل علم الله؟ فقال له: لا. قال له: أنا من الذي لا تعلم. وكأنه يرجوه أن ينصرف عنه.

والعلماء لهم وقفات عند قوله الحق: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله}:
بعضهم يقف عندها ويعتبر ما جاء من بعد ذلك وهو قوله الحق: {والراسخون فِي العلم} كلاماً مستأنفاً، إنهم يقولون: إن الله وحده الذي يعلم تأويل المتشابه، والمعنى: {والراسخون فِي العلم} أي الثابتون في العلم، الذين لا تغويهم الأهواء، إنهم: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} وهو ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، إن الراسخين في العلم يقولون: إن المحكم من الآيات سيعلمون به، والمتشابه يؤمنون به، وكل من المتشابه والمحكم من عند الله.

أمّا مَن عطف وقرأ القول الحكيم ووقف عند قوله: {والراسخون فِي العلم} نقول له: إن الراسخين في العلم علموا تأويل المتشابه، وكان نتيجة علمهم قولهم: {آمَنَّا بِهِ}.
إن الأمرين متساويان، سواء وقفت عند حد علم الله للتأويل أو لم تقف. فالمعنى ينتهي إلى شيء واحد. وحيثية الحكم الإيماني للراسخين في العلم هي قوله الحق على لسانهم: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} فالمحكم من عند ربنا، والمتشابه من عند ربنا، وله حكمة في ذلك؛ لأنه ساعة أن يأمر الأعلى الأدنى بأمر ويبين له علته فيفهم الأدنى ويعمل، وبعد ذلك يلقي الأعلى الأمر آخر ولا يبين علته، فواحد ينفذ الأمر وإن لم يعرف العلة، وواحد آخر يقول: لا، عليك أن توضح لي العلة. فهل الذي آمن آمن بالأمر أو بالعلة؟

إن الحق يريد أن نؤمن به وهو الآمر، ولو أن كل شيء صار مفهوماً لما صارت هناك قيمة للإيمان. إنما عظمة الإيمان في تنفيذ بعض الأحكام وحكمتُها غائبة عنك؛ لأنك إن قمت بكل شيء وأنت تفهم حكمته فأنت مؤمن بالحكمة، ولست مؤمناً بمن أصدر الأمر.

وعندما نأتي إلى لحم الخنزير الذي حرمه الله من أربعة عشر قرناً، ويظهر في العصر الحديث أن في أكل لحم الخنزير مضار، ويمتنع الناس عن أكله لأن فيه مضار، فهل امتناع هؤلاء أمر يثابون عليه؟ طبعاً لا، لكن الثواب يكون لمن امتنع عن أكل لحم الخنزير لأن الله قد حرمه؛ ولأن الأمر قد صدر من الله، حتى دون أن يَعْرِّفنا الحكمة، إن المؤمن بالله يقول: إن الله قد خلقني ولا يمكن وهو الخالق أن يخدعني وأنا العبد الخاضع لمشيئته.

إن العبد الممتنع عن أكل لحم الخنزير وشرب الخمر امتثالاً لأمر الله، هو الذي ينال الثواب، أما الذي يمتنع خوفاً من اهتراء الكبد أو الإصابة بالمرض فلا ثواب له. وهناك فرق بين الذهاب إلى الحكم بالعلة. وبين الذهاب إلى الحكم بالطاعة للآمر بالحكم.

إذن فالمتشابه من الآيات نزل للإيمان به، والراسخون في العلم يقابلهم من تلويهم الأهواء، والأهواء تلوي إلى مرادات النفس وإلى ابتغاءات غير الحق. ومادامت ابتغاءات غير الحق، فغير الحق هو الباطل، فكل واحد من أهل الباطل يحاول أن يأتي بشيء يتفق مع هواه.

ولذلك جاء التشريع من الله ليعصم الناس من الأهواء؛ لأن هوى إنسان ما قد يناقض هوى إنسان آخر، والباقون من الناس قد يكون لهم هوى يناقض بقية الأهواء. والحق سبحانه يقول: {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ}.. [المؤمنون : 71].

إذن فلابد أن نتبع في حركتنا ما لا هوى له إلا الحق، والدين إنما جاء ليعصمنا من الأهواء؛ فالأهواء هي التي تميلنا، والذي يدل على أن الأهواء هي التي تميل إلى غير الحق أن صاحب الهوى يهوى حكماً في شيء، ثم تأتي ظروف أخرى تجعله يهوى حكماً مقابلاً، إنه يلوي المسألة على حسب هواه، وإلا فما الذي ألجأ دنيا الناس إلى أن يخرجوا من قانون السماء الأول الذي حكم الأرض عند آدم عليه السلام؟

لقد خرجوا من قانون السماء حينما قام قوم بأمر الدين فأخذوا لهم من هذا سلطة زمنية، وأصبحوا يُخضعون المسائل إلى أهوائهم.

ونحن إذا نظرنا إلى تاريخ القانون في العالم لوجدنا أن أصل الحكم في القضايا إنما هو لرجال الدين والكهنة والقائمين على أمر المعابد. كان الحكم كله لهم، لأن هؤلاء كانوا هم المتكلمين بمنهج الله.

ولماذا لم يستمر هذا الأمر، وجاءت القوانين الرومانية والإنجليزية والفرنسية وغيرها؟ لأنهم جربوا على القائمين بأمر الدين أنهم خرجوا عن نطاق التوجيه السماوي إلى خدمة أهوائهم، فلاحظ الناس أن هؤلاء الكهنة يحكمون في قضية بحكم ما يختلف عن حكم آخر في قضية متشابهة. إنهم القضاة أنفسهم والقضايا متشابهة متماثلة، لكن حكم الهوى يختلف من قضية إلى أخرى، بل وقد يتناقض مع الحكم الأول، فقال الناس عن هؤلاء الكهنة: لقد خرجوا عن منطق الدين واتبعوا أهواءهم، ليثبتوا لهم سلطة زمنية، فنحن لم نعد نأمنهم على ذلك. وخرج التقنين والحكم من يد الكهنة ورجال الدين إلى غيرهم من رجال التقنين. لقد كان أمر القضاء بين الكهنة ورجال الدين؛ لأن الناس افترضت فيهم أنهم يأخذون الأحكام من منهج الله، فلما تبين للناس أن الكهنة ورجال الدين لا يأخذون الحكم من منهج الله، ولكن من الهوى البشري، عند ذلك أخذ الناس زمام التقنين لأنفسهم بما يضمن لهم عدالة ما حتى ولو كانت قاصرة.

وبمناسبة كلمة الهوى نجد أن هناك ثلاثة ألفاظ:

أولا: الهواء هو ما بين السماء والأرض، ويراد به الريح ويحرك الأشياء ويميلها وجمعه: الأهوية وهذا أمر حسي.
ثانيا: الهوَى: وهو ميل النفس، وجمعه: الأهواء، وهو مأخوذ من هَوِىَ يَهْوَى بمعنى مال.

ثالثا: الهَوىّ: بفتح الهاء وضمها وتشديد الياء وهو السقوط مأخوذ من هَوَى يَهْوي: بمعنى سقط. وهذا يدل على أن الذي يتبع هواه لابد أن يسقط، والاشتقاقات اللغوية تعطي هذه المعاني.
إنها متلاقية.

إذن الراسخون في العلم يقفون ثابتين عند منهج الله. وأما الذين يتبعون أهواءهم فهم يميلون على حسب ميل الريح. فإن الريح مالت، مالوا حيث تميل.

ويقول الراسخون في العلم في نهاية علمهم: آمنا {والراسخون فِي العلم يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا}. وهنا تلتقي المسألة، فنحن نعرف أن المحكم نزل للعمل به، والمشابه نزل للإيمان به لحكمة يريدها الله سبحانه وتعالى، وهي أن نأخذ الأمر من الآمر لا لحكمة الأمر. وعندما نأخذ الأوامر من الحق فلا نسأل عن علتها؛ لأننا نأخذها من خالق محب حكيم عادل. والإنسان إن لم ينفذ الأمر القادم من الله إلا إذا علم علته وحكمته فإننا نقول لهذا الإنسان: أنت لا تؤمن بالله ولكنك تؤمن بالعلة والحكمة، والمؤمن الحق هو من يؤمن بالأمر وإن لم يفهم.
والراسخون في العلم يقولون: آمنا به، كل من عند الله، المحكم من عند ربنا والمتشابه من عند ربنا: ويضيف سبحانه: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب} و{أُوْلُواْ الألباب} أي أصحاب العقول المحفوظة من الهوى، لأن آفة الرأي الهوى، والهوى يتمايل به. {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب} و(اللب) هو: العقل، يخبرنا الله أن العقل يحكم لُبّ الأشياء لا ظواهر الأشياء وعوارضها، فهناك أحكام تأتي للأمر الظاهر، وأحكام للُبّ.

الحق يأمر بقطع يد السارق. وبعد ذلك يأتي من يمثل دور حامي الإنسانية والرحمة
ويقول: (هذه وحشية وقسوة)!

هذا ظاهر الفهم، إنما لُبّ الفهم أني أردت أن تُقطع يد السارق حتى أمنعه أن يسرق؛ لأن كل واحد يخاف على ذاته، فيمنعه ذلك أن يسرق. وقد قلنا من قبل إن حادثة سيارة قد ينتج عنها مشوهون قدر مِنْ قطعت أيديهم بسبب السرقة في تاريخ الإسلام كله، فلا تفتعل وتدعي أنك رحيم ولا تنظر إلى العقاب حين ينزل بالمذنب، ولكن انظر إلى الجريمة حين تقع منه، فإن الله يريد أن يحمي حركة الحياة للناس بحيث إذا علمت وكددت واجتهدت وعرقت يضمن الله لك حصيلة هذا العمل، فلا يأتي متسلط يتسلط عليك ليأخذ دمه من عرقك أنت.

إذن فهو يحمي حركة الحياة وتحرك كل واحد وهو آمن، هذا (لُبّ) الفهم، ولذلك يقول تعالى: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ}، إياكم أن تقولوا: إن هذا القصاص اعتداء على حياة فرد. لا، لأن {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ} إنّ من علم إنه إن قَتل فسيقتل، سيمتنع عن القتل، إذن فقد حمينا نفسه وحمينا الناس منه، وهكذا يكون في القصاص حياة، وذلك هو لُبّ الفهم في الأشياء؛ فالله سبحانه وتعالى يلفتنا وينبهنا ألا نأخذ الأمور بظواهرها، بل نأخذها بلبها، وندع القشور التي يحتكم إليها أناس يريدون أن ينفلتوا من حكم الله. و{والراسخون فِي العلم} حينما فَصلوا في أمر المتشابه دعوا الله بالقول الذي أنزله سبحانه: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوهاب}


المصدر: موقع نداء الإيمان


امانى يسرى محمد 27-05-2021 09:24 PM

رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة ال عمران)
 



https://akhawat.islamway.net/forum/u...6fe0d8851.jpeg


{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}.. [آل عمران : 8].


فكأن قول الراسخين في العلم: إن كل محكم وكل متشابه هو من عند الله، والمحكم نعمل به، والمتشابه نؤمن به، فهذه هي الهداية؛ ثم يكون الدعاء بالثبات على هذه الهداية، والمعنى: يا رب ثبتنا على عبادتك ولا تجعل قلوبنا تميل أو تزيع. وهذا يدلنا على أن القلوب تتحول وتتغير؛ لذلك يأتي القول الفصل بالدعاء على الثبات الإيماني: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوهاب}.. [آل عمران: 8].



إنهم يطلبون رحمة هبة لا رحمة حق، فليس هناك مخلوق له حق على الله إلا ما وهبه الله له. والراسخون في العلم يطلبون من الله الرحمة من الوقوع في الهوى بعد أن هداهم الله إلى هذا الحكم السليم بأن المتشابه والمحكم كل من عند الله ويعلموننا كيف يكون الطريق إلى الهداية وطلب رحمة الهبة. والراسخ في العلم مادام قد علم شيئا فهو يريد أن يشيعه في الناس، لذلك يقول لنا: إياكم أن تظنوا أن المسألة مسألة فهم لنص وتنتهي، إن المسألة يترتب عليها أمر آخر، هذا الأمر الآخر لا يوجد في الدنيا فقط، فهناك آخرة، فالدنيا مقدور عليها لأنها محدودة الأمد ومنتهية، ولكن هناك الآخرة التي تأتي بعد الدنيا حيث الخلود، فيقول الحق على لسان الراسخين في العلم: {رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ...}.

https://media.gemini.media/img/large..._19_32_496.jpg



{رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}.. [آل عمران : 9].


وقولهم: {رَبَّنَآ} نفهم منه أنه الحق المتولي التربية، ومعنى التربية هو إيصال من تتم تربيته إلى الكمال المطلوب له، فهناك ربٌّ يربي، وهناك عبد تتم تربيته، والربُّ يعطي الإنسان ما يؤهله إلى الكمال المطلوب له.


والمؤمنون يرجون الله قائلين: يا رب من تمام تربيتك لنا أن تحمينا من عذاب الآخرة، فإذا ما عشنا الدنيا وانتهت فنحن نعلم أنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه، ومادمت ربا، ومادمت إلها فإنك لا تخلف الميعاد؛ فالذي يخلف الميعاد لا يكون إلها؛ لأن الإله ساعة الوعد يعلم بتمام قدرته وكمال علمه أنه قادر على الإنفاذ، إنما الذي ليس لديه قدرة على الإنفاذ لا يستطيع أن يعد إلا مشمولا بشيء يستند إليه، كقولنا نحن العباد: (إن شاء الله) لماذا؟ لأن الواحد منا لا يملك أن يفي بما وعد.


حينما تعرضنا إلى قول الحق سبحانه وتعالى: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً}.. [الكهف: 23-24].
قُلنا إياك أن تقول: إني سأفعل شيئا إلا أن تشتمله وتربطه بمشيئة الله؛ لأنك أنت إن وعدت، فأنت لا تضمن عمرك ولا إنفاذ وعدك، إنك لن تفعل شيئا إلا بإرادة الله، لذلك فلا تعد إلا بالمشيئة، لأنك تعد بما لا تضمن، فأنت في حقيقة الأمر لا تملك شيئا، فإن أردت فعل أي شيء أو الذهاب إلى أي مكان فالفعل يحتاج إلى فاعل ومفعول وزمان ومكان وسبب، ثم يحتاج إلى قدرة لتنفيذ الفعل. والإنسان لا يملك من هذه الأشياء إلا ما يشاء الله له أن يملكه. إن الإنسان لا يملك أن يظل فاعلا. والإنسان لا يملك إن وُجد الفاعل أن يوجد المفعول. والإنسان لا يملك الزمن، ولا يملك المكان، بل لا يملك الإنسان أن يظل السبب قائما ليفعل ما كان يريد أن يفعله؛ فكل هذه العناصر، الفاعل والمفعول، والزمان، والمكان، والسبب، لا يملكها إلا الله. لذلك فليحم الإنسان نفسه من أن يكون كاذبا ومجازفا وليكن في ظل قوله تعالى: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً}.. [الكهف: 23-24].
إن كلمة {إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} تعصم الإنسان من أن يكون كاذبا. وعندما لا يحدث الذي يعد به الإنسان فمعنى ذلك أن الله لم يشأ؛ لأن الإنسان لا يملك عنصراً واحداً من عناصر هذا الفعل.


وعندما يقول الحق: {رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} لأن الذي يخلف الميعاد إنما تمنعه قوة قاهرة تأتيه؛ ولو من تغير نفسه تمنعه أن يفعل، أما الله فلا تأتي قوة قاهرة لتغير ما يريد أن يفعل، ولا يمكن أن يتغير؛ لأن التغير ليس من صفات القديم الأزلي.


وحين يؤكد الحق أنه سيتم جمعنا بمشيئته في يوم لا ريب فيه، وأن الله لا يخلف الميعاد، فمن المؤكد أننا سنلتقي. وسنلتقي لماذا؟ لقد قال الراسخون في العلم: عملنا بالمحكم، وآمنا بالمتشابه، ودعوا الله أن يثبت قلوبهم على الهداية رحمة من عنده، وأن يبعد قلوبهم عن الزيغ؛ لأنهم خائفون من اليوم الذي سيجمع الله الناس فيه، إننا سنلتقي للحساب على أفعالنا وإيماننا. وبعد ذلك يقول الحق جل شأنه: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ الله شَيْئاً...}.


https://media.gemini.media/img/large..._27_47_699.jpg






{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ}.. [آل عمران : 10].



ساعة تسمع وأنت المؤمن، ويسمع معك الكافر، ويسمع معك المنافق: {رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} ربما فكر الكافر أو المنافق أن هناك شيئا قد ينقذه مما سيحدث في ذلك اليوم، كعزوة الأولاد، أو كثرة مال يشتري نفسه به، أو خلة، أو شفاعة، هنا يقول الحق لهم: لا، إن أولادكم وأموالكم لا تغني عنكم شيئا.


وفي اللغة يقال: هذا الشيء لا يغني فلاناً، أي أنه يظل محتاجاً إلى غيره؛ لأن الغِنَى هو ألا تحتاج إلى الغير، فالأموال والأولاد لا تُغني أحداً في يوم القيامة، والمسألة لا عزوة فيها، ولا أنساب بينهم يومئذ والجنة ليست للبيع، فلا أحد يستطيع شراء مكان في الجنة بمال يملكه.


وكان الكافرون على أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون ذلك القول الشاذ يقولون: مادام الله قد أعطانا أموالاً وأولاداً في الدنيا فلابد أن يعطينا في الآخرة ما هو أفضل من ذلك. ولذلك يقول الله لهم: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ الله شَيْئاً} إذن فالأمر كله مردود إلى الله. صحيح في هذه الدنيا أن الله قد يخلق الأسباب، والكافر تحكمه الأسباب، وكذلك المؤمن، فإذا ما أخذ الكافر بالأسباب فإنه يأخذ النتيجة، ولكن في الآخرة فالأمر يختلف؛ فلن يملك أحد أسباباً، ولذلك يقول الحق عن اليوم الآخر: {يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار}.. [غافر : 16].


إن البشر في الدنيا يملكون الأسباب، ويعيشون مختلفين في النعيم على اختلاف أسبابهم، واختلاف كدحهم في الحياة، واختلاف وجود ما يحقق للإنسان المُتع، لكن الأمر في الآخرة ليس فيه كدح ولا أسباب؛ لأن الإنسان المؤمن يعيش بالمُسبب في الآخرة وهو الله جلت قدرته فبمجرد أن يخطر الشيء على بال المؤمن في الجنة فإن الشيء يأتي له. أما الكفار فلا يغني عنهم مالهم ولا أولادهم، لأنهم انشغلوا في الدنيا بالمال والأولاد وكفروا بالله. {سَيَقُولُ لَكَ المخلفون مِنَ الأعراب شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فاستغفر لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ}.. [الفتح: 11].


إذن فما انشغل به الكفار في الدنيا لن ينفعهم، ويضيف الحق عن الكفار في تذييل الآية التي نحن بصددها: {وأولئك هُمْ وَقُودُ النار} إنهم المعَذبون، وسوف يتعذبون في النار. ولنر النكاية الشديدة بهم، إن الذين يُعَذَّبون هم الذي يُعَذَّبُون؛ لأنهم بأنفسهم سيكونون وقود النار. إن المعَذَّب بفتح العين وفتح الذال مع التشديد يكون هو المعَذِّب بفتح العين وكسر الذال مع التشديد-
فهذه ثورة الأبعاض. فذرّات الكافر مؤمنة، وذرات العاصي طائعة، والذي جعل هذه الذرات تتجه إلى فعل ما يُغضب الله هو إرادة صاحبها عليها.



وضربنا قديما المثل ولله المثل الأعلى وقلنا: هب أن كتيبة لها قائد فالمفروض في الكتيبة أن تسمع أمر القائد، وتقوم بتنفيذ ما أمر به؛ فإذا ما جاءوا للأمر والقائد الأعلى بعد ذلك فإنهم يرفعون أمرهم إليه ويقولون له: بحكم الأمر نفذنا العمل الذي صدر لنا من قائدنا المباشر وكنا غير موافقين على رأيه. وفي الحياة الإيمانية نجد القول الحكيم من الخالق: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.. [النور : 24].


فكان اللسان ينطق بكلمة الكفر وهو لاعِنٌ لصاحبه. واليد تتقدم إلى المعصية وهي كارهةٌ لصاحبها ولاعِنةٌ له، إن إرادة الله العليا هي التي جعلت للكافر إرادة على يده ولسانه في الدنيا، وينزع الله إرادة الكافر عن جوارحه يوم القيامة فتشهد عليه أنه أجبرها على فعل المعاصي، وتعذب الأبعاض بعضها، وعندما يقول الحق: {وأولئك هُمْ وَقُودُ النار} وهنا مسألة يجب أن نلتفت إليها ونأخذها من واقع التاريخ، هذه المسألة هي أن الذين كفروا برسالات الله في الأرض تلقوا بعض العذاب في الدنيا؛ لأن الله لا يدّخر كل العقاب للآخرة وإلا لشقي الناس بالكافرين وبالعاصين، ولذلك فإن الله يُعَجِّلُ بشيء من العقاب للكافرين والعاصين في هذه الدنيا.


ويقول الحق مثالاً على ذلك: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا...}.



المصدر: موقع نداء الإيمان

https://media.gemini.media/img/large..._11_23_802.jpg




امانى يسرى محمد 28-05-2021 02:01 PM

رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة ال عمران)
 

https://cf5.s3.souqcdn.com/item/2017...5_71910651.jpg

{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.. [آل عمران : 11].




ساعة تسمع
(كدأب كذا) فالدأب هو العمل بكدح وبلا انقطاع فنقول: فلان دأبه أن يفعل كذا أي هو معتاد دائماً أن يفعل كذا. أو نقول: ليس لفلان دأب إلا أن يغتاب الناس.


فهل معنى ذلك أن كل أفعاله محصورة في اغتياب الناس، أو أنه يقوم بأفعال أخرى؟
إنه يقوم بأفعال أخرى لكن الغالب عليه هو الاغتياب، وهذا هو الدأب.
فالدأب هو السعي بكدح وتوالٍ حتى يصبح الفعل بالتوالي عادة.
إذن فقوله الحق:
{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ}
أي كعادة آل فرعون. وآل فرعون هم قوم جاءوا قبل الرسالة الإسلامية، وقبلهم كان قوم ثمود وعاد وغيرهم.




ويلفتنا الحق سبحانه إلى أن ننظر إلى هؤلاء ونرى ما الذي حدث لهم، إنه سبحانه لم يؤخر عقابهم إلى الآخرة؛ لأنه ربما ظن الناس أن الله قد ادخر عذاب الكافرين إلى الآخرة؛ لأنه قال: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ الله شَيْئاً وأولئك هُمْ وَقُودُ النار}.. [آل عمران: 10].



لا، بل العذاب أيضا في الدنيا مصداقاً لقوله الحق: {لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الحياة الدنيا وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ الله مِن وَاقٍ}.. [الرعد: 34].


إن العذاب لو تم تأجيله إلى الآخرة لشقي الناس بالأشقياء، لذلك يأتي الله بأمثلة من الحياة ويقول: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} أي كعادة آل فرعون، ولا تصير مسألة عادة إلا بالكدح في العمل، وكان دأب آل فرعون هو التكذيب والطغيان وادّعاء فرعون الألوهية.




ويقول سبحانه:
{والذين مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ والله شَدِيدُ العقاب}
فصار الدأب منهم، ومما وقع بهم، فإذا كانوا قد اعتادوا الكفر والتكذيب فقد أوقع الله عليهم العذاب. لقد كان دأب آل فرعون هو التكذيب، والخالق سبحانه يجازيهم على ذلك بتعذيبهم، ولتقرأ إن شئت قول الحق سبحانه وتعالى: {والفجر وَلَيالٍ عَشْرٍ والشفع والوتر والليل إِذَا يَسْرِ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ العماد التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد الذين طَغَوْاْ فِي البلاد فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد}.. [الفجر: 1-14].



فدأبهم التكذيب وجزاء الله لهم على ذلك هو العذاب والعقاب. إذن فقوله الحق: {فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ والله شَدِيدُ العقاب} أي أوقع بهم العذاب في الدنيا، وكانت النهاية ما كانت في آل فرعون وثمود ومن قبلهم من القوم الكافرين.



وعندما تسمع قول الله:
{والله شَدِيدُ العقاب} فالذهن ينصرف إلى أن هناك ذنباً يستحق العقاب.
وكل الأمور من المعنويات مأخوذة دائماً من المُحسَّات؛ لأن الأصل في إيجاد أي معلومات معنوية هو المشاهد الحسِّية، وتُنقل الأشياء الحسّية إلى المعنويات بعد ذلك.



لماذا؟
لأن الشيء الحسِّي مشهود من الجميع، أما الشيء المعنوي فلا يفهمه إلا المتعقلون، والإنسان له أطوار كثيرة. ففي طور الطفولة لا يفهم ولا يعقل الإنسان إلا الأمر المحسوس أمامه.



وقلت قديما في معنى كلمة (الغصب): إنه أخذ وسلب شيء من إنسان صاحب حق بقوة، وهذا أمر معنوي له صورة مشهدية؛ لأن الذي يسلخ الجلد عن الشاة نسميه غاصباً. ولنر كيف يكون أخذ الحق من صاحبه، إنه كالسلخ تماماً، فالكلمة تأتي للإيضاح.


وكلمة (ذنب) وكلمة (عقوبة) مترابطتان؛ فكلمة (ذنب) مأخوذة من مادة ذنب؛ لأن المادة كلها تدل على (التالي) والذَنَب يتلو المقدمة في الحيوان. والعقاب هو ما يأتي عقب الشيء.



إذن فهناك ذنب وهناك عقاب. لكن ماذا قبل الذنب، وماذا يتلو العقاب؟
لا يوجد ذنب إلا إذا وُجِدَ نص يُجرّم، فلا ذنب إلاّ بنص. فليس كل فعل هو ذنب، بل لابد من وجود نص قبل وقوع الذنب. يجرّم فعله؛ ولذلك أخذ التقنين الوضعي هذا الأمر، فقال: لا يمكن أن يعاقب إنسان إلا بتجريم، ولا تجريم إلا بنص، فلا يمكن أن يأتي إنسان فجأة ويقول: هذا العمل جريمة يعاقب عليها. بل لابد من التنبيه والنص من قبل ذلك على تجريم هذا العمل.




إنه لا عقوبة إلا بتجريم، ولا تجريم إلا بنص. فالنص يوضح تجريم فعل نوع ما من العمل، وإن قام إنسان بهذا العمل فإنه يُجّرم، ويكون ذلك هو الذنب، فكأن الذنب جاء تالياً لنص التجريم. والعقاب يأتي عقب الجريمة، وهكذا نجد أن كلا من الذنب والجريمة يأخذان واقع اللفظ ومدلوله ومعناه؛ فالذَّنَبُ هو التالي للشيء. ولذلك يسمون الدلو الذي يملأونه بالماء (ذَنُوبَاً) لأنه هو الذي يتلو الحبل. وأيضا الجزاء في الآخرة: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ}.. [الذاريات: 59].



أي ذَنوباً تتبع، وتتلو جريمتهم.

إذن فالنص القرآني في أي ذنب وفي أي عقاب يؤكد لنا القضية القانونية الاصطلاحية الموجودة في كل الدنيا: إنه لا عقوبة دون تجريم. فكان العقابُ بعد الجريمة أي بعد الذنب، والذنب بعض النص، فلا نأتي لواحد بدون نص سابق ونقول له: أنت ارتكبت ذنباً.
وهذه تحل إشكالات كثيرة، مثال ذلك:
{إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً}.. [النساء: 48].

إن الله يغفر ما دون الشرك بالله، فالشرك بالله قمة الخيانة العظمى؛ وهذا لا غفران فيه وبعد ذلك يغفر لمن يشاء. ويقول الحق في آية أخرى: {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم}.. [الزمر: 53].


فهناك بعض من الناس يقولون: إن الله قال: إنه لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، حتى إنهم قالوا: إن ابن عباس ساعة جاءت هذه الآية التي قال فيها الحق: {إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً} قال: (إلا الشرك) وذلك حتى لا تصطدم هذه الآية من الآية الاخرى.

والواقع أنه حين يدقق أولو الألباب فلن نجد اصطداما، لأن الذين أسرفوا على أنفسهم. هم من عباد الله الذين آمنوا ولم يشركوا بربهم أحداً، ولكنهم زلُّوا وغووا ووقعوا في المعاصي فهؤلاء يقال عنهم: إنهم مذنبون؛ لأنهم مؤمنون بالله ومعترفون بالذي أنزله، أما المشرك فلم يعترف بالله ولا بما شرع وقنن من أحكام، فما هو عليه لا يسمى ذنبا وإنما هو كفر وشرك.

فلا تعارض ولا تصادم في آيات الرحمن.




وعندما يقول الحق: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ والله شَدِيدُ العقاب}.. [آل عمران: 11].

فهذا القول الحكيم متوازن ومُتّسِق، فالذنب يأتي بعد نص، والعقاب من بعد ذلك. ويقول الحق آمرا رسوله ببلاغ الكافرين: {قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المهاد}.



المصدر: موقع نداء الإيمان


https://media.gemini.media/img/large...4_25_7_473.jpg


{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}.. [آل عمران : 12].

إنه أمر من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وهو المبلغ عن الله، أن يحمل للكافرين خبراً فيه إنذار. من هم هؤلاء الكفار؟ هل هم كفار قريش؟
الأمر جائز. هل هم اليهود؟
الأم جائز. فالبلاغ يشمل كل كافر.

والنص القرآني حينما يأتي فهو يأتي على غير عادة الناس في الخطاب، ولأضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى وسبحانه منزه عن التشبيه أو المثل أنت تقول لابنك: اذهب إلى عمك، وقل له: إن أبي سيحضر لزيارتك غدا. فماذا يكون كلام الابن للعم؟ إن الابن يذهب للعم ويقول له: إن أبي سيزورك غدا. لكن الآمر وهو الأب يقول: قل لعمك إن أبي سيزورك غدا. فإذا كان الابن دقيق الأمانة فهو يقول: قال أبي: قل لعمك إن أبي سيزورك غدا.

وعندما يقول الحق سبحانه:
{قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المهاد}.
فهذا معناه قمة الأمانة من الرسول المبلغ عن الله، فنَقَل للكافرين النص الذي أمره الله بتبليغه للكافرين. وإلا كان يكفي الرسول صلى الله عليه وسلم أن يذهب للكافرين ويقول لهم: ستُغلبون وتُحشرون. لكن من يدريهم أن هذا الكلام ليس من عند محمد وهو بشر؟ لذلك يبلغهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله أبلغه أن يبلغهم بقوله: {قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المهاد}.

إن الرسول لم يبلغهم بمقول القول: لا، إنما أبلغهم نص البلاغ الذي أبلغه به الله. وساعة يأمر الحق في قرآنه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ أمرا للكافرين فإن الرسول صلى الله عليه وسلم مُخاطب، والكفار مُخاطبون، فعندما يواجههم فإنه يقول لهم: ستُغلبون.. وفي آية أخرى يقول الحق: {قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ} .. [الأنفال: 38].

إن القياس أن يقول: إن تنتهوا يغفر لكم ما قد سلف، لكن الحق قال: {إِن يَنتَهُواْ}، فكأن الله حينما قال كان الكفار غير حاضرين للخطاب ورسول الله هو الحاضر للخطاب، والله يتكلم عن غائبين.

ولكن الله سبحانه في هذه الآية التي نحن بصددها يحمل الرسول تمام البلاغ فمرة يكون النقل من الآمر الأول كما صدر منه سبحانه كقوله: {إِن يَنتَهُواْ} ومرة يأمره الآمر الأول أن يبلغ الكلمة التي يكون بها مخاطبا أي لا تقل: سيغلبون وقل: {سَتُغْلَبُونَ} لأنك أنت الذي ستخاطبهم. وهذه الدقة الأدائية لا يمكن إلا أن تكون من قادر حكيم.

إنه بلاغ إلى كفار قريش أو إلى مطلق الذين كفروا. والغلب سيكون في الدنيا، والحشر يكون في الآخرة.

فإذا ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل النص القرآني {سَتُغْلَبُونَ} فمتى قالها رسول الله؟
لقد قالها والمسلمون قلة لا يستطيعون حماية أنفسهم، ولا يقدرون على شيء.
وكل مؤمن يحيا في كنف آخر، أو يهاجر إلى مكان بعيد.
فهل يمكن أن يأتي هذا البلاغ إلا ممن يملك مطلق الأسباب؟

لقد قالها الرسول مبلغا عن الله، والمسلمون في حالة من الضعف واضحة ومادام قد قالها، فهي حجة عليه، لأنّ مَن أبلغه إياها وهو الله قادر على أن يفعلها. {قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ} ليس العقاب في الدنيا فقط، ولكن في الآخرة أيضا {وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المهاد} هذه المسألة بشارة لرسول الله ولأصحابه وإنذار للكافرين به، ويتم تحقيقها في موقعة بدر. فسيدنا عمر بن الخطاب لما نزل قول الله: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر}.. [القمر: 45].

تساءل عمر بن الخطاب: أي جمع هذا؟ إنه يعلم أن المسلمين ضعاف لا يقدرون على ذلك، وأسباب انتصار المسلمين غير موجودة، ولكن رسول الله لم يكن يكلم المؤمنين بالأسباب، إنما برب الأسباب، فإذا ما تحدى وأنذرهم، مع أنه وصحبه ضعاف أمامهم، فقد جاء الواقع ليثبت صدق الحق في قوله: {سَتُغْلَبُونَ} ويتم انتصار المسلمين بالفعل، ويغلبون الكافرين.

ألا يُجعل صدق بلاغ الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يحدث في الدنيا دليل صدق على ما يحدث في الآخرة؟ إن تحقيق {سَتُغْلَبُونَ} يؤكد {وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ}.
وفي هذه الآية شيئان: الأول؛ بلاغ عن هزيمة الكفار في الدنيا وهو أمر يشهده الناس جميعا، والأمر الآخر هو في الآخرة وقد يُكذبه بعض الناس. وإذا كان الحق قد أنبأ رسوله بأنك يا محمد ستغلب الكافرين وأنت لا تملك أسباب الغَلَبَة عليهم. ومع ذلك يأتي واقع الأحداث فيؤكد أن الكافرين قد تمت هزيمتهم. ومادام قد صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في البلاغ عن الأولى ولم يكن يملك الأسباب فلابد أن يكون صادقا في البلاغ في الثانية وهي البلاغ عن الحشر في نار جهنم.
وبعض المفسرين قد قال: إن هذه المقولة لليهود؛ لأن اليهود حينما انتصر المسلمون في بدر زُلزِلوا زِلزَالا شديدا، فلم يكن اليهود على ثقة في أن الإسلام والمسلمين سينتصرون في بدر، فلما انتصر الإسلام في بدر؛ قال بعض اليهود: إن محمداً هو الرسول الذي وَعَدَنا به الله والأوْلَى أن نؤمن به فقال قوم منهم: انتظروا إلى معركة أخرى. أي لا تأخذوها من أول معركة، فانتظروا، وجاءت معركة أحد، وكانت الحرب سجالا.

ولنا أن نقول: وما المانع أن تكون الآية لليهود وللمشركين ولمطلق الذين كفروا؟
فاللفظ عام وإن كان قد ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جمع اليهود في سوق بني قينقاع وقال لهم: يا معشر اليهود احذروا مثل ما نزل بقريش وأسْلِموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم، فقد عرفتم أني نبيّ مرسل.
فماذا قالوا له؟ قالوا له: لا يَغُرنَّك أنك لقيت قوما أغماراً أي قوما من غمار الناس لم يجربوا الأمور لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة، لئن قاتلتنا لعلمت أنّا نحن الناس، فأنزل الله قوله: {قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ..} إلخ الآية.

والمهاد هو ما يُمهّد عادة للطفل حتى ينام عليه نوماً مستقراً أي له قرار، وكلمة
{وَبِئْسَ المهاد} تدل على أنهم لا قدرة لهم على تغيير ما هم فيه، كما لا قدرة للطفل على أن يقاوم من يضعه للنوم في أي مكان. ويقول الحق بعد ذلك: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ...}.


المصدر: موقع نداء الإيمان


https://media.gemini.media/img/large..._16_19_179.jpg




امانى يسرى محمد 30-05-2021 06:52 AM

رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة ال عمران)
 

http://data.zyzoom.org/vb_cache1/201...f393d2941d.png


قال تعالى:
{قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ}.. [آل عمران : 13].

وحين يقول الحق:
{قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ}
فمن المخاطب بهذه الآية؟
لاشك أن المخاطب بهذه الآية كل من كانت حياته بعد هذه الواقعة، سواء كان مؤمنا أو كافرا، فالمؤمن تؤكد له أن نصر الله يأتي ولو من غير أسباب، والكافر تأتي له الآية بالعبرة في أن الله يخذله ولو بالأسباب، إن الله جعل من تلك الموقعة آية. والآية هي الشيء العجيب أَيْ إن واقعه ونتائجه لا تأتي وَفق المقدمات البشرية.


نعم هذا خطاب عام لكل من ينتسب إلى أيِّ فئة من الفئتين المتقاتلين، سواء كانت فئة الإيمان أو فئة الكفر. ففئة الإيمان لكي تفهم أنه ليست الأسباب المادية هي كل شيء في المعركة بين الحق والباطل، لأن لله جنودا لا يرونها. وكذلك يخطئ هذا الخطاب فئة الكافرين فلا يقولون: إن لنا أسبابنا من عدد وعُدَّة قوية، فقد وقعت المعركة بين الحق والباطل من قبل؛ وقد انتصر الحق.

وكلمة {فِئَةٌ} إذا سمعتها تصورت جماعة من الناس، ولكن لها خصوصية
فقد توجد جماعة ولكن لكل واحد حركة في الحياة.
ولكن حين نسمع كلمة {فِئَةٌ} فهي تدل على جماعة، وهي بصدد عمل واحد. ففي غير الحرب كل واحد له حركة قد تختلف عن حركة الآخر. ولكن كلمة {فِئَةٌ} تدل على جماعة من الناس لها حركة واحدة في عمل واحد لغاية واحدة.

ولاشك أن الحرب تصور هذه العملية أدق تصوير، بل إن الحرب هي التي تُوَحّد كل فئةٍ في سبيل الحركةِ الواحدة والعمل الواحد للغاية الواحدة؛ لأن كل واحد من أي فئة لا يستطيع أن يحمي نفسه وحده، فكل واحد يفئ ويرجع إلى الجماعة، ولا يستطيع أن ينفصل عن جماعته. ولكن الفرد في حركة الحياة العادية يستطيع أن ينفصل عن جماعته.

إذن فكلمة {فِئَةٌ} تدل على جماعة من الناس في عملية واحدة، وتأتي الكلمة دائما في الحرب لتصور كل معسكر يواجه آخر. وحين يقول الحق: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا} أي أن هناك صراعا بين فئتين، ويوضح الحق ماهية كل فئة فيقول: {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ}.

وحين ندقق النظر في النص القرآني، نجد أن الحق لم يورد لنا وصف الفئة التي تقاتل في سبيل الله ولم يذكر أنها فئة مؤمنة، وأوضح أن الفئة الأخرى كافرة، وهذا يعني أنّ الفئة التي تقاتل في سبيل الله لابد أن تكون فئة مؤمنة، ولم يورد الحق أن الفئة الكافرة تقاتل في سبيل الشيطان اكتفاء بأن كفرها لابد أن يقودها إلى أن تقاتل في سبيل الشيطان.


لقد حذف الحق من وصف الفئة الأولى ما يدل عليه في وصف الفئة الثانية.
وعرفنا وصف الفئة التي تقاتل في سبيل الله من مقابلها في الآية وهي الفئة الأخرى.
فمقابل الكافرة مؤمنة، وعرفنا- أيضاً- أن الفئة الكافرة إنما تقاتل في سبيل الشيطان لمجرد معرفتنا أن الفئة الأولى المؤمنة تقاتل في سبيل الله. ويسمون ذلك في اللغة (احتباك). وهو أن تحذف من الأول نظير ما أثبت في الثاني، وتحذف من الثاني نظير ما أثبت في الأول، وذلك حتى لا تكرر القول، وحتى توضح الالتحام بين القتال في سبيل الله والإيمان، والقتال في سبيل الشيطان والكفر.

إذن فالآية على هذا المعنى توضح لنا الآتي: لقد كان لكم آية، أي أمر عجيب جدا لا يسير ولا يتفق مع منطق الأسباب الواقعية في فئتين، فعندما التقت الفئة المؤمنة في قتال مع الفئة الكافرة، استطاعت الجماعة المؤمنة المحددة بالغاية التي تقاتل من أجلها- وهي القتال في سبيل الله- أن تنتصر على الفئة الكافرة التي تقاتل في سبيل الشيطان.

وبعد ذلك يقول الحق:
{يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين}فنحن أمام فئتين، فمن الذي يَرى؟ ومن الذي يُرى؟ ومن الرائي ومن المرئي؟
إن كان الرائي هم المؤمنين فالمرئي هم الكافرين. وإن كان الرائي هم الكافرون فالمرئي هم المؤمنون ولنر الأمر على المعنيين: فإن كان الكافرون هم الذين يرون المؤمنين، فإنهم يرونهم مثليهم؛ أي ضعف عددهم، وكان عدد الكافرين يقرب من ألف. إذن فالكافرون يرون المؤمنين ضعف أنفسهم، أي ألفين. وقد يكون المعنى مؤديا إلى أن المؤمنين يرون الكافرين ضعف عددهم الفعلي. وقل يؤدى المعنى الى أن الكافرين يرون المؤمنين ضعف عددهم وكان عدد المؤمنين يقرب من ثلاثمائة وأربعة عشر، وضعف هذا العدد هو ستمائة وثمانية وعشرون مقاتلا.

فأن أخذنا معنى (مِّثْلَيْهِمْ) على عدد المؤمنين، فالكافرون يرونهم حوالي ستمائة وثمانية وعشرين مقاتلا، وإن أخذنا معنى (مِّثْلَيْهِمْ) على عدد الكافرين فالكافرون يرون المؤمنين حوالي ألفين.
وما الهدف من ذلك؟
إن الحق سبحانه يتكلم عن المواجهة بين الكفر والإيمان حيث ينصر الله الإيمان على الكفر
. وبعض من الذين يتصيدون للقرآن يقولون: كيف يقول القرآن: {يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين} وهو يقول في موقع آخر: {إِذْ يُرِيكَهُمُ الله فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر ولكن الله سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور}.. [الأنفال: 43-44].


وهذه الآية تثبت كثرة، سواء كثرة المؤمنين أو كثرة الكافرين، والآية التي نحن بصدد تناولها بالخواطر الإيمانية تثبت قلة، والمشككون في القرآن يقولون: كيف يتناول القرآن موقعة واحدة على أمرين مختلفين؟ ونقول لهؤلاء المشككين: أنتم قليلو الفطنة؛ لأن هناك فرقاً بين الشجاعة في الإقبال على المعركة وبين الروح العملية والمعنوية التي تسيطر على المقاتل أثناء المعركة، والحق سبحانه قد تكلم عن الحالين: قلل الحق هؤلاء في أعين هؤلاء، وقلل هؤلاء في أعين هؤلاء، لأن المؤمنين حين يرون الكافرين قليلا فإنهم يتزودون بالجرأة وطاقة الإيمان ليحققوا النصر.
والكافرون عندما يرون المؤمنين قلة فإنهم يستهينون بهم ويتراخون عند مواجهتهم. ولكن عندما تلتحم المعركة فما الذي يحدث؟ لقد دخلوا جميعا المعركة على أمل القلة في الأعداد المواجهة، فما الذي يحدث في أعصابهم؟ إن المؤمن يدخل المعركة بالإستعداد المكثف لمواجهة الكفار.
وأعصاب الكافر تخور لأن العدد أصبح على غير ما توقع، إذن فيقول الحق: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور}.. [الأنفال: 44].

يصور الحالة قبل المعركة؛ لأن الله لا يريد أن يتهيب طرف فلا تنشأ المعركة. لكن ما إن تبدأ المعركة حتى يقلب الحق الأمور على عكسها، إنه ينقل الشيء من الضد إلى الضد ونقل الشيء من الضد الى الضد إيذان بأن قادرا أعلى يقود المشاعر والأحاسيس، والقدرة العالية تستطيع أن تصنع في المشاعر ما تريد.

نداء الأيمان


https://media.gemini.media/img/large...5_16_4_182.jpg



قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}.. [آل عمران : 14].

الموضع الذي تأتي فيه هذه الآية الكريمة هو: موقع ذكر المعركة الإسلامية التي جعلها الله آية مستمرة دائمة؛ لتوضح لنا أن المعارك الإيمانية تتطلب الانقطاع إلى الله، وتتطلب خروج الإنسان المؤمن عما ألف من عادة تمنحه كل المتع. والمعارك الإيمانية تجعل المؤمن الصادق يضحي بكثير من ماله في تسليح نفسه، وتسليح غيره أيضا.

فمن يقعد عن الحرب إنسان تغلبه شهوات الدنيا، فيأتي الله بهذه الآية بعد ذكر الآية التي ترسم طريق الانتصارات المتجدد لأهل الإيمان؛ وذلك حتى لا تأخذنا شهوات الحياة من متعة القتال في سبيل الله ولإعلاء كلمته فيقول: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات) وكلمة (زُيِّنَ) تعطينا فاصلا بين المتعة التي يحلها الله، والمتعة التي لا يرضاها الله؛ لأن الزينة عادة هي شيء فوق الجوهر. فالمرأة تكون جميلة في ذاتها وبعد ذلك تتزين، فتكون زينتها شيئا فوق جوهر جمالها.
فكأن الله يريد أن نأخذ الحياة ولا نرفضها، ولكن لا نأخذها بزينتها وبهرجتها، بل نأخذها بحقيقتها الاستبقائية فيقول: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء). وما الشهوة؟
الشهوة هي ميل النفس بقوة إلى أي عمل ما.


وحين ننظر إلى الآية فإننا نجدها توضح لنا أن الميل إذا كان مما يؤكد حقيقة استبقاء الحياة فهو مطلوب ومقبول، ولكن إن أخذ الإنسان الأمر على أكثر من ذلك فهذا هو الممقوت.

وسبق أن ضربنا المثل من قبل بأعنف غرائز الإنسان وهي غريزة الجنس، وأن الحيوان يفضل الإنسان فيها، فالحيوان أخذ العملية الجنسية لاستبقاء النوع بدليل أن الأنثى من الحيوان إذا تم لقاحها من فحل لا تُمكِّن فحلاً اخر منها. والفحل أيضاً اذا ما جاء إلى أنثى وهي حامل فهو لا يُقبل عليها، إذن فالحيوانات قد أخذت غريزة الجنس كاستبقاء للحياة، ولم تأخذها كالإنسان لذة متجددة.
ومع ذلك فنحن البشر نظلم الحيوانات، ونقول في وصف شهوة الإنسان: أن عند فلان شهوة بهيمية. ويا ليتها كانت شهوة بهيمية بالفعل؛ لأن البهيمة قد أخذتها على القدر الضروري، لكن نحن فلسفناها، إذن فخروجك بالشيء عما يمكن أن يكون مباحاً ومشروعا يسمى: دناءة شهوة النفس.
والحق سبحانة وتعالى يريد أن يضمن للكون بقاءه، والبقاء له نوعان: أن يُبقِي الإنسان حياته بالمطعم والمشرب، وتبقى حياة النوع الإنساني بالتزواج.

ولكن إن نظرت إلى المسألة وجدت الخالق حكيما عليما. إنه يعلم أن طفولة أي حيوان بسيطة بالنسبة لأبيه وأمه، مثال ذلك: الحمامة تطعم فرخها إلى أن يستطيع الطيران، ثم لا تعرف أين ذهب فرخها، لكن حصيلة الإلتقاء بين الرجل والمرأة، والتي أراد الله لها أن تنتج الأولاد تحتاج إلى شقاء إلى أن يبلغ الولد، وذلك ليكون هناك تكافؤ وتناسب بين ما يحرص عليه الإنسان من شهوة، وما يتحمل من مشاق ومتاعب في سبيل الاستمتاع بها واستبقائها.


فقول الحق سبحانه:
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء)
فمن المزين؟
إن كان في الأمر الزائد على ضروريات الأمر، فهذا من شغل الشيطان، وإن كان في الأمر الرتيب الذي يضمن استبقاء النوع فهذا من الله.

ونجد الحق يضيف (البنين) إلى مجال الشهوات ويقصد بها الذكران، ولم يقل البنات، لماذا؟
لأن البنين هم الذين يُطلبون دائما للعزوة كما يقولون ولا يأتي منهم العار، وكان العرب يئدون البنات ويخافون العار، والمحبوب لدى الرجل في الإنجاب حتى الآن هو إنجاب البنين، حتى الذين يقولون بحقوق المرأة وينادون بها، سواء كان رجلا أو امرأة إن لم يرزقه الله بولد ذكر فإنه أو إنها تريد ولداً ذكراً.


ويضيف الحق إلى مجال الشهوات:
{والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة}، والقناطير هي جمع قنطار، والقنطار هو وحدة وزن، وهذا الوزن حددته كثافة الذهب، إلا أن القنطار قبل أن يكون وزناً كان حجماً، لكنهم رأوا الحجم هذا يزن قدراً كمياً، فانتقلوا من الحجم إلى الوزن.

وكان علامة الثراء الواسع في الزمن القديم أن يأتوا بجلد الثور بعد سلخه ويملأوه ذهبا، وملء جلد الثور بالذهب يسمونه قنطاراً، وكانت هذه عملية بدائية. وبعد ذلك أخذوا ملء الجلد ذهباً ووزنوه فصار وزنا. إذن فالأصل فيه أنه كان حجماً، فصار ووزناً.

وساعة تسمع {والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة} فهو يريد أن يحقق فيها القنطارية، وذلك يعني أن القنطار المقنطر هو القنطار الكامل الوزن، وليس مجرد قنطار تقريباً، كما نقول أيضاً: (دنانير مدنرة). وعادة نجد في اللغة العربية لفظاً يأتي من جنس اللفظ يضم إليه كي يعطيه قوة، فيقال (ظل ظليل) أي ظل كثيف، ويقال (ليل الليل) أي أن الليل في ظلمة شديدة، وهي مبالغة في كثافة الظلام.

والظلام على سبيل المثال يحجب الشمس، وحاجب الشمس عنك قد يكون حجاباً واحداً، وقد يكون الشيء الذي يظلك فوقه شيء آخر يظلله أيضاً فيكون الظل ظليلاً، ولذلك يكون الظل تحت الأشجار جميلاً، لأن ورقة تستر الشمس وورقة أخرى تستر الورقة الأولى، وهكذا، فتصنع تكييفاً طبيعياً للهواء.
ولذلك فهم يصنعون الآن خياماً مكيفة الهواء مصنوعة من قماش فوقه قماش آخر، وبينهما مسافة، فيكون هناك قماش يُظلل ظِلاً آخر، فإذا ما وضعوا قطعة ثالثة من القماش تُظل الظلين الأولين، فإن الظل يكون ظليلاً ولذلك قلنا: إن ظل الأشجار هو ظل ظليل، فيه حنان، فكل ورقة تظل الإنسان تكون نفسها مظَّللةَ بورقة أخرى، وتكون أوراق الشجر التي تظلل بعضها بعضا مختلفة الأوضاع، وتعطي الأوراق للنسيم فرصة المرور، أما الخيام فهي تحجب النسيم.
والشاعر حين أراد أن يصف الروضة قال:
تصد الشمس أَنَّى واجهتها *** فتحجبها وتأذن للنسيم
مإذن فحين وصف الحق القناطير بأنها مقنطرة فذلك يعني القناطير الدقيقة الميزان، وهي قناطير مقنطرة من ماذا؟ {مِنَ الذهب والفضة والخيل المسومة}. وكانت الخيل هي أداة العز وأمارة وعلامة على العظمة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة».

قول الحق:
{والخيل المسومة} نرى فيهِ أن اللفظ الواحد يشع في مجالات متعددة من المعاني، فمسوَّمة من سامها يَسوُمها، ومعنى ذلك أن لهذه الخيل مراعى تأكل منها كما تريد، وليست خيلاً مربوطة بأكل ما يُقدم لها فقط، ومسوّمة أيضاً تعنى أن لهذا الخيل علامات، فهذا حصان أغرّ، وذلك أدهم وذاك أشقر.
ومسوَّمة أيضا، أن تكون مروضة، ومدربة، وتم تعليمها، فالأصل في الخيل أنها لم تكن مُستأنسة بل مُتوحشة، ولذلك لابد من ترويضها حتى ينتفع بها الإنسان. فكم معنى إذن أعطته لما كلمة (مُسَوَّمَةِ)؟
سائمة، أي تأكل على قدر ما تشتهي لا على قدر ما نعطيها من طعام. ومُعلَّمة أي فيها علامات كالغّرة والتحجيل، وهذا جواد أدهم، وذلك جواد أشقر، أو أنها معلمة أي مروضة. فماذا تتطلب الحرب؟.
إن الحرب تتطلب الانقطاع عن الأهل، فيجب ألا تكون شهوة النفس حاجزاً، سواء كانت شهوة للنساء، أو كانت شهوة العزوة للبنين ورعايتهم، أو كانت شهوة المال؛ فالمؤمن ينفقه في سبيل الله، والخيل أيضاً يستخدمها الإنسان في القتال لإعلاء كلمة الله.

ونلاحظ أن هذه الآية- التي تعدّد أنواع الزينة- جاءت بعد الآية التي تتحدث عن الجهاد في سبيل الله والتي يقول الحق تبارك وتعالى فيها: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار}.. [آل عمران: 13].

وذلك ليرشدنا إلى أن الإنسان المؤمن لا يصح أن يضحى بشهوته الحقيقية وهي إدراك الشهادة في سبيل الله أو النصر على العدو بسبب الشهوات الزائلة التي تتمثل في النساء، وفي البنين، وفي القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وفي الخيل المسوَّمة والأنعام

وقد قال الله عن الأنعام في سورة الأنعام: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّاكُمُ الله بهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً لِيُضِلَّ الناس بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين}.. [الأنعام: 143-144].

حساب ذلك هو إثنان من الضأن، وإثنان من الماعز، وإثنان من الإبل، وإثنان من البقر أي ثمانية أزواج. ولا يمكن حسابها على أنها ستة عشر كما قال البعض قديماً، لا؛ إن الزوج لا يعني اثنين من الشيء، ولكن الزوج واحد، ولكن يُشترط أن يكون مع غيره من جنسه.
ومثال آخر هو كلمة (التوأم)، إن التوأم هو واحدٌ معه غيره، وهما توأمان، وهم توائم إذا كان العدد أكثر من اثنين.


والحق يقول في مجال زينة الشهوات:
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء والبنين والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث)
وحين تسمع كلمة
(الحرث) فافهم أن المراد بها هنا الزرع، ولكن الله سبحانه وتعالى يريد منك أن تعلم أن الله حين يُنبت لك أشياء بدون معالجتك فإنه يريد منك أيضاً أن تَسْتنبت أشياء بمعالجتك، وهذا لا يتأتى إلا بعملية الحرث.

والحرث هو إهاجة الأرض؛ فالتربة تكون جامدة، فلابد أن يهيّجها الإنسان بالحرث، أي أن تفك يبوستها- وتَلاَصُق ذراتها لأن تلاَصُقَ ذرات التربة لا يصلح أن يكون بيئة للنبات؛ لأن النبات يحتاج إلى الماء ويحتاج إلى الهواء، ويحتاج من الإنسان أن يُمهد للشعيرات البسيطة أن تخرج، وتجد تربة سهلة تتحرك فيها إلى أن تقوى.
إذن فالحرث يتثير الأرض، ويجعلها ليّنة مُتفتتة حتى تستطيع البذرة أن تنمو؛ لأن الله قد أودع في فلقتي كل بذرة مقومات الحياة الى أن يوجب لها جذر يأخذ مقومات الحياة من الأرض، وكلما قوى الجذر في النبات فإن الفلقتين تضمحلان، وتصيران مجرد ورقتين. فأين ذهب حجم الفلقتين؟
لقد قامت الفلقتان بتغذية النبتة إلى أن أستطاعت النبتة أن تتغذى بنفسها من الأرض، ولا يمكن حدوث ذلك إلا إذا كانت الأرض محروثة.

ولذلك يقولون: إن الأرض الطينية السوداء تكون صعبة، وغير خصبة، ويقال: إن الأرض الرملية أيضاً غير خصبة، لماذا؟.

لأننا نريد صفتين اثنتين في الأرض: الصفة الأولى أن تكون الأرض صالحة أن يتخللها الماء ليشرب الزرع، والصفة الأخرى ألاّ تُسرب الماء بعيداً، فإذا كانت الأرض طينية فإن جذور الزرع تختنق وتتعفن، وإذا كانت رملية فإن الماء يتسرب بعيداً، لذلك نحتاج في الزراعة الى أرض بين سوداء ورملية، أي أرض صفراء. والله حين يتكلم عن الزرع فإنه يقول: (الحرث) وذلك حتى يلفتنا إلى أن من يريد أن يأخذ زرعاً لابد أن يجدّ ويحرث الأرض. وهو سبحانه القائل: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون}.. [الواقعة: 63-64].

وعبِّر الحق عن الزرع بالحرث لأنه السبب الذي يُوجِد الزرع. وكل ما تقدم من الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث، كل ذلك تكون قيمته عند الإنسان ما يوضحه الحق بقوله: (ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب).

إن كل ذلك هو متاع الحياة الدنيا، والفيصل هو أن الإنسان يخشى أن تفوته النعمة فلا تكون عنده، أو أن يفوتها فيموت. وكل ما يفوتك أو تفوته، فلا تعتز به. وعندما نتأمل الآية في مجموعها نجد أن فيها مفاتيح كل شخصية تريد أن تنحرف عن منهج الله، إنه سبحانه يقول: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء والبنين والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب}.. [آل عمران: 14].

هكذا نرى المفاتيح التي قد تجذب الإنسان لينحرف عن مراد الله في منهجه، إنه سبحانه يطلب من عبده المؤمن أن يبني حركة حياته على مراد الله، فما الذي يجعل المؤمن يترك مراد الله من حكم لينصرف إلى حكم يناقضه؟.

لا شك أنه الهوى، والهوى هو الذي يُميل ويُزيغ القلوب، ولكل هوى مفتاح، ولكل شخصية من المكلفين بمنهج الله مفتاح لهواه، فواحد مفتاحه النساء، وواحد مفتاحه البنون، يحب أن يرعاهم رعاية تفوق دَخْلَه من عمل أو صناعة مثلا فقد يسرق أو يرتشي ليسعد هؤلاء. وأناس مفاتيحهم الشخصية المال، أو في زينة الخيل، والعدة والعتاد فلكل شخصية مفتاح هوى.
والذين يدخلون على الناس ليُزيِّنوا لهم غير منهج الله يأتون لهم بالمفتاح الذي يفتح شخصياتهم، فربما كان هناك إنسان لا تُغريه نظرة المرأة أو ملايين الذهب إنما يتملكه حبه لأولاده وهو الهوى الغلاب.

إذن فكل واحد له مفتاح لشخصيته، والذين يريدون إغراء الناس وغوايتهم يعرفون مفاتيح من يريدون إغراءه وإغواءه. وحين يقول الحق أنَ هذه الأشياء هي المُزَيِّنة للناس. قد يقول قائل: إذا كان الله يريد أن يصرفنا عن هذه الأشياء فلماذا خلقها لنا؟


وعلى هذا القول نرد: إن الحق مادام قد قال:
{زُيِّنَ} وبناها- كما يقول النحاة- للمجهول إي لما لم يُسَمَّ فاعله، فمن الذي زيِّن؟ لقد كان الله قادرا أن يقول لنا من الذي زَيَّن تلك الأشياء تحديدا، لكن الحق يريد أن يعلمنا أنه من الممكن أن يكون الشيطان هو الذي يُزيّن لنا هذه الأشياء، ومن الممكن أن يكون منطق المنهج هو الذي يزين، ألم يقل الحق سبحانه دعاء على لسان عباده الصالحين: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً}.. [الفرقان: 74].

إذن فما الفيصل في تلك المسألة؟
الفيصل في هذه المسألة أن الحق سبحانه وتعالى جعل لكل نعمة من نعم الحياة عملا يعمله الإنسان فيها، فالمرأة إنما اتَّخَذَت سكنا أي ارتياحا عندها، ارتياحاً يعطيك كل الحنان والعطف، وهو سبحانه القائل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتسكنوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .. [الروم: 21].


إن الحق يريد لنا أن يسكن الرجل إلى حلاله، وتصرف المرأة الحلال عَيْنَيْ زوجها عن أعراض الناس. لكن ماذا في الرجل الذي يُحب الأبناء؟ ألم يقل سيدنا زكريا: {قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي واشتعل الرأس شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً وَإِنِّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَآئِي وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ واجعله رَبِّ رَضِيّاً}.. [مريم: 4-6].

لقد طلب زكريا عليه السلام وليَّا يرثه، والأنبياء لا تُورث منهم أموال، إنما يُورِّثون العلم والحكمة، إذن فقد طلب زكريا عليه السلام أن يرث ابنه الحكمة منه ويرث من آل يعقوب وأن يجعله الله رضِيَّا. فلو كان الأنبياء يورِّثون المال، لكان البعض قد فهم أن طلب زكريا للإبن كي يرثه في المال، لكن الحق أراد لأنبيائه ألاّ يُورِّثوا المال، بل يورِّثون العلم بمنهج الله. وقد طلب زكريا الابن لتثبيت منهج الله في الأرض.

وكذلك الذي يريد الأموال لينفقها في سبيل الله، وكذلك الذي يريد الخيل ليروضها على الجهاد، وكذلك الذي يريد الحرث ليملأ بطون خلق الله بما يَطعَمُون منه، كل هؤلاء ينالهم المدح والثناء والجزاء الكثير من الله. لذلك يجب أن نعلم أن الحكم يأتي من الله مُحتملا أن تتجه به إلى الخير المراد لله، ومحتملا أن تتجه به إلى الشر المراد لنفسك. وأنت- أيها العبد- حين تنظر إلى أي شهوة من هذه الشهوات فلسوف تجد أنه من الممكن أن توجِّهها وِجهة خير. يقول الحق: {هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً}.. [الفرقان: 74].


لقد أراد الله للأتقياء والأنبياء أن يكون لهم من الذرية أبناء ليرثوا المنهج السلوكي ويكونوا مثلا طيبة للناس يقتدون بهم. إذن فالمؤمن يحب أن تكون ذريته قدوة سلوكية. والذي يحب الخيل يمكن أن يوجه هذا الحب إلى الخير، ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مِنْ خير معاش الناس لهم رجل ممسك عِنَانَ فرسه في سبيل الله يطير على مَتنه كلما سمع هِيْعَة أو فَزْعةً طار عليه يبتغي القتل والموت مَظَانَّة».


وقد أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نُروِّض الخيل، إذن فمن الممكن أن تكون هذه الأشياء مساراً للخير. وإياكم أن تفهموا أن الله يزهدنا فيها أو ينفرنا منها، ولكنه يزهدنا أن نستعمل ما خلقه لنا في غير مراده.

ولننظر إلى تعليق الله على الأشياء المُزينة: (ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا) أي أن الذي ينظر الى هذه الاشياء المزينة نظرة تقليدية سطحية سيجدها مجرد متاع، وما عمر هذا المتاع؟ إنه موقوت بالدنيا الفانية.
ولننظر إلى الإنسان عندما يُصَعِّدُ في عمله قيمة الخير، وتصعيد قيمة الخير يأتي من تنمية نوعه، أي الزيادة في نوع الخير، ومن استدامته، ومن أن الإنسان لا يترك هذا الخير.

إذن فتصعيد الخير يأتي على عدة صور تبدأ من تنمية الخير نفسه. واستدامة الخير فلا ينقطع، وضمان أن يحيا الإنسان للخير ويعيش له، وألاّ يذهب الخير عنه، وأمر رابع هو ألاّ تربط هذا الخير بأغيار، أي أن تربطه بواحد قوى يأتي لك به، فقد يضعف، أو يمرض، أو يغيب، أو يغدر بك.

إذن فلابد من أربعة عناصر: الاول: تصعيد الخير، أي نوع الخير الذي تفعله يكون أرقى من خير آخر، فنعمل دائما على زيادته وتنميته. والثاني: استدامة الخير. والثالث: أن تدوم أنت للخير، وتحرص على أن تعيش له، والأمر الرابع: ألاّ تربط هذا الخير بالأغيار. بل عليك أن تعتمد على الله ثم على نفسك.
وكل خير يأتي دون هذا فهو خير غير حقيقي. فإذا نظرت إلى شهوات النساء والمال والبنين والخيل والأنعام والحرث فإنها ستعطيك متاع الدنيا. ولنسلم جدلا أن شيئا لن يسلبك هذه الأشياء وأنت حيّ، وأنها ستظل معك طيلة دنياك. فما قيمة الدنيا وهي مقاسة بآلاف السنين، والإنسان لا يعيش فيها إلا قدرا محددا من الأعوام يقرره الحق سبحانه وتعالى.

إذن فالدنيا تقاس بعمر الإنسان فيها لا بعمر ذات الدنيا لغيره، لأن عمر الدنيا لغيرك لا يخصك. هب أن هذه الشهوات من نساء ومال وبنين وخيل وذهب وفضة وحرث وأنعام وعدة وعتاد قد دامت لك، فما الذي يحدث؟ إن الدنيا محدودة. ولا أحد يستطيع أن يستديم الدنيا، لذلك فلن يستطيع أحد أن يستديم الخير لأن عمره في الدنيا محدود.


وحياة الإنسان في الدنيا لم يضع الله لها حداً يبلغه الإنسان. إن الله لم يحدد عمرا يموت فيه الإنسان، ولكنْ لكل إنسان عمْر خاصٌّ محدود بحياته، فعندما يولد أي طفل لا تنزل معه بطاقة تحدد عدد السنوات التي سوف يحياها في الدنيا.

وهو سبحانه قد جعل عدد سنوات الحياة مبهما لكل إنسان، ولذلك يقال إن الإبهام هو أعلى درجات البيان، الحق أخفى توقيت الموت وسببه عن الإنسان. متى يأتي؟ في أي زمان وفي أي مكان؟ كل ذلك أخفاه فأصبح على المؤمن أن يكون مترقبا للموت في كل لحظة.

إن الإبهام للموت هو البيان الوافي، وما دامت الدنيا مهما طالت فهي محدودة وغير مضمونة للإنسان أن يحياها، ونعيمه فيها على قدر إمكاناته وقدرته، وإن لم تذهب الدنيا من الإنسان فالإنسان نفسه يذهب منها. فإذا ما قارنت كل ذلك باسم الحياة التي نحياها الآن، إنّ اسمها (الدنيا) أي (السفلى) ومقابل (الدنيا) هو (العليا) وهي الحياة في الآخرة.

ولماذا هي (عليا)؟ لأنها ستصعد الخير.

فبعد انقضاء هذه الحياة المحدودة يذهب المؤمن إلى الجنة وبها حياة غير محدودة، وهذا أول تصعيد. ويضمن المؤمن أن أكلها دائم لا ينقطع. ويضمن المؤمن أنه خالد في الجنة فلا يموت فيها. ويضمن المؤمن قيمة هذه الجنة؛ لأن الخير إنما يأتي على مقدار معرفة الفاعل للخير. ومعرفة الإنسان للخير جزئية محدودة، ومعرفة الله للخير كمال مطلق.


فالمؤمن في الآخرة يتنعم في الخير على مقدار ما علم الله من الخير. إذن فحياتنا هي الدنيا، أي السفلى، وهناك الآخرة العليا. فإذا طلب المنهج منا ألاّ ننخدع بالدنيا، وألاّ ننقاد إلى المتاع فهل هذا لون من تشجيع الحب للنفس أو تشجيع للكراهية للنفس؟

إنه منهج سماوي يقود إلى حب النفس؛ لأنه يريد أن يُصَعِّد الخير لكل مؤمن، لقد بيّن المنهج أن في الدنيا ألوانا من المتع هي كذا وكذا وكذا، والدنيا محدودة ولا تدوم لإنسان، ولا يدوم إنسان لها، وإمكانات الإنسان في النعيم الدنيوي محدودة على قدر الإنسان، أما إمكانات النعيم في الآخرة فهي على قدر قدرة الخالق المربي، فمن المنطقي جدا أن يقول الله لنا: {ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب}. وحسن المآب تعني حسن المرجع.

والحق حينما طلب منك أيها المؤمن أن تغض بصرك عما لا يحل لك، فقد يظن الإنسان السطحي أن في ذلك حجراً على حرية العين، ولكن هذا الغض للبصر أمر به سبحانه إنما ليملأ العين في الآخرة بما أحل الله، إذن فهذا حب من الله للمخلوق وهذا تصعيد في الخير.

ولنفترض أن معك مبلغا قليلا من المال وقابلت فقيرا مسكينا فآثرت أنت هذا الفقير على نفسك، فأنت تفعل ذلك لتنال في الآخرة ثوابا مضاعفا. إذن فقضية الدين هي أنانية عالية سامية، لا أنانية حمقاء. ويوضح الله بعد ذلك حسن المآب بقوله سبحانه: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم...}.

المصدر: موقع نداء الإيمان



https://media.gemini.media/img/large...16_31_9_81.jpg

امانى يسرى محمد 31-05-2021 06:46 AM

رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة ال عمران)
 
https://lh3.googleusercontent.com/pr...61u-WGzF4SNhR7






قال تعالى:{قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}.. [آل عمران : 15].



وحين تسمع كلمة (أؤخبركم) فما نسمعه بعد ذلك كلام عادي، أما عندما نسمع (أَؤُنَبِّئُكُمْ) فما نسمعه بعدها هو خبر هائل لا يقال إلا في الأحداث العظام، فلا يقول أحد لآخر: سأنبئك بأنك ستأكل كذا وكذا في الغداء، ولكن يقال (أنا أنبئك بأنك نلت جائزة كبرى)، هذا في المستوى البشرى فما بالنا بالله الخالق الأعلى، ولذلك يقول الله الحق: {عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ النبإ العظيم}.. [النبأ: 1-2].


إنه الأمر الذي يقلب كيان هذه الدنيا كلها، فحين يقول الحق: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم} فمعنى ذلك أن الله يخبرنا بخبر من هذه الأشياء، ومن ذلك نعرف أن الله قد جعل هذه الأشياء مقياساً، لماذا؟


لأنه مقياس محس، وأوضح لنا كيفية التصعيد فقال: {لِلَّذِينَ اتقوا عِندَ رَبِّهِمْ} والمؤمن هو من ينظر بثقة إلى كلمة {عِندَ رَبِّهِمْ} أي الرب المتولى التربية والذي يتعهد المربيِّ حتى يبلغه درجة الكمال المطلوب منه.


والعندية هنا هي عند الرب الأعلى. فماذا أعد المربي الأعلى للمتقين؟ لقد أعد لهم {جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} ولنر الخيرية في هذه الجنات، وهي تقابلٍ في الدنيا الحرث والزرع، وقد قلنا: إن الحق حين تكلم عن الزرع تكلم واصفاً له ب (الحرث) لنعرف أن الزرع يتطلب منا حركة وعملاً.


أما في الآخرة فالجنات جاهزة لا تتطلب من المؤمن حركة أو تعباً، ولا يقف الأمر عند ذلك، بل إن هذه الجنات تجر من تحتها الأنهار وفيها للإنسان المؤمن ما وعده الله به: {خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} إنه الخلود الذي لا يفنى، ولا يتركه الإنسان ولا يترك هو الإنسانِ.


والأزواج المطهرة هي وعد من الله للمؤمنين، ومن يحب النساء في الدنيا يعرف أن المرأة في الدنيا يطرأ عليها أشياء قد تنفر، إما خَلْقاً تكوينياً، وإمَّا خُلًقاً، فهناك وقت لا يحب الرجل أن يقرب فيه المرأة، وقد يكون فيها خصلة من الخصال السيئة فيكره الإنسان جمالها.


لذلك فالرجل قد ينخدع بالمنظر الخارجي للمرأة في الدنيا، وقد يقع الإنسان في هوى واحدة فيجد فيها خصلة تجعله يكرهها، أما في الآخرة فالأمر مختلف، إنها {أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} أي مطهرة من كل عيب يعيب نساء الدنيا، فيأخذ المؤمن جمالها، ولا يوجد فيها شرور الدنيا، فقد طهرها الله منها.


{وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} من الذي طهرها؟ إنه هو الله سبحانه طهرها خَلْقاً وَخُلُقاً. فالرجل في الدنيا قد يهوى إمرأة، وتستمر نضارتها خمسة عشر عاماً تستميله وتجذبه، ثم تبدأ التجاعيد والترهل والتنافر. أما في الآخرة فالمرأة مطهرة من كل شيء، وتظل على نضارتها وجمالها إلى الأبد، أليس هذا تصعيداً للخير؟

ونلاحظ أن الحق سبحانه ذكر هنا أمرين:

الأمر الأول: هو جنات تجري من تحتها الأنهار، ونقارن بينها وبين الحرث في الدنيا.

والأمر الآخر: هو الأزواج المطهرة، ونقارن بينها وبين النساء في الدنيا أيضا، ولم يورد الحق أي شيء عن بقية الأشياء، فأين القناطير المقنطرة من الذهب؟ وأين الخيل؟ وأين الأنعام وأين البنون؟


إننا نلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى جعل الأمرين المزينين، واحداً يستهل به الآية، والأمر الآخر يأتي في آخر الآية، ولنقرأ الآية التي فيها التزيين: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء والبنين والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث}.


إن البداية هي النساء، ذلك هو القوس الأول، والنهاية هي الحرث وذلك هو القوس الثاني، وبين القوسين بقية الأشياء المزينة، وقد أعطانا الله عوض القوسين، وأوضح لنا إنهما هما الخير الْمُصَعَّد، ولم يورد بقية الأشياء المزينة، وهذا يعني أن نفهم ذلك في ضوء أن الرزق ما به انتُفِعَ، أي أن كل ما ينتفع به الإنسان رزق، الخُلُق الطيب رزق سماع العلم رزق، أدب الإنسان رزق، حلم الإنسان رزق، صدق الإنسان رزق، ولكن الرزق يأتي مرة مباشرا بحيث تنتفع به مباشرة، ومرة أخرى يأتي الرزق لكنه لا ينفع مباشرة، بل قد يكون سببا ووسيلة لما ينفع مباشرة.


مثال ذلك الخبز، إنه رزق مباشر، والنقود هي رزق، لكنها رزق غير مباشر؛ لأن الإنسان قد يكون جائعاً وعنده جبل من الذهب فلو قال واحد لهذا الإنسان: خذ رغيفا مقابل جبل من الذهب. سيعطي الإنسان الجائع جبل الذهب مقابل الرغيف؛ لأن الإنسان لا يأكل الذهب، وكذلك كوب الماء بالنسبة للعطشان.

إذن فهناك رزق لا يطلب لذاته، ولكن يطلبه الإنسان لأنه وسيلة لغيره فالوسيلة لغيره أنت لن تحتاج إليها في الآخرة؛ لأنك ستعيش ببدل الأسباب بقول الحق: (كن). فالإنسان لن يحتاج في الجنة إلى مال. أو قناطير مقنطرة من الذهب والفضة؛ لأن كل ما تشتهيه النفس ستجده، ولن تحتاج في الآخرة إلى خيل مسومة؛ لأنك لن تجاهد عليها أو تتلذذ وتستأنس بركوبها.


وكل ما لا تحتاج إليه في الآخرة من أشياء أعطاها لك الله في الدنيا لتسعى بها في الأسباب، ولم يورده الله في قوله: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم لِلَّذِينَ اتقوا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله والله بَصِيرٌ بالعباد} لم يوردها في النص الكريم، لأن عطاء الله في الآخرة بالرزق المباشر، أما الأشياء التي يسعى بها الإنسان إلى الرزق المباشر في الدنيا فلم يوردها لعدم الحاجة إليها في الآخرة، فنحن نحب المال، ولماذا؟ لأنه يحقق لنا شراء الأشياء، والخيل المسومة نحبها؛ لأنها تحقق لنا القدرة على القتال والجهاد في سبيل الله.

والأنعام؛ لتحقق لنا المتعة.


أما الجنة في الآخرة فالمؤمن يجد فيها كل ما تشتهيه الأنفس، وكل ما يخطر ببال من يرزقه الله الجنة سوف يجده؛ فالوسائط لا لزوم لها. لذلك تكلم الحق عن الأشياء المباشرة، فأورد لنا ذكر الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، وذكر لنا الأزواج المطهرة.


وعندما نتأمل قول الحق: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم} قد يقول قائل: ألم يَكن من المنطق أن يخبرنا الحق مباشرة بما يريد أن يخبرنا به، بدلاً من أن يسألنا: أيخبرنا بهذا الخير، أم لا؟

ونقول: أنت لم تلتفت إلى التشويق بالأسلوب الجميل، وحنان الله على خلقه. إنه سبحانه وتعالى يقول لنا: ألا تريدون أن أقول لكم على أشياء تفضل تلك الأشياء التي تسيركم في الدنيا. فكأن الحق سبحانه وتعالى قد نبه من لم ينتبه. ولم ينتظر الحق أن نقول له: قل لنا يارب.
لا، إنه يقول لنا دون طلب منا، ويقال عن هذا الأسلوب في اللغة إنه (استفهام للتقرير)، فالإنسان حين يسمع: {أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم} فالذهن ينشغل، فإن لم يسمع النبأ، فلسوف يظل الذهن مشغولاً بالنبأ، ويأتي الجواب على اشتياق فيتمكن من نفس المؤمن.



ويأتي النبأ {لِلَّذِينَ اتقوا}، فعندما نمعن النظر في الشهوات التي تقدمت من نساء وبنين وقناطير مقنطرة من ذهب وفضة وخيل مسومة وأنعام وحرث، ألا يكون من المناسب فيها أن يتقي الإنسان ربه في مجالها؟


إن التقوى لله في هذه الأشياء واجبة، ولذلك قلنا من قبل قضية نرد بها على الذين يريدون أن يجعلوا الحياة زهداً وانحساراً عن الحركة، وأن يوقفوا الحياة على العبادة في أمور الصلاة والصوم، وأن نترك كل شيء. لهؤلاء نقول: لا؛ إن حركتك في الحياة تعينك على التقوى؛ لأننا عرفنا أن معنى التقوى هو أن يجعل الإنسان بينه وبين النار حجاباً، وأن تجعل بينك وبين غضب ربك وقاية. فإذا ما أخذت نعم الله لتصرفها في ضوء منهج الله فهذا هو حسن استخدام النعم.


وقد أوضحت من قبل أن التقوى حين تأتي مرة في قول الحق: {اتقوا الله} وتأتي مرة أخرى {اتقوا النار} فهما ملتقيان؛ فاتقاء النار حتى لا يصاب الإنسان بأذى، وعندما يتقي الإنسان الله فهو يتقي غضب الله؛ لأن غضب الله يورد العذاب، والعذاب من جنود النار. إذن فالذين يتقون الله لا يظنون أنهم زهدوا في هذه الحياة لذات الزهد فيها، ولكن للطمع فيما هو أعلى منها، إنه الطمع في النعيم الأخروي الدائم.


ويوضح الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك: أنكم لن تتمتعوا في الآخرة لضرورة الحاجة للمتعة، بحيث إذا ما جاءت النعمة عليكم تفرحون بها، إن الأمر لا يقتصر على ذلك وإنما يتعداه إلى أنكم- أيها المؤمنون- تحبون فقط أن تروا المنعم، فمادام المؤمن الذي يدخل الجنة يجد كل ما يشتهي بل إنه لا يشتهي شيئا حتى يأتيه، ويستمتع على قدر عطاء الله وقدراته.


وإذا لم يشته الإنسان ثماراً في الجنة أو نساء، ويصبح مشغولاً برؤية ربه فإن مكانه جنة من الجنان اسمها (عليّون) و(عليّون) هذه ليس فيها شيء مما تسمعه عن الجنة، ليس فيها الا أن تلقى الله. إن الرزق والنعم ليسا من أجل قوام الحياة في الجنة، بل إن الإنسان سيكون له الخلود فيها؛ فالذي يحتاج إليه الإنسان هو رضوان من الله.



إن رضواناً من الله أكبر من كل شيء. ولقد نبأنا الله بما في الجنات، ونبأنا بالخير من كل ذلك. لقد نبأنا الله بأن رضوانه الأكبر هو أن يضمن المؤمن أنْ يظفر برؤية ربّه. وهذا ما يقول في الله. {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}.. [القيامة: 22-23].


إذن فهناك في الجنة مراتب ارتقائية.




ويخبرنا الحق من بعد ذلك:
{والله بَصِيرٌ بالعباد} أي أن الله سيعطى كل إنسان على قدر موقفه من منهج ربه، فمن أطاع الله رغبة في النعيم بالجنة يأخذ جنة الله، ومن أطاع الله لأن ذات الله أهل لأن تطاع فإن الله يعطيه متعة ولذة النظر إليه سبحانه تقول رابعة العدوية في هذا المعنى:




كلهم يعبدون من خوف نار *** ويرون النجاة حظا جزيلاً


إنِنّي لست مثلهم ولهذا *** لست أبغي بمن أحب بديلا





إذن ف
{الله بَصِيرٌ بالعباد} أي أنه سيعطي كل عبد على قدر حركته ونيته في الحركة؛ فالذي أحب ما عند الله من النعمة فليأخذ النعمة ويفيضها الله عليه. أما الذي أحب الله وإن سلب منه النعمة، فإن الله يعطيه العطاء الأوفى، وذلك هو مجال مباهاة الله لملائكته.. ومن أقوى دلائل الإيمان وكماله.. إيثار محبة الله ورسوله على كل شيء في الوجود: عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: مّنْ كان الله ورسوله أحبُّ إليه مما سواهما، وأن يحبَّ المرءَ لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يَقَذف في النار» إن هناك العبد الذي يحب الله لذاته؛ لأن ذاته سبحانه تستحق أن تعبد، فذات الله تستحق العبادة؛ لأنه الوهاب، الذي نظم لنا هذا الكون الجميل.




إذن فقوله الحق: {والله بَصِيرٌ بالعباد} يعني أن الله يعلم مقدار ما يستحق كل عابد لربه، وعلى مقدار حركته ونيته في ربه يكون الجزاء، فمن عبد الله للنعمة أعطاه الله النعمة المرجوة في الجنة ليأخذها، ومن أطاع الله لأنه أهل لأن يطاع وإن أخذت- بضم الألف وكسر الخاء- النعمة منه فإن الله يعطيه مكاناً في عليين.



ولذلك قيل: إن أشد الناس بلاء هم الأنبياء، ثم الأولياء، ثم الأمثل فالأمثل. لماذا؟ لأن ذلك دليل صدق المحبة. والإنسان عادة يحب من يحسن إليه، ولا يحب من تأتي منه الإساءة إلا إن كانت له منزلة عالية كبيرة. إنه مطمئن إلى حكمته، إنه ابتلاه- وهو يعلم صبره- ليعطيه ثوابا جزيلا وأجرا كبيرا، والحق يقول: {قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً} .. [الكهف: 110].




لقد قال: {فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ} ولم يقل جنة ربه وهكذا يجب ألا تشغلنا النعمة- الجنة- عن المنعم وهو الله سبحانه وتعالى، وإذا كان الحق قد طلب منا ألا نشرك بعبادة ربنا أحداً فلنعلم أن الجنة أَحَدٌ.



وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: {الذين يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا...}.





المصدر: موقع نداء الإيمان


https://media.gemini.media/img/large..._47_11_853.jpg





قال تعالى:
{الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.. [آل عمران : 16].


إن قولهم: {رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا} هو أول مرتبة للدخول على باب الله، فكأن الإيمان بالله يتطلب رعاية من الذي تلقى التكليف لحركة تفسه، لأن الإيمان له حق يقتضي ذلك، كأن المؤمن يقول: أنا ببشريتي لا أستطيع أن أوفى بحق الإيمان بك، فيارب اغفر لي ما حدث لي فيه من غفلة، أو من زلة، أو من كبر، أو من نزوة نفس.

وهذا الدعاء دليل على أنه عرف مطلوب الإيمان كما أوضحه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيانه لمعنى الإحسان حين قال: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك).


كأن تستحضر الله في كل عمل؛ لأنه يراك.



إن قول المؤمنين:
{إِنَّنَآ آمَنَّا فاغفر لَنَا} دليل على أنهم علموا أن الإيمان مطلوباته صعبة. {الذين يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا} فلنر على ماذا رتبوا غفران الذنب؟ لقد رتبوا طلب غفران الذنب على الإيمان. لماذا؟ لإنه مادام الحق سبحانه وتعالى قد شرع التوبة، وشرع المغفرة للذنب، فهذا معناه أنه سبحانه قد علم أزلا أن عباده قد تخونهم نفوسهم، فينحرفون عن منهج الله.

ويختم الحق سبحانه الآية بقوله على ألسنة المؤمنين: {وَقِنَا عَذَابَ النار} لأنه ساعة أن أعلم أن الحق سبحانه وتعالى ضمن لي بواسع مغفرته أن يستر عليّ الذنب، فإن العبد قد يخجل من ارتكاب الذنب، أو يسرع بالاستغفار.
ولماذا لا يكون قوله {فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا} بمعنى استرها يارب عنا فلا تأتي لنا أبدا؟ وإن جاءت فهي محل الاستغفار والتوبة. فإذا أذنبت ذنبا، واستغفرت ربي، وعلمت أن ربي قد أذن بالمغفرة؛ لأنه قال: {فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً}.. [نوح: 10].
فإن الوجل يمتنع، والخوف يذهب عني، وأقبل على الله بمحبة على تكاليفه وأحمل نفسي على تطبيق منهج الله كله. ولذلك حينما شرع الله الحق سبحانه وتعالى للخلق التوبة كان ذلك رحمة أخرى. وهذه الرحمة الأخرى تتجلى في المقابل والنقيض.
هب أن الله لم يشرع التوبة وأذنب واحد ذنبا، وبمجرد أن أذنب ذنبا خرج من رحمة الله فماذا يصيب المجتمع منه؟ إن كل الشرور تصيب المجتمع من هذا الإنسان لأنه فقد الأمل في نفسه، أما حينما يفتح الله له باب التوبة فإن ارتكب العبد ذنبا ساهيا عن دينه، فإن يرجع إلى ربه.

وتلك واقعية الدين الإسلامي، فليس الدين مجرد كلام يقال، ولكنه دين يقدر الواقع البشري، فإنه سبحانه يعلم أن العباد سيرتكبون الذنوب، فيرسم لهم أيضا طريق الإستغفار. وإذا ما ارتكب العباد ذنوبا، فإن الحق يطلب منهم أن يتوبوا عنها. وأن يستغفروا الله. فإذا ما لذعتهم التوبة حينما يتذكرون الذنب فإن هذه اللذعة كلما لذعتهم أعطاهم الله حسنة.


كأن غفران الذنب شيء، والوقاية من النار شيء آخر. كيف؟ لأنه ساعة أن يعلم العبد أن الحق سبحانة وتعالى ضمن للعبد مغفرته، وهو الخالق المربي، فإن العبد يذهب إلى الله مستغفرا طامعا في المغفرة والرحمة. إنها دعوة المؤمنين إن كانوا قد نسوا أن يستغفروا لأنفسهم. لماذا؟ لأن الاستغفار من الذنب تكليف من الله. وكما قلنا: إن الإنسان قد ينسى بعضا من التكاليف، لذلك فمن الممكن أن يسهو عن الاستغفار، ولذا يقول الحق على ألسنة عباده المؤمنين: {وَقِنَا عَذَابَ النار}.

ومعنى التقوى أن تجعل بينك وبين النار وقاية، أو تجعل بينك وبين غضب ربك وقاية، فإذا ما أخذت النعم من الله لتصرفها في منهج الله تكون حسنة لك، وقلنا: إن (اتقوا الله) و(اتقوا النار) ملتقيتان، لأن معنى (اتقوا النار) كي لا تصيبكم بأذى، (اتقوا الله) تعني أن نضع بيننا وبين غضب الله وقاية، لأن غضب الله سيأتي.


وبعد ذلك يقول الحق: {الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين...}.


المصدر: نداء الإيمان



https://media.gemini.media/img/large..._11_17_166.jpg

امانى يسرى محمد 01-06-2021 12:43 PM

رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة ال عمران)
 

https://encrypted-tbn0.gstatic.com/i...7TOFQ&usqp=CAU

قال تعالى:
{الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ}.. [آل عمران : 17].


وهذه كلها صفات للذين اتقوا الله، وأعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، والأزواج المطهرة، ورضوان من الله أكبر، وهم صابرون وصادقون وقانتون ومنفقون في سبيل الله، ومستغفرون بالأسحار.


وصابرون على ماذا؟



إنهم صابرون على تنفيذ تكاليف الله، لأننا أول ما نسمع عن التكليف فلنعلم أن فيه كلفة ومشقة والتكاليف الشرعية فيها مشقة لأنها قيدت حرية العبد.

لقد خلقك الحق خلقا صالحا لأن تفعل كذا أو لا تفعل. فساعة يقول لك: افعل.. فإنه قد سد عليك باب (لا تفعل) وساعة يقول لك الحق: لا تفعل فإنه يكون قد سد عليك باب (افعل)، وهكذا يكون تقييد حركتك وتقييد المخلوق على هيئة الإختيار فيه مشقة، فإذا ما جاء أمر الله ب (افعل) فقد يكون الفعل في ذاته شاقا، فإن صبرت على مشقة الفعل الذي جاء بوساطة (افعل) فأنت صابر، لأنك صبرت على الطاعة.. وقد تصبر عن المعصية، عندما يلح عليك شيء فيه غضب الله فترفض أن ترتكب الذنب، فتكون قد صبرت عن ارتكاب الذنب.

إذن ففي (افعل) صبر على مشقتها، وفي (لا تفعل) صبر عنها، فالصابرون لهم اتجاهان اثنان، لأن التكليف إما أن يكون بافعل، وإما أن يكون بلا تفعل. فساعة يأتي التكليف بافعل فقد تأتي المشقة.. وعندما تنفذ التكليف بافعل فأنت قد صبرت على المشقة.. وعندما يأتي التكليف ب (لا تفعل) كأمر الحق بعدم شرب الخمر، أو (لا تسرق) فأنت قد صبرت عنها.. إذن ف (افعل) ولا (تفعل) قد استوعبت نَوْعَيْ التكليف، وبقيت بعد ذلك أحداث لا تدخل في نطاق افعل ولا تفعل، وهي ما ينزل عليك نزولا قدريا بدون اختيار منك بل هي القهرية والقسرية.

فساعة أن يطلب منك أن تفعل، أي إنه قد خلقك صالحا ألا تفعل كما قلنا من قبل. إلاّ إن كنت مجبرا على الفعل فقط. وكذلك إذا قال لك الحق: (لا تفعل). والشيء القدرى الذي لا صلاحية فيه للاختيار ماذا يفعل فيه المؤمن؟ إنه يصبر على الآلآم والمتاعب لأنه آمن بالله ربا، والرب هو الذي يتولى تربية المربي لبلوغه حد الكمال المنشود له فإذا جاء لك الحق بأمر لا خيار لك فيه، كالمرض أو الكوارث الطارئة، كوقوع حجر من أعلى أو إصابة برصاصة طائشة، فكل ذلك هي أمور لا دخل ل (افعل) ولا (تفعل) فيها.
وهناك يكون الصبر على مثل هذه الأمور هو الإيمان بحكمة من أجراها عليك. لأن الذي أجراها رب، وهو الذي خلقني فأنا صنعته.
وما رأينا أحدا يفسد صنعته أبدا. فإذا ما جاء أمر على الإنسان بدون اختيار منه، فالذي أجراه له فيه حكمة فإن صبر الإنسان على هذه الآلام فإنه يدخل في باب الصابرين.


إذن فالصابرون أنواع هم:
صابر على الطاعة ومشاقها، صابر على المعاصي ومغرياتها، وصابر على الأحداث القدرية التي تنزل عليه بدون اختيار منه. وإذا رأيت إنسانا قد صبر على أمر الطاعة وصبر عن شهوة المعصية وصبر على الأقدار النازلة به، فاعرف حبه لربه ورضاه عنه.





https://encrypted-tbn0.gstatic.com/i...o0QXQ&usqp=CAU



ونأتي بعد ذلك لوصف آخر يقول الله فيه: {الصابرين} {والصادقين}.

والصدق كما نعلم يقابله الكذب، والصدق كما نعرف حقيقته: يأتي حين توافق النسبة الكلامية التي يتكلم بها الإنسان، النسبة الأخرى الخارجية الواقعة في الكون.

فإن قلت: (حصل كذا وكذا) فتلك نسبة كلامية صدرت من متكلم، فإن وافقها الواقع بأنه حصل كذا وكذا فعلا يكون المتكلم صادقا. وإن لم يكن الواقع موافقا لحدوث ما أخبر به يكون المتكلم كاذبا.
لماذا؟
لأن كلام المتكلم العاقل لابد له من نسب ثلاث:


الأولى وهي النسبة الذهنية: فقبل أن أتكلم أعرض الأمر على ذهني، وذهني هو الذي يعطي الإشارة للساني ليتكلم، هذه هي النسبة الأولى واسمها (نسبة الذهن). وقد يعن لي أن تأتي النسبة الذهنية ثم أعدل عنها فلا أتكلم، فتكون النسبة الذهنية قد وُجِدت، والنسبة الكلامية لم توجد.
وقد أصر على أن أبرز إشارة ذهني على لساني فأقول النسبة الكلامية. ونأتي بعد النسبة الكلامية لنرى: هل الواقع أن ما حدث وتحدثت به وقع أم لم يقع؟ فإن كان قد وقع، يكون الكلام مني صدقا. وإن لن يكن قد وقع، وكانت النسبة الخارجية على عكس ما أخبرت به. فإننا نقول: (هذا كلام كذب) إذن: فالصدق: هو أن تطابق النسبة الكلامية الواقع. والكذب: هو ألا تطابق النسبة الكلامية الواقع وكثيرا ما يخطىء الناس في فهم الواقع فيجدون تناقضا في بعض الأساليب.




مثال ذلك، حينما تعرض بعض المستشرقين لقول الحق سبحانه وتعال: {إِذَا جَآءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} .. [المنافقون: 1] تلك نسبة كلامية صدرت منهم، فهل هي مطابقة للواقع أم هي مخالفة له؟ إنها مطابقة للواقع. ويؤكد الحق ذلك بقوله: {والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ}.. [المنافقون: 1].

بعد ذلك يقول الحق سبحانة: {والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ} ..[المنافقون: 1].

فقيم كذب المنافقون؟ هل كذبوا في قولهم: {إِنَّكَ لَرَسُولُ الله}؟ لا. إن الحق لم يكذبهم في قولهم: {إِنَّكَ لَرَسُولُ الله}؛ لأن الله قد أيد هذه الحقيقة بقوله {والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ}.

ولكن كذبهم الله فيما سها عنه المستشرق الناقد عندما قالوا: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله}. لقد كذبهم الله في شهادتهم، لا في المشهود به، وهو أن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول من الله، إن الله يعلم أن محمدا رسوله المبعوث منه رحمة للعالمين، لكن الكذب كان في شهادتهم هم.
إن كلام المنافقين مردود من الله. لماذا؟ لأن الشهادة تعني أن يواطئ اللسان القلب ويوافقه. وقولهم: شهادة لا توافق قلوبهم وتعنى كذبهم.
إذن، فالتكذيب هو لشهادتهم، فلو قالوا: {إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} دون (نشهد) لكان قولهم: قضية (سليمة). ولذلك كان تكذيب الله لشهادتهم، ومن هنا ندرك السر في قول الله: {والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ}. إن الحق يؤكد الأمر المشهود به وهو بعث محمد رسولا من عند الحق، وبعد ذلك يأتي لنا الحق بشهادته إن المنافقين كاذبون في قولهم: (نشهد). فالصدق أن تطابق النسبة الكلامية الواقع. والصدق- كما قلنا من قبل- حق، والحق لا يتعدد، وضربت من قبل المثل بأن الإنسان الذي نطلب منه أن يروي واقعة شهدها بعينيه، وأن يحكيها بصدق لن يتغير كلامه أبدا، مهما تكرر القول؛ أو عدد مرات الشهادة. لكن إن كانت الواقعة كذبا، فالراوي تختلط عليه أكاذيبه، فيروي الواقعة بألوان متعددة لا اتساق فيها، وقد ينسي الراوي الكاذب ماذا قال في المرة الأولى، وهكذا ينكشف سر الكذب. لكن الراوي عن واقع مشهود وبصدق، هو الذي يحكى، وهو الذي لا تختلف رواياته في كل مرة عن سابقتها بل تتطابق.
فعندما نقول: (إن زيدا مجتهد)، فهذا يعني أن اجتهاد زيد قد حدث أولا، ثم يأتي في ذهن من رأى اجتهاد زيد أن يخبر بأمر اجتهاده، ثم يخبر بالكلام عن اجتهاد زيد. إن الأمر الخارج وهو اجتهاد زيد قد حدث أولا، وبعد ذلك تأتي النسبة الذهنية، وبعد ذلك تأتي النسبة الكلامية.
ولكن الإنشاء وهو ضد الخبر، هو أن نطلب من واحد أن ينشئ أمرا لا واقع له، كأن نقول لواحد: اجتهد. إننا قبل أن نقول لإنسان ما: (اجتهد) فمعنى ذلك أن الإجتهاد كان أمرا في ذهن القائل، وعندما ينطقها تصبح (نسبة كلامية). وبعد ذلك يحدث الواقع، بعد النسبة الذهنية، والنسبة كلامية، وهذا هو الإنشاء.
إن الإنشاء الطلبي يعني أن تحدث النسبة الخارجية بعد النسبة الكلامية. والصادقون هم الذين أراد الله أن يمدحهم، لماذا؟ وأين هو مجال صدقهم؟ إنهم الذين تتطابق حركتهم مع منهج الله، لأنهم حين قالوا: (لا إله إلا الله)، وآمنوا به، فهم قد التزموا بكل مطلوبات الإيمان قدر الطاقة. ومعنى (لا إله إلا الله) أي لا معبود إلا الله. ومعنى إلا الله أي أنه لا طاعة إلا لله.
والطاعة- كما نعرف- هي امتثال أمر، وامتثال نهي.




إذن فمجال (لا إله إلا الله) يشمل أنه لا معبود بحق إلا الله، ولا مُطاع في تكليفه إلا الله، ولا امتثال لأمر أو لنهي إلا للأمر القادم من الله؛ فإن امتثال إنسان الأمر من الله بعد قوله: (لا إله إلا الله) كان هذا الإنسان صادقا في قوله: (لا إله إلا الله).

وهذا هو صدق القمة، أن تكون كل تصرفات قائل: (لا إله إلا الله) متطابقة مع هذا القول. والمؤمن الحق هو من يبني كل تصرفاته موافقة لمنهج الله.

هذا هو الإنسان الصادق. أما الذي يقول بلسانه: (لا إله إلا الله، لا معبود بحق إلا الله) ثم يخالف ربه بعصيانه له، لنا أن نقول له: أنت كاذب في قولك (لا إله إلا الله) لماذا؟ لأنه لم يطابق النسبة التي قالها. إن هذا الإنسان إذا آمن بأي تكليف ثم فعل ما يناقضه قلنا له: أنت منافق، لماذا؟ لأننا عندما تكلمنا في أول سورة البقرة عن المنافقين قلنا: إن المؤمن حين يؤمن بالله يكون صادقا مع نفسه؛ لأنه قال: (لا إله إلا الله) وهو مؤمن بها، والكافر حين ينكر الألوهية يكون صادقا مع نفسه أيضا.


أما المنافق فهو لا يصدق مع نفسه، ولا يصدق مع الناس، إنه مذبذب بين هؤلاء وهؤلاء. إن المنافق بلا صدق مع النفس، ولذلك يصفهم الحق: {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء}.. [النساء: 143].

إن الكافر له صدق مع النفس فهو لا يقول: (لا إله إلا الله) لأنه لا يعتقدها. أما المنافق فقد قال: (لا إله إلا الله) وهي غير مطابقة لسلوكه، لذلك يكون غير صادق مع نفسه، وغير صادق مع ربه. إذن، فقول الحق: {والصادقين} مقصود به هؤلاء الناس الذين يأتون في كل حركاتهم صادرين عن منهج الله، فلا يؤمنون بقضية، ويفعلون أخرى. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ}.. [الصف: 2-3].


أي أنه حين يكون القول شيئا مختلفا عن الفعل، لا تتطابق النسبة. فالصادقون هم الذين يصدقون في سلوكهم مع كلمة التوحيد في كل ما تتطلبه هذه الكلمة من هذه السلسة: (لا إله إلا الله لا معبود بحق إلا الله) أي لا مطاع في أمر أو نهي إلا الله، فإن جئت وطاوعت أحدا في غير ما شرع الله يحق للمؤمنين أن يقولوا لك: أنت كاذب في قولك: (لا إله إلا الله).
(فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن).

هذا هو سمو الإيمان عند المؤمن، إن المؤمن لا يمكن أن يكذب أو يخالف مقتضيات عقيدته؛ لأن المؤمن في كل تصرفاته خاضع لإيمانه بأنه لا إله إلا الله.


https://encrypted-tbn0.gstatic.com/i...o0QXQ&usqp=CAU




ثم يقول الحق: {والقانتين} والقانت: هو العابد بخشوع وباطمئنان وباستدامة. والقانت صادق مع نفسه، لماذا؟ لأن الحق سبحانه وتعالى حين يكلف عباده تكليفا، فقد يكلفهم بشيء يعز على أفهامهم أن تدرك حكمته.

وأقبل القانتون من العباد على هذا التكليف؛ لأن الذي أمرهم به إله قادر، فهم يثقون في حكمته فأدُّوا الأمر الصادر إليهم لأنهم خاضعون لحكمة الله.
إنهم منفذون للأمر القادم من الآمر لا لعلة الأمر. وبعد أن يصنعوا ذلك؛ يريهم الله نورانية هذا الحكم بأن يعطيهم فرقانا في أنفسهم: {يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله ذُو الفضل العظيم}.. [الأنفال: 29].
فيقول المؤمن منهم لنفسه بعد أن يرى هذا الفرقان: إن الله قد أراد لي بهذا الأمر أن أدرك حلاوة طاعة هذا الأمر، لذلك قال أحد العارفين بالله: إن كنت تريد أن تعلم عن الله حكما كلفك الله به دون أن تعلم علته فاتق الله فيه، وحين تتقي الله في هذا الأمر، فإنك تجد الحكمة مستنيرة في ذهنك، ولذلك يقول الله: {واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.. [البقرة: 282].

فكأنك قبل التقوى لم يعلمك الله، أما بعد التقوى فإن الله يعلمك، فتقبل على تنفيذ التكليف لتلمس إشارة في نورانية نفسك، وهذا هو الفارق بين الأمر من المساوى، والأمر من الأعلى. وعندما ترتقي كلمة (الأعلى)، فإنها لا تنطبق إلا على الأعلى المطلق وهو الله، لأنه الأعلى في الحكمة، والأعلى في المنزلة، والأعلى في المكانة، والأعلى في الربوبية.




إذن، فالإنسان لا يطلب علة حكم إلا من مساو له، فإن قال لك أحد من البشر: افعل الشيء الفلاني. فإنك تسأله: لماذا؟ فإن أقنعك، فأنت تقوم بالفعل. وتكون قد قمت بتنفيذ هذا الفعل؛ لأن المساوى لك قد أقنعك بالحكمة لا بالطاعة له.

ولكن عندما يصدر الأمر من الأعلى وهو الحق سبحانه وتعالى، فإنك أيها العبد المؤمن تنفذ الأمر فورا عشقا في طاعته. والمثال الذي أضربه للتقريب لا للتشبيه، فالله الأعلى، وهو منزه عن كل شبيه، إن الأب يقول للابن في حياتنا اليومية: إن نجحت في المدرسة فسأحضر لك هدية هي الدَّراجة. فهل معنى ذلك أن علة الذهاب إلى المدرسة هي الحصول على الدراجة كهدية؟ لا، ليست هذه هي العلة، إن العلة عند الأب هي أن يتعلم الابن ويتفوق في حياته، ويكبر، وعند ذلك يدرك العلة، ويقول لنفسه: لقد كان أبي على حق.

إذا كان هذا يحدث في الحياة بيننا نحن البشر، فكيف لنا بطاعة الأمر الصادر من الله؟
إن الحق سبحانه وتعالى حين يكلف العبد تكليفاً، فإن العبد قد يجد مشقة في فهم العلة. والعبد المؤمن يعرف أن الرضوخ لتكليف الحق إنما هو خضوع للأمر الأعلى.


إن العبد المؤمن يعرف أنه آمن بمن هو أعلى منه وأعلى من كل كائن، ولا يساويه أحد، إن العبد المؤمن يعرف أنه آمن أولا بأن الله هو الإله الواحد سبحانه له مطلق الحكمة، وله القوة وله كل شيء في الكون، وسبق أن ضربت المثل- ولله المثل الأعلى.




إن الإنسان قد يمرض، وصحة الإنسان أثمن شيء عنده، فيفكر في الذهاب إلى طبيب، ويقول له: إنني أتعب من معدتي، أو من قلبي أو من أمعائي. إنه يحدد ما يشكو منه. وعقل الإنسان هو الذي هداه إلى الطبيب الذي يشخص العلة، وبعد ذلك يأخذ المريض من الطبيب ورقة مكتوباً فيها الأدوية اللازمة.

إن الإنسان يتناول كل دواء من هذه الأدوية دون أن يسأل الطبيب عن حكمة كل دواء؛ لأنه لو سأل عن ذلك فهذا معناه الدخول في متاهة كيماوية، فإن سأل أي إنسان ذلك المريض: لماذا تأخذ هذا الدواء؟ فيجيب المريض: لأن الذي كتب لي هذا الدواء هو الطبيب المختص بعلاج المعدة، أو القلب، أو الأمعاء أو أي عضو يشكو منه الإنسان.

والطبيب قد يخطىء، إنما حكم الله لا يخطئ أبدا، فهو جل شأنه منزه عن الخطأ تماما. إن الحكمة تكون عند الحق سبحانه وتعالى، وعندما ينفذ المؤمن مطلوب الله فإنه يدرك آثار الحكمة الربانية في نفسه.
وكلمة (قانتين) كما عرفنا هي وصف لمن يعيشون القنوت، والقنوت هو عباده مع خضوع، وخشوع واستدامة.
لماذا الخضوع، والخشوع؟


لأن الله جل وعلا لم يشرع العبادة لينفذها الإنسان، وينقذ نفسه من عذاب النار، لا؛ إننا نرى كثيرا من الناس- إذا ما لا حظنا واقع الحياة- إذا وجدوا رئيسا قوى الشكيمة وقوانينه صارمة في أن الموظفين تحت يده يجب أن يحضروا صباحا في الميعاد المحدد، وأن ينصرفوا في الميعاد المحدد، ولا يسمح لهم بالاشتغال بغير العمل، فلا يشربون الشاي، ولا يقرأون الصحف ولا يقابلون الأصدقاء، وغير ذلك من الأعمال. ويأتي واحد من الموظفين فيقول عن هذا الرئيس (إنه شديد المراس، ولذلك فليس له عندي إلا أن أحضر في الثامنة إلا خمس دقائق، ولن أنصرف إلا في الثانية وخمس دقائق، ولن أقرأ الصحف ولن أفعل أي شيء مما يمنعه). إن هذا الموظف يفعل ذلك بجبروت واستعلاء على رئيسه حتى لا يسمح له بنقد أو تجريح، فهذا الموظف ممتثل ولكن باستعلاء.




إنها طاعة بلا حب ولكنها باستعلاء. وقد يحاول عبد أن يقول: ماذا يطلب الله مني؟ ألا يطلب منى الصلاة والزكاة وإقامة العبادات؟ سوف أفعل ذلك. لمثل هذا العبد نقول: لا، إن الله يطلب العبادة بحب منك وخشوع واطمئنان، لأن التكليف من الحق صدقة أخرى أجراها الله على العبد. إن الحق سبحانه وتعالى قد كلف العبد بالتكاليف الإيمانية، حتى يكون الإنسان سويا وله قيمة في الحياة.

إن معنى (قانت) هو العبد الذي يؤدي عبادة ربه بخشوع، وباطمئنان، وباستدامة. لماذا؟
لأن الذي يقبل على الطاعة ثم ينصرف عنها كأنه قد جرب وده لله فلم يجد الله أهلا للود. أما العبد الطائع فهو لا ينصرف عن العبادة، لأنه ذاق حلاوة استدامة العبادة لله، ومادام قد أدرك حلاوة العبادة فهو يقبل عليها بخشوع، واطمئنان، واستدامة، ويدخل في دائرة القانتين.

http://cdn.top4top.net/i_09d229ef1d9.png





وبعد (القانتين) يقول الله سبحانه: {والمنفقين} وكلمة أنفق و(نفق)، مأخوذة من كلمة (نفق الحمار) أي مات، و(ونفقت السوق) أي انتهت بضائعها واشتراها الناس ولم يبق منها شيء. و(نفقة) مأخوذة من هذا المعنى لتشعرنا بأن الإنسان حين ينفق فهو يُميت ما أنفقه من نفسه، فلا يتذكر أنه أنفق على فلان كذا، وعلى علان كذا، أي يعلم يقينا أن ما أنفقه هو رزق من أنفقه عليهم وليس له إلا أجر إيصاله إليهم فلا مَنّ، ولا إذلال.
إن الله يريد من كل إنسان يُخرج شيئا من ماله أن ينهى من ذهنه هذا الشيء الذي خرج من المال فلا يذكره ولا يَمُنّ به على أحد. (والنفقة)، تقتضي وجود منفق، ومنفقا عليه، ومنفقاً به، المنفق كما نعرف هو المؤمن الذي عنده فضل مالٍ، والمنفق عليه هو الفقير، والمنفَق به هو الخيرات.
ومن أين تأتي هذه الخيرات؟
إنها تأتي نتيجة الحركة في الحياة، وحركة المتحرك في الحياة تقتضي قدرة، فإذا كان الإنسان عاجزا، ولا يجد القدرة على الحركة، فمن أين يعيش، إن الله لابد أن يضمن له في حركة القادر ما يعوله.

لقد جعل الله القدرة عرضا من أعراض الحياة، فالقادر اليوم قد يصير عاجزا غدا. ومادامت القدرة عرضا من أعراض الحياة، فالقادر الآن عندما يسمع الأمر من الله بأن ينفق على غير القادر، فلابد أن يُقدر في نفسه أن قدرته هي عرض من أعراض الحياة، والقادر الآن من الأغيار، لذلك فهو عرضة لأن يصير غدا من العاجزين، ويقول القادر لنفسه: (عندما أصبح عاجزا سوف أجد من يعطيني). أليس ذلك هو التأمين الحق؟ إنه تأمين المؤمن. إن المؤمن يعطي عند قدرته، وذلك حتى يجنبه الله مشقة السؤال إن جاءت الأغيار، لأن الأغيار إن جاءت سوف يجد من يعطيه.
إننا يجب أن نلاحظ في الحكم، لا ساعة أن تطالب أنت بأداء مطلوب الحكم، ولكن ساعة أن يؤدي الغير إليك مطلوب الحكم. فالذي يطلب منه أن ينفق، عليه أن يقدر أنه قد يصبح عاجرا، ولنا أن نسأله: لو كنت عاجزا ألم تكن تحب أن يعطيك الناس دون مَنٍّ أو أذى؟

إن هذا هو التأمين الحق، لأن التأمين في يد الله، ومادامت الأغيار عرضة لأن يصير القادر عاجزا ويصير العاجز قادرا، فساعة ينفق المنفق يجب عليه أن يميت أنه أنفق فلا يتذكر وجه من أنفق عليه، ولا يخبر أحدا بما أنفق.
عد الرسول صلى الله عليه وسلم الرجل الذي أنفق حتى لا تعلم شماله ما صنعت يمينه من السبعة الذين يظلهم الله في ظله فقال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق في المسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله فاجتمعا على ذلك وافترقا عليه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه).
وبعد ذلك على المؤمن المنفق أن يُقدر ساعة عطائه أنه ادّخر ليأخذ، إما أن يأخذ إن طرأت له الأغيار في الدنيا، وإما أن يأخذ من يد الله في الآخرة أضعافا مضاعفة. إذن، فالمنفق هو الذي يُؤَمِّنُ لغير القادر حركته في الحياة ضمانا لنفسه حين لا يقدر؛ أو استثمارا مضاعفا عند الله، وهؤلاء المنفقون الذين يَسَعُونَ العاجزين بفضل ما لديهم، يظهرون حكمة الله في الوجود، لأن الله ما دام قد خلقنا، وفينا القادر، وفينا العاجز، فقد أراد الله لنا أن نعرف أن القدرة ليست لازمة في الخلق. فإن قدرت الآن فقد تُسلب- بضم التاء- منك هذه القدرة، وما دامت القدرة يتم سلبها، فلابد أن يتمسك المؤمن بالقيوم الذي يقيم القدرة لك أيها المؤمن دائما، وذلك حتى يعرف الواحد منا أنه لم ينفلت من ربه، خلقنا قادرين وانتهت المسألة. لا. إنّ القدرة أغيار تذهب وتجيء. ومادامت الأغيار تذهب وتجيء فلابد أن يضع المؤمن نصب عينيه عطاء القادر الأعلى.

وقلنا سابقا: إن الله جعل المنفقين وصفا من أوصاف الذين اتقوا، والذين أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وذلك حتى يحمى الله الضعيف الذي خلقه الله لحكمة في الوجود. إن الإنفاق ليس أخذا من العبد، إنما هو مناولة، هذه المناولة تتضح في أنه ما كان لك ما يزيد عن حاجتك، إلا بحركتك في الحياة.
وهذه الحركة في الحياة تتطلب عقلا يخطط للحركة وجوارح تنفذ المخطط الفكري، ومادة يتم الفعل فيها سواء كانت أرضا تتم زراعتها أو آلة يتم الصنع بها، ولا شيء للإنسان من هذا في الكون. إن المخ الذي يدبر هو عطاء من الله، والطاقة التي تنفذ هي عطاء من الله. ونحن نرى في الحياة إنسان قد نزع الله عنه المخ الذي يفكر ويدبر، ونجد إنسانا آخر قد نزع الله منه الطاقة التي تنفذ، فقد يمنع الله عن عبدٍ المادة التي يتفاعل معها.
إذن فلا شيء من هذه الأشياء ذاتي للإنسان، إنها كلها عطاء من الله. فليعمل المؤمن مضاربا عند الله، وليعط المؤمن للعاجز حق الله. إن الله لا يأخذ هذا الحق لنفسه إنما يريده الله لأخيك العاجز، وسوف يطلب الله هذا الحق لك إذا عنَّت لك حاجة بسبب الأغيار.
هكذا تكون {والمنفقين} صفة من صفات الذين اتقوا ربهم. والحق سبحانه وتعالى قد جعل في الصبر، صلابة اليقين الإيماني في النفس البشرية. وفي الصدق انسجاما مع واقع لا إله إلا الله، وفي النفقة حماية العاجز الذي لا يقدر.

http://cdn.top4top.net/i_09d229ef1d9.png



وبعد ذلك يعود إلى نفس المؤمن عودة أخرى فيقول: {والمستغفرين بالأسحار} إننا يجب أن نأخذ هذا الوصف بعد مجيء الأوصاف الأخرى في النفس البشرية. البداية هي إقرارهم بالإيمان، ودعاؤهم الحق سبحانه أن يغفر لهم وقد طلبوا الوقاية من عذاب النار، وصبروا، وصدقوا، وقنتوا في العبادة، وأنفقوا في سبيل الله، إن كل هذه الأوصاف تبرئ ذمتهم من أنهم مقصرون أيضا في حقوق إلههم لذلك فهم يأتون حال السكون بالليل، ويستغفرون الله.

إما أن يستغفر العبد لأنه قد فرطت منه هفوة في ذنب، وإما أن يستغفر لأنه لم يَزد فيما يفعله من أمور الطاعة. وكلمة {بالأسحار} توضح لنا لحظات من اليوم يكون الإنسان فيها محل الكسل والراحة، إن الذي سوف يصحو في السحر لابد أن يكون قد اكتفى من الراحة، ولم يكن قد أخذ منه كد الحياة كل النهار، ثم إن بعضهم يأخذه لهو الحياة ليلا.

وهذا هو وجه الخيبة لما يحدث في زماننا. إن كد الحياة- إن أخذ- يأخذ نهارا، وبعد ذلك يأخذنا لهو الحياة ليلا، مما نشاهده من لهو الحديث، ولهو السهرات، وبعد ذلك يأتي الإنسان لينام متأخرا، فكيف نطلب من هذا الإنسان أن يصحو في السحر؟
إن الذي يصحو في السحر هو من أخذ حظه في الراحة، فبعد أن جاء من كد العمل نام نوما هادئا، ويصحو من بعد ذلك في السحر ليذكر ربه، في الوقت الذي نام فيه غيره من الناس، لماذا؟
لأن الحق سبحانه وتعالى في لحظة سكون الليل يوزع رحمته، وعندما يصحو إنسان في السحر ويدعو الله، ويستغفره فإنه يأخذ من رحمة الله النازلة.
وعندما يأخذ هذا العبد من رحمة الله النازلة في ذلك الوقت، فمعنى هذا أنه سيأخذ الكثير من رحمة الله.


وإياك أن تقول: لو صحونا جميعا في الأسحار لنفدت الرحمة والعطاء (لا) لأن الله قد قال: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ} [النحل: 96].
إن قدرته جل وعلا تتسع لعطائنا جميعا دون أن ينقص شيء من عنده. إن كل هذه الأشياء من التقوى، والإقرار بالإيمان، وطلب المغفرة للذنوب، وطلب الوقاية من عذاب النار، والصبر، والصدق، والقنوت، والإنفاق في سبيل الله، والاستغفار بالأسحار، كل ذلك نتيجة للتقوى الأولى.
إنها الثمرة من (لا إله إلا الله). وما دامت هذه هي الثمرة من (لا إله إلا الله) فليعلم كل إنسان، أن الله لم يدعك لتستنبطها أنت من مفقود، بل اعلم أن الله قد شهد أنه لا إله إلا الله، وكفى بالله شهيدا. ولذلك يقول الحق: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة...}.

نداء الايمان

https://media.gemini.media/img/large..._35_16_867.jpg




امانى يسرى محمد 02-06-2021 01:44 PM

رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة ال عمران)
 

https://www.tasfiatarbia.org/vb/atta...9&d=1523854424
قال تعالى:
{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.. [آل عمران : 18].



ولنأخذ الجملة الأولى من الآية الكريمة بمعناها: لقد شهد الله أنه لا إله إلا هو، أي أنَّ الحق قد أخبر بما رآه، وشاهده، أو ما يقوم مقام ذلك. إن (شهد) بمعنى علم.



إنه الحق الذي نصب الأدلة في الوجود على قيوميته، وعلى أنه إله واحد، أليس في ذلك إقامة للحجة على أنه إله واحد؟ ومن الذي خلق الأدلة وجاء بها؟ إنه الله.

إذن، فقد شهد الله أنه لا إله إلا هو. وقلنا: إن شهادة الله أنه لا إله إلا هو هي شهادة الذات للذات، وشهادة الذات للذات تعني أنها كلمة مُمَكّنٌ منها. فعندما يقول الحق: {بَدِيعُ السماوات والأرض وَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.. [البقرة : 117].



بالله لو لم يكن قد شهد لنفسه بأنه لا إله إلا هو، وليس هناك من يعارض مبتغاه، أكان يجازف فيقولها؟ إنه الحق الأعلى الذي شهد أن لا إله إلا هو، فساعة أن يقول: (كن) فإنه قد علم، أنه لا يوجد إله آخر يقول: (لا تكن). إن الحق لابد أن يطمئَننا أنه لا إله إلا هو، لذلك فلزم أن يشهد لنفسه أنه مؤمن بأنه لا إله إلا هو ويلقى الأمر، ويلقى الحكم التسخيري، ويعلم أنه لا إله يعارضه.



وأليس من مطلوبات الرسول صلى الله عليه وسلم أن يشهد أنه رسول الله؟ لقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال في صلاته: (أشهد أن محمدا رسول الله). ولو لم يشهد بهذه لنفسه فكيف يجازف بالأشياء التي يقولها؟ ولذلك فسيدنا أبو بكر عندما بلغه أمر بعث محمد رسولا، قال ما معناه: أقالها محمد؟ إنه صادق، وما دام قد قالها فهي حق.


إن أبا بكر الصديق واثق من الرصيد الذي سبق بعث محمد بالرسالة. ونحن نرى في التاريخ امرأة كان السبب في إسلامها لمحة من سيرته صلى الله عليه وسلم. قرأت هذه المرأة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان له حراس من المؤمنين يقومون بحراسته من الكافرين. وبعد ذلك جاء يوم وصرف الرسول صلى الله عليه وسلم هؤلاء الحراس، وقال لهم ما معناه: إن الله عصمني من الناس فاذهبوا أنتم.




وقد قرأنا هذه الواقعة كثيرا جدا، ولكن الفتح جاء من الحق لامرأة، فشغلتها هذه المسألة، وتساءلت: ألم يكن هؤلاء الحراس يحرسونه خوفا على حياته؟ فلماذا قال لهم: (لا تحرسوني) لأن الله هو الذي يحرسني؟ فلو أن رسول الله قد غش الدنيا كلها؛ أكان من الممكن أن يغش نفسه في حياته؟



وأجابت المرأة على نفسها: لا يمكن، لابد أن رسول الله قد وثق تمام الثقة في أن الله قد أبلغه أمر حمايته بدليل أنه قام بصرف الحراس، وإلا فكيف يأمن أن يأتي أحد ليقتله؟ قالت المرأة: والله لو خَدع الناس جميعا ما خَدع نفسه في حياته، أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.

حدث إسلام هذه المرأة من نفحة يسيرة من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.


إذن، {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} هي شهادة الذات للذات، وكفى بالله شهيدا. وشهدت الملائكة أيضا، والملائكة هم الغيب الخفي عنا، وتتلقى الأوامر من الحق. إن الملائكة لم يروا أحدا آخر يعطي لهم الأوامر، إنه الإله الواحد القادر. وهذه هي شهادة المشهد. ويضاف إلى الملائكة {وَأُوْلُواْ العلم} الأدلة وجلسوا يستنبطون من كون الله أدلة على أنه لا إله إلا الله.




إن هذه أعظم شهادة لأعظم مشهود به من أعظم شهود، الله في القمة، ومحمد صلى الله عليه وسلم، والملائكة وأولوا العلم. ولقد أخذ أولوا العلم منزلة كبيرة لأن الله قد قرنهم بالملائكة.



إن الحق سبحانه وتعالى يبلغنا أنه قد نثر في كونه الآيات العجيبة العديدة والذي يجلس، ويتفكر ويتدبر، ويتفطن وينظر، فإنه يستخرج الأدلة على أنه لا إله إلا هو، وكما قلنا من قبل: إن أبسط الطرق للتدليل على هذه الحقيقة. إن كانت (لا إله إلا الله) صدقا فقد كُفينا، وإن كانت غير صدق فأين الإله الذي أخذ منه الله هذا الكون، ولم يخبرنا ذلك الإله أنه صاحب الكون؟ فإما أن هذا الإله الآخر لم يَدْر، أو أنه قد علم، ولا يستطيع فعل شيء، إذن فلا يصح أن يكون إلها يزاحم الحق الذي أبلغنا أنه لا إله إلا هو.


وتظل (لا إله إلا الله) لصاحبها- جل شأنه- (شهد الله أنه لا إله إلا هو) وفي كل حركة من حركات الحياة نجد أن الانفراد بصدور الحركة قد يعطي علوا، وقد يعطي استكبارا.. لذلك نقول: ها هو ذا الخالق الأعلى الذي (لا إله إلا هو) يخبرنا أنه قائم بالقسط. ورغم أنه لا أحد في استطاعته أن يتدارك على الله، إلا أنه يطمئننا أنه قائم بالقسط.

http://img15.dreamies.de/img/977/b/1nhmhtjh3fw.gif


ولنلاحظ هنا ملوحظاً جميلا في الأداء

{شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط}

لماذا لم يقل الله إن (الملائكة) و(أولوا العلم)، الذين شهدوا أنه لا إله إلا هو (قائمين) بالقسط؟
لقد شهد الله أنه لا إله إلا هو قائما بالقسط، والملائكة شهدوا هذه القضية والعلماء شهدوا أيضا بهذه القضية.. لماذا؟ لأن الله لو قال: (قائمين بالقسط) لكان الله مشهودا عليه من هؤلاء، والشهادة هي له وحده أنه قائم بالقسط والعدل.



لأنه سبحانه خلق الملائكة بالقسط، فلو كانوا معه في ذلك لما استقام الأمر، وأولوا العلم أيضا مخلوقون بالقسط؛ لأن الله قد وزع حركة الحياة على الناس، فَنَاسٌ يعملون بعقولهم، وآخرون يعملون بقلوبهم، وقوم غيرهم يعملون بجوارحهم، فهذا هو لون من عدل الله، وإلا، فهل يدعي أحد أن إنسانا تتجمع فيه كل المواهب التي تتطلبها الحياة. لا، وهذه من عدالة الرحمن.


إن من عدالة الحق أنه وزع المواهب بين البشر، فبدلا من أن يعتمد الإنسان على نفسه في صناعة الملبس والمأكل، والمشرب، جعل الله المهارات موزعة بين البشر.. فأتقنت مجموعة من البشر حرفة الزراعة لإنتاج الطعام الذي يكفيهم، ويسد حاجة غيرهم، وكذلك تبادلوا مع غيرهم المنافع، فالإنسان- بمفرد- لا يستطيع أن يزرع القطن ويجمعه ويغزله وينسجه؛ ليلبس، والإنسان لا يستطيع أن يزرع القمح ويحصده ثم يطحنه ثم يخبزه.




إن الله لم يخلق الناس ليقوم كل فرد بإشباع حاجات نفسه المتنوعة، إنما وزع الله المواهب، لتتداخل هذه المواهب، ويتكامل المجتمع البشري، فواحد يزرع الأرض، وثانٍ يغزل القطن، وثالث ينسج القماش، ورابع يصنع الأدوات. وهذا عدل عظيم؛ لأن الطاقة البشرية لا تقوى على أن تقوم بكل متطلبات الحياة، لذلك جعل الحق هذا التنوع في المواهب ليربط الناس بالناس قهرا عن الناس، فلم يجعل لأحد تفضيلا على أحد، فما دام واحد يعرف في مجال، وآخر لا يعرف في هذا المجال، فالذي لا يعرف محتاج للآخر، وهكذا يتبادل الناس المنافع رغما عنهم.



ولذلك نجد الكون متكاملا. ولينظر كل منا إلى حياته وليعدد كمْ زاوية من زوايا العلم، وكم زاوية من زوايا القدرات، وكم زاوية من زوايا المواهب تلزم حتى تخدم حركة الحياة؟

إن هذه الزوايا موزعة على الناس جميعا ليخدموا جميعاً حركة الحياة. وهذا قمة العدل. وحتى يوضح لنا الحق قيمة العدل وكيفية العدالة في إقامة المحبة والاحترام بين البشر، فلينظر الواحد منا إلى الإنسان الآخر البعيد عنه، ويتساءل بينه وبين نفسه: أهذا الرجل البعيد عني يعمل من أجلي؟ وتكون الإجابة: نعم.



إذن، فعلى الإنسان عندما يرى إنسانا متفوقا في صنعة ما، فليقل: إن تفوقه في صنعته عائد إليّ وتفوقه في موهبته عائد إليّ، وهكذا منع الله بالعدل الحقد والحسد، وجعل الناس متكاتفين قهرا عنهم، لا تفضيلا منهم، إذن، فكل إنسان يسعى بحركة الحياة إنما يقيم نفسه في زاوية من زوايا الحياة، ومن العجيب أن الزاوية التي يُحسنها الإنسان تكون حاجته فيها أقل الحاجات، لذلك نجد المثل الريفي الذي يقول: (باب النجار مخلع)، وذلك حتى يعلم الإنسان أن موهبة ما تكون عند غيره سوف تنفعه هو، بدليل أن الموهبة التي عندك لم تنتفع أنت بها إلاّ قليلا.




وبذلك يشيع في الناس اقتناع بأن موهبة كل فرد فيهم، إنما تعود عليهم جميعا، وبذلك تحل المحبة والاحترام بدلا من الحسد والحقد. وعندما سأل أحد الظرفاء: ولماذا يكون باب النجار هو (المخلع)؟ قال أحد الظرفاء ردا عليه: لأنه الباب الوحيد الذي لن يأخذ النجار أجرا لإصلاحه، ونلتفت إلى العجائب في الحكمة الشائعة، فنجد أطباء اخصائيين في ألوان من المرض، وصاروا أعلاما في مجالات تخصصاتهم، ويشاء الحق سبحانه وتعالى ألا يصابوا إلا بما برعوا فيه، كأن الذي برعوا فيه لم يفدهم هم بشيء، إنما أفاد الآخرين. ولننظر إلى الآية في مجملها: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم} لقد استهلها الله بقوله: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط} ثم قال بعد ذلك: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم} فكأن الآية تقول لنا: إذا ثبتت شهادة الذات للذات، وشهادة المشهد من الملائكة، وشهادة الاستدلال من العلماء، فإن القاعدة تكون قد استقرت استقرارا نهائيا لا شك فيه، فخذوها مسلمة: (لا إله إلا هو).

http://img15.dreamies.de/img/977/b/1nhmhtjh3fw.gif


وما دام (لا إله إلا هو) فليكن اعتمادك عليه وحده، واعلم أنك إن اعتمدت عليه وحده إلها فأنت قد اعتمدت على عزيز لا يُغْلب على أمره.



قال صلى الله عليه وسلم: «إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام، وجفت الصحف».


فلا يستطيع أحد أن يدخل مع الله في جدال. إنما يدخل خلق الله مع خلق الله في خلاف أو نضال، لكن لا أحد يجرؤ على أن يدخل في نضال مع الله لأنه عزيز لا يغلب. فإن آمنت به وحده، فلك الفوز.



وكلمة (وحده) قد تبدو في ظاهرها تقليلا للسند الذي تستند إليه في القياس البشرى، فيقال: (أنا لاجئ إلى فلان وحده) وعندما تكون لاجئا إلى عشرين ألا تكون أكثر قوة؟ لكن هنا لا يكون قياس بين اللجوء إلى الله وحده، بقياس اللجوء إلى مخلوق. إنك هنا تلجأ إلى خالق أعلى بيده مقاليد كل شيء وهو على كل شيء قدير، فكلمة (وحده) هنا تغنيك وتكفيك عن الكل. اعمل لوجه واحد. يكفك كل الأوجه، واعلم أنه لا يوجد من يغلبه على أمره.




وعظمة الحق أنه واحد أحد فرد متفرد صمد، وهو عزيز لا يُغْلب على أمره وهو صاحب كل الحكمة في وضع الأشياء في مواضعها بحيث إذا ما عرفت حكمة مايجريه الله سبحانه وتعالى على خلقه فأنت تتعجب من عظمة قدرة الله، لأن الحكمة هي وضع الشيء في موضعه، وما دمت قد وضعت الشيء في موضعه فإنه لا يكون هناك قلقٌ، وما دام الشيء موضوعا في مكانه فهو مستقر، وما دام الشيء مستقراً فإنه لا يتلون وتزداد الثقة فيه، وهذه مأخوذة من (الحَكمة) التي تُوضع في فم الفرس، والتي نسميها (اللجام) وهي كما نعرف تتكون من قطعة من الجلد تدخل على اللسان وفيها قطعة من الحديد، فإن مال إلى غير الاتجاه الذي تريد، يكون من السهل جذبه إلى الاتجاه الصحيح.




إن وجود الحكمة يعني وجود شيء يحكمه فلا ينحرف يمينا ولا يسارا، وما دام الله قد شهد أنه لا إله إلا هو، وشهدت الملائكة وشهد أولوا العلم، وانتهت القضية بعد هذه الشهادات إلى أنه لا إله إلا هو، وأنه العزيز الحكيم، فكل منهج منه يجب أن يُسلم إليه، وأن ينقاد له. وما دام الله قد شهد لنفسه بأنه إله واحد، أي لا يوجد له شريك ينازعه فيما يريد من خلقه، وليس لله شريك في الخلق، وليس لله شريك في الرزق، وليس له شريك في التشريع.



إذن.. فالجهة التي نستمد منها مقومات منهجنا هي جهة واحدة، وكان من الممكن أن تظلم وتجور هذه الجهة الواحدة الخالقة على ما خلقت لأنه ليس لأحد من خلق الله حق على الله، لكن الله سبحانه عادل، إنه سبحانه يطمئننا، فهذه الوحدانية بقدرتها وجبروتها وعلمها وحكمتها عادلة لا تظلم، لأنه قال: مع أني إله واحد، لا يُرد لي حكم ولا أمر فأنا قائم بالقسط.


والقيام بالقسط يجب أن نتوقف عنده لنفهمه جيدا، إن الحق يقول عن نفسه:
(قائما بالقسط) وكلمة قائم تعني أن الله قد خلقهم الخلق الأول، وهذا الخلق إنما قام على العدل والقسط. وتكليف الحق للخلق قام على العدل والقسط. والعدل والقسط يقتضي ميزانا لا ترجح فيه كفة على كفة، وهذا الميزان ممسوك بيد القدرة القاهرة التي لا توجد قوة أعلى منها تميل في الحكم، والحق سبحانه قائم بالقسط في الخلق، فقبل أن يخلقنا أعدّ لنا ما تتطلبه حياتنا بالقسط أيضا، فلم يجعل أمر الحياة قائما على الأسباب التي يكلفنا بها لنعيش، بل حكم بالقسط، لقد جعل الحق بعضا من الأمور لا دخل لنا نحن العباد فيها، ولم يقض الحق بذلك على حركتنا ولا على حريتنا في الحركة، لذلك خلق لنا أسبابا إن شئنا أن نفعل بها وصلنا إلى المسببات، وإن شئنا ألا نفعل فنترك الأسباب والمسببات.




إذن.. فالحق سبحانه لم يحكمنا في قضية الخلق الأولى بشيء واحد، بأن يجبرنا على كل شيء، بل جبرنا بأنه سبحانه لم يدخل أسبابنا ولا حركتنا في كثير من الحركات التي تترتب عليها الحياة، فلم يجعل الشمس بأيدينا، ولا القمر، ولا الريح، ولا المطر. كل هذه الأسباب جعلها بيده هو، لماذا؟ لأن هذه الأسباب ستفعل للمخلوق قبل أن تكون له قدرة. هذه الأسباب تفعل للإنسان قبل أن توجد له حياة؛ لتمهد للحياة التي يهبك الله إياها، فلو ترك الله كل هذه الأشياء لأسباب الإنسان لتأخرت هذه الأشياء إلى أن يوجد للإنسان إرادة، وتوجد له قدرة وعلم.




لقد جعل الله أسباب الحياة بيده، كالتنفس مثلا، إن التنفس لا يخضع لإرادة القدرة على الحركة في الحياة، ولكنه قال لك: أيها الإنسان- وهو سبحانه الإله القادر- تحرك التنفس إلى أن توجد له إرادة. ولا توجد الإرادة إلا إن وجُد عند الإنسان علم بأنه يريد إدخال الأوكسجين إلى الرئتين حتى يتغذى الدم والمخ وينقى الدم والجسم من الأشياء التي تضره، هذا يقتضي العلم، فإن كان هذا الأمر يقتضي العلم. فماذا يصنع الطفل الذي ليس له علم؟ كيف يتنفس؟



لذلك فمن رحمة الله وعدالته أن جعل أمر التنفس- على سبيل المثال- بيده هو سبحانه، ولكن الحق سبحانه لم يقض على مخلوقه بأن يجعله في الكون بلا حرية أو اختيار، لا، لقد ترك الحق سبحانه بعضا من الأشياء لحرية الإنسان واختياره.


إذن، فالحق لم يلزم العبد تسخيرا، ولم يمنع تخييرا.
وذلك هو العدل المطلق. لقد احترم الحق كينونة الإنسان، وحياة الإنسان، ومشيئة الإنسان، واختيار الإنسان، فقال: أنا سأعطيك أسباب الحياة الضرورية ولا أجعل لك دخلا فيها؛ لأنك إن تدخلت فيها أفسدتها، وتأخر وصول خدمتها لك إلى أن تعرف وتعلم، وأنا- الحق- أريدها لك، وأنت أيها الإنسان عاجز قبل أن توجد لك، وأنت قادر بوجودها الذي أمنحه لك؛ لذلك جعلتها بيدي أنا الخالق المأمون على خلقي. ولكن لن أقضي على حريتك، فإن أردت ارتقاءً في الحياة فتحرك في الحياة، إن شئت أيها الإنسان أن تفعل فافعل. وإن شئت أيها الإنسان ألا تفعل فلا تفعل. وهذا مطلق العدل.




ثم جاء الحق سبحانه وتعالى وجعل قوله:
{قَآئِمَاً بالقسط} مشتملا على التكليف أيضا، أي إن عدالته في التكليف مطلقة. فأناس يقولون: (لا إله) وأناس آخرون عددوا الآلهة، فقام الحق بالقسط بين الأمرين.



هو إله موجود يا من تقول: (لا إله). وهو إله غير متعدد يا من تشرك معه غيره. وهذا قيام بالقسط وجاء الحق سبحانه في الأحكام. ونحن نجد أحكاما شرعية طلبها الحق سبحانه من العبد طلبا باتا، ولم يتركها لاختيار الإنسان ونجد أشياء تركها الحق سبحانه ليجتهد فيها الإنسان، فلم يجعل الحق سبحانه العبد حراً طليقا يعربد في الكون كما يشاء، ولم يجعل الحق سبحانه عبده مقهورا أو مقسورا بحيث لا توجد له إرادة أو اختيار.



لقد جعل الله للإنسان مجالا في القسر ومجالا في الاختيار، أوجد في الإنسان القدرة على الحركة في الحياة، ولكنه قال لك: أيها الإنسان- وهو الإله القادر- تحرك في الحياة وأنا أحمي نتيجة ما تتحرك فيه، ولكن لي في مالك الذي جعلتك فيه خليفة حق عليك أن تعطي بعضا منه لأخيك المحتاج.



لقد أعطى الحق للنفس البشرية أن تكد، وأعطى لها أن تكدح، وحفظ لها ما تملك، ولكنه هو الحق لم يُطلق للنفس البشرية عنانها، بل قال: لي حق في ذلك. وهكذا نجده سبحانه قد عدل في هذا الأمر.

إذن فقول الحق إنه قائم بالقسط.. نجده واضحا في كل شيء؛ ففي الخلق والرزق والتكليف نجد أنه قائم بالقسط، وما دام هو إلها واحدا وقائما بالقسط، فما الذي يمنعك أيها الإنسان أن تخضع لمراده منك؟ يقول الحق سبحانه: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام...}.



المصدر: موقع نداء الإيمان


https://media.gemini.media/img/large..._39_20_586.jpg

امانى يسرى محمد 03-06-2021 01:36 PM

رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة ال عمران)
 

https://akhawat.islamway.net/forum/u...74bd016db.jpeg


قال تعالى :
{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسلام وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}.. [آل عمران : 19].


بعد أن قال لنا: إنه إله واحد، وقائم بالقسط هو نتيجة منطقية لكونه سبحانه إلها واحدا فكأن قوله {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} هو نتيجة لقوله: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط}. لماذا؟ لأنه لا تسليم لأحد إلا الله، وما دام الله إلها واحدا، فلا إله غيره يشاركه، يقول الحق: {مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إله إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ}.. [المؤمنون: 91].


وما دام قد ثبت أنه هو الإله الواحد، فما الذي يمنعك أيها الإنسان أن تخضع لمراده منك؟ إذن فقول الحق بعد ذلك: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} هو أمر منطقي جدا يجب أن ينتهي إليه العاقل، ومع ذلك رحمنا الله سبحانه وتعالى فأرسل لنا رسلا لينبهونا إلى القضية السببية، والمسببية، والمقدمة والنتيجة {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} وإذا سألنا: ما هو الدين؟ تكون الإجابة: إن الدين كلمة لها إطلاقات متعددة فهي من (دان) تقول: دنت لفلان: رجعت له وأسلمت نفسي له، وائتمرت بأمره. ويُطلق الدين أيضا على الجزاء، فالحق يقول عن يوم الجزاء: (يوم الدين) وهو يوم الجزاء على الطاعة وعلى المعصية، وعلى أن الإنسان المؤمن قد دان لأمر الله، فكلها تلتقي في قول الحق: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} يُشعرنا بأنه قد توجد أديان يخضع لها الناس، ولكنها ليست أديانا عند الله؛ ألم يقل الحق: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} .. [الكافرون: 6].

إن معنى ذلك أن هناك دينا لغير الله فيه خضوع واستسلام، وفيه تنفيذ لأوامر، ولكن ليس دينا لله، ولا دينا عند الله. إن الدين المعترف به عند الله هو الإسلام.

والدين يطلق مرة على الملة ومرة أخرى على الشريعة، فإن أراد المؤمن الأحكام المطلوبة فلك أن تسميها شريعة، وإن أراد المؤمن الطاعة، والخضوع، وما يترتب عليهما من الجزاء فليسمها المؤمن الدين، وإن أراد الإنسان كل ما ينتظم ذلك فليسمها الملة.


إذن فقوله سبحانه: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} تعني أنه لا دين عند الله إلا الإسلام، وكلمة (الإسلام) مأخوذة من مادة (سين) و(لام) و(ميم). و(السين) و(اللام) و(الميم) لها معنى يدور في كل اشتقاقاتها، وينتهي عند السلامة من الفساد. وينتهي المعنى أيضا إلى الصلح بين الإنسان ونفسه، وبين الإنسان وربه، وبين الإنسان والكون، وبين الإنسان وإخوانه، إنه صلاح وعدم فساد، كل مادة السين واللام والميم تدل على ذلك، وما دامت المادة المكونة منها كلمة (إسلام) تدل على ذلك فلماذا لا نتبعها؟.

لقد قلنا سابقا: إن الإنسان لا يخضع لمثيله إلا إذا اقتنع بما يقول، إن الإنسان يقول لمساويه الذي يأمره: لماذا تريدني أن أنفذ أوامرك؟ إنك لابد أن تقنعني بالحكمة من ذلك الأمر، لكن عندما يؤمن الإنسان بإله واحد قائم بالقسط، ويصدر من هذا الإله أمر، فعلى الإنسان الطاعة.

إذن.. فالإسلام معناه الخضوع، والاستسلام بعزة وفهم، وعزة وتعقل؛ لأن هناك عبودية تَعَقّل عندما يقف الإنسان عند المعنى السطحي، وهناك عزة تعقل عندما يقف الإنسان عند المعنى الذي لا يأتيه الباطل من بين يده أو من خلفه، إن هذا هو عزة العقل فلا يستهويه أي شيء سوى الخضوع للأمر الثابت الذي لا يتناقض أبدا.

فما دام الله إلها واحدا قائما بالقسط فإني كعبدٍ من عبيده حين أؤمن به وآخذ عنه، فهذه عزة في الفهم وعزة في التعقل، وعزة في العبودية أيضا، لأنني أعبد الله الذي هو فوق كل المخلوقات والكائنات، ولا أعبد مساويا لي، وإن الذي يعبد مساويا له لا يملك إلا إنفة وحميّة الذليل، وما دام الإسلام هو الخضوع والاستسلام لله فهو خضوع لغير مساو، و(أسلم) أي دخل في السلم، أي دخل في الصلح، وعدم التناقض، وفي الأمان والراحة، أي خلص نفسه من كل شيء إلا وجه الله؛ ولذلك يقول الحق: {ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الحمد للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}.. [الزمر: 29].

كأن الله يريد أن يوضح لنا الفرق بين الخاضع لأمر سيد واحد، وبين الخاضع لِسَادَةٍ كثيرين. وضرب الله لنا المثل بالأمر المشهور عندنا، فقال ما معناه: هب أن عبداً له من السادة عشرة، وكل سيّد له منه طلب، فماذا يصنع ذلك العبد؟ وعبد آخر له سيد واحد، هذا العبد يكون مستريحا لأنّ له سيدا واحدا، بينما الآخر المملوك لعشرة تتضارب حياته بتضارب أوامر سادته العشرة.

إذن فالعبد المملوك لشركاء تعيس؛ لأن الشركاء غير متفقين، إنهم شركاء متشاكسون، فإذا رآه سيده يفعل أمرا لسيد آخر، أمره بالعكس، وبذلك يتبدد جهد هذا العبد ويكثر تعبه، ولكن الرجل السلم لرجل، هو مستريح، وكذلك التوحيد، لقد جاء الحق سبحانه بمثل من واقعنا ليقرب لنا حلاوة التوحيد. إن العبد المؤمن بإله واحد يحمد الله لأنه خاضع لإله واحد. إذن فما دام الإسلام هو الخضوع والاستسلام ومعناه الدخول في السلم بكسر السين- أو الدخول في السلم- بفتح السين- يقول الحق: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّهُ هُوَ السميع العليم}.. [الأنفال: 61].

هذا الخضوع ليس لمساو، بل لأعلى. والأعلى الذي نخضع له هو الذي خلق، وهو الأعلى الذي أمدنا بقيوميته بكل شيء.

إذن فإذا أسلم الإنسان، فإن هذا الإسلام له ثمن هو المثوبة من الله. إن من مصلحة الإنسان أن يسلم. {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} وما دام الدين المعترف به عند الله هو الإسلام فهو الدين الذي يترتب عليه الثواب والإسلام هو دين الرسل جميعا، وكلهم قد آمن به؛ فإبراهيم خليل الرحمن قد قال: {رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التواب الرحيم} .. [البقرة: 128].

ويعقوب عليه السلام يخبر الحق عنه في قوله لبنيه وإجابتهم له: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إلها وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}.. [البقرة: 133].


ويقول- جل شأنه-: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي ربي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ العالمين لاَ شَرِيكَ لَهُ وبذلك أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين}.. [الأنعام: 161-163].

إذن فالإسلام دين شائع، والمسلمون كلمة شائعة في الأديان

، وبذلك لا يقف الإسلام عند رسالة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام فقط، إنما الإسلام خضوع من مخلوق لإله في منهج جاء به رسل مؤيدون بالمعجزات، إلاّ أن الإسلام بالنسبة لهذه الرسالات كان وصفا، لكن أمة محمد صلى الله عليه وسلم تميزت بديمومة الوصف لدينها كما كان لأمم الرسل السابقة، وصار الإسلام- أيضا- علما لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، لأن رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم تضمنت منتهى ما يوجد من إسلام في الأرض، فلم يعد هناك مزيد عليها، وانفردت أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن صار الإسلام علما عليها.

إذن فالإسلام في الأمم السابقة كان وصفا، وأما بالنسبة لرسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد صار علما لأنه لم يأت بعدها دين، فإسلامها إسلام عالمي، ولذلك فنحن بهذا الدين نقول: (نحن مسلمون) أما أصحاب الديانات الأخرى فهم أيضا مسلمون لكن بالوصف فقط.



نحن الذين نتبع الدين الخاتم سمانا الله في كتابه المسلمين فهذا من إعجازات التسمية التي وافق فيها خليل الله إبراهيم عليه السلام مراد ربه: {وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجتباكم وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة واعتصموا بالله هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير} .. [الحج: 78].





http://up.3dlat.com/uploads/13591567087.gif


لقد صار الإسلام اسما لأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولا يُطلق هذا الوصف اسما إلا على من بالغ في التسليم.

كيف؟

نحن نعلم أن لفظ الجلالة (الله) علم لواجب الوجود، ونعلم أن (حي) صفة من صفات الله سبحانه وتعالى. ولكن صارت كلمة (حي) اسما من أسماء الله؛ لأن الله حي حياة كاملة أزلية. إذن لا تكون الصفة اسما إلا إذا أخذ الوصف فيها الديمومة والإطلاق. وعلى هذا القياس يكون الرسل السابقون على محمد صلى الله عليه وسلم، والأمم السابقة على أمة الإسلام، كانوا مسلمين، وكانوا أمما مسلمة بالوصف، ولكن أمة محمد صلى الله عليه وسلم تميزت بالإسلام وصفا وعَلَما، فصار الأمر بالنسبة إليها اسما، ونظرا لأنه لن يأتي شيء بعدها، لذلك صار إسلام أمة رسول الله (علما).


ولقد بشر سيدنا إبراهيم عليه السلام بهذا الأمر: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين} .. [الحج: 78] إن الحق قد أورد على لسان سيدنا إبراهيم بالوضوح الكامل {هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين} ولم يقل الحق: (هو وصفكم بالمسلمين). لا، إنما قال: {هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين}، لأن الأمم السابقة موصوفة بالإسلام وأما أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي مسماة بالإسلام. وتجد من إعجازات التسمية، أننا نجد لأتباع الأديان الأخرى أسماء أخرى غير الإسلام، فاليهود يسمون أنفسهم باليهود نسبة لـ(يوها). ويقولون عن أنفسهم: (موسويون) نسبة إلى موسى عليه السلام. والمسيحيون يسمون أنفسهم بذلك نسبة إلى المسيح عيسى ابن مريم. ولم نقل نحن أمة رسول الله عن أنفسنا: (إننا محمديون) لقد قلنا عن أنفسنا: (نحن مسلمون). ولم يأت على لسان أحد قط إلا هذه التسمية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وصار اسم الإسلام لنا شرفا. إذن، فقول الله الحق: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} يعني أنه، إن جاز أن يكون لرسول أو لأتباع رسول وصف الإسلام فقد يجيء رسول بشيء جديد لم يكن عند الأمم السابقة فنزيده نحن بالتسليم، وبزيادتنا- نحن المسلمين- بهذا التسليم خُتِمَ التسليم بنا نحن أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذا صار الإسلام لا يُطلق إلا علينا.



إن الحق سبحانه وتعالى يوضح لنا أن الذين أوتوا الكتاب قد اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم. ولماذا اختلفوا؟

جاءت الإجابة من الحق. الأعلى: {بَغْياً بَيْنَهُمْ} وكلمة الاختلاف هذه توحي أن هناك شيئا متفقا عليه، وما دام الإسلام هو خضوعا لمنهج الله. لأنه إله واحد وقائم بالقسط، فمن أين يوجد الاختلاف؟ وما الذي زاد حتى يوجد اختلاف؟ أبرز إلهٌ آخر يناقض الله في ملكه؟ لا لم يحدث. وما دام الإله واحدا، وما دام المنهج القادم من عنده منهجا واحدا، فمن أين جاء هذا الاختلاف؟


إن الحق يوضح لنا أن الاختلاف قد جاء للذين أوتوا الكتاب من بعد ما جاءهم العلم وتلك هي النكاية، وذلك هو الشر، فلو كانوا قد اختلفوا من قبل أن يأتي إليهم العلم لقلنا: (إنهم معذورون في الاختلاف).

ولكن أن يحدث الاختلاف من بعد أن جاء العلم من الإله الواحد القائم بالقسط فلنا أن نقول لهم: ما الذي جَدَّ لتختلفوا؟ إن الذي جَدَّ هو من عالم الأغيار، وما دام الجديد قد جاء إليهم من عالم الأغيار، فمعنى ذلك أن هوى النفس قد دخل، ونريد أن نعرف أولا معنى الاختلاف، الاختلاف في حقيقته هو ذهاب نفس إلى غير ما ذهبت إليه نفس أخرى.

ولماذا حدث الاختلاف هنا رغم أن الإله واحد، وهو قائم بالقسط؟ لابد لنا أن نستنتج أن شيئا جديدا قد نبت، ما هو هذا الشيء؟

إنه الهوى المختلف، وحينما يقال: (اختلفوا) فنحن نعلم أن جماعة قد ذهبت إلى شيء وجماعة أخرى ذهبت إلى شيء آخر. وقد نستنتج أن طرفا قد ذهب إلى حق، وأن الطرف الآخر قد ذهب إلى باطل، أو أنهم جميعا قد ذهبوا إلى باطل. والذهاب إلى الباطل قد يختلف؛ لأن كل باطل له لون مختلف. هل أراد الحق سبحانه وتعالى أن يقول: أنا أنزلت الأديان، ومن رحمتي بخلقي تركت بعضا من الناس يحتفظون بالحق في ذاته وإن طرأ عليهم أناس يختلفون معهم.


وتجد المثال لذلك في اليهود، عندما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. لقد اختلفوا، وأسلم منهم أناس وآمنوا برسالة النبي الخاتم، بينما الآخرون لم يسلموا، ومن أسلم هم الذين كانوا على الحق، ومن رحمة الله تعالى أنه جعل الذين علموا برسالة رسول الله أن يعلنوا البشارة في كتبهم ولم يكتموا ذلك العلم بل أعلنوا الإيمان، بينما أصر البعض الآخر على كتمان ما جاءهم من العلم وأصروا على الإنكار. إن الذين أسلموا هم الذين ينطبق عليهم قول الشاعر:

إن الذي جعل الحقيقة علقما *** لم يخل من أهل الحقيقة جيلا

وإذا كان الله قد عصم الأجيال المتتالية من أمة الإسلام بأن حفظ لنا القرآن. ففي الأديان الأخرى كان هناك أناس من أهل الحقيقة، وأنصفهم الله: {لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَآءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَيُسَارِعُونَ فِي الخيرات وأولئك مِنَ الصالحين}.. [آل عمران: 113-114].

لقد أنصفهم الله حق الإنصاف، والذين آمنوا برسول الله من أتباع تلك الديانات قد اهتدوا إلى الحق، واختلفوا مع غيرهم وقول الحق: {أُوتُواْ الكتاب} هذا القول يقتضي أن نقف عند (أُوتُواْ) أي أن شيئا قد جاء إليهم من جهة أخرى. إذن فالكتاب ليس من أفكار البشر؛ لأن المنهج لو كان من أفكار البشر لكان من الممكن أن يختلفوا فيه أو حوله، وبناء (أُوتُواْ) للمفعول يجعلنا نسأل: من الذي آتاهم الكتاب؟ إنه الله سبحانه وتعالى، والحق سبحانه وتعالى لا يأتي بمختلف فيه.

وما دام الكتاب من عند الله فلا يمكن أن يوجد فيه خلاف. يقول الحق: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً}.. [النساء: 82].

وكأن الله بنبهنا بذلك القول إلى أن كل شيء بنبت من البشر للبشر، فلابد أن تحدث فيه خلافات. إنما الشيء عندما يأتي من الواحد الأحد لا يمكن أن يحدث فيه خلاف أبدا. لا يمكن أن يحدث خلاف فيما اتحد فيه المصدر والمنبع إلا إن وجدت- بضم الواو وكسر الجيم- أشياء زائدة عن ذلك، وهذه الأشياء الزائدة هي أهواء الذين يقولون: إنهم منسوبون إلى الله.

إذن فالحق سبحانه وتعالى يوضح لنا أن الكتاب لم يأت إليهم من بشر مثلهم، إنما من إله واحد قادر، وفي هذا تنبيه لأتباع الديانات السابقة. أي إنكم أيها الأتباع لا تتبعون إلا منهج الله، وحين تتبعون منهج الله الذي جاء به الرسل فأنتم لا تتبعون أحدا من الخلق، لأن أي رسول أرسل إليكم إنما جاء ليبلغكم بمنهج قادم من ربكم، ولم يقل لكم أحد من الرسل إن المنهج قادم من عنده والرسول يحمل نفسه على الطاعة والخضوع للمنهج المنزل عليه قبلكم، وهذه عزة لكم، ولينتبه جميع الخلق أن المنهج الحق دائما قد أخذه الرسل من الله.


وحين يقول الحق: (الكتاب) فلنا أن نعرف أن كلمة (الكتاب) قد وردت في القرآن الكريم في أكثر من موضع، إن الحق سبحانه وتعالى يسمي القرآن مرة (قرآنا) لأنه يقرأ، ويسميه الحق أيضا (الكتاب) وذلك دليل على أنه يُكتب، وحين نقول: إن القرآن من (القراءة) فهذا يعني أن نبرز ما في الصدور بالقراءة ولكن ما في الصدور قد تلويه الأهواء؛ لذلك يحرس الحق قرآنه بما في السطور ولذلك فالقرآن مقروء ومكتوب.

وعندما يقول الحق (من أهل الكتاب)، فإن ذلك تنبيه لنا أن الكتاب هو منهج مكتوب، أي لم يتم وضعه في الصدور ونسيته النفوس، لا، إنه منهج مكتوب، هكذا حدد الحق أمر المنهج السابق على القرآن، إنه مكتوب، فإن لعبت أهواء النفوس كما لعبت، فإن ذلك يعني تحريف الكلم عن مواضعه. ولنا أن ننتقل الآن إلى المعرفة (العلم): ما هو العلم؟ إن العلم هو أن تدرك قضية وهذه القضية واقعة في الوجود تستطيع أن تقيم الدليل عليها، وغير ذلك من القضايا لا يصل إلى مرتبة العلم لأنه لا يستطيع أحد أن يدلل عليه.


مثال ذلك: نحن نقول: (الأرض كروية) إن كروية الأرض هي نسبة حدثت، ونقولها ونحن جازمون بها. والسابقون لنا في عصور سابقة قال بعضهم: (إن الأرض مسطحة)، وحاول أن يجد من الأسباب ما يقيم الدليل على ذلك ولكن الذين أقاموا الدليل على أن الأرض كروية كانوا صادقين بالفعل. وفي العصر الحديث صارت كروية الأرض أمرا مرئيا من سفن الفضاء، وغيرها من الوسائل، ونحن نعرف أنه (ليس مع العين أين) إن الكروية بالنسبة للأرض، هي نسبة، نقولها ونجزم بها، والواقع أنها كذلك، ونستطيع أن نقيم على ذلك الدليل.

هذا هو العلم المستوفى، إن فساد الناس أنهم يأتون إلى قضية لن تصل إلى هذه المرتبة ويسمونها (علما) كقولهم: إن الإنسان أصله قرد، لا، إن أحدا لا يستطيع الجزم بذلك، وتلك قضية ليست من العلم، إن كلمة (علم) تُطلق على القضية المجزوم بها؛ وهي واقعة في الوجود، ونستطيع أن ندلل عليها، وإذا كانت القضية مجزوماً بها؛ وواقعة في الوجود، ولكنك لا تستطيع أن تدلل عليها، فماذا تسمي هذه القضية؟ هذا ما يطلق عليه (تقليد) تماما كما يقلد الولد أباه قبل أن ينضج عقله فيقول: (لا إله إلا الله، الله واحد). ومثلما يأخذ التلميذ عن أستاذه القضية العلمية، ولا يعرف كيفية إقامة الدليل عليها، فهذا نطلق عليه (تقليدا)، وإلى أن ينضج عقل التلميذ ويحسن استيعابه نقول له: ابحث بحثا آخر لتقيم الدليل.

إذن فالتقليد هو قضية مجزوم بها، وواقعة، ولا يوجد عليها دليل. وهكذا نعرف أن (العلم) يمتاز عن التقليد بوجود القدرة على التدليل، لكن إذا ما كانت هناك قضية ومجزوم بها ولكنها ليست واقعة، فماذا نسمي ذلك؟ إن هذا هو الجهل. إن الجهل لا يعني عدم علم الإنسان، ولكن الجهل يعني أن يعلم الإنسان قضية مخالفة للواقع ومناقضة له. أما الذي لا يعلم فهو أميّ يحتاج إلى معرفة الحكم الصحيح، فالجاهل أمره يختلف، إنه يحتاج منا أن نخرج من ذهنه الحكم الباطل؛ ونضع في يقينه الحكم الصحيح، وهكذا تكون عملية إقناع الجاهل بالحكم الصحيح هي عملية مركبة من أمرين، إخراج الباطل من ذهنه، ووضع الحكم الصحيح في يقينه.

ولذلك فنحن نجد أن تعب الناس يتأتى من الجهلاء، لا من الأميين؛ لأن الجاهل هو الذي يجزم بقضية مخالفة للواقع ومناقضة له، أما الأميّ فهو لا يعرف، ويحتاج إلى أن يعرف. وماذا يكون الأمر حين تكون القضية غير مجزوم بها، وتكون نسبة عدم الجزم، مساوية للجزم؟ هنا نقول: إن هذا الأمر هو الشك، وإن رجح أمر الجزم على عدم الجزم فهذا هو الظن، وإن رجح عدم الجزم يكون ذلك هو الوهم.


http://up.3dlat.com/uploads/13591567087.gif


إذن فوسائل إدراك القضايا هي كالآتي:

أولا: علم.

ثانيا: تقليد.

ثالثا: جهل.

رابعا: شك.

خامسا: ظن.

سادسا: وهم.

والعلم هو أعلى المستويات في إدراك القضايا. ولذلك نجد أن الحق يحدد لنا على ماذا اختلف الذين أوتوا الكتاب، لقد اختلفوا من بعد ما جاءهم من العلم. ولم يقل الحق: إنهم اختلفوا بعد ما جاءهم التقليد أو الظن، أو الجهل أو الشك، إنما قال الحق: إنهم قد اختلفوا من بعد ما جاءهم الاستيفاء الكامل، وهو العلم. وما دام هناك أمر قد جاء من القائم بالقسط والإله الواحد، فالمسألة القادمة منه وهي الحق قد وصلت إلى مرتبة العلم إذن، ففيم الاختلاف؟ لابد أن أمراً ما قد جدّ. والذي يجد إنما هو قادم من الأغيار، وهي الأهواء،

ولذلك يحدد لنا الحق هذا الأمر بقوله (بَغْياً بَيْنَهُمْ).

ما البغي؟

البغي هو طلب الاستعلاء بغير حق.


إذن فطلب الاستعلاء ليس ممقوتا في ذاته؛ لأن طلب الاستعلاء هو قضية الطموح في الكون. وأن يطلب إنسان الرفعة فيجد ويجتهد، ويبذل العرق ليصل إلى مكانة علمية أو غيرها، فهذا حق طبيعي، ونحن نعرف أن العالم قد ارتقى بالطموحات الإنسانية، إن العالم لو اكتفى وثبت عند الذي وصل إليه في جيل ما، فإن العالم يحكم على نفسه بالجمود، ولكن الناس طورت في العالم الذي تحياه بجهد بذله البعض منهم في قضايا نافعة، ثم حاولوا أن يرتقوا بها ونالوا حقهم من التقدير، وارتفعوا بالعلم بجهد حقيقي بذلوه، وبدراسة لما بذله السابقون عليهم.

إذن فطلب الاستعلاء في حد ذاته غير ممقوت، بل محمود ما دام قائما على الجهد. ولكن أن يطلب الإنسان الاستعلاء بغير حق، فهذا هو البغي. لقد أثبت الله لنا في هذه الآية، أن كل خلاف بين رجال الدين، أو بين دين ودين، إنما مرجعه إلى نشوء البغي، ونشوء البغي هو طلب رجال الدين الاستعلاء بغير الحق. ومظاهر طلب الاستعلاء بغير حق هو إعطاء الفتاوى التي توافق أمزجة القوم، وتخالف ما أنزله الحق.

إن الواحد من هؤلاء يدعى لنفسه التحضر، ويعطي من الفتاوى ما يناقض الذي أنزله الله، ويدعى أنه يأخذ الدين بروح العصر، ويدعى لنفسه عدم الجمود، ويذهب إلى حد اتهام المتمسكين بدينهم بأنهم متخلفون، والهدف الذي يختبئ في صدر مثل هذا الإنسان هو الاستعلاء في قومه بغير الحق، ويجب أن نفهم أن كل خلاف بين أهل دين واحد، أو بين دين ودين، منبعه قول الحق: {بَغْياً بَيْنَهُمْ}. وهذا يعني اتباع البعض للهوى النابع من بينهم ولم ينزله الله.

لماذا؟

لأن الله سبحانه وتعالى إمّا أن ينزل الله حكما محكما لا رأى فيه لأحد، ولا يستطيع أحد أن ينقضه، وإما أن ينزل الله حكما قابلا للفهم والاجتهاد.


ولم يجعل الله الأحكام كلها من لون واحد، إنما جعل الأحكام على لونين، وذلك حتى يحترم الإنسان ما وهبه الخالق له من عقل، ويجعل له مهمة، فيأتي بقضية ويبحثها ويرجع سببا على سبب. وفي ذلك استخدام من الإنسان لعقله، إنها رحمة من الله حتى لايجمد العقل الإنساني.

إذن فإذا رأيت أي خلاف بين رجال الدين أو بين دين ودين فاعلم أن القول الفصل في هذا الأمر هو ما عبر عنه في القرآن: {بَغْياً بَيْنَهُمْ} فمن البغي يهب الهوى الذي تنشأ منه الأعاصير، إن من يحب الاستعلاء بغير الحق هو الذي يحاول البغي فيدعي لنفسه أنه أرقى في الفكر، أو يستعلى عند من يملكون له أمرا، أو يستعلي عندما يوافق حاكما في رأي من الآراء، ويبرر للحاكم حكما من الأحكام.

إن كلمة {بَغْياً بَيْنَهُمْ} يدخل في نطاقها كل موجات الخروج عن منهج الله، والتي نراها في الكون، والرسول صلى الله عليه وسلم قد أعطانا المناعة ضد الأمراض النفسية الناشئة عن البغي، مثلما يعطي المعاصرون المصل ضد أمراض البدن التي تفتك بالإنسان، وحتى لا تفاجئنا أمراض البغي، نجد الرسول يعطينا المناعة فيقول لنا صلى الله عليه وسلم: «البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس» ويحذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك كما في الحديث التالي: فيقول صلى الله عليه وسلم: «البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما لم تسكن إليه النفس ولم يطمئن إليه القلب وإن أفتاك المفتون».

إن الرسول صلى الله عليه وسلم يحذرنا ليوضح لنا أن أهل البغي لهم لجاج في أن يقولوا ويصدروا الفتاوى، وما معنى الإفتاء الذي يحذرنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل هو مجرد رأي؟ أم هو رأي يأتي من إنسان معروف عنه أنه مشتغل بعلم الله وبالأحكام؟ إن الرسول صلى الله عليه وسلم ينبهنا إلى ذلك مناعة لنا. فقد يصبح أصحاب الحق قلة، وليس لهم نصيب في إيصال رأيهم للناس، أو أن الذين يملكون الكلمة الإعلامية ليسوا مع أصحاب الحق بل في جانب رجل يساير الباطل أو الركب.

وهنا نرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أعطانا المناعة حتى لا ييأس المتمسكون بالحق، فأمر الدين لن يمر رخاء، أو بسلام دائم، بل سنجد قوما يفسرون أحكام الدين بغيا بينهم، ويلوون الأشياء؛ لذلك أوضح لنا أن المؤمن حَكَمٌ في نفسه، ويحذرنا من الذين يفتون بالبغي، إن الإفتاء يحتاجه الناس من الذي يعلم، ولذلك جاءت كلمة (يستفتونك) أكثر من مرة في القرآن الكريم، لأن الذين يطلبون الفتوى هم الذين يحتاجون إلى توضيح لأمر ما؛ لأنهم مشغولون بقضية الإيمان، ولذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم يحذرنا من الذين يحاولون إلقاء الفتاوى، ويحذر كل مؤمن من أن يستمع لكل فتوى.


ويقول الحق: {وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ الله}. إذن فمن هو الذي يكفر بآيات الله؟ وفي أي مجال؟ إن الكفر بآيات الله هنا محدد في الاختلاف، وفي البغي بينهم، أي طلب الاستعلاء بغير حق، وسمى الحق كل ذلك (كفرا) والمراد منه هنا التنبيه لنا ألا نستر أحكام الله بالاختلاف أو البغي، وجاء التحذير في تذييل الآية بقوله: {فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب}. فإياك أن تستطيل أمر الجزاء وتقول: سأستمتع بنتيجة البغي والاختلاف لخدمة من يهمهم أمر الاختلاف، ويهمهم أمر البغي، لأنك تريد أن تتعجل أشياء تظن أنها نافعة لك، لكن ها هو ذا الحق سبحانه يحذرك أن تستبطئ حسابه، لماذا؟ لأنه من الجائز أن يأتي لك الحساب من الله في الدنيا، وهب أن الله لم يبتل مثل هذا الإنسان ببلاء كبير في الدنيا فإن هذا الإنسان سيكون له الحساب العسير في الآخرة.


وقد يقول قائل: إن الحساب في الدنيا قد يؤجله الله إلى الآخرة، والعلامات الصغرى للقيامة نحن في مراحلها، وما زالت العلامات الكبرى ليوم القيامة لم تظهر. لمثل هذا القائل نقول: هناك فرق بين الحدث في ذاته، وبين الحدث فيمن يُجرى عليه الحدث. هناك فرق بين أن تقوم القيامة على الناس جميعا، وبين أن تُختصر حياة الإنسان بحادثة ليست في حسبانه، فقد يفتى الإنسان فتوى اليوم؟ وتأتي له حادثة فورية تنقله فجأة إلى سريع الحساب، فإن استبطأ إنسان الحساب، فعليه أن يعرف أن الآخرة قد تجيء له أسرع من مسائل الدنيا لأن الإنسان لا يملك القدرة على أن ينقل إليه من يريد في أي وقت. وهكذا تكون الآخرة بالنسبة للمستبطئ للحساب أسرع من حساب الدنيا، وكلمة (حساب) كلمة تطمئن المؤمن إلى أن الله قائم بالقسط لا يتخلى حتى عمن كفر به أو عصاه، إن كل إنسان يأخذ ماله ويدفع ما عليه، ويقول الحق من بعد ذلك: {فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ...}.


المصدر: موقع نداء الإيمان


https://akhawat.islamway.net/forum/u...5fea9ff3f8.png

امانى يسرى محمد 05-06-2021 07:30 AM

رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة ال عمران)
 
https://m3lumh.com/wp-content/uploads/2020/02/3-2.gif

قال تعالى:
{فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}.. [آل عمران : 20].


{فَإنْ حَآجُّوكَ}هذا هو القول يدل على أن الحق سبحانه وتعالى يلقى منهجه على الرسول الخاتم، ويعطيه الواقع الذي يحيا فيه، لقد جابه الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة معسكرات.
المعسكر الأول: هم مشركو قريش، وكان كفرهم في القمة.
والمعسكر الثاني: هو معسكر اليهود والنصارى ويجمعهم معا لأنهم أهل كتاب.
والمعسكر الثالث: هو معسكر المنافقين.


والمحاجّة قد أتت من المعسكر الثاني، لأن كفار قريش لم يدعوا أن عندهم دينا قد نزل من السماء، أما أهل الكتاب فهم يدعون أن عندهم دينا منزلا من السماء، وعندما يناطح الشرك دينا فهذا أمر معقول، أما أن يناطح أهل دين نزل من السماء رسولا جاء بدين خاتم من السماء فهذا أمر يستحق أن نتوقف عنده.

ومعنى {فَإنْ حَآجُّوكَ} أي أنهم يحاججون الرسول صلى الله عليه وسلم وتم إدغام الحرفين المتشابهين وهما حرفا (الجيم) حتى لا تصبح ثقيلة على اللسان. ومعنى المحاجة: أن يدلي كل واحد من الخصمين بحجته. وهذا يعني النقاش، وما دام هناك نقاش بين حق وبين باطل، فإن الله لا يترك الرسول صلى الله عليه وسلم، بل يقول له: {فَإنْ حَآجُّوكَ} أي إن ناقشوك في أمر الإسلام الذي جئت به كدين خاتم مناقض لوثنية أو شرك قريش ومناقض لما قام أهل الكتاب بتغييره من مراد الله فقل يا محمد: {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ} وقد قلنا من قبل: إننا عندما نسمع قول الحق {فَقُلْ} كان من الجائز أن يكتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقول القول وضربنا مثلا على ذلك، حين يقول الأب لابنه: اذهب إلى عمك وقل له: كذا وكذا. وساعة أن يذهب الابن إلى العم فيقول له: الأمر كذا، وكذا. إن الابن لا يقول لعمه: قل لعمك كذا وكذا.. لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قد حافظ على النص الذي جاءه من ربه لأن النص واضح. {فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ} فهل هذا رد بالحجة؟ نعم هذا هو الرد، لأن أهل الكتاب وكفار قريش يأتي فيهم القول: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم}.. [الزخرف: 9].

ويأتي فيهم القول الحكيم: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ}.. [الزخرف: 87].
والكون كما نعرف (مكان) و(مكين) فالمكان: هو السماء والأرض. والمكين وهو الإنسان. والمكان مخلوق لله، والمكين مخلوق لله. وكان من المنطق أن نسلم وجهنا لمن خلق.

إذن فقول الحق:
{فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ} أي انتبهوا أيها الناس، إنني لم أخرج عن دائرة الإيمان بالإله الواحد، والذي تؤمنون به. إنه هو الذي خلق وهو الذي أوجد الكون.

وبعد ذلك إذا كان في الإسلام خضوع، فإن الحق يأتي بأشرف شيء في الإنسان ليجعله مظهر الخضوع. لأن الوجه هو السمة العالية المميزة، وهو الذي يظهر عليه انفعالات الأحداث في الكون من سرور أو حزن، ويظهر عليه أنك قد تكون قد سجدت وأنت كاره للسجود، أو سجدت وأنت مقرب لله سبحانه وتعالى فيمتلئ الوجه بالبشر والبشاشة.

وقول الحق: {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ}. تعني أن الوجه المسلم لله وهو أشرف شيء في الإنسان قد خضع للحق، وكأن القول الكريم لم ينسب الخضوع للبدن ولكن لأشرف شيء في الإنسان وهو الوجه، والوجه يطلق مرة ويراد به الذات كلها، فعندما يقول إنسان: {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ} فهو يعني (أسلمت ذاتي) بكل ما أوتيت الذات من جوارح ومن أعضاء. ولنقرأ قول الحق سبحانه: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الحكم وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.. [القصص: 88].


أي كل شيء هالك إلا ذاته سبحانه وتعالى، وهذا هو المقصود ب {إلا وجهه} وإلا إن أخذنا الوجه على أنه الوجه فقط فقد يقول قائل: أليس لله يد مثلا؟ ونقول إن له يدا في نطاق ليس كمثله شيء، ولذلك فلا يد الله تهلك ولا أي شيء فيه يهلك، ووجهه يعْني ذاته في نطاق ليس كمثله شيء. وأطلق الوجه على الذات، لأن الوجه هو المشخص للذات، فلا يستطيع أحد أن يميز أعضاء بدن عن أعضاء بدن، إنما التمييز يأتي بسمة الوجه، لأنها السمة المميزة، وقول الحق في تلقينه لرسول الله: {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ اتبعن}. تدل على أن الرسول قد أسلم وجهه لله؛ لأن الله خاطبه بوساطة الوحي، والوحي يباشره صلى الله عليه وسلم، ولكن حين يقول: {وَمَنِ اتبعن} فقد قام الليل لمن اتبعني، وإن لم يكن مخاطبا من الله مباشرة.


إذن فلا مجال لأن يقول قائل للرسول صلى الله عليه وسلم: أنت أسلمت وجهك لله لأنه خاطبك وحدك، وكأن صاحب هذا القول يريد خطابا لكل مؤمن، قال سبحانه: {وَمَنِ اتبعن} فمن اتبع الرسول فقد آمن بأن محمدا صلى الله عليه وسلم هو رسول صدق مبلغ عن الله منهج حق، فلا مجال لطلب البلاغ لكل فرد؛ لأن البلاغ قد وصل إليهم بالإيمان بما أنزله الله على رسوله الكريم ويأمر الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم {وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الكتاب والأميين أَأَسْلَمْتُمْ}.


وساعة تقرأ أو تسمع أسلوبا فيه (همزة الاستفهام) فلك أن تعرف أن الاستفهام يطلب منه أن تُعرف الحقيقة، كقول إنسان لآخر: أعندك محمد؟ أو أزارك فلان؟ إن هذا استفهام المراد به فهم الحقيقة، ومرة يريد الاستفهام مجرد الأمر بشيء، كأن يأتيك ضيف وتجلس معه ويدخل عليك والدك فيقول لك: أصنعت قهوة لضيفك؟ إن ذلك توجيه لك إن كنت لم تقم بواجب الضيافة فعليك أن تسرع في القيام بهذا الواجب.

وعلى ذلك نفهم قول الحق: {أَأَسْلَمْتُمْ} ولذلك نقرأ قول الحق سبحانه بعد الكلام عن الخمر: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ}.. [المائدة: 91].

إن قول الحق: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} يتضمن استفهاما، والاستفهام هنا يعني الأمر بالانتهاء. وفي مجال الآية التي نتعرض لها بالخواطر نجد قول الحق: {أَأَسْلَمْتُمْ} تعني الدعوة للإسلام، أي (أسلموا) وجاء بعد ذلك قول الحق الكريم: {فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهتدوا} ومعنى (اهتدوا) أنهم عرفوا الطريق الموصل للغاية التي خلق الله من أجلها الإنسان. وهنا يجب أن نعلم أن كلمة (الإسلام) هنا جاءت لتدل على الخضوع والخضوع لا يلمح إلا من خاضع، وعملية الخضوع تعرف بالحركة والسلوك، ولا تعرف فقط بالاعتقاد، ولذلك فالإمام علي كرم الله وجهه الذي أوتي شيئا من نفح النبوة في الأداء الإيماني بالأسلوب البياني الجميل قال الإمام عليّ لإخوانه: سأنسب الإسلام نسبا لم ينسبه قبلى أحد: الإسلام هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار والإقرار هو الأداء، والأداء هو العمل، والمؤمن يُعرف إيمانه بالعمل. ونحن في حياتنا العادية نسأل: ما نسب فلان؟

أي أننا نسأل (هو ابن مَن)؟ ومعنى كلمة (نسابة) عند العرب هو الرجل الذي يعرف سلسلة النسب، ومَن ابن مَن، ففلان ابن فلان ابن فلان، ابن فلان. والإمام عليّ كرم الله وجهه، حين ينسب الإسلام ينسبه بالفعل إلى نسب لم ينسبه قبله أحد. وحين ينتهي الإمام عليّ كرم الله وجهه إلى أن نسب الإسلام إلى العمل قال: المؤمن يعرف إيمانه بالعمل، فالدليل الصحيح على إيمان المؤمن هو عمله. ويضيف الإمام عليّ كرم الله وجهه: والكافر يُعرف كفره بالإنكار، وإن المؤمن قد أخذ دينه من ربه، ولم يأخذه برأيه. والسيئة في الإسلام خير من الحسنة في غيره؛ لأن السيئة في الإسلام تغفر، والحسنة في غيره لا تُقبل؛ لأن الكفر يصاحبها بالله هل هناك نسب للإسلام أروع من هذا؟ وهكذا نجد القول الكريم: {فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهتدوا}. والمقابل للإسلام يأتي بعد ذلك: {وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} إن المقابل هو (تولوا) أي لم يسلموا، إنه الحق ينبه رسوله ألا يحزن وألا يأسف إن تولوا كما جاء في قوله الكريم: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً}.. [الكهف: 6].

لماذا؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم عليه البلاغ فقط، وما دام قد جاء في صدر الآية: {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ اتبعن} فإن البلاغ أيضا يشمل النبي صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه، ولذلك تأتي آية أخرى لتشرح هذه القضية الإيمانية، ولتبقى الرسالة في أمته صلى الله عليه وسلم، ولتخبرنا أيضا لماذا لم يعد هناك داع لوجود أنبياء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمناء على أن يعدلوا فساد السلوك في الكون، فلم يعد العالم في حاجة إلى أنبياء جدد، ولهذا السبب قال الرسول: صلى الله عليه وسلم: «العلماء ورثة الأنبياء».


إذن {فعليك البلاغ} نأخذ منها الفهم الواضح أن البلاغ لا تنتهي مهمته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما يشمل كل عالم بالبلاغ الذي وصل إلى رسول الله وآمن به، فقد كان لهم في رسول الله أسوة حسنة، ويوضح الحق ذلك في آية أخرى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَتُؤْمِنُونَ بالله وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكتاب لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون}.. [آل عمران: 110].


ويقول الحق في آية أخرى: {وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ...}.. [الحج: 78] ومعنى ذلك أنكم تشهدون على الناس أنكم أبلغتموهم رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن لم يقم بإبلاغ الناس برسالة رسول الله فهو لم يأخذ ميراث النبوة، وميراث النبوة كما يكون شرف تبليغ، فهو أيضا تجلّد وتحمل، إن ميراث النبوة يكون مرة هو نيل شرف التبليغ لرسالةً رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومرة أخرى يكون ميراث النبوة هو جلادة التحمل، في سبيل أداء الرسالة، وجلادة التحمل هي التي يجب أن يتصف بها أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، فكلما ورثناه نحن المسلمين في شرف النبوة فإننا نرثه في جلادة التحمل، وهذا هو معنى القول الحق: {لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس}.. [الحج: 78].

فما معنى الأسوة إذن؟ إن الأسوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم تقتضي أنه ما دام قد تحمل بجلادة بلاغ الناس في رسالته، فعلينا ايضا أن نقتدي به. لقد ناضل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى أتباع رسول الله أن يناضلوا في سبيل نشر الدعوة، فإن رأيت أهل الدين في استرخاء وترهل وعدم قدرة على النضال في سبيل البلاغ عن الله فلتعلم أن هؤلاء القوم لن يأخذوا ميراث النبوة.

ولذلك إذا رأيت عالما من علماء الإسلام ليس له أعداء فأعلم أنه قد نقص ميراثه من ميراث الأنبياء.

لماذا؟ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له أعداء وكان يواجههم، فساعة أن ترى رجل دين وله أعداء فاعرف أنه قد أخذ حظه من ميراث الأنبياء ولننظر الآن إلى قول الحق سبحانه تذييلا للآية يوضح لنا ما الإسلام: {والله بَصِيرٌ بالعباد} لم يقل الله: إنه عليم بالعباد، لأن (عليم) تكون للأمور العقدية، لقد قال الحق في وصف ذاته هنا: (إنه بصير بالعباد)، والبصر لايأتي إلا ليدرك حركة وسلوكا.
فماذا يرى الله من العباد؟ إنه سبحانه يرى العباد المتحركين في الكون، وهل حركة العبد منهم تطابق الإسلام أولا؟ ومتابعة الحركة تحتاج إلى البصر، ولا تحتاج إلى البصر، ولا تحتاج إلى العلم، وكأن الحق سبحانه وتعالى يقول: إن كنتم تعتقدون أني لا أراكم، فالخلل في إيمانكم، وإن كنتم تعتقدون أني أراكم فلم جعلتموني أهون الناظرين إليكم؟

إذن فقول الحق:
{والله بَصِيرٌ بالعباد} نفهم منها أن الإسلام سلوك لا اعتقاد فقط، لأن الذي يُرى هو الفعل لا المعتقدات الداخلية. ومادام الله بصيرا بكل سكنات الإنسان وحركاته فإن الإنسان يستحي أن يراه ربه على غير ما يحب، وأضرب هذا المثل للتقريب لا للتشبيه فالحق سبحانه له المثل الأعلى وليس كمثله شيء، ونحن في حياتنا العادية نجد أن الشاب الذي يدخن يستحي أن يظهر أمام كبار عائلته كمدخن، فيمتنع عن التدخين أثناء تواجده مع الكبار، فما بالنا بالعبد وهو يعتقد أن الله يراه؟ وبعد ذلك يقول الحق: {إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله...}.



المصدر: موقع نداء الإيمان


https://media.gemini.media/img/large..._15_32_572.jpg

امانى يسرى محمد 06-06-2021 06:03 AM

رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة ال عمران)
 

http://www.dkku.net/uploads/gallery_1_2_51373.jpg



قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.. [آل عمران : 21].

وقلنا إن الحق حين يقول:
{إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله} هم الذين يكفرون بآيات الله على إطلاقها
هناك فرق بين الكفر بآيات الله وبين الكفر بالله. لماذا؟
لأن الإيمان بالله يتطلب البينات التي تدل على الله، والبينات الدالة على وجود الله موجودة في الكون.

إذن فالبينات واضحة، إن الذي يكفر بالله يكون قبل ذلك كافرا بالأدلة التي تدل على وجود الخالق.
إن الحق لم يقل هنا: إن الذين يكفرون بالله، وذلك حتى يوضح لنا أنّ الحق غيب، ولكن الآيات البينات ظاهرة في الكون، لذلك قال:
{إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ النبيين}.

ولنا أن نلاحظ هنا، أن كلمة القتل تأتي دائما للنبيين، أي أنها لا تأتي للذين أخذوا صفة تزيد على مهمة النبي، وهو الرسول، فليس من المعقول أن يرسل الله رسولا ليبلغ منهجا لله، فيُقدر الله خلقه على أن يقتلوا الرسول. ولكن الأنبياء يرسلهم الله ليكونوا أسوة سلوكية للمؤمنين، ولا يأتي الواحد منهم بتشريعات جديدة، أما الرسول فإن الله يبعثه حاملا لمنهج من الله. وليس من المعقول أن يصطفي الله عبدا من عباده ويستخلصه ليبلغ منهجه، ويُمَكّن الله بعد ذلك بعضا من خلقه أن يقتلوا هذا الرسول.


إن الخلق لا يقدرون على رسول أرسله الله، لكنهم قد يقدرون على الأنبياء، وكل واحد من الأنبياء هو أسوة سلوكية، ولذلك نجد ان كل نبيّ يتعبد على دين الرسول السابق عليه، فلماذا يقتل الخلق الأسوة السلوكية مادام النبيّ من هؤلاء قد جاء ليكون مجرد أسوة، ولم يأت بدين جديد؟

فلو كان النبي من هؤلاء قد جاء بدين جديد، لقلنا: إن التعصب للدين السابق عليه هو الذي جعلهم يقتلونه، لكن النبيّ أسوة في السلوك، فلماذا القتل؟ إن النبي من هؤلاء يؤدي من العبادة ما يجعل القوم يتنبهون إلى أن السلوك الذي يفعله النبيّ لا يأتي وفق أهوائهم.


إن القوم الذين يقتلون النبيين هم القوم الذين لا يوافقون على أن يسلكوا السلوك الإسلامي الذي يعني إخضاع الجوارح، والحركة لمنطق الدين ولمنطق الإسلام، لماذا؟
لأن النبيّ وهو ملتزم بشرع الرسول السابق عليه، حينما يلتزم بدين الله بين جماعة من غير الملتزمين يكون سلوكه قد طعن غير الملتزمين.


إن وجود النبيّ الذي يتمسك بشرع الله، ويخضع جوارحه، وسلوكه لمنهج الله بين جماعة تدّعي أنها تدين الله، ولكنها لا تتمسك بمنهج الله تحملهم إلى أن يقولوا: لماذا يفعل النبي هذا السلوك القويم، ولماذا يخضع جوارحه لمنطق الإيمان، ونحن غير ملتزمين مثله؟
وهذا السؤال يثير الغيظ والحقد على النبيّ بين هذه الجماعة عير الملتزمة بدين الله، وإن أعْلنت في ظاهر الأمر التزامها بالدين.


إنهم يحقدون على النبيّ لأنه يرتفع بسلوكه المسلم، وهم لا يستطيعون أن يرتفعوا ليكونوا مثله.

إن النبيّ بسلوكه الخاضع لمنهج الله يكون أسوة واضحة جلية يظهر بها الفرق بين مجرد إعلان الإيمان بمنهج الله، وبين الالتزام السلوكي بمنهج الله، وتكون أسوة النبيّ مُحقرة لفعلهم. ولذلك حين نجد إنسانا ملتزما بدين الله ومنهجه، فإننا نجد غير الملتزم ينال الملتزم بالسخرية والاستهزاء، لماذا؟ لأن غير الملتزم يمتلئ بالغيظ والحقد على الملتزم القادر على إخضاع نفسه لمنهج الله، ويسأل غير الملتزم نفسه: لماذا يكون هذا الإنسان قادرا على نفسه مخضعا لها لمنهج الله وأنا غير قادر على ذلك؟ إن غير الملتزم يحاول إزاحة الملتزم وإبعاده من أمامه. لماذا؟ لأن غير الملتزم يتضاءل في نظر نفسه ونظر الآخرين إذا ما قارن نفسه بالملتزم بمنهج الله، وعندما يقارن الآخرون بين سلوك الملتزم بمنهج الله وسلوك غير الملتزم بمنهج الله فهم لا يحترمون غير الملتزم فيشعر بالصغار النفسى أمام الملتزم وأمام الناس فيحاول غير الملتزم أن يزيح الملتزم وينحيه عن طريقه، إن غير الملتزمين بمنهج الله يسخرون ويتغامزون على الملتزمين بمنهج الله، كما يقول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ}.. [المطففين: 29-33].
ألا توضح لنا تلك الآيات البينات ما يقوله غير الملتزمين في بعض مجتمعاتنا للملتزمين بمنهج الله؟
ألا نسمع قول غير الملتزمين للملتزم بمنهج الله: (خذنا على جناحك)؟

إن هؤلاء غير الملتزمين ينطبق عليهم قول الحق: {وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ}.. [المطففين: 30-32].

إن غير الملتزمين قد يفرح الواحد منهم، لأنه استطاع السخرية من مؤمن ملتزم بالله. وقد يتهم غيرُ الملتزمين إنسانا ملتزما بأن الالتزام ضلال. والحق سبحانه وتعالى يرد على هذا الاتهام بالقول الكريم: {وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ}.. [المطففين: 33].
الحق يرد على الساخرين من الملتزمين بمنهج الله، فيضحك الذين آمنوا يوم القيامة من الكفار، ويتساءل الحق بجلال قدرته وتمام جبروته: {فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}.. [المطففين: 34-36].
هكذا ينال غير الملتزمين عقابهم، فماذا عن الذين يقتلون النبيين بغير حق؟ إن لنا أن نسأل: لماذا وصف الله قتل النبيين بأنه (بغير حق)، وهل هناك قتل لنبيّ بحق؟
لا يمكن أن يكون هناك قتل لنبي بحق، وإذا كان الله قد قال:
{وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقٍّ} هذا القول الكريم قد أتى ليوضح واقعا، إنه سبحانه يقول بعد ذلك في سلسلة أعمال هؤلاء الذين يقتلون النبيين بغير حق: {وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط مِنَ الناس} إنهم لم يكتفوا بقتل النبيين، بل يقتلون أيضا من يدافع من المؤمنين عن هذا النبيّ كيف؟ لأنه ساعة يُقتل نبيّ، فالذين التزموا بمنهج النبيّ، وكانوا معه لابد لهم أن يغضبوا ويحزنوا.


إن أتباع النبيّ ينفعلون بحدث قتل النبيّ فإن استطاعوا منع ذلك القتل لفعلوا وإن لم يستطع أتباع النبي منع قتل النبيّ فلا أقل من أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، لكن القتلة يتجاوز طغيانهم فلا يقتلون النبيين فقط فإذا قال لهم منكر لتصرفهم: ولماذا تقتلون النبيين؟ فإنهم يقتلونه أيضا

وبالنسبة لرسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، ونحن نعرف أن أعداءه قد صنعوا معه أشياء أرادوا بها اغتياله، وذلك يدل على غباء الذين فكروا في ذلك الاغتيال.

لماذا؟
لأنهم لم ينظروا إلى وضعه صلى الله عليه وسلم، فلم يكن نبيا فقط، ولكنه رسول أيضا.
وما دام رسولا فهو أسوة وحامل لمنهج في آن واحد، فلو كان محمد صلى الله عليه وسلم نبيا فقط لكان في استطاعتهم أن يقتلوه كما قتلوا النبيين من قبل، لكنه رسول من عند الله، ولقد رأوه يحمل منهجا جديدا، وهذا المنهج يسفه أحلامهم، ويوضح أكاذيبهم، من تبديلهم للكتب المنزلة عليهم.

إذن، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولا يحمل رسالة ومنهجا، وحينما أرادوا أن يقتلوه كنبيّ، غفلوا عن كونه رسولا. ولذلك قال الحق مطمئنا لنا ومحدثا رسوله صلى الله عليه وسلم: {يا أيها الرسول بَلِّغْ ما أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين}.. [المائدة : 67].
الرسول الكريم إذن حامل رسالة ومعصوم بالله من أعدائه، والحق سبحانه وتعالى قد حكى عن الذين يقتلون الأنبياء، وأراد أن يطمئن المؤمنين، ويطمئن الرسول على نفسه، وأن يعرف خصوم رسول الله أنه لا سبيل إلى قتله، فيقول الحق: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ الله مِن قَبْلُ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ}.. [البقرة: 91].
ولماذا يأتي الله ب (من قبل) هذه؟ إنه يوضح لنا وللرسول ولأعداء محمد صلى الله عليه وسلم أن مسألة قتل الأنبياء كان من الممكن حدوثها قبل رسول الله، لكن هذه المسألة صارت منتهية، ولا يجرؤ أحد أن يمارسها مع محمد رسول الله، وبذلك طمأن الحق المؤمنين، وطمأن رسول الله بأن أحدا لن يناله بأذى، ولذلك قال الحق: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس}.. [المائدة: 67].
وأيأس الحق الذين يريدون قتل رسول الله فقد قال لهم: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ الله مِن قَبْلُ}.. [البقرة: 91].

ولو أن المسألة مسألة نبوة، ورسالة رسول الله غير داخلة في مواجيدهم، وكان إنكارهم لرسالته عنادا، لكانوا قد قالوا: إن مسألة قتل الأنبياء لا تتوقف عند من قبل لأننا سنجعلها من بعد أيضا، لكانوا قد كتلوا قواهم وقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن الله سبحانه أيأسهم وقنطهم من ذلك، وذلك من مناط قدرة الله.

وإذا كان الحق سبحانه وتعالى يحكي عن أمر في قتل الأنبياء، وقتل الذين يأمرون بالقسط، أكان ذلك معاصر لقول الرسول هذا؟ أو كان هذا الكلام لمن؟ إنه موجه لبعض من أهل الكتاب، إنه موجه لمن آمنوا باتباع الذين قتلوا النبيين من قبل، وقتلوا الذين يأمرون بالقسط، لقد آمنوا كإيمان السابقين لهم من قتلة الأنبياء، وقتلهم للذين يأمرون بالقسط.

وهذا تقريع لهؤلاء الذين اتبعوا في الإيمان قوما قتلوا الأنبياء من قبل، وقتلوا الذين يأمرون بالقسط، إنه تقريع وتساؤل. كيف تؤمنون كإيمان الذين قتلوا الأنبياء؟ وكيف تتبعون من فعل مثل ذلك؟ وقد قص رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن بني إسرائيل قد قتلوا ثلاثة وأربعين نبيا دفعة واحدة، فقام مائة وسبعون من أتباع الأنبياء لينكروا عليهم ذلك، فقتلوهم، وهذا هو معنى هذه الآية الكريمة:
{وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط مِنَ الناس فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.. [آل عمران: 21].

لماذا يبشرهم الحق بعذاب أليم؟
أليس معنى التبشير هو إخبار بما يسر في أمد يمكن أن يؤتى فيه الفعل الذي يسر؟

إن التبشير دائما يكون للفعل الذي يسر، كتبشير الحق للمؤمنين بالجنة، ومعنى التبشير بالجنة أن الله يخبر المؤمن بأمر يُسر له المؤمن، ويعطي الحقّ الفرصة للمؤمن لينفذ منهج الله ليأخذ الجائزة والبشارة.

لماذا يكون الحديث بالبشارة موجها لأبناء الذين فعلوا ذلك؟
لأننا نعرف أن الذين قتلوا النبيين وقتلوا الذين أمروا بالقسط من الناس لم يكونوا معاصرين لنزول هذا الآية، إن المعاصرين من أهل الكتاب لنزول هذه الآية هم أبناء الذين قتلوا الأنبياء وقتلوا الذين أمروا بالقسط، ويبشرهم الحق بالعذاب الأليم؛ لأنهم ربما رأوا أن ما فعله السابقون لهم كان صوابا. فإن كانوا قد رأوا أن ما فعله السابقون لهم كان صوابا فلهم أيضا البشارة بالعذاب.


وتتسع دائرة العذاب لهم أيضا ولكن لماذا يكون العذاب بشارة لهم، رغم أن البشارة غالبا ما تكون إخبارا بالخير، وعملية العذاب الأليم ليست خيرا؟ إن علينا أن نعرف أنه ساعة نسمع كلمة (أبشر) فإن النفس تتفتح لاستقبال خبر يسر وعندما تستعد النفس بالسرور وانبساط الأسارير إلى أن تسمع شيئا حسنا يأتي قول: أبشر بعذاب أليم، ماذا يحدث؟ الذي يحدث هو انقباض مفاجئ أليم ابتداء مطمع (فبشرهم) وانتهاء مُيْئِس (بعذاب أليم) وهنا يكون الإحساس بالمصيبة أشد، لأن الحق لو أنذرهم وأوعدهم من أول الأمر بدون أن يقول: (فبشرهم) لكان وقوع الخبر المؤلم هينا.

لكن الحق يريد للخبر أن يقع وقوعاً صاعقا، ومثال لذلك قول الحق: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه بِئْسَ الشراب وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً}.. [الكهف: 29].
إنهم يستغيثون في الآخرة، ويغاثون بالفعل، ولكن بماذا يغيثهم الله؟ إنه يغيثهم بماء كالمهل يشوي الوجوه. إننا ساعة أن نسمع (يغاثوا) قد نظن أن هناك فرجا قادما، ولكن الذي يأتي هو ماء كالمهل يشوي الوجوه. وهكذا تكون البشارة بالنسبة لمن قتلوا الأنبياء أو لأتباع القتلة الذين آمنوا بمثل ما آمن به هؤلاء القتلة. {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وكلمة (عذاب) تعني إيلام حيّ يحس بالألم. والعذاب هو للحيّ الذي يظل متألما، أما القتل فهو ينهي النفس الواعية وهذا ليس بعذاب، بل العذاب أن يبقى الشخص حيَّا حتى يتألم ويشعر بالعذاب، وقول الحق: {بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} يلفتنا إلى قوله تعالى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب إِنَّ الله كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً}.. [النساء: 56].
أي أن الحق يديم عليهم الحياة ليديم عليهم التعذيب. وبعد ذلك يقول الحق: {أولئك الذين حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ...}.


المصدر: موقع نداء الإيمان


https://media.gemini.media/img/large..._31_48_236.jpg




امانى يسرى محمد 07-06-2021 07:12 AM

رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة ال عمران)
 

https://encrypted-tbn0.gstatic.com/i...7TOFQ&usqp=CAU

قال تعالى:
{أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}.. [آل عمران : 22].

إنهم الذين كفروا بآيات الله، وقتلوا النبيين بغير حق، وقتلوا الذين أمروا بالقسط بين الناس، هؤلاء لهم العذاب، ولهم أيضا حبط العمل في الدنيا والآخرة، وكذلك من نهج نهجهم، ومعنى (حبطت) أي لا ثمرة مرجوة من العمل، إن كل عمل يعمله العاقل لابد أن يكون لهدف يقصده، فأي عمل لا يكون له مقصد يكون كضربة المجنون ليس لها هدف. إن العاقل قبل أن يفعل أي عمل ينبغي أن يعرف الغاية منه، وما الذي يحققه من النفع؟ وهل هذا النفع الذي سوف يحققه هو خير النفع وأدومه، أو هو أقل من ذلك؟

وعلى ضوء هذه المقاييس يحدد العاقل عمله، وحينما يقول الحق: {أولئك الذين حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة} فهو سبحانه يريد أن يخبرنا أن إنسانا قد يفعل عملا هو في ظاهره خير، فإياك أن تغتر أيها المؤمن بأنه عَمِلَ خيرا. لماذا؟ لأن عمل الخير لا يحسب للإنسان إلا بنية إيمانه بمن يجازى فالإنسان إن عمل عملا قد تصلح به دنياه فهو عمل حسن، فلماذا يكون عمل هؤلاء حابطا في الدنيا، وفي الآخرة؟ إنه حابط بموازين الإيمان ويكون العمل حابطا لأنه لم يصدر من مؤمن، لأن ذلك الإنسان قد عمل العمل ثقة بنتيجة العمل، لا ثقة بالأمر الأعلى.

إن الإنسان المؤمن حين يقوم بالعمل يقوم بالعمل ثقة في الأمر الأعلى. وبعض من الناس في عصرنا يأخذون على الإسلام أنه لا يجازي الجزاء الحسن للكفرة الذين قاموا بأعمال مفيدة للبشرية. يقوم الواحد منهم: هل يعقل أحد أن (باستير) الذي اكتشف الميكروبات، والعالم الآخر الذي اكتشف الأشعة، وكل هؤلاء العلماء يذهبون إلى النار؟ ولهؤلاء نقول: نعم، إن الحق بعدالته أراد ذلك، ولنتقاض نحن وأنتم إلى أعراف الناس. إن الذي يطلب أجرا على عمل يطلبه ممن؟ إنه يطلب الأجر ممن عمل له. فهل كان الله في بال هؤلاء العلماء وهم يفعلون هذه الأعمال؟ إن بالهم كان مشغولا بالإنسانية، وقد أعطتهم الإنسانية التخليد، وغير ذلك من مكاسب الدنيا، وينطبق عليهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم:
«إن أول الناس يُقْضَى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال؛ فاتلت فيك حتى استشهدت قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جرىء فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار، ورجل تعلّم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتى به فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن، ليقال: هو قارئ فقد قيل، ثم أمر به، فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار، ورجل وسّع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتى به، فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار».

إذن فإذا كان الجزاء من الله، فلنا أن نسأل: هل كان الله في بال هؤلاء العلماء حينما أنتجوا مخترعاتهم؟ لم يكن في بالهم الله. والذي يطلب أجرا، فهو يطلبه ممن عمل له. ولم يُضع الله ثمرة عملهم، بل درت عليهم أعمالهم الذكر والجاه والرفعة. لم يضع الله أجر من أحسن عملا. {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ}.. [الشورى: 20].

وقد قلت لكم قديما: تذكروا المفاجأة التي تحدث لمن عمل عملا هو في ظاهره خير، ولكن لم يكن ربه في باله، هذا ينطبق عليه قول الحق:
{والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب}.. [النور: 39].
إنه يفاجأ بوجود الله، ولم يكن هذا الإله في باله ساعة أن قام بهذا العمل الذي هو في ظاهره خير، كأن الله يقول لصاحب مثل هذا العمل: أنا لم أكن في بالك ساعة أن قمت بهذا العمل، فخذ جزاءك ممن كان في بالك.

{أولئك الذين حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ}
إن أعمالهم حبطت في الدنيا، لأنهم قد يعملون عملا يراد به الكيد للإسلام، لذلك لا يمكنهم الله من ذلك، بل يخذلهم جميعا. وانتصر دين الله رغم قلة العُدّة. وليس لهؤلاء ناصرون. أي ليس لهم من يأتي ويراهم مهزومين أمام خصم لهم وينجدهم إنهم لن يجدوا ناصرا إذا هزمهم الله، فليس مع الله أحد غيره. وبعد ذلك يقول الحق: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب...}.


https://media.gemini.media/img/large..._38_17_687.jpg


قال تعالى:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ}.. [آل عمران : 23].

ونعرف أننا ساعة نسمع قول الحق: {أَلَمْ تَرَ}. فهنا همزة استفهام، وهنا أداة نفي هي (لم)، وهنا (تر) ومعناها أن يستخدم الإنسان آلة الإبصار وهي العين. فإذا ما قال الله لرسوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب يُدْعَوْنَ إلى كِتَابِ الله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ}. إن هذه دعوة لأمر واضح. لكن في بعض الأحيان تأتي {أَلَمْ تَرَ} في حادث كان زمانه قبل بعثته صلى الله عليه وسلم فلم يره رسول الله كقول الحق: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل}.. [الفيل: 1].

إن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير أصحاب الفيل، إذن فساعة تسمع {أَلَمْ تَرَ} إن كان حدثها من المعاصر، فمن الممكن أن تكون رؤية، والرؤية تؤدي إلى علم يقين، لأنها رؤية لمشهود وإن جاءت {أَلَمْ تَرَ} في أمر قد حدث من قبل، أو أمر لما يحدث بعد فهي تعني (ألم تعلم)؛ لأن الرؤية سيدة الأدلة، فكأن الله سبحانه وتعالى ساعة يقول لرسوله في حدث لم يشهده الرسول: ألم تر؟ فهذا معناه: ألم تعلم؟

وقد يقول قائل: ولماذا لم يأت ب (تعلم) وجاء ب (تر)؟
لأن سيادة الأدلة هو الدليل المرئي، فكأن الله يريد أن يخبرنا ب {أَلَمْ تَرَ} أن نأخذ المعلومة من الله على أنها مرئية، وليكن ربك أوثق عندك من عينك، إنك قد لا ترى بالفعل هذا الأمر الذي يخبرك به الله، ولكن لأن القائل هو الله، ولا توجد قدرة تُخرج ما يقوله الله على غير ما يقوله الله. لذلك فقد قلنا ساعة يعبر الله عن الأمر المستقبل الذي سيأتي بعد، فإنه قد يعبر عنه بالماضي، فالحق قد قال: {أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.. [النحل: 1].
فهل ينسجم قوله: {أتى أَمْرُ الله} مع {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ}؟
إن الأمر الذي يخبرنا به الله قد أتى، فكيف يمكن عدم استعجاله؟ إن (أتى) معناها أن الأمر قد حصل قبل أن يتكلم. يجب علينا إذن أن نعرف أن الذي قال: (أتى) قادر على الإتيان به، فكأنه أمر واقع، إنها مسألة لا تحتاج إلى جدال؛ لأنه لا توجد قوة تستطيع أن نتازع الله لتبرز أمرا أراده في غير مراده. فكأن قوله الحق: {أَلَمْ تَرَ} إن كانت تحكى عن حدث فات زمنه فالذي يأتي منها هو العلم، لأنه إخبار الله، وإن كانت تحكى عن حدث معاصر فالذي يأتي منه أيضا هو العلم؛ لأنه صادر عن رؤية ومشاهدة.

وعندما يقول الحق:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب}.

(وأوتوا) تلفتنا إلى قوم قد نزل إليهم منهج من أعلى. ولذلك يأتي في القرآن ذكر المنهج ب (نزل) و(أنزل)، وذلك حتى نشعر بعلو المكانة التي نزل منها المنهج. وما هو النصيب؟ إننا نسمي النصيب (الحظ)، أو خارج القسمة، كأن يكون عندنا عشرون دينارا، ونقسمهما على أربعة فيكون لكل واحد خمسة، هذه الخمسة الدنانير هي التي تسمى (نصيبا) أو (حظا)، والنصيب: (حظ) أو (قسمة) يضاف لمن أخذه.

إذن، فلماذا يقول الحق: {الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب} إنها لفتة جميلة، فالكتاب كله لم يبق لهم، إنما الذي وصل وانتهى إليهم جزء بسيط من الكتاب، فكأن هذه الكلمة تنبه الرسول والسامعين له أن يعذروا هؤلاء القوم حيث لم يصلهم من الكتاب إلا جزء يسير منه، إن نصيبا من الكتاب فقط هو الذي وصلهم.

ويشرح الحق ذلك في آيات أخرى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ}.. [المائدة: 13].

إن الجزء المنسي من الكتاب لم يأخذه المعاصرون لرسول الله. وقلنا أيضا: إن الحق قد أوضح أن بعضهم كتم بعضا من الكتاب. {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ} .. [البقرة: 146].

وما دام هناك من كتم بعضا من الكتاب فمعنى ذلك كتمانه عن المعاصرين له، وهناك أناس منهم مخدوعون، فشيء من الكتاب قد نسى، وبالتالي مسح من الذاكرة، وهناك شيء من الكتاب قد كتم، فصار معلوما عند البعض، وغير معلوم عند البعض الآخر، وحتى الذي لم يكتموه، جاء فيه القول الحكيم: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بالكتاب لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكتاب وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ} .. [آل عمران: 78].

إذن فالكتاب الذي أنزل إليهم من الله قد تعرض لأكثر من عدوان منهم، ولم يبق إلا حظ من الكتاب، وهذا الحظ من الكتاب هو الذي يجادل القرآن به هؤلاء الناس، إن القرآن لا يجادلهم فيما تبدل عندهم بفعل أحبارهم ورهبانهم السابقين، ولكنه يجادلهم بالنصيب الذي أوتوه.

يقول الحق:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب يُدْعَوْنَ إلى كِتَابِ الله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ}
.
وعن أي كتاب لله تتحدث هذه الآية؟ هل تتحدث عن القرآن؟
لو كان الحديث عن القرآن فلابد أنه حُكِّمَ في أمر بينهم وبين رسول الله، لكن الذين أوتوا نصيبا من الكتاب قد اختلفوا فيما بينهم، ولماذا يختلفون فيما بينهم؟ السبب هو أيضا لون من البغي فيما بينهم.
وإذا كان الكتاب هو القرآن، أليس القرآن مصدقا لما معهم؟

إذن فعندما يدعون ليتم التصديق على ما جاء في كتبهم، فالدعوة هنا لأن يسود حكم القرآن. وما معنى {يُدْعَوْنَ إلى كِتَابِ الله}، إن الداعي هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم المدعون، وما دام الحق قد قال: {أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب} فهل كان خلافهم في النصيب الذي بين أيديهم أم النصيب المحذوف؟ إنه خلاف بينهم في النصيب الذي بين أيديهم، ليكون ذلك حجة على أنهم غير مأمونين حتى على ما وصل إليهم وما هو مكتوب عندهم. وعندما تكلم العلماء عن هذه المسألة أوردوا لذلك الأمر حادثة. لقد اختلفوا في أمر سيدنا إبراهيم وقالوا: إن سيدنا إبراهيم يهودي وقال بعضهم: إنه نصراني.
وجاء القرآن حاسما: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين}.. [آل عمران: 67].
لماذا..
لأن كلمة يهودي ونصراني قد جاءت بعد إبراهيم، وكان لابد لهم أن يخرجوا من قلة الفطنة وأن يرتبوا الأحداث حسب زمنها، إذن ففي إي أمر اختلفوا؟ هل اختلفوا في أمر النبي محمد صلى الله عليه وسلم؟ هل اختلفوا في حكم موجود عندهم في التوراة؟ لقد كانت الدعوة موجهة إليهم في ماذا؟ إنهم {يُدْعَوْنَ إلى كِتَابِ الله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ}

وذلك يدل على أن كلمة: {بَغْياً بَيْنَهُمْ}.. [آل عمران: 19].
هي حالة شائعة بينهم، لماذا؟

لأن العلماء حينما ذكروا الحادثة التي دعوا للحكم فيها بكتاب الله، قال العلماء: إن اثنين من يهود خيبر- امرأة- خيبرية ورجل من خيبر، قد زنيا، وكان الاثنان من أشراف القوم، ويريد الذي يحكمون في هذا الأمر بكتاب التوراة ألا يبرزوا حكم الله الذي جاء بالتوراة، وهو الرجم، فاحتالوا حيلة، وهي أن يذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولماذا يذهبوا في هذه الجزئية إلى رسول الله عليه وسلم؟ إننا نأخذ مجرد الذهاب إلى رسول الله ارتضاء لحكمه.

لكن لماذا لم يرتضوا من البداية بكل ما جاء به رسول الله؟
لقد أرادوا أن يذهبوا لعلهم يجدون نفعا في مسألة يبغونها، أما في غير ذلك فهم لا يذهبون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن مجرد ذهابهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطينا فكرة عنهم، لقد كانوا يريدون حكما مخففا غير الرجم. إن الزاني وهو من خيبر والخيبرية الزانية أرادا أن يستنقذا أنفسهما من حكم التوراة بالرجم، إنهما من أشراف خيبر، ولأن اليهود قد صنعوا لأنفسهم في ذلك الوقت سلطة زمنية، فذهب الزاني والزانية ومعهما الأحبار الذين الذين يريدون أن يلووا حكم الله السابق نزوله في التوارة وهو الرجم.

وعندما دخلوا على رسول الله كان هناك واحد اسمه (النعمان بن أوفى)، وواحد اسمه (بحرى بن عمرو) فقالوا: يارسول اقض بين هؤلاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما معناه: أوَ ليس عندكم حكم؟ وأضاف رسول الله ما معناه: أنا احتكم إلى التوراة وهي كتابكم، فماذا قالوا:؟قالوا: أنصفتنا.

وكان رسول الله قد بين لهم حكم الإسلام في الزنا بأنه الرجم، وجيء بالجزء الباقي عندهم من التوراة لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يتضمن الحكم الملزم دليلا على أن الله أطلعه على أشياء لم تكن في بال أحد. فدعا بقسم من التوراة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما معناه: أيكم أعلم بالتوراة؟ فقالوا شخص اسمه عبد الله بن صورية فأحضروه، وأعطاه التوراة، وقال: اقرأ مجلس عبد الله بن صورية يقرأ، فلما مر على آية الرجم وضع كفه عليها ليخفيها، وقرأ غيرها وكان عبد الله بن سلام حاضرا، فقال: يا رسول الله أما رأيته قد ستر بكفه آية وقرأ ما بعدها؟ وزحزح ابن سلام كف الرجل، وقرأ هو فإذا هي آيةُ الرجم.

هذه المسألة تعطينا أن الحكم في القرآن الكريم هو الحكم في التوراة في أمر الزنا، وتعطينا أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض الله عليه من إلهاماته فجاء بالجزء من التوراة الذي يحمل هذا النص. وجاء بعد ذلك جندي من جنود الله هو عبد الله بن سلام وكان يهوديا قد أسلم ليظهر به رغبة القوم في التزييف والتزوير.

وإسلام عبد الله بن سلام له قصة عجيبة، فبعد أن اختمر الإيمان في قلبه، جاء إلى رسول الله قائلا: لقد شرح الله صدري إلى الإسلام ونطق بكلمة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ولكني أحب قبل أن أعلن إسلامي أن تحضر رؤساء اليهود لتسألهم رأيهم في شخصى، لأن اليهود (قوم بهت) فيهم افتراء وفيهم الكذب وفيهم التضليل، فلما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء اليهود عن رأيهم في عبد الله بن سلام قالوا: سيدنا وابن سيدنا وحبرنا.. إلخ. وأفاضوا في صفات المدح والإطراء والتقدير. فقال عبد الله بن سلام أمامهم: الآن أشهد ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فانقلب رؤساء اليهود، وقالوا في عبد الله بن سلام: عكس ما قالوه أولا، قالوا: إنه خبيثنا وابن خبيثنا.. إلخ.

لقد غيروا المديح إلى ذم. فقال عبد الله بن سلام: يا رسول الله أما قلت لك: إنهم قوم بهت؟ والله لقد أردت أن أعلمك برأيهم في قبل أن أسلم. ذلك هو عبد الله بن سلام الذي زحزح كف عبد الله بن صورية عن النص الذي فيه آية الرجم في التوراة، وفي ذلك جاء القول الحق: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب يُدْعَوْنَ إلى كِتَابِ الله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ} إنهم الذين أعرض فريق منهم عن قبول الحق.

ما سبب هذا الإعراض؟ أهو قضية عامة؟ أو أنّ سبب هذا الإعراض هو السلطة الزمنية التي أراد اليهود أن يتخذوها لأنفسهم؟ ومعنى السلطة الزمنية أن يجيء أشخاص فيأخذوا من قداسة الدين ما يفيض عليهم هم قداسة، ويستمتعوا بهذه القداسة ثم يستخدموها في غير قضية الدين، هذا هو معنى السلطة الزمنية. وقلنا سابقا: إن كل تحوير في منهج الله سببه البغي، والمفروض أن أهل الكتاب من أصحاب التوراة كانوا يستفتحون على العرب ويقولون: سيأتي نبي من العرب نتبعه ونقتلكم به قتل عاد وإرم، فلما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما عرفوه سابقا في كتبهم كفروا به، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى في مثل هذه القضية موضحا موقفهم من قضية الإيمان العليا: {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب}.. [الرعد: 43].

فكأن من عنده علم بالكتاب كان مفروضا فيه أن يشهد لصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا فلا يقول الله: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} لن يقول الحق ذلك إلا إذا كان عند علماء أهل الكتاب ما يتفق مع ما جاء به الله في صدق رسوله صلى الله عليه وسلم في البلاغ عنه، وكان السبب في محاولة بعض اليهود لإنكار رسالة رسول الله هو السلطة الزمنية، وأرادوا أن ييسروا لأتباعهم أمور الدين.

إن كل دعي- أي مزيف- في مبدأ من المبادئ يحاول أن يأخذ لنفسه سلطة زمنية، فيأتي إلى تكاليف، الدين التي قد يكون فيها مشقة على النفس، ويحاول أن يخفف من هذه التكاليف، أو يأتي بدين فيه تخفيف مخل بالعبادات، فإذا نظرنا إلى مسيلمة الكذاب نجده قد خفف الصلاة حتى يُرغب في دينه من تشق عليه الصلاة، وينضم إلى دين مسيلمة، وحذف مسيلمة جزءا من الزكاة، وهذا يعطي فرصة التحلل من تكاليف الدين، ولذلك فالذي أفسد الأديان السابقة على الإسلام أن بعضا من رجال الدين فيها كلما رأوا قوما على دين فيه تيسيرات أخذوا من هذه التيسيرات ووضعوها في الدين؛ لأن تكاليف الدين شاقة ولا يحمل إنسان نفسه عليها إلا من آمن بها إيمان صدق وإيمان حق، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى في عمدة العبادات وهي الصلاة: {واستعينوا بالصبر والصلاة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين}.. [البقرة: 45].

ويقول في موقع آخر في القرآن الكريم عن الصلاة: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ والعاقبة للتقوى} .. [طه: 132].

إن الحق عليم حكيم بمن خلق وهو الإنسان، ويعلم أن الضعف قد يصيب روح الإنسان فلا يصطبر على الصلاة، أو يراها تكليفا صعبا، لكن الذي يقيم الصلاة ويحافظ عليها فهو الخاشع لربه.

ولذلك فإننا نجد أن كل منحرف يأتي ويحاول أن يخفف من تكاليف الدين، ويحاول أن يحلل أشياء محرمة في الدين، ولم نر منحرفا يزيد في الأشياء المحرمة. إن المنحرفين يريدون إنقاص الأمور الحرام. إذا سألنا هؤلاء المنحرفين: لماذا تفعلون ذلك؟ فإننا نجد أنهم يفعلون ذلك لجذب الناس إلى أمور محرمة يحللها هؤلاء المنحرفون. ولذلك أراد أراد بعض اليهود أن يسهلوا على أتباعهم الدين، وقال بعض من أحبارهم: لا تخافوا من أمر يوم القيامة. وجاء القول الحق يحكي عنهم وكأنهم حاولوا أن يفهموا الأمر بأن الله يحلل لهم أمورا لا، إن الله لم يحلل إلا الحلال، ولم يحرم إلا الحرام. وإذا كان الحق قد قال: {قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ والله مَوْلاَكُمْ وَهُوَ العليم الحكيم}.. [التحريم: 2].

فهذا القول الحكيم جاء في مناسبة محددة وينطبق فقط في مجال ما حلل الله فلا تحرمه، أما ما حرم الله فلا تقربه، لقد أرادوا أن يبيحوا للأتباع ارتكاب الآثام، لأن النار لن تصيبهم إلا أيام معدودة، وإذا دققنا التأمل في القول الحق الذي جاء على لسانهم، فإننا نجد الآتي: إننا نعرف أن لكل حدث زمان، ولكل حدث قوة يحدث عليها، فمن ناحية الزمان. قال هؤلاء المزوّرون لأحكام الله عن يوم القيامة إنها أيام معدودة، فلا خلود في النار، وحتى لو كان العذاب شديدا فإنه أيام معدودة، فالإنسان يستطيع أن يتحمل، ومن ناحية قوة الحدث أرادوا أن يخففوا منه، فقالوا: إنه عذاب ليس بشديد إنما هو مجرد مس. إنهم يحاولون إغراء الناس لإفسادهم وقال هؤلاء الأحبار: نحن أبناء الله وأحباءه أرأيتم أحدا يعذب أبناءه وأحباءه؟ لقد أعطى الله يعقوب النبوة، ولا يمكن أن يعاقب ذريته أبدا، إلا بمقدار تحلة القسم. {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ} .. [ص: 44].

إن أيوب عليه السلام قد حلف أن يضرب امرأته إذا برئ من مرضه مائة سوط، وأراد الله أن يحله في هذا القسم فأمره أن يأخذ حزمة من حشيش أو عشب فيها مائة عود ويضربها بها ضربة خفيفة ليبرّ في قسمه، وكان ذلك رحمة من الله به وبزوجه التي قامت على رعايته وقت المرض، وكان أيوب عبدا شاكراً لله، كأن الضربة الواحدة هي مائة ضربة، وهذا تحليل للقسم، وقال بعض من بني إسرائيل: إن ذرية بني يعقوب لن تُعذب من الله إلا بمقدار تحلة القسم، وكل ذلك ليزينوا للناس بقاءهم على هذا الدين الذي سوف تكون الآخرة فيه بعذابها مجرد مس من النار، وأيام معدودة، بادعاء أن بني يعقوب هم أبناء الله وأحباؤه، وأن الله قد أعطى وعداً ليعقوب بأنه لن يعذب أبناءه إلا بمقدار تحلة القسم، وهذا بطبيعة الحال هو تزييف لدين الله ومنهجه لقد تولوا عن منهج الله، وأعرضوا عنه بعصيان، يوضح لنا هذا المعنى القول الكريم: {ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ...}.

المصدر: موقع نداء الإيمان


https://media.gemini.media/img/large..._13_52_567.jpg

امانى يسرى محمد 07-06-2021 05:46 PM

رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة ال عمران)
 

https://i.pinimg.com/originals/2d/6d...3e1ad377c5.gif

قال تعالى:
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}.. [آل عمران : 24].

لقد تولوا وهم معرضون عن حكم الله لقد ظنوا أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات.
ولنا أن نعرف معنى (غرهم) ولنا أن نسأل ما الغرور؟
إن الغرور هو الأطماع فيما لا يصح ولا يحصل، فعندما تقول لواحد والعياذ بالله: (أنت مغرور) فأنت تقصد أنه يسلك سبيلا لا يوصله إلى الهدف المنشود. إذن فالغرور هو الإطماع فيما لا يصح ولا يحصل، ولذلك يسمى الله الشيطان (الغرور). {ياأيها الناس إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بالله الغرور إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السعير}.. [فاطر: 5-6].


إنه الشيطان الذي يزين للناس بعض الأمور ويحث الخلق ليطمعوا في حدوثها، وعندما تحدث فإن هذه الأمور لا صواب فيها، فهي مما زينه الشيطان، لذلك فحصيلتها لا تتناسب مع الطمع فيها. والحق سبحانه يقول عن الدنيا: {اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأموال والأولاد كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرِضْوَانٌ وَمَا الحياة الدنيآ إِلاَّ مَتَاعُ الغرور}.. [الحديد: 20].

ويقال عن الرجل الذي ليس له تجربة: إنه (غِرٌّ) فيأتي بأشياء بدون تجربة؛ فلا ينتفع منها، ولا تصح. إذن، فكل مادة (الغرور) مأخوذة من إطماع فيما لا يصح ولا يحصل. لذلك سمى الله الشيطان (الغرور) لأنه يطمعنا نحن البشر بأشياء لا تصح ولا تحدث، ولهذا سوف يأتي الشيطان يوم القيامة ليتبرأ من الذين اتبعوه ويتهمهم بالبلاهة:
{وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ ما أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ من قَبْلُ إِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.. [إبراهيم: 22].

ما معنى {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ}؟
السلطان أي القوة التي تقنع الإنسان بعمل فعل ما، وهو إما أن يكون سلطان الحجة فيقنعك بفعل ما، فتفعله، وإما أن يكون سلطان القوة، فيرغمك أن تفعل، السلطان- إذن- نوعان: سلطان حجة، وسلطان قوة، والفرق بين سلطان الحجة وسلطان القوة القاهرة على الفعل، هو أن سلطان الحجة يقنعك أن تفعل وأنت مقتنع، أما سلطان القوة القاهرة فهو لا يُقنع الإنسان، ولكنه يُرغم الإنسان على فعل ما، ولذلك فالشيطان يعلن لأتباعه يوم القيامة: لم يكن لي سلطان عليكم، لا حجة عندي لأقنعكم بعمل المعاصي، ولا عندي قوة ترغمكم على الفعل، لكنكم أنتم كنتم على حرف إتيان المعاصي ودعوتكم فاستجبتم لي.

ويضيف الشيطان مخاطبا أتباعه: {ما أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} .. [إبراهيم: 22].

أي أن الشيطان يؤكد أنه لن يفزع لأحد من الذين اتبعوه لينجده، إن كلمة (يصرخ) تعني أن هناك مَنْ يفزع لأحد تلبية لنداء أو استغاثة. الشيطان إذن لن ينجد أحدا من عذاب الله، ولن ينجد أحد الشيطان من عذاب الله، وهكذا ذهب بعض من أهل الكتاب إلى الغرور في دين الله، فافتروا أقوالا على الله، لم تصدر عنه، وصدقوا افتراءاتهم، ويا ليت غرورهم لم يكن في الدين لأن الغرور في غير الدين تكون المصيبة فيه سهلة لكن الغرور في الدين هو المصيبة الكبرى، لماذا؟ لأن الغرور في أي أمر يخضع لقانون واضح، وهو أن ميعاد كل حدث موقوت بماهيته، لكن الغرور في امر الدين مختلف لماذا؟ لأن حدث الدين غير موقوت بماهية الزمان، إنه مستمر، لأن منهج قيم صدر من الحق إلى الخلق، إن الغرور في أي جزئية من جزئيات الدنيا، فإن فشلت فالفشل يقف عند هذه الجزئية وحدها، ولا يتعدى الفشل إلى بقية الزمن، لكن الغرور في الدين يجعل العمر كُله يضيع، لأن الإنسان لم يتبع المنهج الحق بل يمتد الضياع والعذاب إلى العمر الثاني وهو الحياة في الآخرة يقول الحق: {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}.. [آل عمران: 24].


والإفتراء هو تعمد الكذب، إن الحق سبحانه يوضح لهم المعنى فيقول: إن حصل ذلك منكم وأعرضتم عن حكم الله الذي دعيتم إليه في كتاب الله، وعللتم ذلك بأن النار لن تمسكم إلا أياما معدودة، وادعيتم كذبا أن الأيام المعدودات هي أيام عبادتكم للعجل، وادعيتم أنكم أبناء الله وأحباءه، إن ذلك كله غرور وافتراءات، ويا ليتهم كانوا يعلمون صدق هذه الافتراءات، لكنهم هم الذين قالوها ويعرفون أنها كذب، فإذا جاز ذلك لهم في هذه الدنيا فكيف يكون موقفهم وحالهم عندما يجمعهم الله في يوم لا ريب فيه؟ وفي هذا يقول الحق: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ...}.


https://media.gemini.media/img/large..._26_17_623.jpg



قال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}.. [آل عمران : 25].

إن كذبهم سينكشف في هذا اليوم، فالفاضحة قد جاءت، والفاضحة هي القيامة، إنها تفضح كل كذاب وكل غشاش وكل داعية بغير الحق. إن الحق يتساءل: كيف يصنعون ذلك كله في الحياة التي جعلنا لهم فيها اختيارا، فيفعلون ما يريدون، ولا يفعلون ما لا يريدون، يحدث منهم كل ذلك وهم يعلمون أن الحق قد جعل الثواب لمن اتبع تكاليف الله، وجعل العقاب لمن يخرج عن مراد الله، كيف يتصرفون عندما يسلب الحق منهم الاختيار ويجئ يوم القيامة. لقد كانوا في الدنيا يملكون عطاء الله من قدرة الاختيار بين البديلات، وركز الله لهم في بنائهم أن كل جوارحهم خاضعة لارادتهم كبشر من خلق الله، فمنهم من يستطيع ان يستخدم جوارحه فيما يرضى الله، وفيهم من يستخدم جوارحه المسخرة له- بفضل الله- فيما لا يرضى الله، إن الجوارح كما نعلم جميعا خاضعة لإرادة الإنسان، وإرادة الإنسان هي التي تختار بين البديلات، لكن ماذا يفعل هؤلاء يوم القيامة؟ إن الجوارح التي كانت تطيع الخارجين عن منهج الله في الفعل لا تطيعهم في هذا اليوم العظيم؛ لأن الطاعة اختيار أن تفعل وتطيع، والجوارح يوم القيامة لا تكون مقهورة لإرادة الإنسان، إن الجوارح يوم القيامة تنحل عنها صفة القهر والتسخير لمراد الإنسان، وتصير الجوارح على طبيعتها: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ الله دِينَهُمُ الحق وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين}.. [النور: 24-25].


إن اللسان كان أداة إعلان الكفر، وهو يوم القيامة يشهد على الكافر، واليد كانت أداة معصية الله، وهي يوم القيامة تشهد على صاحبها، والجلود تشهد أيضا، لقد كانت الجوارح خاضعة لإرادة أصحابها، وتفعل ما يريدونها أن تفعل، ولكنها كانت تفعل الفعل العاصي لله وهي كارهة لهذا الفعل؛ لذلك يقول الحق: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} .. [آل عمران: 25].


كيف يكون حالهم يوم يجمعهم الله للجزاء في يوم لا ريب فيه ولا شك في مجيئه.. وهذا اليوم قادم لا محالة لقيام الأدلة على وجوده، رغم خصومتهم لله فإن الله العادل الحق لا يظلمهم بل سيأخذهم بمقاييس العدل.


https://media.gemini.media/img/large...7_19_15_23.jpg



قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.. [آل عمران : 26].

وساعة تسمع كلمة (ملك)، فلنا أن نعرف أن هناك كلمة هي (مُلك) بضم الميم، وكلمة أخرى هي (مِلك) بكسر الميم. إن كلمة (مِلك) تعني أن للإنسان ملكية بعض من الأشياء، كملكية إنسان لملابسه وكتبه وأشيائه، لكن الذي يملك مالك هذا الملك فهذا تسميه (مُلك)، فإذا كانت هذه الملكية في الأمر الظاهر لنا، فإننا نسميه (عالم الملك)، وهو العالم المُشاهد، وإذا كانت هذه الملكية في الأمر الخفي فإننا نسميه (عالم الملكوت). إذن، فنحن هنا أمام (مِلك)، و(مُلك) و(ملكوت). ولذلك فعندما تجلى الحق سبحانه وتعالى على سيدنا إبراهيم خليل الرحمن وكشف له ما خفي عن العيون وما ظهر، قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين}.. [الأنعام: 75].
أي أن الله سبحانه وتعالى أراد لسيدنا إبراهيم أن يشاهد الملكوت في السماوات والأرض، أي كل الأشياء الظاهرة والخافية المخفية عن عيون العباد. وهكذا نرى مراحل الحيازة كالآتي: ملك، أي أن يملك الإنسان شيئا ما، وهذا نسميه مالكا للأشياء فهو مالك لاشيائه، ومالك لمتاعه أما الذي يملك الانسان الذي يملك الاشياء فإننا نسميه (مُلك)، أي أنه يملك من يملك الأشياء، والظاهرة في الأولى نسميها (مِلْك) فكل إنسان له ملكية بعض من الاشياء، وبعد ذلك تنحاز الى الأقل، اي ان تنسب ملكية أصحاب الأملاك إلى ملك واحد.

فالملكية بالنسبة للإنسان تتلخص في أن يملك الإنسان شيئا فيصير مالكا، وإنسان آخر يوليه الله على جماعة من البشر فيصير مَلِكاً، هذا في المجال البشرى.

أما في المجال الإلهي، فإننا نُصعد لنرى من يملك كل مالك وملك، إنه الله سبحانه وتعالى. ولا يظن أحد أن هناك إنسانا قد ملك شيئا؛ أو جاها في هذه الدنيا بغير مراد الله فيه فكل إنسان يملك بما يريده الله له من رسالة فإذا انحرف العباد فلابد أن يولى الله عليهم ملكا ظالما، لماذا؟ لأن الأخيار قد لا يحسنون تربية الناس. {وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} .. [الأنعام: 129].

وكأن الحق سبحانه يقول: يأيها الخيِّر- بتشديد الياء- ضع قدما على قدم ولا تلوث يدك بأن تنتقم من الظالم، فسوف أضع ولاية ظالم أكبر على هذا الظالم الصغير، إنني أربأ بك أن تفعل ذلك، وسأنتقم لك، وأنت أيها الخيِّر منزه عندي عن ارتكاب المظالم ولذلك نجد قول الحق: {وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} .. [الأنعام: 129].

ونحن جميعا نعرف القول الشائع: (الله يسلط الظالمين على الظالمين).
ولو أن الذين ظلموا مُكِّن منهم من ظلموهم ما صنعوا فيهم ما يصنعه الظالمون في بعضهم بعضا. إن الحق يسلط الظالمين على الظالمين، وينجى أهل الخير من موقف الانتقام ممن ظلموهم.

إذن فنحن في هذه الحياة نجد (مالك) و(ملك) وهناك فوق كل ذلك (مالك الملك)، ولم يقل الله: إنه (ملك الملك)؛ لأننا إذا دققنا جيدا في أمر الملكية فإننا لن نجد مالكا إلا الله. {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك} إنه المتصرف في ملكه، وإياكم أن تظنوا أن أحدا قد حكم في خلق الله بدون مراد الله، ولكن الناس حين تخرج عن طاعة الله فإن الله يسلط عليهم الحاكم الظالم، ولذلك فالحق سبحانه يقول في حديثه القدسي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يطوى الله- عز وجل- السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرض بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟».


إياك أيها المؤمن أن تظن أن أحدا قد أخذ الملك غضبا من الله. إنما الملك يريده الله لمن يؤدب به العباد. وإن ظلم الملك في التأديب فإن الله يبعث له من يظلمه، ومن رأى ظلم هذا الملك أو ذاك الحاكم فمن الجائز أن يريه الله هذا الملك أو ذلك الحاكم مظلوما. إنه القول الحكيم يؤكد لنا أنه سبحانه وتعالى مالك الملك وحده.


إن الحق سبحانه يأمر رسوله الكريم:
{قُلِ اللهم مَالِكَ الملك} إن كلمة (اللهم) وحدها فيها عجب من العجائب اللغوية، إن القرآن قد نزل باللسان العربي وأمة العرب فصيحة اللسان والبيان والبلاغة، وشاء الحق أن يكون للفظ الجلالة (الله) خصوصية فريدة في اللغة العربية.

إن اللغة العربية تضع قاعدة واضحة وهي ألا يُنادي ما فيه، أداة التعريف، مثل (الرجل) ب (يا) فلا يقال: (يا رجل) بل يقال: (يأيها الرجل) لكن اللغة التي يسرها الله لعباده تخص لفظ الجلالة بالتقديس، فيكون من حق العباد أن يقولوا: (يا الله). وهذا اللفظ بجلاله له تميز حتى في نطقه.


ولنا أن نلاحظ أن العرب من كفار قريش وهم أهل فصاحة لم يفطنوا إلى ذلك، فكأن الله يرغم حتى الكافرين بأن يجعل للفظ الجلالة تميزا حتى في أفواه الكافرين فيقولون مع المؤمنين: (يا الله). أما بقية الأسماء التي تسبقها أداة التعريف فلا يمكن أن تقول: (يا الرجل) أو (يا العباس) لكن لابد أن تقول (يأيها الرجل)، أو (يأيها العباس)، ولا تقول حتى في نداء النبي: (يا النبي)، وإنما تقول: (يأيها النبي).


لكن عند التوجه بالنداء إلى الله فإننا نقول: (يا الله)، إنها خصوصية يلفتنا لها الحق سبحانه بأنه وحده المخصوص بها، وأيضا ما رأينا في لغة العرب عَلَماً دخلت عليه (التاء) كحرف القسم إلا الله، فإننا نقول (تالله)، ولم نجد أبدا من يقول (تزيد) أو (تعمرو).

إننا لا نجد التاء كحرف قسم إلا في لفظ الجلاله، ولا نجد أيضا علما من الأعلام في اللغة العربية تحذف منه (يا) في النداء وتستبدل بالميم إلا في لفظ الجلالة فنقول: (اللهم) كل ذلك ليدل على أن اللفظ في ذاته له خصوصية المسمى. (قل اللهم) وكأن حذف حرف النداء هنا يُعلمنا أن الله هو وحده المستدعى بدون حرف نداء. (اللهم) وفي بعض الألسنة يجمعون الياء والميم، مثل قول الشاعر:
إني إذا ما حادث ألمَّا *** أقول ياللهم يا اللهمَّا
إنها خصوصية لصاحب الخصوصية الأعلى. {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك} وقد يسأل إنسان لماذا لم يقل الحق: (ملك الملك)؟ هنا لابد أن نعرف أنه سيأتي يوم لا تكون فيه أي ملكية لأي أحد إلا الله، وهو المالك الوحيد، فهو سبحانه يقول: {رَفِيعُ الدرجات ذُو العرش يُلْقِي الروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار}.. [غافر: 15-16].

إن قول الحق هنا: (مالك الملك) توضح لنا أن ملكية الله وهي الدائمة والقادرة واضحة، وجلية، ومؤكدة، ولو قال الله في وصف ذاته: (ملك الملك) لكان معنى ذلك أن هناك بشرا يملكون بجانب الله، لا، إنه الحق وحده مالك الملك. وما دام الله هو مالك الملك، فإنه يهبه لمن يشاء، وينزعه ممن يشاء. وهنا نلاحظ أن قول الحق: إنه مالك الملك يعطي الملك لمن يشاء وينزع الملك ممن يشاء تأتي بعد عملية المحاجّة، وبعد أن تهرب بعض من أهل الكتاب من تطبيق حكم الله بعد أن دعوا إليه، فتولى فريق منهم وأعرض عن حكم الله، وعللوا ذلك بادعاء أنهم أبناء الله وأحباؤه وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات.


كل هذه خيارات من لطف الله وضعها أمام هؤلاء العباد، خيارات بين اتباع حكم الله أو اتباع حكم الهوى، لكنهم لم يختاروا إلا الاختيار السيء، حكم الهوى. ولذلك يأتي الله بخبر اليوم الذي سوف يجيء، ولن يكون لأحد أي قدرة، أو اختيار.

إن حق الاختيار موجود لنا في هذه الدنيا، وعلينا أن نحسن الاختيار في ضوء منهج الله.

ولنتأمل هذا المثل الذي حدثتنا عنه السيرة النبوية الطاهرة

حينما جاءت غزوة الأحزاب التي اجتمع فيها كل خصوم الدعوة، واشتغل اليهود بالدس والوقيعة، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحفر بمشورة سلمان الفارسي خندقا حول المدينة المنورة. ومعنى ( الخندق)، أي مساحة من الأرض يتم حفرها بما يعوق التقدم. وكان المقاتلون يعرفون أن الفرس يستطيع أن يقفز مسافة ما من الأمتار.

لقد حاول المؤمنون أثناء حفر الخندق أن يكون اتساع أكبر من قدرة الخيل، ولننظر إلى دقة الإدارة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن سلمان الفارسي قد اقترح أن يتم حفر الخندق، وفيما يبدو أنه قد أخذ الفكرة من بيئته وقبل الرسول صلى الله عليه وسلم الفكرة وأقرها، وفعلها المسلمون.
إذن فليس كل ما فعله الكفار كان مرفوضا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل تطبيق كل الأعمال النافعة، سواء أكان قد فعلها الكفار من قبل أم لا، ورأى الرسول صلى الله عليه وسلم أن عملية الحفر مرهقة بسبب جمود الأرض وصخريتها في بعض المواقع، لذلك وضع حصة قدرها أربعون ذراعا لكل عشرة من الصحابة، وبذلك وزع الرسول الكريم العمل والمسئولية، ولم يترك الأمر لكل جماعة خشية أن يتواكلوا على غيرهم.

وتوزيع المسئولية يعني أن كل جماعة تعرف القدر الواضح من العمل الذي تشارك به مع بقية الجماعات وقد يسأل سائل: ولماذا لم يوزع الرسول صلى الله عليه وسلم التكليف لكل واحد بمفرده؟ ونقول: إنها حكمة الإدارة والحزم هي التي جعلت الرسول صلى الله عليه وسلم يتعرف على حقيقة واضحة، وهي أن الذين يحفرون من الصحابة ليسوا متساوون في القدرة والمجهود، لذلك أراد لكل ضعيف أن يكون مسنودا بتسعة من الصحابة.

إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يجعل الأمر مشاعا، بل كان هناك تحديد للمسئولية، لكنه لم يجعل المسئولية مشخصة تشخيصا أوليا ومحددا بكل فرد، وذلك حتى يساعد الأقوياء الضعيف من بينهم. لقد ستر رسول الله صلى الله عليه وسلم الضعيف بقوة إخوانه، وساعة أن يوجد ضعيف بين عشرة من الإخوان يحملون عنه ويحفرون، فإن موقفه من أصحابه يكون المحبة والألفة، ويكون القوي قد أفاض على الضعيف.

وكان عمرو بن عوف ضمن عشرة منهم سلمان الفارسي رضي الله عنه، فلما جاءوا ليحفروا صادفتهم منطقة يقال عنها: (الكئود)، ومعنى (الكئود) هي المنطقة التي تكون صلبة أثناء الحفر، فالحافر إذا ما حفر الأرض قد يجد الأرض سهلة ويواصل الحفر، أما إذا صادفته قطعة صلبة في الأرض فإنه لا يقدر عليها بمعوله لأنها صخرية صماء، فيقال له: (أكدى الحافر).

وعندما صادف عمرو بن عوف وسلمان الفارسي والمغيرة وغيرهم هذه الصخرة الكئود، قالوا لسلمان: (اذهب فارفع أمرنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم). ومن هذا نتعلم درسا وهو أن المُكلّفَ مِنْ قِبَل مَنْ يكلفه بأمر إذا وجد شيئا يعوقه عن أداء المهمة فلابد أن يعود إلى من كلفه بها.

وذهب سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سلمان إلى الموقع وأخذ المعول وجاء على الصخرة الكئود وضربها، فحدث شرر أضاء من فرط قوة الاصطدام بين الحديد والصخرة، فهتف رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر فُتِحَتْ قصور بصرى بالشام، ثم ضرب ضربة أخرى، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: الله أكبر فُتِحَتْ قصور الحمراء بالروم. وضرب ضربة ثالثة وقال: الله أكبر فُتِحَتْ قصور صنعاء في اليمن، فكأنه حين ضرب الضربة أوضح الله له معالم الأماكن التي سوف يدخلها الإسلام فاتحا ومنتصرا، فلما بلغ ذلك القول أعداء رسول الله صلى الله عليه قال الأعداء للصحابة: يمنيكم محمد بفتح قصور صنعاء في اليمين، والحمراء في الروم، وفتح قصور بصرى، وأنتم لا تستطيعون أن تبرزوا لنا للقتال فأنزل الله قوله: {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ...}.


إن المسألة ليست عزما من هؤلاء المؤمنين، إنما هي نية على قدر الوسع، فإن فعلت أي فعل على النية بقدر الوسع فانتظر المدد من الممد الأعلى سبحانه وتعالى.


إن الله سبحانه هو الذي يعطي الملك، وهو الإله الحق الذي ينزع ملك الكفر في كسرى والروم وصنعاء، ويعطي سبحانه الملك لمحمد رسول الله وأصحابه، وينزعه من قريش، وينزع الملك من يهود المدينة حيث كانوا يريدون الملك.


إن قول الحق:
{وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ}
تجعلنا نتساءل: ما النزع؟

إنه القلع بشدة، لأن الملك عادة ما يكون متمسكا بكرسي الملك، متشبثا به، لماذا؟ لأن بعضا ممن يجلسون على كراسي السلطان ينظرون إليه كمغنم بلا تبعات فلا عرق ولا سهر ولا مشقة أو حرص على حقوق الناس، إنهم يتناسون سؤال النفس (وماذا فعلت للناس)؟
إن الواحد من هؤلاء لا يلتفت إلى ضرورة رعاية حق الله في الخلق فيسهر على مصالح الناس ويتعب ويكد ويشقى ويحرص على حقوق الناس.


إننا ساعة نرى حاكما متكالبا على الحكم، فلنعلم أن الحكم عنده مغنم، لا مغرم. ولنر ماذا قال سيدنا عمر بن الخطاب عندما قالوا له: إن فقدناك- لا نفقدك- نولى عبد الله بن عمر، وهو رجل قرقره الورع.

فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: بحسب آل الخطاب أن يُسأل منهم عن أمة محمد رجل واحد، لماذا؟ لأن الحكم في الإسلام مشقة وتعب.
لقد جاء الحق بالقول الحكيم: {وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ} وذلك لينبهنا إلى هؤلاء المتشبثين بكراسي الحكم وينزعهم الله منها، إن المؤمن عندما ينظر إلى الدول في عنفوانها وحضاراتها وقوتها ونجد أن الملك فيها يسلب من الملك فيها على أهون سبب. لماذا؟ إنها إرادة الخالق الأعلى، فعندما يريد فلا راد لقضائه.
إن الحق إما أن يأخذ الحكم من مثل هذا النوع من الحكام، وإما أن يأخذه هو من الحكم، ونحن نرى كل ملك وهو يوطن نفسه توطينا في الحكم، بحيث يصعب على من يريد أن يخلعه منه أن يخلعه بسهولة، لكن الله يقتلع هذا الملك حين يريد سبحانه.

وبعد ذلك يقول الحق:
{وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ} لأن ظواهر الكون لا تقتصر على من يملك فقط، ولكن كل ملك حوله أناس هم (ملوك ظل). ومعنى (ملوك الظل) أي هؤلاء الذين يتمتعون بنفوذ الملوك وإن لم يكونوا ظاهرين أمام الناس، ومن هؤلاء يأتي معظم الشر. إنهم يستظلون ويستترون بسلطان الملك، ويفعلون ما يشاءون، أو يفعل الآخرون لهم ما يأمرون به، وحين يُنزع الملك فلا شك أن المغلوب بالظالمين يعزه الله، وأما الظالمون لأنفسهم فيذلهم الله؛ لذلك كان لابد أن يجيء بعد {تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ} هذا القول الحق: {وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ}.
لماذا؟
لأن كل ملك يعيش حوله من يتمتع بجاهه ونفوذه، فإذا ما انتهى سلطان هذا الملك، ظهر هؤلاء المستمعون على السطح. وهذا نشاهده كل يوم وكل عصر. {وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير}.


ونلاحظ هنا: أن إيتاء الملك في أعراف الناس خير. ونزع الملك في أعراف الناس شر. ولهؤلاء نقول: إن نزع الملك شر على من خُلِعَ منه، ولكنه خير لمن أوتي الملك. وقد يكون خيرا لمن نزع منه الملك أيضا. لأن الله حين ينزع منه الملك، أو ينزعه من الملك يخفف عليه مؤونة ظلمه فلو كان ذلك الملك المخلوع عاقلا، لتقبل ذلك وقال: إن الله يريد أن يخلصني لنفسه لعلى أتوب.

إذن فلو نظرت إلى الجزئيات في الأشخاص، ونظرت إلى الكليات في العموم لوجدت أن ما يجري في كون الله من إيتاء الملك وما يتبعه من إعزاز، ثم نزع الملك وما يتبعه من إذلال، كل ذلك ظاهرة خير في الوجود

لذلك قال الحق هنا:
{بِيَدِكَ الخير}
ولو دقق كل منا النظر إلى مجريات الأمور، لوجد أن: الله هو الذي يؤتي، والله هو الذي ينزع، والله هو الذي يعز، والله هو الذي يذل، ولابد أن يكون في كل ذلك صور للخير في الوجود، فيقول:
{بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
إن إيتاء الملك عملية تحتاج إلى تحضير بشرى وبأسباب بشرية، وأحيانا يكون الوصول إلى الحكم عن طريق الانقلابات العسكرية، أو السياسية، وكذلك نزع الملك يحتاج إلى نفس الجهد.
إن الحق سبحانه وتعالى يوضح لنا المعنى فيقول: ليس ذلك بأمر صعب على قدرتي اللانهائية، لأنني لا أتناول الأفعال بعلاج، أو بعمل، إنما أنا أقول: (كن) فتنفعل الأشياء لإرادتي، ويأتي الحق بعد ذلك ليدلل بنواميس الكون وآيات الله في الوجود على صدق قضية {إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فيقول وقوله الحق: {تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل...}.

المصدر: موقع نداء الإيمان

https://media.gemini.media/img/large...6_7_28_752.jpg


امانى يسرى محمد 08-06-2021 01:24 PM

رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة ال عمران)
 

https://lh3.googleusercontent.com/pr...5a66ag8_d12Cl8



قال تعالى:
{تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.. [آل عمران : 27].

إن الحق يقول لنا: عندكم ظاهرة تختلف عليكم، وهي الليل والنهار، وظاهرة أخرى، هي الحياة والموت. إن ظاهرة الليل والنهار كلنا نعرفها لأنها آية من الآيات العجيبة، والحق يقول عنها: {تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل} إن الحق لم يصنع النهار بكمية محدودة من الوقت متشابهة في كل مرة، لا، إنه سبحانه شاء لليل أن ينقص أحيانا عن النهار خمس ساعات، وأحيانا يزيد النهار على الليل خمس ساعات.
ولنا أن نتساءل.. هل تنقص الخمس الساعات من الليل أو النهار مرة واحدة وفجأة هل يفاجئنا النهار بعد أن يكون اثنتي عشرة ساعة ليصبح سبع عشرة ساعة؟ هل يكون الليل مفاجئاً لنا في الطول أو القصر؟ لا، إن المسألة تأتي تباعا، بالدورة، بحيث لا تحس ذلك، إن هناك نوعا من الحركة اسمها الحركة الترسية. إننا عندما ننظر إلى الساعة في كل الزمن؟ لا، إن كل ترس له زمن يتوقف فيه، وعندما يتوقف فإننا ندفع به ليعيد دورته، ويعمل، وإذا دققنا النظر في عقرب الدقائق فإننا نستطيع أن نلاحظ ذلك.
إذن هناك فترة توقف وسكون بين انتقال عقرب الدقائق من دقيقة إلى أخرى، وهذا اللون من الحركة نسميه (حركة ترسية)، وهناك حركة أخرى ثانية نسميها (حركة انسيابية)، بحيث يكون كل جزء من الزمن له حركة، كما يحدث الأمر في ظاهرة النمو بالنسبة للإنسان والنبات والحيوان.

إن الطفل الوليد لا يكبر من الصباح إلى المساء بشكل جزئي، أو محسوس، إنه يكبر بالفعل دون أن نلحظ ذلك، وقد يزيد بمقدار ملليمتر في الطول، وهذا الملليمتر شائع في كل ذرات الثواني من النهار، إن الطفل لا يظل على وزنه وطوله أربعا وعشرين ساعة من النهار، ثم يكبر فجأة عند انتهاء اليوم، لا، إن نمو الطفل كل يوم يتم بطريقة تشيع فيها قدرة النمو في كل ذرات الثواني من النهار، وهذه العملية تحتاج إلى الدقة المتناهية في توزيع جزيئات الحدث على جزيئات الزمان، وهذه هي العظمة للقدرة الخالقة التي يظل الإنسان عاجزا عنها إلى الأبد.


وقد قلت لكم مرة: إن الواحد منكم إن نظر إلى ابنه الوليد، وظل ناظراً له طوال العمر فلن يلحظ الإنسان منكم كبر ابنه على الإطلاق، لكن عندما يغيب الإنسان عن ابنه شهرا أو شهورا، ثم يعود، هنا يرى في ابنه مجموع نمو الشهور التي غاب فيها عنه وقد أصبح واضحا. ولو زرع الإنسان نباتا ما، وجلس ينظر إلى هذا النبات، فهو لن يرى أبدا نمو هذا النبات لماذا؟ لأن الجزئيات تكبر دون قدرة على أن يلمس الإنسان طريقة نموها.

ولنا أن نعرف أن كل ما يكبر إنما يصغر أيضا، ولا توجد عند الإنسان قدرة للملاحظة المباشرة لذلك،

وفي الحياة أمثلة أخرى، نأخذ منها هذا المثل، فعندما قام العلماء بتصوير الأرض من الأقمار الصناعية، كانت الصور الأولى لمدينة نيويورك هي صورة لنقطة بسيطة، وعندما قام العلماء بتكبير هذه الصورة ظهرت الجزئيات، كالشوارع وغيرها، أين كانت الشوارع في هذه النقطة الصغيرة؟ لقد صغرت الشوارع أثناء التصوير بصورة تستحيل معها على آلات الإدراك عند الإنسان أن تراها، ولذلك فلابد من التكبير لهذه الصورة حتى يمكن للإنسان أن يراها، ونحن نرى الشيء البعيد صغيرا، ولكما قربناه كبر في نظرنا.


إذن فقول الله:
{تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل} هو لفت للانتباه البشرى إلى أن الليل والنهار لا يفصل بينهما حد قاطع بنسبة متساوية لكل منهما، لا، إنه الحق بقدرته يدخل الليل في النهار، ويدخل النهار في الليل. إن معنى (تُولج) هو (تُدخل)، ومثال ذلك أن يؤذن المؤذن لصلاة المغرب في يوم ما عند الساعة الخامسة، ويؤذن المؤذن لصلاة المغرب في أيام أخرى في الساعة السابعة. إن ذلك لا يحدث فجأة، ولا يقفز المغرب من الخامسة إلى السابعة، إنما يحدث ذلك بانسيابية، ورتابة. ومن ذلك نتلقى الدرس والمثل.

إنك أيها العبد إن رأيت ملكا قائما على حضارة مؤصلة، فاعلم أن هناك عوامل دقيقة لا تراها بالعين تنخر في هذا الملك إلى أن يأتي يوم ينتهي فيه هذا الملك. وهكذا تنهار الحضارات بعد أن تبلغ أوج الارتقاءات، ويصل الناس فيها إلى استعدادات ضخمة وإمكانات هائلة، وذلك لأن عوامل الانهيار تنخر داخل هذه الحضارات.

إن الحق بلفتنا إلى جلال قدرته وعظمة دقة صنعه، بمثل الليل والنهار: {تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل}. ثم يأتي لنا الحق الأعلى بمثل آخر، فيقول: {وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي}، إنها القدرة المطلقة بدون أسباب.

https://v.3bir.net/3bir/2008/01/i1600827_89998_4-1.gif


والوقفة هنا تجعلنا نرى كيف اهتدينا بما أفاض الله على بعض خلقه من اكتشاف لبعض أسراره في كونه، لقد وصل العلم لمعرفة أن لكل شيء حياة خاصة، فنرى أن ورقة النبات تحدث فيها تفاعلات ولها حياة خاصة، ونرى أن الذرة فيها تفاعلات ولها حياة خاصة، والتفاعل معناه الحركة، والحياة كما تعرف مظهرها الحركة، وغاية ما هناك أنه يوجد فرق في رؤية الحياة عند العامة، ورؤية الحياة عند الخاصة. إن الإنسان العامى لا يعرف أن النطفة فيها حياة، وأن الحبة فيها حياة، ولا يعرف ذلك إلا الخاصة من أهل العلم.

إن العامة من الناس لا يعرفون أن الحبة توجد لها حياة مرئية، ويكمن فيها نمو غير ظاهر، ولا يعرف العامة أن هناك فرقا بين شيء حي، وشيء قابل لأن يحيا.

ومثال ذلك نواة البلح التي نأخذها ونزرعها لتخرج منها النخلة، إنها كنواة تظل مجرد نواة إلى أن يأخذها الإنسان، ويضعها في بيئتها؛ لتخرج منها النخلة.

إذن فالنواة قابلة للحياة، وعندما ننظر إلى ذرات التراب فإننا لا نستطيع أن نضعها في بيئة لنصنع منها شيئا، ورغم ذلك فإن لذرة التراب حركة. ويقول العلماء: إن الحركة الموجودة في ذرات رأس عيدان علبة كبريت واحدة تكفي لإدارة قطار كهربائي بإمكانه أن يلف حول الكرة الأرضية عددا من السنوات.

إن هذه أمور يعرفها الخاصة، ولا يعرفها العامة. فإن نظرنا إلى العامة عندما يسمعون القول الحق:
{وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} كانوا يقولون: إن المثل على ذلك نواة البلح، وكانوا يعرفون أن النخلة تنمو من النواة. ولكن الخاصة بحثوا واكتشفوا أن في داخل النواة حياة وعرفوا كيفية النمو.. وعرف العلماء أن لكل شيء في الوجود حياة مناسبة لمهمته.. فليست الحياة هي الحركة الظاهرة والنمو الواضح أمام العين فقط، لا، بل إن هناك حياة في كل شيء.
إن العامة يمكنهم أن يجدوا المثال الواضح على أن الحق يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، أما الخاصة فيعرفون قدرة الله عن طريق معرفتهم أن كل شيء فيه حياة، فالتراب الذي نضع فيه البذر لو أخذنا بعضا منه في مكان معزول، فلن يخرج منه شيء، هذا التراب هو ما يصفه العلماء بوصف (الميت في الدرجة الأولى) وأما النواة التي يمكن أن تأخذها وتضعها في هذا التراب، فيصفها العلماء بأنها (الميت من الدرجة الثانية).

وعندما ننقل الميت في الدرجة الأولى ليكون وسطا بيئيا للميت في الدرجة الثانية تظهر لنا نتائج تدلل على حياة كل من التراب والنواة معا، وقد مس القرآن ذلك مسا دقيقا، لأن القرآن حين يخاطب بأشياء قد تقف فيها العقول فإنه يتناولها التناول الذي تتقبلها به كل العقول، فعقل الصفوة يتقبلها وعقل العامة يتقبلها أيضا، لأن القرآن عندما يلمس أي أمر إنما يلمسه بلفظ جامع راق يتقبله الجميع، ثم يكتشف العقل البشري نفاصيل جديدة في هذا الأمر.


إن القرآن على سبيل المثال لم يقل لنا: إن الذرة فيها حركة وحياة وفيها شحنات من لون معين من الطاقة، ولكن القرآن تناول الذرة وغيرها من الأشياء بالبيان الإلهي القادر، وخصوصا أن هذه الأشياء لم يترتب عليها خلاف في الحكم أو المنهج. فلو عرف الإنسان وقت نزول القرآن أن الذرة بها حياة فماذا الذي يزيد من الأحكام؟ ولو أن أحدا أثبت أن الذرة ليس بها حياة فما الذي ينقص من أحكام المنهج الإيماني؟ لم يكن الأمر من ناحية الأحكام ليزيد أو لينقص، وعندما نأخذ القرآن مأخذ الواعين به، ونفهم معطيات الألفاظ فإننا نجد أن كلمة (الحياة) لها ضد هو (الموت)، وقد ترك الحق سبحانه كلمة (الموت) في بعض المواقع من الكتاب الكريم وأورد لنا كلمة أخرى هي (الهلاك) قال الحق سبحانه: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}.. [الأنفال: 42].

إن (الهلاك) هنا هو مقابل الحياة، لماذا لم يورد الحق كلمة (الموت) هنا؟ لانه الخالق الأعلم بعباده، يعلم أن العباد قد يختلفون في مسألة (الموت) فبعض منهم يقول تعريفا للميت: إنه الذي لا توجد به حركة أو حس أو نمو، ولكن هذا الميت له حياة مناسبة له، كحياة الذرة أو حياة حبة الرمل، أو حياة أي شيء ميت، وهكذا عرفنا من الآية السابقة أن الحياة يقابلها الهلاك. ويقول الحق سبحانه عن الآخرة ليوضح لنا ما الذي سوف يحدث يوم القيامة: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ}.. [القصص: 88].
لقد استثنى الحق الوجه أو الذات الإلهية، وكل ما عداها هالك. وما دام كل شيء هالك فمعنى ذلك أن كل شيء كان حيا وإن لم ندرك له حياة. اذن فالحياة الحقيقية توجد في كل شيء بما يناسبه، مرة تدركها أنت، ومرة لا تدركها.

إذن فقوله الكريم:
{وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} يجوز أن تأخذه مرة بالعرف العام، أو تأخذه بالعرف الخاص، أي عرف العلماء، وما دام ذلك أمرا ظاهرا في الوجود كولوج الليل في النهار وولوج النهار في الليل، أي أن الحق يدخل النهار في الليل، ويدخل الليل في النهار. وفي اللغة يسمون بطانة الرجل- أي خاصة أصدقائه- (الوليجة) لماذا؟ لأنها تتداخل فيه، لأنك إن أردت أن تعرف سر واحد من البشر فاجلس مع صديق له أو عددٍ من أصدقائه الذين يتداخلون معه.
لذلك جاء أمر إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل بالوضوح الكامل، وجاءت مسألة الحياة والموت بألفاظ يمكن أن يفهمها كل من العامة والخاصة. وإذا كانت تلك الظواهر هي بعض من قدرات الله فمن إذن يستكثر على الله قدرته في أنه يؤتي الملك من يشاء، ويعز من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويذل من يشاء؟ لقد جاء الدليل من الآيات الكونية، ونراه كل يوم رأي العين. {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك.. تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. إنك أنت يا الله، الذي أجريت في كونك كل هذه المسائل وهي كلها أمور من الخير، وإن بدا للبعض أن الخير فيها غير ظاهر.

https://v.3bir.net/3bir/2008/01/i1600827_89998_4-1.gif
إن الإنسان عندما يرى في ابنه شيئا يحتاج إلى علاج فإنه يسرع به إلى الطبيب ويرجوه أن يقوم بكل ما يلزم لشفاء الابن، حتى ولو كان الأمر يتطلب التدخل الجراحي. إن الأب هنا يفعل الخير للابن، والابن قد يتألم من العلاج، فإذا كان هذا أمر المخلوق في علاقته بالمخلوق، فما بالنا بالخالق الأكرم الذي يجري في ملكه ما يشاء، إيتاء ملك أو نزعه، وإعزازا أو إذلالا، فكل ذلك لابد أن يكون من الخير، وآيات الله تشهد بأن الله على كل شيء قدير لذلك يأتي بعد الآية السابقة قوله: {تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.. [آل عمران: 27].


فإذا كان هناك إنسان لم يفطن أبدا لمسألة إيلاج الليل في النهار أو إخراج الحي من الميت، فإنه لابد أن يلتفت إلى رزقه، فكل واحد منا يتصل برزقه قهرا عنه، ولذلك جاء الحق سبحانه بهذا الأمر الواضح: {وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} وساعة تسمع كلمة (حساب) فإنك تعرف أن الحساب هو كما قلنا سابقا: يبين لك مالك وما عليك.


وعندما نتأمل قول الحق:
{وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. فإننا نعلم أن (الحساب) يقتضي (محاسبا)- بكسر السين ويقتضي (محاسبا)- بفتح السين ويقتضي (محاسبا عليه)، إن الحساب يقتضي تلك العناصر السابقة. فعندما يقول الحق: {وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} فلنا أن نقول: ممن؟ ولمن؟ من أين يأتي الرزق؟ وإلى أين؟ إنه يأتي من الله، ويذهب إلى ما يقدره الله لأن الله هو الرزّاق، وهو الحق وحده، وهو الذي لا يستطيع ولا يجرؤ أحد على حسابه، فهو سبحانه الذي يحاسبنا جميعا، لا شريك له، وهو الفعال لما يريد.
إن الحساب يجريه الله على الناس، وهو سبحانه لا يعطي الناس فقط على قدر حركتهم في الوجود، بل يرزقهم أحيانا بما هو فوق حركتهم. وقد يرزقك الله من شيء لم يكن محسوبا عندك؛ لأن معنى الحساب هو ذلك الأمر التقديري الذي يخطط له الإنسان، كالفلاح الذي يحسب عندما يزرع الفدان ويتوقع منه نتاجا يساوي كذا إردبا أو قنطارا، أو الصانع الذي يقدر لنفسه دخلا محددا من صنعته. هذا هو الحساب، لكن الإنسان قد يلتفت فيجد أن عطاء الله له من غير حساب. وقد يحسب الإنسان مرة ولا يأتي له الرزق.

مثال ذلك: قالوا: إن دولة أعلنت أنها زرعت قمحا يكفي الدنيا كلها، ولكن عندما نضج المحصول هبت عاصفة أهلكت الزرع، وأكلت هذه الدولة قمحها من الخارج. فمن قالوا عن أنفسهم: إنهم سيطعمون الناس أطعمهم الناس.

أليس ذلك مصداقا لقول الحق: (من غير حساب)؟ إنه الحق سبحانه لا يحسب حركتك إيها الإنسان ليعطيك قدرها، ولكنه قد يعطيك أحيانا فوق حركتك.
ونحن نرى إخوتنا الذين أفاض الله عليهم بثروة البترول، لقد تفجر البترول من تحت أرجلهم دون جهد منهم إنه الله يريد أن يلفت الناس إلى قدرته جل وعلا، وأن الأرزاق في يده هو. وننظر إلى الناس الذين يشيرون إلى منطقة البترول فيتهمون أهلها بالكسل، ونجد ان الحق سبحانه وتعالى قد سخر لهم غير الكسالى ليخدموهم، وعندما أفاء على المنطقة العربية بالبترول احتاجت لهم الدول التي تقول عن نفسها: أنها متقدمة، إنه رزق بغير حساب.

إن هذه اللفتات إنما تؤكد للمؤمن طلاقة القدرة، إن الحق قد خلق الأسباب، ولم يترك الأسباب تتحكم وحدها، وقد يترك الحق الأسباب للإنسان ليعمل بها، وقد لا يعطيه منها، ويعطي الحق الإنسان من جهة أخرى لم يحسب لها حسابا. والإنسان الذي يتأمل تقدير أموره أو أمور من يعرف يجد أن تلك القضية منتشرة في كل الخلق، إنه سبحانه يرزق بغير حساب، ولا يقول: (لقد فعلت على قدر يساوي كذا)، والحق سبحانه يعطي بغير حساب من الإنسان، لأن الموازنة التي قد يقوم بها الإنسان قد يأتي لها من الأسباب ما يخرقها.


إذن
{وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} تعني قدرة الحق المطلقة على الرزق بغير حساب ولا توجد سلطة أعلى منه تقول له: لماذا فعلت؟ أو ماذا أعطيت؟ أو من غير حساب منه سبحانه لخلقه، فيأتي الرزق على ما هو فوق أسباب الخلق، أو من غير حساب للناس المرزوقين فيأتي رزقهم من حيث لم يقدروا، فإذا كانت كل هذه الأمور لله، وهو مالك الملك ويعطي من يشاء، ويعز من يشاء، ويولج الليل في النهار، ويرزق من يشاء بغير حساب، أليس من الحمق أن يذهب إنسان ليوالي من لا سلطان له ويترك هذا السلطان، إن من يوالي غير الله هو الذي استبد به الغباء. ولنفطن لتلك القضية الإيمانية: إي فما دامت كل الأمور عندي فإياكم أن توالوا خصومى، لأنني أنا الذي بيده كل شيء، هاهوذا القول الحق: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البغضآء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}. [آل عمران: 118].
إنه الحق يأمرنا ألا نوالي إلا الله، فإن كنت تجري حسابا لكل شيء وبتقدير مؤمن فلا توال إلا صاحب هذه الأشياء، وإياك أن تعمد إلى عدو لهذه القوة القاهرة القادرة المستبده في كل امور الكون ونواميسه، إياك أن تعمد الى أعداء الله لتتخذ منهم أولياء؛ لأنك لو فعلت تكون غير صائب التفكير.


المصدر: موقع نداء الإيمان


https://media.gemini.media/img/large...6_6_46_513.jpg

امانى يسرى محمد 09-06-2021 10:20 AM

رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة ال عمران)
 

https://www.maddmon.com/wp-content/u...3D-300x300.jpg


قال تعالى:
{لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}.. [آل عمران : 28].

أنت لا تتخذ الكافر وليا إلا إن بانت لك مظاهر القوة فيه، ومظاهر الضعف فيك، إنك عندما تتأمل معنى كلمة (ولي). تجد أن معناها (معين) وحين تقول: (الله هو الولي) فإننا نستخدم الكلمة هنا على إطلاقها، إن كلمة الولي تضاف إلى الله على إطلاقها، وتضاف بالنسبية والمحدودية لخلق الله، فالحق يقول: {الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور}.. [البقرة: 257].
إن الله ولي على إطلاقه، والحق يقول: {ألا إِنَّ أَوْلِيَآءَ الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}.. [يونس: 62].
إن المفرد لأولياء الله هو (ولي الله)، فالمؤمن ولي الله، والحق يقول: {هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ الحق هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً}.. [الكهف: 44].

هكذا نلاحظ أن الولاية قد تضاف مرة إلى الله، ومرة إلى خلق الله.
إن الله ولي المؤمن، وهذا أمر مفهوم،
وقد نتساءل: كيف يكون المؤمن ولي الله؟

إنا نستطيع أن نفهم هذا المعنى كما يلي: إن الله هو المعين للعباد المؤمنين فيكون الله ولي الذين آمنوا، أي معينهم ومقويهم. وأولياء الله، هم الذين ينصرون الله، فينصرهم الله، وهو سبحانه الحق الذي قال: {ياأيها الذين آمنوا إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}.. [محمد: 7].

ألم يكن الله قادرا أن ينتقم من الكفار مرة واحدة وينتهي من أمرهم؟ ولكن الحق سبحانه قال: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ}.. [التوبة: 14].
إن الحق لو قاتلهم فإن قتاله لهم سيكون أمرا خفيا، وقد يقولون: إن هذه مسائل كونية في الوجود، لذلك يأتي بالقتال للمؤمنين الذين استضعفهم الكافرون. إذن مرة تُطلق (الولي) ويراد بها (المعين). ومرة أخرى تُطلق كلمة (الولي) ويراد بها (المعان). لأنك إن كنت أنت ولي الله، والله وليك فإنه الحق سبحانه (معين) لك وأنت (معان).

إن الحق سبحانه يريد لمنهجه ان يسود بإيمان خلقه به، وإلا لكان الحق سبحانه وتعالى قد استخدم طلاقة قدرته على إرغام الناس على أن يكونوا طائعين، فلا أحد بقادر على أن يخرج عن قدرة الله، والإنسان عليه أن يفكر تفكيرا واضحا، ويعرف أن حياته بين قوسين: بين قوس ميلاده وقوس وفاته ولا يتحكم الإنسان في واحد من القوسين، فلماذا يحاول التحكم في المسافة بين القوسين؟ إذن القواميس الكونية بيد الله وتسير كالساعة، إنه سبحانه يقول: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ}.. [غافر: 57].

إن شيئا لم يخرج عن مراد الخالق الأعظم. إنما الحق سبحانه وتعالى أخذ هذه المسائل في حركة السماوات والأرض بقوة قهره وقدرة جبروته، فلا شيء يخرج من يده، أما بالنسبة للعباد فهو سبحانه يريد ان يأخذ قوما بحب قلوبهم.

إن الإيمان طريق متروك لاختيار الإنسان، صحيح أن الحق قادر على أن يأتي بالناس مؤمنين، ولكنه يريد أن يرى من يجيء إليه وهو مختار ألا يجيء.

إن تسخير الأشياء يظهر لنا صفة القدرة الكاملة لله، واختيارات الإنسان هي التي تظهر صفة المحبوبية لله، والله يريد لنا أن نرى قدرته، ويريد منا أن نتجه إليه بالمحبوبية
لذلك يقول الحق:
{لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين}
لماذا؟
لأن الكافرين وإن تظاهروا أنهم أولياء لك أيها المؤمن، فهم يحاولون أن يجعلوك تستنيم لهم، وتطمئن إليهم وربما تسللوا بلطف ودقة، فدخلوا عليك مدخل المودة، وهم ليسوا صادقين في ذلك، لأنهم ما داموا كافرين، فليس هناك التقاء في الأصل بين الإيمان والكفر؛ لذلك يقول الحق: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ}.

إن من يتخذ هؤلاء أولياء له، فليس له نصيب من نصرة الله، لماذا؟
لأنه اعتقد إن هؤلاء الكافرين قادرون على فعل شيء له. لذلك يحذرنا الله ويزيد المعنى وضوحا أي: إياكم أن تغتروا بقوة الكافرين وتتخذوا منهم أولياء. ولا تقل أيها المؤمن: (ماذا أفعل؟)
لأن الله لا يريد منك إلا أن تبذل ما تستطيع من جهد، ولذلك قال سبحانه: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ الله يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ}.. [الأنفال: 60].


إن الحق لم يقل: (أعدوا لهم ما تغلبونهم به)، ولكنه قال: {أَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم}.
إن على المؤمن أن يعمل ما في استطاعته، وأن يدع الباقي لله، ولذلك فهناك قضية قد يقف فيها العقل، ولكن الله يطمئننا؛ أي: لا تخافوا ولا تظنوا أن أعدادهم الكبيرة قادرة على أن تهزمكم، ولا تسأل: (ماذا أفعل يا الله)؟
لقد علمنا الحق ألا نقول ذلك، وعلمنا ما يحمينا من هذا الموقف لذلك قال: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب فاضربوا فَوْقَ الأعناق واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}.. [الأنفال: 12].


إذن فساعة يلقي الله في قلوب الذين كفروا الرعب فماذا يصنعون مهما كان عددهم أو عدتهم؟
أليس في ذلك نهاية للمسألة؟
إن الرعب هو جندي ضمن جنود الله، ولذلك فعلى المؤمن ألا يوالي الكافرين من دون المؤمنين، لماذا؟
حتى لا ينطبق عليه القول الحق:
(وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ)
ويضع الحق بعد ذلك الاستثناء:
{إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ وإلى الله المصير}.

إن الحق سبحانه وتعالى يعطي المنهج للإنسان وهو من خلقه سبحان، ويعرف كل غرائزه، وانفعالاته، وفكره، وفي أنه قد تأتي له ظروف أقوى من طاقته، لذلك يعامل الحق الإنسان على أنه مخلوق محدود القدرات؛ وفي موضع آخر جاء الحق باستثناء آخر فقال: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير}.. [الأنفال: 16].
إن الحق يقول في هذا الموضع من سورة آل عمران: {لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً}.
(وتقاة) مأخوذة من (الوقاية). إنهم قد يكونون أقوياء للغاية، وقد لا يملك المؤمن بغلبه الظن في أن ينتصر عليهم؛ وهم الكافرون، فلا مانع من أن يتقي المؤمن شرهم.
إن التقية رخصة من الله، روى: أن مسيلمة الكذاب جاء برجلين من المسلمين وقال لواحد منهما: (أتشهد أن محمدا رسول الله)؟ قال المؤمن (نعم): قال مسيلمة: (وتشهد أني رسول الله؟) قال المؤمن: (نعم). وأحضر مسيلمة المسلم الآخر وقال له: (أتشهد أن محمداً رسول الله؟) قال المؤمن: (نعم). قال مسيلمة: (أتشهد أني رسول الله؟) قال المؤمن الثاني: (إني أصم) كيف رد عليه المؤمن بدعوى الصمم؟ لقد علم مسيلمة أنه يدعي الصمم، لذلك أخذه وقلته، فرفع الأمر إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فماذا قال؟ قال صلى الله عليه وسلم: «أما المقتول.. فقد صدع بالحق فهنيئا له، وأما الآخر فقد أخذ برخصة الله». فالتقية رخصة، والإفصاح بالحق فضيلة.
وعمار بن ياسر أخذ بالرخصة وبلال بن رباح تمسك بالقرعة.

ولننظر إلى حكمة التشريع في هذا الأمر. إن كل مبدأ من مبادئ الخير جاء ليواجه ظاهرة من ظواهر الشر في الوجود، وهذا المبدأ يحتاج إلى منهج يأتي من حكيم أعلى منه، ويريد صلابة يقين، وقوة عزيمة، كما يريد تحمل منهج، فالتحمل إنما يكون من أجل أن يبقى المنهج للناس، والعزيمة من أجل أن يواجه المؤمن الخصوم، فلو لم يشرع الله التقية بقوله: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان}.. [النحل: 106].

لكنا حقيقة سنحقق الفدائية التي تفدي مناهج الحق بالتضحية بالحياة رخيصة في سبيل الله، ولكن هب ان كل مؤمن وقف هذا الموقف فمن يحمل علم الله إلى الآخرين؟

لذلك يشرع الحق سبحانه وتعالى التقية من أجل أن يبقى من يحمل المنهج، إنه يقرر لنا الفداء للعقيدة، ويشرع لنا التقية من أجل بقاء العقيدة. لقد جاء الحق بالأمرين: أمر الوقوف في وجه الباطل بالاستشهاد في سبيل الحق، وأمر التقية حماية لبعض الخلق حتى لا يضيع المنهج الحق لو جاء جبار، واستأصل المؤمنين جميعا، لذلك يشرع الحق ما يبقى للفداء قوما، ويبقى للبقاء قوما ليحملوا منهج الله، هل عرفنا الآن لماذا جاءت التقية؟ لأن الحق سبحانه وتعالى يريد منهجا يعمر الأرض، ويورث للأجيال المتتالية، فلو أن الحق لم يشرع التقية بقوله: {مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.. [النحل: 106].

لثبتت الفدائية في العقيدة، ولو ثبتت الفدائية وحدها لكان أمر المنهج عرضه لأن يزول، ولا يرثه قوم آخرون، لذلك شرع الله التقية ليظل أناس حول شمعة الإيمان، يحتفظون بضوئها؛ لعل واحدا يأخذ بقبسها، فيضيء بها نورا وهاجا. ولذلك، فلا ولاية من مؤمن لقوم كافرين إلا أن يتقى منهم تقاة، لماذا؟ لأن الله يحذرنا نفسه بقوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ وإلى الله المصير}.

فإياك أن تقبل على السلوك الذي يضعه أمامك الكفار بانشراح صدر وتقول: أنا أقوم بالتقية، بل لابد أن تكون المسألة واضحة في نفسك، وأن تعرف لماذا فعلت التقية، هل فعلتها لتبقى منهج الخير في الوجود، أو لغير ذلك؟ هل فعلتها حتى لا تجعل جنود الخير كلهم إلى فناء أو غير ذلك؟ إنك إن فعلت التقية بوعي واستبقيت نفسك لمهمة استبقاء المنهج الإيماني، فأنت أهل الإيمان، وعليك أن تعرف جيدا أن الحق قد قال: {وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ وإلى الله المصير}. إنه الحق يقول للمؤمنين: إياكم أن تخلعوا على التقية أمرا هو مرغوب لنفوسكم، لماذا؟ لأن الحق قد حددها: {مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.. [النحل: 106].

فلا غاية إلا الله، فإياكم أن تغشوا أنفسكم؛ لأنه لا غاية عند غيره؛ فالغاية كلها عنده وبعد ذلك يقول الحق: {قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ الله...}.






https://media.gemini.media/img/large..._16_53_673.jpg



قال تعالى : {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.. [آل عمران : 29].
لأن الإنسان قد يقوم بالتقية كظاهرة شكلية، أما المؤمن فلا يفعل ذلك أبدا. لماذا؟
لأن التحذير واضح في هذه الآية. هنا قد يقول قائل: إن إخفاء ما في الصدر هو الذي يعلمه الله أما إبداء ما في الصدر فإنه قد علمه أحد غير الله، فلماذا جاء هذا القول؟

لقد جاء هذا القول الحكيم، لأنه قد يطرأ على بالك أن الله غيب فهو يعلم الغيب فقط ولا يعلم المشهد. لكن الله لا يحجبه مكان عن مكان أو زمان عن زمان. فإياك أن تعتقد ان الله غيب فلا يعرف إلا الغيب. إن الحق يعلم الغيب ويعلم ما برز إلى الوجود. وبعد ذلك يقول الحق: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً...}.



قال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}.. [آل عمران : 30].
إن العمل في ذاته ظاهرة تحدث وتنتهي، فكيف يأتي الإنسان يوم القيامة، ويجد عمله؟ إنه لا شك سوف يجد جزاء عمله، إننا حتى الآن نقول ذلك، لكن حين يفتح الله على بعض العقول فتكتشف أسرارا من أسرار الكون فقد يكون تفسير هذه الآية فوق ما نقول، إنهم الآن يستطيعون تصوير شريط لعمل ما وبعد مدة يقول الإنسان للآخر: انظر ماذا فعلت وماذا قلت إن العمل المسجل بالشريط يكون حاضرا ومصورا، فإذا كنا نحن البشر نستطيع أن نفعل ذلك بوسائلنا فماذا عن وسائل الحق سبحانه وتعالى؟

لابد أنها تفوقنا قدرة، إنه الحق يعلم كل شيء، في الصدر، أو في السماوات أو في الأرض: إن الحكم الإلهي يشمل الكون كله مصداقا لقول الحق: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البر والبحر وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}.. [الأنعام : 59].


ويختم الحق هذه الآية بقوله:
{والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} إنه القادر الذي يعلم عنا الغفلة، فينبهنا دائما إلى كمال قدرته، كما قال في آية قبلها: {إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ونحن مخلوقون لله، وهو القادر الأعلى، القادر على كل شيء ويأتي لكل منا بكتاب حسابه يوم الحساب: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ}.. [الحاقة: 19].


إذن فمن تقف في عقله هذه المسألة، فليقل: {مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً} يعني أنه يجد جزاء عمله. أما ما عملته النفس من السوء فهي تود أن يكون بينه وبينها أمد بعيد، أي غاية بعيدة، ويقول الإنسان لنفسه: (يا ليتها ما جاءت). والحق سبحانه يقول: {وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ والله رَؤُوفٌ بالعباد} إن الحق سبحانه يكرر التحذير لنستحضر قوته المطلقة، ولكنه أيضا رءوف بنا رحيم ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله...}.

المصدر:نداء الايمان





https://media.gemini.media/img/large...5_34_1_975.jpg





امانى يسرى محمد 10-06-2021 05:55 AM

رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة ال عمران)
 

https://www.maddmon.com/wp-content/u...81-300x225.jpg

قال تعالى:
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.. [آل عمران : 31].

ولنا أن نعرف أن كل (قل) إنما جاءت في القرآن كدليل على أن ما سيأتي من بعدها هو بلاغ من الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه، بلاغ للأمر وللمأمور به، إن البعض ممن في قلوبهم زيغ يقولون: كان من الممكن أن يقول الرسول: {إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله} لهؤلاء نقول: لو فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك لكان قد أدى (المأمور به) ولم يؤد الأمر بتمامه. لماذا؟
لأن الأمر في (قل).. والمأمور به {إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله} وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم في كل بلاغ عن الله بدأ ب (قل) إنما يبلغ (الأمر) ويبلغ (المأمور به) مما يدل على أنه مبلغ عن الله في كل ما بلغه من الله.

إن الذين يقولون: يحب أن تحذف (قل) من القرآن، وبدلا من أن نقول: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} فلننطقها: (الله أحد). لهؤلاء نقول: إنكم تريدون أن يكون الرسول قد أدى (المأمور به) ولم يؤد (الأمر).

إن الحق يقول:
{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله}
هذه الآية تدل على ماذا؟
إنهم لابد قد ادعوا أنهم يحبون الله، ولكنهم لم يتبعوا الله فيما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكأنهم جعلوا الحب لله شيئا، واتباع التكليف شيئا آخر، والله سبحانه وتعالى له على خلقه إيجاد، وإمداد، وتلك نعمة، ولله على خلقه فضل التكليف؛ لأن التكليف إن عاد على المُكَلّف (بفتح الكاف وتشديد اللام) ولم يعد منه شيء على المُكَلِّف بكسر الكاف فهذه نعمة من المكلِّف.

إن الحق سبحانه لا يحتاج إلى أحد ولا من أحد.

إن الحق سبحانه عندما كلفنا إنما يريد لنا أن نتبع قانون صيانة حياة الإنسان.
وقد ضربنا المثل- ولله المثل الاعلى،بالآلة المصنوعة بأيدي البشر، إن المهندس الذي صممها يضع لها قانون صيانة ما، ويضع قائمة تعليمات عن كيفية استعمالها؛ وهي تتلخص في (افعل كذا) و(لا تفعل كذا)، ويختار لهذه الآلة مكانا محددا، وأسلوبا منظما للاستخدام.
إذن فوضع قائمة بالقوانين الخاصة بصيانه واستعمال آلة ما وطبعها في كراسة صغيرة، هي لفائدة المنتفع بالصنعة. هذا في مجال الصنعة البشرية فما بالنا بصنعة الله عز وجل؟ إن لله إيجادا للإنسان، ولله إمدادا للإنسان، ولله تكليفا للإنسان، والحق قد جعل التكليف في خدمة الإيجاد والإمداد. إن الحق لو لم يعطنا نظام حركة الحياة في (افعل) و(لا تفعل) لفسد علينا الإيجاد والإمداد، إن من تمام نعمة الحق على الخلق أن أوجد التكليف، وإن كان العبد قد عرف قدر الله فأحبه للإيجاد والإمداد فليعرف العبد فضل ربه عليه أيضا من ناحية قبول التكليف، وأن يحب العبد ربه لأنه كلفة بالتكاليف الإيمانية.
إنك قد تحب الله، ولكن عليك أن تلاحظ الفرق بين أن تحب أنت الله، وأن يحبك الله.

إن التكليف قد يبدو شاقا عليك فتهمل التكليف؛ لذلك نقول لك: لا يكفي أن تحب الله لنعمة إيجاده وإمداده؛ لأنك بذلك تكون أهملت نعمة تكلفيه التي تعود عليك بالخير، إن نعمة التكليف تعود عليك بكل الخير عندما تؤديها أيها الإنسان، فلا تهملها، ومن الجائز أن تجد عبادا يحبون الله لأنه أوجدهم وأمدهم بكل أسباب الحياة، ولكن حب الله لعبده يتوقف على أن يعرف العبد نعمته سبحانه في التكليف، إن الله يحب العبد الذي يعرف قيمة النعمة في التكليف.

ونحن في مجالنا البشري نرى إنسانا يحب إنسان آخر، لا يبادله العاطفة، والمتنبي قال:
أنت الحبيب ولكني أعوذ به *** من أن أكون حبيبا غير محبوب
إن المتنبي يستعيذ أن يحب واحدا لا يبادله الحب. فكأن الذين يدعون أنهم يحبون الله، لأنهم عبيد إحسانه إيجادا وإمدادا، ثم بعد ذلك يستنكفون، أولا يقدرون على حمل نفوسهم على أداء التكليف لهؤلاء نقول: أنتم قد منعتم شطر الحب لله، لأن الله لن يكلفكم لصالحه ولكنه كلفكم لصالحكم؛ لأن التكليف لا يقل عن الإيجاد والإمداد.
لماذا؟
لأن التكليف فيه صلاح الإيجاد والإمداد، والحب- كما نعرف- هو ودادة القلب وعندما تقيس ودادة القلب بالنسبة لله، فإننا نرى آثارها، وعملها، من عفو، ورحمة، ورضا.



https://www.gmk.one/kobani_img/2015/07/113.png

وعندما تقيس ودادة القلب من العبد إلى الله فإنها تكون في الطاعة. إن الحب الذي هو ودادة القلب يقدر عليه كل إنسان، ولكن الحق يطلب من ودادة القلب ودادة القالب، وعلى الإنسان أن يبحث عن تكاليف الله ليقوم بها، طاعة منه وحبا لله، ليتلقى محبة الله له بآثارها، من عفو، ورحمة، ورضا.

والحب المطلوب شرعا يختلف عن الحب بمفهومه الضيق، أقول ذلك لنعلم جميعا، أنه الحق سبحانه قائم بالقسط، فلا يكلف شططا ولا يكلف فوق الوسع أو فوق الطاقة. إن الحب المراد لله في التكليف هو الحب العقلي، ولابد أن نفرق بين الحب العقلي والحب العاطفي، العاطفي لا يفنن له.

لا أقول لك: (عليك أن تحب فلانا حبا عاطفيا) لأن ذلك الحب العاطفي لا قانون له. إن الإنسان يحب ابنه حتى ولو كان قليل الذكاء أو صاحب عاهة، يحبه بعاطفته، ويكره قليل الذكاء بعقله.

والإنسان حينما يرى ابن جاره أو حتى ابن عدوه، وهو متفوق، فإنه يحب ابن الجار أو ابن العدو بعقله، لكنه لا يحب ابن الجار أو العدو بعاطفته، ودليل ذلك أن الإنسان عندما توجد لديه أشياء جميلة فإنه يعطيها لابنه لا لابن الجيران، هناك- إذن- فرق بن حب العقل، وحب العاطفة.

والتكليف دائما يقع في إطار المقدور عليه وهو حب العقل، ومع حب العقل قد يسأل الإنسان نفسه: ماذا تكون حياتي وكيف.. لو لم أعتنق هذا الدين؟ وماذا تكون الدنيا وكيف، لولا رحمة الله بنا عندما أكرمنا بهذا الدين؟ وأرسل لنا هذا الرسول الكريم؟ إن هذا حديث العقل وحب العقل.

وقد يتسامى الحب فيصير بالعاطفة أيضا، لكن المكلف به هو حب العقل، وليس الحب العاطفي، ولذلك يجب أن نفطن إلى ما روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه- حينما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين».

وقف سيدنا عمر عند هذه النقطة فقال: أمعقول أن يكون الحب لك أكثر من النفس؟ إنني أحبك أكثر من مالي، أو من ولدي، إنما من نفسي؟ ففي النفس منها شيء. وهكذا نرى صدق الأداء الإيماني من عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكررها النبي صلى الله عليه وسلم ثانيا، وثالثا، فعرف سيدنا عمر أنه قد أصبحت تكليفا وعرف أنها لابد أن تكون من الحب المقدور عليه، وهو حب العقل، وليس حب العاطفة. وهنا قال عمر: (الآن يارسول الله؟) فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «الآن يا عمر»، أي كمل إيمانك الآن، أي أن سيدنا عمر قد فهم المراد بهذا الحب وهو الحب العقلي.


ونريد هنا أن نضرب مثلا حتى لا تقف هذه المسألة عقبة في القلوب أو العقول-

نقول- ولله المثل الأعلى: إن الإنسان ينظر إلى الدواء المر طعما ويسأل نفسه هل أحبه أو لا؟
إن الإنسان يحب هذا الدواء بعقله، لا بعاطفته.

إذن فحب العقل هو ودادة من تعلم أنه صالح لك ونافع لديك وإن كانت نفسك تعافه، وعندما تتضح لك حدود نفع بالشيء فأنت تحبه بعاطفتك إذاً فالمطلوب للتكليف الإيماني الحب العقلي، وبعد ذلك يتسامى ليكون حبا عاطفيا وهكذا يكون قول الحق: {إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله} وهذا الحب ليس دعوى. إن الإنسان منا عندما يدعى أنه يحب إنسانا آخر، فكل ما يتصل به يكون محبوبا، ألم يقل الشاعر:
وكل ما يفعل المحبوب محبوب***
فإن كنتم تحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتبعوه بتنفيذ التكاليف الإيمانية، ولنلتفت إلى الفرق بين اتبعني واستمع لي.

إن الاتباع لا يكون إلا في السلوك، فإن كانت تحب رسول الله فعليك أن ترى ماذا كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تفعل مثله، أما إذا كنت تدعى هذا الحب، ولا تفعل مثلما فعل رسول الله صلى فهذا عدم صدق في الحب، إن دليل صدقكم في الحب المدعى منكم أن تتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن اتبعنا رسول الله نكون قد أخذنا التكليف من الله على أنه نعمة، ونقلبها من الله مع ما فيها من مشقة علينا، فيحبنا الله؛ لأننا آثرنا تكليفه على المشقة في التكليف.


إن فهم هذه الآية يقتضي أن نعرف أن الحق ينبهنا فكأنه يقول لنا: أنتم أحببتم الله للإيجاد والإمداد، وبعد ذلك وقفتم في التكليف لأنه ثقيل عليكم، وهنا نقول: (انظروا إلى التكليف أهو لصالح من كلف أم هو لصالح من تلقى التكليف؟). إنه لصالح المكلَّف أي الذي تلقى التكاليف.


وهكذا يجب أن نضم التكليف للنعم، فتصبح النعم هي (نعم الإيجاد)، و(الإمداد)، و(التكليف)، فإن أحببت الله للإيجاد والإمداد، فهذا يقتضي أن تحبه أيضا للتكليف، ودليل صدق الحب هو قيام العبد بالتكليف، وما دمت أنت قد عبرت عن صدق عواطفك بحبك لله، فلابد أن يحبك الله، وكل منا يعرف أن حبه لله لا يقدم ولا يؤخر، لكن حب الله لك يقدم ويؤخر.


إن قول الحق سبحانه وتعالى فيما يعلّمه لرسول الله ليقول لهم: {فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله} أي أن الرسول صلى الله عليه وسلم المرسل من عند الله جاء بكل ما أنزله الله ولم يكتم شيئا مما أُمِرَ بتبليغه، فلا يستقيم أن يضع أحد تفريقا بين رسول الله وبين الله، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله كل ما أنزل عليه.


وبعد ذلك يقول الحق:
{وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} إن مسألة {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} هذه تتضمن ما تسميه القوانين البشرية بالأثر الرجعي، فمن لم يكن في باله هذا الأمر؛ وهو حب الله، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، فعليه أن يعرف أن عليه مسئولية أن يبدأ في هذه المسألة فورا ويتبع الرسول صلى الله عليه وسلم وينفذ التكليف الإيماني، وسيغفر له الله ما قد سبق، وأي ذنوب يغفرها الله هنا؟ إنها الذنوب التي فر منها بعض العباد عن اتباع الرسول، فجاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالحكم فيها.


وهكذا نعرف ونتيقن أن عدالة الله أنه سبحانه لن يعاقب أحدا على ذنب سابق ما دام قد قبل العبد أن ينفذ التكليف الإيماني، إن الذين أبلغهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجب عليهم أن يفطنوا بعقولهم إلى ما أعلنه الرسول لهم، إن هذا الأمر لا يكون حجة إلا بعد أن صار بلاغا، وقد جاء البلاغ، ولذلك يغفر الله الذنوب السابقة على البلاغ، وبعد ذلك يقول الحق: {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} إننا نعلم أن المغفرة من الله والرحمة منه أيضا، وبعد ذلك يقول الحق: {قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول...}.

المصدر: موقع نداء الإيمان

https://media.gemini.media/img/large..._43_26_427.jpg




امانى يسرى محمد 12-06-2021 06:59 PM

رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة ال عمران)
 
https://www.ashefaa.com/twge3/islamic/islamic04.jpg


قال تعالى:
{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}.. [آل عمران : 32].

وقد قلت من قبل في مسألة الأمر بالطاعة، إنها جاءت في القرآن الكريم على ثلاثة ألوان:
فمرة يقول الحق: {أَطِيعُواْ الله والرسول}. كما جاء بهذه الآية التي نحن بصدد تناولها بخواطرنا الإيمانية. ونلاحظ هنا أن الحق سبحانه لم يكرر أمر الطاعة، بل جعل الأمر واحدا، هو (أطيعوا)، فإذا سألنا من المطاع؟ تكون الإجابة. الله والرسول معا.

إذن فقول الرسول صلى الله عليه وسلم بلاغا عن الله {فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله} يعني أن طاعة المؤمنين للرسول من طاعة الله. إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمرنا بطاعته، ولكنه يأمرنا بطاعة الله، ولذلك لم يكرر الحق أمر الطاعة، إنّ الحق هنا يوحد أمر الطاعة فيجعلها لله وللرسول معا، إنه يعطف على المطاع الأول وهو الله بمطاع ثانٍ هو الرسول صلى الله عليه وسلم. ويقول الحق في كتابه العزيز: {قُلْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين}.. [النور: 54].

إن الحق يورد أمر الطاعة ثلاث مرات، فمرة يكون أمر الطاعة لله، ومرة ثانية يكون أمر الطاعة للرسول صلى الله عليه وسلم، ومرة ثالثة يقول الحق: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}.. [النساء: 59].

فما مسألة هذه الأوامر بالطاعة؟
إنها طاعة بألوان التكليف وأنواعها، إن الأحكام المطلوب من المؤمنين أن يطيعوا فيها، مرة يكون الأمر من الله قد جاء بها وأن يكون الرسول قد أكدها بقوله وسلوكه، إن المؤمن حين يطيع في هذا الأمر الواحد، فهو يطيع الله والرسول معاً، ومرة يأتي حكم من الله إجمالا، ويأتي الرسول ليفصله. {وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة وَأَطِيعُواْ الرسول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.. [النور: 56].

إن الواحد منا لم يكن يعرف كم صلاة في اليوم، ولا عدد الركعات في كل صلاة، ولا نعرف كيفيتها لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قد فصل لنا الأمر في كل صلاة، إذن، فالمؤمن يطيع الله في الإجمال، ويطيع الرسول في التفصيل. إن علينا أن نلتفت إلى أن هنا طاعتين: (الأولى: طاعة الله ، والثانية: طاعة الرسول)

أما في الأمر المتحد، فتكون الطاعة لله والرسول؛ لأنه أمر واحد. وأما الأمر الذي جاء من الله فيه تكليف إجمالي فقد ترك الله للرسول صلى الله عليه وسلم بيانه، فالمؤمن يطيع الله في الأمر الإجمالي كأمر الصلاة، وإقامتها، ويطيع الرسول في تفصيل أمر الصلاة؛ وكيفيتها، وأحيانا يجيء الحكم بالتفويض الأعلى من الله للرسول، فيقول الله لرسوله ما معناه إنك أنت الذي تقرر في هذه الأمور، كما قال الحق: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا}.. [الحشر: 7].

لقد ترك الحق سبحانه للرسول أن يصدر التشريعات اللازمة (لاستقامة حياة المؤمنين) لقد أعطاه الحق سبحانه التفويض العام، وما دام سبحانه قد أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم التفويض العام فإن طاعة المؤمن تكون للرسول فيما يقوله الرسول وإن لم يقل الله به. إننا على سبيل المثال لا نجد في القرآن دليلا على أن صلاة الفجر ركعتان، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي فصل لنا الصلاة فعرفنا أن الفجر ركعتان، والظهر أربع ركعات، والعصر مثل الظهر، والمغرب ثلاث ركعات، والعشاء أربع ركعات. إن الدليل هو تفصيل الرسول، وقول الحق: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا}.. [الحشر: 7].
إنه دليل من القرآن الكريم.

هكذا نعرف أن الأمر بالطاعة جاء بالقرآن على ألوان ثلاثة:

- اللون الأول: إن اتحد المطاع (الله والرسول) إن عطف الرسول هنا يكون على لفظ الجلالة الأعلى.

- اللون الثاني: هو طاعة الله في الأمر الإجمالي وطاعة الرسول في تفصيل هذا الأمر، فإن الحق يقول {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول}.

- اللون الثالث: وهو الذي لم يكن لله فيه حكم، ولكنه بالتفويض العام للرسول، بحكم قوله الحق: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} هذه طاعة للرسول، ثم يأتي في أمر طاعة أولى الأمر فيقول الحق: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}.. [النساء: 59].

إن الحق لم يورد طاعة أولي الأمر مندمجة في طاعة الله والرسول، لتكون طاعة واحدة. لا. إن الحق أورد طاعة أولي الأمر في الآية التي يفرق فيها بين طاعة الله وطاعة الرسول، ثم من بطن طاعة الرسول تكون طاعة أولي الأمر. لماذا؟ لأنه لا توجد طاعة ذاتية لأولي الأمر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم له لطاعة الذاتية. أما طاعة أولي الأمر فهي مستمدة من طاعة أولي الأمر لله ورسوله، ولا طاعة لأولي الأمر فيما لم يكن فيه طاعة لله وللرسول صلى الله عليه وسلم.

إن الحق يقول: {قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين}. إن الله يبلغ الرسول أن يبلغ هؤلاء الذين قالوا: إنهم يحبون الله، بالشروط التي يمكن أن يبادل بها الحق عباده الحب، وذلك حتى تتحقق الفائدة للبشر، لأن محبة الله تفوق ما يقدمه البشر من حب. إن اتباع الرسول وتنفيذ التكليف بالطاعة لله والرسول.

ذلك هو أسلوب تعبير العباد عن حبهم لله وللرسول صلى الله عليه وسلم، أما إن تولوا، أي لم يستمعوا إليك يا محمد، ولم يتبعوك، فإن موقفهم- والعياذ بالله- ينتقل إلى الكفر؛ لأن الحق يقول عن الذين يتولون عن الله والرسول: {فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين}.

وليس هناك تفظيع أكثر من هذا.

إن كلمة (تولوا) توحي بأن الذين استمعوا إلى أوامر الحق قد نفروا وأعرضوا، فهم لم يأخذوا حكم الله، ثم منعهم الكسل من تنفيذه. لا. إنهم أعرضوا عن حكم الله- والعياذ بالله- ولذلك فقد قلت وما زلت أقول: فليحذر الذين يخالفون عن أوامر الله ألا يفرقوا بين أمر متقبل على أنه الحكم الحق وبين حمل النفس على اتباع الحكم وتنفيذه.

إياك أيها المسلم أن تنكر حكما لا تستطيع أن تحمل نفسك عليه أو لا تقدر عليه. إنك إن أنكرت تنقل نفسك من دائرة الإسلام إلى دائرة الكفر والعياذ بالله. ولكن عليك أن تؤمن بالحكم، وقل: (إنه حكم الله وهو صواب ولكني لا أستطيع أن أقدر على نفسي) إن ذلك يجعل عدم تنفيذ الحكم معصية فقط.

ويأتي الحق سبحانه بعد أن بيّن لنا أصول العقائد في قوله: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم}.. [آل عمران: 18].

وبعد أن بشر الحق المؤمنين بأنه سبحانه وتعالى يعطيهم الملك الإيماني وأنه الإله القادر، وطلاقة قدرته تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل، وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي، وبعد أن رسم سبحانه طريق محبته، فإن كنتم قد أحببتم الله للإيجاد والإمداد، وتريدون أن يحبكم فعليكم بطاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم في تنفيذ التكاليف.

وبعد أن وضع الله سبحانه وتعالى المبادئ الإيمانية عقدية وتشريعية، بعد هذا وذاك يعطي لنا نماذج تطبيقية من سلوك الخلق، ذلك أن هناك فرقا بين أن توضع نظريات ويأتي الأمر للتطبيق فلا تجد من يطبق، إن الحق لم يكلف شططا ولا عبثا، إن الله يقول لنا: أنا كلفت بالتكاليف الإيمانية ومن الخلق أمثالكم من استطاع أن يسير عليها وأن ينفذها، لذلك يعرض الحق لنا النماذج التي توضح ذلك.

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مبعوثا إلى أمة أمية، وكان الإسلام جديدا عليهم، ولذلك يعرض الحق نماذج قديمة، وهذه النماذج تؤكد لنا أننا في دين الإسلام لا نجد تعصبا، لأن الدين الذي جاء من الله على آدم عليه السلام هو الدين الذي جاء به إبراهيم عليه السلام من عند الله وهو الدين الذي نزل إلى آل عمران وموسى عليه السلام وعيسى عليه السلام.

إن الحق يعطي صفات التكريم لأهل أديان منسوبين إلى ما أنزله الله عليهم من منهج. وجاء الإسلام لينسخ بعضا مما جاء في تلك الرسالات السابقة ويضعها في منهج واحد باق إلى يوم القيامة، هو منهج الإسلام، إنه مطلق العظمة. ها هو ذا الحق يقول: {إِنَّ الله اصطفى ءَادَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العالمين}.

المصدر: موقع نداء الإيمان



https://media.gemini.media/img/large..._48_45_315.jpg

امانى يسرى محمد 13-06-2021 07:36 PM

رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة ال عمران)
 

https://www.mexatk.com/wp-content/up...8%B1%D8%A9.png
قال تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ}.. [آل عمران : 33].
إنها عدالة القرآن الكريم، إنه الحق العادل الذي ينزل على الرسول بلاغا يذكر الأبناء بطهارة أصول الآباء، ومن الخسارة أن يصير الأبناء إلى ما هم عليه. {إِنَّ الله اصطفى ءَادَمَ} وكلمة {اصطفى} تدل على اختيار مُرضٍ.
ولنا أن نسأل: هل اصطفى الحق هؤلاء الرسل، آدم ونوحاً، وآل إبراهيم، وآل عمران فكانوا طائعين، أم علم الحق أزلا أنهم يكونون طائعين فاصطفاهم؟
إن الحق علمه أزلى، وعلمه ليس مرتبا على كل شيء. وساعة أن تأتي أنت بقانونك البشرى وتتفرس في إنسان ما، وتوليه أمرا، وينجح فيه، هنا تهنئ نفسك بأن فراستك كانت في محلها، بعلم الله واقتداره؟


إن الذين اصطفاهم الله هم الذين علم الله أزلا أنهم سيكونون طائعين، وقد يقول قائل: إنهم طائعون لله بالاصطفاء، لمثل هذا القائل نرد: إنهم طائعون بالنفس العامة ويكونون في مزيد من الطاعة بعد أن يأخذوا التكليف بالنفس الخاصة، إنهم طائعون من قبل أن يأخذوا أمور التكليف، ولو تركهم الحق للأمور العقلية لاهتدوا إلى طاعته، وعندما جاءهم الأمر التكليفي ويصطفيهم الله يكونون رسلا وحملة منهج سماوي.


عندما يسمع الإنسان قول الحق: {إِنَّ الله اصطفى ءَادَمَ} فقد يتساءل عن معناها، ذلك أن من اصطفاء الله لآدم تأتي إلى الذهن بمعنى (خصه) بنفسه أو أخذه صفوة من غيره، فكيف كان اصطفاء آدم، ولم يكن هناك أحد من قبله، أو معه لأنه الخلق الأول؟
إننا يمكن أن نعرف بالعقل العادي أن اصطفاء الله لنوح عليه السلام؛ كان اصطفاء من بشر موجودين، وكذلك اصطفاء إبراهيم خليل الرحمن وبقية الأنبياء.

إذن، فكيف كان اصطفاء آدم؟
إن معنى {اصطفى ءَادَمَ}- كما قلنا- تعني أن الله قد اختاره أو أن (المصطفى عليه) يأتي منه ومن ذريته. نعم وقد جاء المصطفى عليه من ذريته، وهذا المعنى يصلح، والمعنى السابق عليه يصلح أيضا. إن الحق يقول: {إِنَّ الله اصطفى ءَادَمَ وَنُوحاً} ونحن نعلم أن سيدنا نوحاً عليه السلام واجه جماعة من الكافرين به، فأغرقهم الله في الطوفان، ونجا نوح ومن معه بأمر الله. {حتى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التنور قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول وَمَنْ آمَنَ وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ}.. [هود: 40].


إن الذين بقوا من بعد نوح عليه السلام كانوا مؤمنين، ثم تعرضوا للأغيار. وجاءت هذه الأغيار في أعقابهم، فنشأ كفر وإيمان، لماذا؟ لأن آدم عليه السلام حين خلقه الله وضع له التجربة التكليفية في الجنة، كان من الواجب أن ينقل ما علمه له الله لأبنائه.

لقد نقل آدم لهم مسائل صيانة مادتهم وعلمهم كيف يأكلون، وكيف يشربون، وغير ذلك.
وكان يجب أن تكون معهم القيم. إن آدم عليه السلام قد أدى ذلك، وعلم أبناءه كيفية صيانة مادتهم وعلمهم القيم أيضا، ولكن بمرور الزمان، ظل بعض من أبناء آدم يتخففون من التكاليف حتى اندثرت وذهبت. ومن رحمة الله بخلقه يجدد سبحانه وتعالى الرسالة ببعث رسول جديد.
والرسالة الجديدة تعطي ما كان موجودا أولا، فيما يتعلق بالعقائد والأخبار، والأشياء التي لا تتغير، وتأتي الرسالة الجديدة بالأحكام المناسبة لزمن الرسالة. فإذا ما أمكن للبشر أن يعدلوا من سياسة البشر، يظل الأمر كما هو، فإن ارتكب واحد منكرا وضرب قومه على يده، استقام أمر الرسالة وبقيت هذه الأمة على الخير. لماذا؟ لأن مصافى اليقين في النفس الإنسانية موجودة، ونحن نراها ونلمسها. إن هناك واحدا تجد مصافي اليقين في ذاته، وقد لا يقدر على نفسه، فيرتكب المعصية، وتلومه نفسه، فيرجع عن المعصية.

ومرة أخرى نجد إنسانا آخر لا يجد في نفسه مصافى اليقين، ولكنها موجودة في غيره، فنجد من يأمره بالمعروف، وينهاه عن المنكر، فإذا امتنعت المصافي الذاتية للإيمان، وكذلك امتنعت المصافي الإيمانية في المجتمع، فلا أمل هنالك، لذلك يجب أن يأتي رسول جديد، وينبه الناس بمعجزة ما.


لقد شاءت إرادة الحق سبحانه ألا يأتي رسول آخر بعد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك شهادة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بأن الله أمنها على منهج الله، فإذا مُنِعت من أي نفس مصافيها الذاتية فستبقى مصافيها الاجتماعية، ولابد أن يكون في أمة محمد ذلك؛ لأن امتناع ذلك كان يستدعي وجود نبيّ جديد.


إن الله أمن أمة محمد على منهجه، ولذلك لم يأت نبيّ بعد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. لقد أمن الحق أمة محمد فلم يمنع فيها أبدا المصافي الذاتية أو الاجتماعية، ولذلك يأتي القول الحق: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَتُؤْمِنُونَ بالله}.. [آل عمران: 110].

إن هذا توجيه لنا من الحق لنعرف أن المصافي الاجتماعية ستظل موجودة في أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، إذن فبعد حدوث الغفلة من بعد نوح عليه السلام جاء الله باصطفاءات أخرى رحمة منه بالعالمين، ويقول الحق: {إِنَّ الله اصطفى ءَادَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العالمين}. ونحن نقول على إبراهيم عليه السلام: (أبو الأنبياء) وأورد الحق نبأ بعض من أبناء آل إبراهيم، وهم آل عمران وأعطاهم ميزة.

وكلمة
(عمران) هذه حين ترد في الإسلام فلنا أن نعرف أن هناك اثنين لهما الاسم نفسه، هناك (عمران) والد موسى وهارون عليهما السلام. وهناك ( عمران) آخر. إن عمران والد موسى وهارون كان اسم أبيه (يصهر) وجده اسمه (فاهاث) ومن بعده (لاوى) ومن بعده (يعقوب)، ومن بعده (إسحق)، وبعده (إبراهيم)، أما عمران الآخر، فهو والد مريم عليها السلام.

وقد حدث إشكال عند عدد من الدارسين هو (أي العمرانين يقصده الله هنا؟)
والذي زاد من حيرة هؤلاء العلماء هو وجود أخت لموسى وهارون عليهما السلام اسمها مريم، وكانت ابنة عمران والد موسى وهارون فكلتاهما اسمها مريم بنت عمران. وكانوا في ذلك الزمن يتفاءلون باسم (مريم) لأن معناه ( العابدة)، ولما اختلفوا لم يفطنوا إلى أن القرآن قد أبان وأوضح المعنى، وكان يجب أن يفهموا أن المقصود هنا ليس عمران والد موسى وهارون عليهما السلام، بل عمران والد مريم، ومنها عيسى عليه السلام، وعمران والد مريم هو ابن ماثان، وهو من نسل سليمان، وسليمان من داود، وداود من أوشى، وأوشى من يهوذا، ويهوذا من يعقوب، ويعقوب من إسحق.


وكنا قديما أيام طلب العلم نضع لها ضبطا بالحرف، فنقول (عمعم سدئيّا) ومعناها.. عيسى ابن مريم، ومريم بنت عمران، وعمران ابن ماثان، وماثان من شليمان، من داود من أوشى وأوشى من يهوذا ويهوذا من يعقوب ويعقوب من إسحاق. لقد التبس الأمر على الكثير وقالوا: أي العمرانين الذي يقول الله في حقه هذا القول الكريم؟ ولهؤلاء نقول: إن مجيء اسم مريم عليها السلام من بعد ذلك يعني أنه عمران والد مريم، وأيضا يجب أن نفطن إلى أن الحق قد قال عن مريم: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.. [آل عمران: 37].

وزكريا عليه السلام هو ابن آذن، وآذن كان معاصرا لماثان. إن المراد هنا هو عمران والد مريم. هكذا حددنا أي العمرانين يقصد الحق بقوله: {إِنَّ الله اصطفى ءَادَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العالمين}. وعندما تقول: اصطفيت كذا على كذا، فمعنى ذلك أنه كان من الممكن أن تصطفى واحدا من مجموعة على الآخرين، ولذلك نفهم المقصود ب (على العالمين) أي على عالمي زمانهم، إنهم قوم موجودون وقد اصطفى منهم واحدا، أما الذي سيولد من بعد ذلك فلا اصطفاء عليه، فلا اصطفاء على محمد صلى الله عليه وسلم. ويقول الحق بعد ذلك: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.


المصدر: موقع نداء الإيمان


https://media.gemini.media/img/large..._39_30_857.jpg

امانى يسرى محمد 15-06-2021 02:19 PM

رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة ال عمران)
 

https://akhawat.islamway.net/forum/u...ff70ff5b0.jpeg

قال تعالى: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.. [آل عمران : 34].

حين يقول: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} فلنا أن نسأل:

هل المقصود بذلك الأنساب أم الدين والقيم؟
ولنا أن نلتفت أن الحق قد علمنا في مسألة إبراهيم عليه السلام أن الأنساب بالدم واللحم عند الأنبياء لا اعتبار لها، وإنما الأنساب المعترف بها بالنسبة للأنبياء هي أنساب القيم والدين. وكنا قد عرضنا من قبل لما قاله الحق: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي}.. [البقرة: 124].

فردها الله عليه قائلا: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين}.. [البقرة: 124].
لماذا؟
لأن الإمام هو المقتدى في الهدايات.

إذن فالمسألة ليست وراثة بالدم. وهكذا علم سيدنا إبراهيم ذلك بأن النسب للأنبياء ليس بوراثة الدم، إذن فنحن نفهم قول الحق: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} على أنها ذرية في توارثها للقيم. ونحن نسمع في القرآن: {المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بالمنكر وَيَنْهَوْنَ عَنِ المعروف وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ إِنَّ المنافقين هُمُ الْفَاسِقُونَ}.. [التوبة: 67].

إن هذا النفاق ليس أمرا يتعلق بالنسب وإنما يتعلق بالقيم، إنها كلها أمور قيمية، وحين يقال: {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي أن الله يعرف الأقوال وكذلك الأفعال والخبايا. وبعد ذلك يقول الحق: {إِذْ قَالَتِ امرأت عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً...}.



https://akhawat.islamway.net/forum/u...adc2cf039.jpeg


قال تعالى:
{إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.. [آل عمران : 35].

وعندما تقرأ (إذ) فلتعلم أنها ظرف ويُقدر لها في اللغة (اذكر)، ويقال (إذ جئتك) أي (اذكر أني جئتك). وعندما يقول الحق: {إِذْ قَالَتِ امرأت عِمْرَانَ} فبعض الناس من أهل الفتح والفهم يرون أن الحق سبحانه سميع عليم وقت أن قالت امرأة عمران: (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي)، وهم يحاولون أن يربطوا هذه الآية بما جاء قبلها، بأن الله سميع وعليم. ونقف عند قول امرأة عمران: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً}.

إننا عندما نسمع كلمة (مُحَرَّراً) فمعناها أنه غير مملوك لأحد فإذا قلنا: (حررت العبد) يعني ينصرف دون قيد عليه. أو (حررت الكتاب) أصلحت ما فيه. إن تحرير أي أمر، هو إصلاح ما فيه من فساد أو إطلاقه من أي ارتباط أو قيد. أما قولها: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} هو مناجاة لله، فما الدافع إلى هذه المناجاة لله؟

إن امرأة عمران موجودة في بيئة ترى الناس تعتز بأولادها، وأولاد الناس- كما نعلم- يحكمون حركة الناس، والناس تحكم حركة أولادهم، ويكد الناس من أجل أن يكون الأبناء عزوة، وقرة عين، ويتقدم المجتمع بذلك التواصل المادي، ولم تعجب امرأة عمران بذلك، لقد أرادت ما في بطنها محررا من كل ذلك، إنها تريده محررا منها، وهي محررة منه. وهذا يعني أنها ترغب في أن يكون ما في بطنها غير مرتبط بشيء أو بحب أو برعاية.
لماذا؟
لأن الإنسان مهما وصل إلى مرتبة اليقين، فإن المسائل التي تتصل بالناس وبه، تمر عليه، وتشغله، لذلك أرادت امرأة عمران أن يكون ما في بطنها محررا من كل ذلك، وقد يقال: إن امرأة عمران إنما تتحكم بهذا النذر في ذات إنسانية كذاتها، ونرد على ذلك بما يلي: لقد كانوا قديما عندما ينذرون ابنا للبيت المقدس فهذا النذر يستمر ما دامت لهم الولاية عليه، ويظل كما أرادوا إلى أن يبلغ سن الرشد، وعند بلوغ سن الرشد فإن للابن أن يختار بين أن يظل كما أراد والداه أو أن يحيا حياته كما يريد.

إن بلوغ سن الرشد هو اعتراف بذاتية الإنسان في اتخاذ القرار المناسب لحياته. كانت امرأة عمران لا تريد مما في بطنها أن يكون قرة عين، أو أن يكون معها، إنها تريده محررا لخدمة البيت المقدس، وكان يستلزم ذلك في التصور البشري أن يكون المولود ذكرا؛ لأن الذي كان يقوم بخدمة البيت هم الذكران.

ونحن نعرف أن كلمة (الولد) يطلق أيضا على البنت، ولكن الاستعمال الشائع، هو أن يطلق الناس كلمة (ولد) على الذكر.
لكن معنى الولد لغويا هو المولود سواء أكان ذكرا أم أنثى. وعندما نسمع كلمة (نذر) فلنفهم أنها أمر أريد به الطاعة فوق تكليف المكلف من جنس ما كلّفه به الله.

إن الله قد فرض علينا خمس صلوات، فإذا نذر إنسان أن يصلي عددا من الركعات فوق ذلك، فإن الإنسان يكون قد ألزم نفسه بأمر أكثر مما ألزمه به الله، وهو من جنس ما كلف الله وهو الصلاة. والله قد فرض صيام شهر رمضان، فإذا ما نذر إنسان أن يصوم يومي الاثنين والخميس أو صيام شهرين فالإنسان حر، ولكنه يختار نذرا من جنس ما فرض الله من تكاليف، وهو الصيام. والله فرض زكاة قدرها باثنين ونصف بالمائة، ولكن الإنسان قد ينذر فوق ذلك، كمقدار عشرة بالمائة أو حتى خمسين بالمائة.

إن الإنسان حر، ولكنه يختار نذرا من جنس ما فرض الله من تكاليف، إن النذر هو زيادة عما كلف المكلف من جنس ما كلف سبحانه. وكلمة (نذرت) من ضمن معانيها هو أن امرأة عمران سيدة تقية وورعة ولم تكن مجبرة على النذر، ولكنها فعلت ذلك، وهو أمر زائد من أجل خدمة بيت الله.

والنذر كما نعلم يعبر عن عشق العبد لتكاليف الله، فيلزم نفسه بالكثير من بعضها. ودعت امرأة عمران الله من بعد ذلك بقبول ذلك النذر فقالت: (فتقبل مني). (والتقبل) هو أخذ الشيء برضا، لأنك قد تأخذ بكره، أو تأخذ على مضض، أما أن (تتقبل) فذلك يعني الأخذ بقبول وبرضا. واستجابة لهذا الدعاء جاء قول الحق: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ}.. [آل عمران: 37].

ونلاحظ أن امرأة عمران قالت في أول ما قالت: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم}، ولم تقل: (يا الله) وهذا لنعلم أن الرب هو المتولى التربية، فساعة ينادي (ربي) فالمفهوم فيها التربية. وساعة يُنادي ب (الله) فالمفهوم فيها التكليف. إن (الله) نداء للمعبود الذي يطاع فيما يكلف به، أما (رب) فهو المتولي التربية.

قالت امرأة عمران:


{رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم}. هذا هو الدعاء،

وهكذا كانت الاستجابة:

{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ}

وبعد ذلك تكلم الحق عن الأشياء التي تكون من جهة التربية. {وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً.. وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا}. كل ذلك متعلق بالتربية وبالربوبية، فساعة نادت امرأة عمران عرفت كيف تنادي ونذرت ما في بطنها. وبعد ذلك جاء الجواب من جنس ما دعت بقمة القبول وهو الأخذ برضا.

{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ}.
فالحسن هنا هو زيادة في الرضا، لأن كلمة (قبول) تعطينا معنى الأخذ بالرضا، وكلمة (حسن) توضح أن هناك زيادة في الرضا، وذلك مما يدل على أن الله قد أخذ ما قدمته امرأة عمران برضا، وبشيء حسن، وهذا دليل على أن الناس ستلمح في تربيتها شيئا فوق الرضا، إنه ليس قبولا عاديا، إنه قبول حسن. {وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً}. مما يدل على أن امرأة عمران كانت تقصد حين نذرت ما في بطنها، ألا تربي ما في بطنها إلى العمر الذي يستطيع فيه المولود أن يخدم في بيت الله. ولكنها نذرت ما في بطنها من اللحظة الأولى للميلاد. إنها لن تتنعم بالمولود، ولذلك قال الحق: {وكفلها زكريا}، وزكريا هو زوج خالة السيدة مريم. وبعد دعاء امرأة عمران، يجيء القول الحكيم: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى...}.



https://media.gemini.media/img/large..._30_57_307.jpg


قال تعالى:
{فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}.. [آل عمران : 36].

لقد جاء هذا القول منها، لأنها كانت قد قالت إنها نذرت ما في بطنها محررا لخدمة البيت، وقولها: (محررا) تعني أنها أرادت ذكرا لخدمة البيت، لكن المولود جاء أنثى. فكأنها قد قالت: ان لم أُمَكّنْ من الوفاء بالنذر، فلأن قدرك سبق، لقد جاءت المولودة أنثى. لكن الحق يقول بعد ذلك: {والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ}. وهذا يعني أنها لا تريد إخبار الله، ولكنها تريد أن تظهر التحسر، لأن الغاية من نذرها لم تتحقق وبعد ذلك يقول الحق: {وَلَيْسَ الذكر كالأنثى}.
فهل هذا من كلامها، أم من كلام الله؟

قد قالت: {إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى}


وقال الله: {وليس الذكر كالأنثى}.

إن الحق يقول لها: لا تظني أن الذكر الذي كنت تتمنينه سيصل إلى مرتبة هذه الأنثى، إن هذه الأنثى لها شأن عظيم. أو أن القول من تمام كلامها: {إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى} ويكون قول الحق: {والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} هو جملة اعتراضية ويكون تمام كلامها {وليس الذكر كالأنثى}. أي أنها قالت: يارب إن الذكر ليس كالأنثى، إنها لا تصلح لخدمة البيت.

وليأخذ المؤمن المعنى الذي يحبه، وسنجد أن المعنى الأول فيه إشراق أكثر، إنه تصور أن الحق قد قال: أنت تريدين ذكرا بمفهومك في الوفاء بالنذر، وليكون في خدمة البيت، ولقد وهبت لك المولود أنثى، ولكني سأعطي فيها آية أكبر من خدمة البيت، وأنا أريد بالآية التي سأعطيها لهذه الأنثى مساندة عقائد، لا مجرد خدمة رقعة تقام فيها شعائر.

إنني سأجعل من هذه الآية مواصلة لمسيرة العقائد في الدنيا إلى أن تقوم الساعة. ولأنني أنا الخالق، سأوجد في هذه الأنثى آية لا توجد في غيرها، وهي آية تثبت طلاقة قدرة الحق، ولقد قلت من قبل: إن طلاقة القدرة تختلف عن القدرة العادية، إن القدرة تخلق بأسباب، ولكن من أين الأسباب؟ إن الحق هو خالق الأسباب أيضا.

إذن فما دام الخالق للأسباب أراد خلقا بالأسباب فهذه إرادته. ولذلك أعطانا الحق القدرة على رؤية طلاقة قدرته؛ لأنها عقائد إيمانية، يجب أن تظل في بؤرة الشعور الإيماني، وعلى بال المؤمن دائما. لقد خلق الله بعضا من الخلق بالأسباب كما خلقنا نحن، وجمهرة الخلق عن طريق التناسل بين أب وأم، أما خلق الحق لآدم عليه السلام فقد خلقه بلا أسباب.




ونحن نعلم أن الشيء الدائر بين اثنين له قسمة عقلية ومنطقية، فما دام هناك أب وأم، ذكر وأنثى، فسيجيء منهما تكاثر..

إن الحق يقول: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.. [الذاريات: 49].
وعندما يجتمع الزوجان، فهذه هي الصورة الكاملة، وهذه الأولى في القسمة المنطقية والتصور العقلي، وإما أن ينعدم الزوجان فهذه هي الثانية في القسمة المنطقية والتصور العقلي.
أو أن ينعدم الزوج الأول ويبقى الطرف الثاني، وهذه هي الثالثة في القسمة المنطقية والتصور العقلي، أو أن ينعدم الزوج الثاني ويبقى الطرف الأول، وهذه هي الرابعة في القسمة المنطقية والتصور العقلي.
تلك إذن أربعة تصورات للقسمة العقلية. وجميعنا جاء من اجتماع العنصرين، الرجل والمرأة.


أما آدم فقد خلقه الله بطلاقة قدرته ليكون السبب. وكذلك تم خلق حواء من آدم. وأخرج الحق من لقاء آدم وحواء نسلا. وهناك أنثى وهي مريم ويأتي منها المسيح عيسى ابن مريم بلا ذكر. وهذه هي الآية في العالمين، وتثبت قمة عقدية. فلا يقولن أحد: ذكراً، أو أنثى، لأن نية امرأة عمران في الطاعة أن يكون المولود ذكرا، وشاء قدر ربكم أن يكون أسمى من تقدير امرأة عمران في الطاعة، لذلك قال: {وَلَيْسَ الذكر كالأنثى}. أي أن الذكر لن يصل إلى مرتبة هذه الأنثى.


وقالت امرأة عمران: {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم}. إن امرأة عمران قالت ما يدل على شعورها، فحينما فات المولودة بأنوثتها أن تكون في خدمة بيت الله فقد تمنت امرأة عمران أن تكون المولودة طائعة، عابدة، فسمتها (مريم) لأن مريم في لغتهم- كما قلنا- معناها (العابدة).

وأول ما يعترض العبودية هو الشيطان. إنه هو الذي يجعل الإنسان يتمرد على العبودية. إن الإنسان يريد أن يصير عابدا، فيجيء الشيطان ليزين له المعصية. وأرادت إمرأة عمران أن تحمي ابنتها من نزغ الشيطان لأنها عرفت بتجربتها أن المعاصي كلها تأتي من نزغ الشيطان، وقد سمتها (مريم) حتى تصبح (عابدة لله)، ولأن إمرأة عمران كانت تمتلك عقلية إيمانية حاضرة وتحمل المنهج التعبدي كله لذلك قالت: {وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم}. إن المستعاذ به هو الله، والمستعاذ منه هو الشيطان، وحينما يدخل الشيطان مع خلق الله في تزيين المعاصي، فهو يدخل مع المخلوق في عراك، ولكن الشيطان لا يستطيع أن يدخل مع ربه في عراك، ولذلك يقال عن الشيطان إنه إذا سمع ذكر الله فإنه يخنس أي يتراجع، ووصفه القرآن الكريم بأنه (الخنَّاس)، إن الشيطان إنما ينفرد بالإنسان حين يكون الإنسان بعيدا عن الله، ولذلك فالحق يُعَلِّمُ الإنسان: {وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.. [الأعراف: 200].


إن الشيطان يرتعد فرقا ورعشة من الإستعاذة بالله. وعندما يتكرر ارتعاد الشيطان بهذه الكلمة؛ فإنه يعرف أن هذا الإنسان العابد لن يحيد عن طاعة الله إلى المعاصي. وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يجيء الرجل امرأته، ومجيء الأهل هو مظنة لمولود قد يجيء، فيقول العبد: (اللهم جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتني) (من دعاء الرسول).


إن من يقول هذا القول قبل أن يحدث التخلق فلن يكون للشيطان ولاية أو قدرة على المولود الذي يأتي بإذن الله. ولذلك قالت إمرأة عمران: {وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم}. والذرية قد يفهمها الناس على أنها النسل المتكاثر، ولكن كلمة ذرية تطلق على الواحد وعلى الاثنين، وعلى الثلاثة أو أكثر. والذرية هنا بالنسبة لمريم عليها السلام هي عيسى عليه السلام، وتنتهي المسألة. وبعد دعاء إمرأة عمران {وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم} يجيء القول الحق: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا...}.



https://media.gemini.media/img/large..._34_21_182.jpg





قال تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.. [آل عمران : 37].

وقد عرفنا القبول الحسن والإنبات الحسن، أما قوله الحق:
{وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} فهذا يعني أن المسألة جاءت من أعلى، إنه الرب الذي تقبل بقبول حسن، وهو الذي أنبتها نباتا حسنا. إذن، فرعاية زكريا لها إنما جاءت بأمر من الله. والدليل على ما حدث عند كفالة مريم. لقد اجتمع كبار القوم رغبة في كفالتها وأجروا بينهم قرعة من أجل ذلك. وساعة تجد قرعة، أو إسهاما. فالناس تكون قد خرجت من مراداتها المختلفة إلى مراد الله. فعندما نختلف على شيء فإننا نجري قرعة، ويخصص سهم لكل مشترك فيها، ونرى بعد ذلك من الذي يخرج سهمه، ويلجأ الناس لهذا الأمر؛ ليمنعوا هوى البشر عن التدخل في الاختيار، ويصبح الأمر خارجا عن مراد البشر إلى مراد الله سبحانه وتعالى، وهذا ما حدث عند كفالة زكريا لمريم. ولذلك فالحق يقول لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}.. [آل عمران: 44].

إذن فالكفالة لمريم أخذت لها ضجة، وهذا دليل على أنهم اتفقوا على إجراء قرعة بالنسبة لكفالتها، ولا يمكن أن يكونوا قد ذهبوا إلى هذه القرعة إلا إذا كان قد حدث تنازع بينهم، عن أيهم يكفل مريم، ومن فضل الله أن زكريا عليه السلام كان متزوجا من (إشاع) (أخت) (حنة) وهي أم مريم، فهو زوج خالتها.

وكلمة
(أقلامهم) قال فيها المفسرون: إنها القداح التي كانوا يصنعونها قديما، أو الأقلام التي كتبوا بها التوراة، فرموها في البحر، فمن طفا قلمه لم يأخذ رعاية مريم، ومن غرق قلمه في البحر فهو الذي فاز بكفالة مريم. إذن فهم قد خرجوا عن مراداتهم إلى مراد الله.

والخروج عن المرادات، والخروج عن الأهواء بجسم ليس له اختيار- كقداح القرعة- لا يوجد في النفس غضاضة. لكن لو كان هناك من سيأخذ رعاية مريم بالقوة والغضب فلابد أن يجد نفوس الآخرين وقد امتلأت بالمرارة أو الغصب. ولذلك فقد كان سائدا في ذلك العصر عملية إجراء السهام إذا ما خافوا أن يقع الظلم على أحد أو أن يساء الظن بأحد، وهناك قصة سيدنا يونس عندما قاربت السفينة على الغرق، وكان لابد لإنقاذها أن ينزل واحد إلى البحر، وجاء القول الحكيم: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المرسلين إِذْ أَبَقَ إِلَى الفلك المشحون فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المدحضين فالتقمه الحوت وَهُوَ مُلِيمٌ فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}.. [الصافات: 139-144].

كان لابد أن ينزل واحد من تلك السفينة، لذلك تم إجراء قرعة بالسهام حتى لا تقوم معركة بين الموجودين على ظهر السفينة، وحتى لا تكون الغلبة للأقوياء، ولكن القرعة حمت الناس من ظلم بعضهم بعضا.

قالوا: لنجر قرعة السهام، فمن يخرج سهمه فهو الذي يلقى به، وكان على يونس عليه السلام أن ينزل إلى اليم فيلتقمه الحوت. ولأنه من المسبحين فإن الله ينقذه. لقد قبل يونس عليه السلام اختيار الله ولم ينس تسبيح الله فكان في ذلك الإنقاذ له. وهكذا نقرأ قول الله لنفهم أن كفالة زكريا كانت باختيار الله. {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا}.

وكلمة (كفلها) أي تولى كل مهمة تربيتها، هذه هي الكفالة، ونحن نعرف أن الكفيل في عرفنا هو الضامن، والضامن هو من يسد القرض عندما يعجز الإنسان عن السداد، وقوله الحق: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} يعطينا المعنى الواضح بأن زكريا عليه السلام هو الذي قام برعاية شئون مريم.

ويتابع الحق الكريم قوله:
{كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً} إنه لم يدخل مرة واحدة، بل دخل عليها المحراب مرات متعددة. وكان زكريا عليه السلام كلما دخل على مريم يجد عندها الرزق، ولذلك كان لابد أن يتساءل عن مصدر هذا الرزق، ولابد أن يكون تساؤله معبرا عن الدهشة، لذلك يجيء القول الحق على لسان زكريا: {أنى لَكِ هذا}.

وساعة أن تسمع {أنى لَكِ هذا} فهذا يدل على أنه قام بعمل محابس على المكان الذي توجد به مريم، وإلا لظن أن هناك أحدا قد دخل على مريم، وكما يقولون: فإن زكريا كان يقفل على مريم الأبواب. وإلا لو كانت الأبواب غير مغلقة لظن أن هناك من دخل وأحضر لها تلك الألوان المتعددة من الرزق.

والرزق هو ما ينتفع به- بالبناء للمجهول- وعندما يقول زكريا عليه السلام: {أنى لَكِ هذا}. فلنا أن نتذكر ما قلناه سابقا من أن أي إنسان وكله الله على جماعة ويرى عندهم ما هو أزيد من الطاقة أو حدود الداخل، فلابد أن يسأل كُلاًّ منهم: من أين لك هذا؟ ذلك أن فساد البيوت والمجتمعات إنما يأتي من عدم الإهتمام بالسؤال وضرورة الحصول على إجابة على السؤال المحدد: من أين لك هذا؟

إن الذي يدخل بيته ويجد ابنته ترتدي فستانا مرتفع الثمن ويفوق طاقة الأسرة، أو يجد ابنه قد اشترى شيئا ليس في طاقة الأسرة أن تشتريه، هنا يجب أن يتوقف الأب أو الولي ليسأل: من أين لك هذا؟ إن في ذلك حماية لأخلاق الأسرة من الإنهيار أو التحلل. فلو فطن كل واحد أن يسأل أهله ومن يدخلون في كفالته- (من أين لك هذا؟) لعرف كل تفاصيل حركتهم، لكن لو ترك الحبل على الغارب لفسد الأمر.

وقول زكريا: (أنّى لك هذا؟) هو سؤال محدد عن مصدر هذا الرزق، ولننظر إلى إجابتها: {قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله} ثم لا تدع البديهة الإيمانية عند سيدنا زكريا دون أن تذكره أنها لا تنسى حقيقة واضحة في بؤرة شعور كل مؤمن: {إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} وأثارت هذه المسألة في نفس زكريا نوازع شتى؛ إنها مسألة غير عادية، لقد أخبرته مريم أن الرزق الذي عندها هو من عند الله الذي يرزق من يشاء بغير حساب، إنه الإله هو القادر على أن يقول: (كن) فيكون.

وهنا ذكر زكريا نفسه، وكأن نفسه قد حدثته: إذا كانت للقدرة طلاقة في أن تفعل بلا أسباب، وتعطي من غير حساب، فأنا أريد ولدا يخلفني، رغم أنني على كبر ورغم بلوغي من السن عتيّا، وامرأتي عاقر. إن مسألة الرزق الذي وجده زكريا كلما دخل على مريم هي التي نبهت زكريا إلى ما يتمنى ويرغب.

ونحن نعلم أن المعلومات التي تمر على خاطر النفس البشرية كثيرة، ولكن لا يستقر في بؤرة الشعور. ومعلومات في حاشية الشعور يتم استدعاؤها عند اللزوم، فلما وجد زكريا الرزق المنوع عند مريم وقالت له عن مصدره: {هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. هنا تساءل زكريا: كيف فاتني هذا الأمر؟ ولذلك يقول الحق عن زكريا: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ...}.

المصدر نداء الايمان


https://media.gemini.media/img/large..._15_25_912.jpg

امانى يسرى محمد 16-06-2021 01:09 PM

رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة ال عمران)
 

https://forum.islamstory.com/data:im...AiIgCIiA//2Q==


قال تعالى:
{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ}.. [آل عمران : 38].

إنها ساعة أن قالت له: إن الرزق من عند الله، وأنه الحق الذي يرزق من يشاء بغير حساب، هنا أيقظت فيه القضية الإيمانية فجاءت أمنيته إلى بؤرة الشعور، فقال زكريا لنفسه: فلنطلب من ربنا أن يرزقنا ما نرجوه لأنفسنا، وما دام قد قال هذا القول فلابد أنه قد صدق مريم في قضيتها، بأن هذا الرزق الذي يأتيها هو من عند الله، ودليل آخر في التصديق هو أنه لابد وقد رأى أن الألوان المتعددة من الرزق التي توجد عند مريم ليست في بيئته، أو ليست في أوانها؛ وكل ذلك في المحراب.

ونحن نعرف أن المحراب كلمة يراد بها بيت العبادة. يقول الحق: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كالجواب وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور}.. [سبأ: 13].

أو(المحراب) وهو مكان الإمام في المسجد، أو هو حجرة يصعد إليها بسلم، كالمبلغات التي تقام في بعض المساجد. وما دامت مريم قد أخبرت زكريا وهي في المحراب بأن الرزق من عند الله، وأيقظت بذلك تلك القضية الإيمانية في بؤرة شعوره، فماذا يكون تصرفه؟ هنا دعا زكريا أثناء وجوده في المحراب. {رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدعآء} إنه هنا يطلب الولد.

ولكن لابد لنا أن نلاحظ ما يلي:

- هل كان طلبه للولد لما يطلبه الناس العاديون من أن يكون زينة للحياة أو (عزوة) أو ذكرا؟
لا، إنه يطلب الذرية الطيبة، وذكر زكريا الذرية الطيبة تفيد معرفته أن هنالك ذرية غير طيبة. وفي قول زكريا الذي أورده الحق: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ}.. [مريم: 6].

أي أن يكون دعاء لإرث النبوة وإرث المناهج وإرث القيم، هكذا طلب زكريا الولد. لقد طلبه لمهام كبيرة، وقول زكريا: (رب هب) تعني أنه استعطاء شيء بلا مقابل، إنه يعترف.
أنا ليس لي المؤهلات التي تجعل لي ولدا؛ لأني كبير السن وامرأتي عاقر، إذن فعطاؤك يارب لي هو هبة وليس حقا، وحتى الذي يملك الاستعداد لا يكون هذا الأمر حقا له، فلابد أن يعرف أن عطاء الله له يظل هبة، فإياك أن تظن أن اكتمال الأسباب والشباب هي التي تعطي الذرية، إن الحق سبحانه ينبهنا ألاّ نقع في خديعة وغش أنفسنا بالأسباب. {لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}.. [الشورى: 49-50].


إن في ذلك لفتا واضحا وتحذيراً محدداً ألا نفتتن بالأسباب، إذن فلكل عطاء من الله هو هبة، والأسباب لا تعطي أحدا ما يريد.

إن زكريا يقول: {رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ} وساعة أن تقول من: (لدنك) فهو يعني (هب لي من وراء أسبابك). لماذا؟ لأن الكل من الله.

ولكن هناك فرقا بين عطاء الله بسبب، كأن يذهب إنسان ليتعلم العلم ويمكث عشرين عاما ليتعلم، وهناك إنسان يفيض الله عليه بموهبة ما، ولذلك يقول أهل الإشراقات: إنه علم لدنى، أي من غير تعب، وساعة أن نسمع (من لدن) أي انعزلت الأسباب، كان دعاء زكريا هو {رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ} وكلمة (هب) توضح ما جاء في سورة مريم من قول زكريا: {قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً}.. [مريم: 8].

إن (هب) هي التي توضح لنا هذه المعاني؛ هذا كان دعاء زكريا: {رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدعآء} فهل المراد أن يسمع الله الدعاء؟ أم أن يجيب الله الدعاء؟ إنه يضع كل أمله في الله، وكأنه يقول: إنك يارب من فور أن تسمعني ستجيبني إلى طلبي بطلاقة قدرتك. لماذا؟
لأنك يارب تعلم صدق نيتي في أنني أريد الغلام لا لشيء من أمور كقرة العين، والذكر، والعز، وغيرها، إنما أريد الولد ليكون وارثا لي في حمل منهجك في الأرض، وبعد ذلك يقول الحق: {فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب...}.


https://media.gemini.media/img/large..._35_18_268.jpg



قال تعالى: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ}.. [آل عمران : 39].

هل كل الملائكة اجتمعوا أو نادوا زكريا؟
لا، لأن جبريل عليه السلام الذي ناداه. ولماذا جاء القول الحق هنا بأن الملائكة هي التي نادته؟
لقد جاء هذا القول الحق لنفطن إلى شيء هو، أن الصوت في الحدث- كالإنسان- له جهة يأتي منها، أما الصوت القادم من الملأ الأعلى فلا يعرف الإنسان من أين يأتيه، إن الإنسان يسمعه وكأنه يأتي من كل الجهات، وكأن هناك ملكا في كل مكان.


والعصر الحديث الذي نعيشه قد ارتقى في الصوتيات ووصل لدرجة أن الإنسان أصبح قادرا على جعل المؤثر الصوتي يحيط بالإنسان من جهات متعددة، إذن فقوله الحق: {فَنَادَتْهُ الملائكة} فهذا يعني أن الصوت قد جاء لزكريا من جميع الجهات.


{فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصالحين}.. [آل عمران: 39].
لقد نادته الملائكة في أورع لقاءاته مع ربه أو هو حينما دعا أخذ ما علمه الله للأنبياء إذا حزبهم أمر قاموا إلى الصلاة. أليس طلبه من الله؟ إذن فليقف بين يدي الله. وليجربها كل واحد منا عندما يصعب عليك أي شيء، وتتأزم الأمور، وتمتنع الأسباب، فليقم ويتوضأ وضوءا جديدا ويبدأه بالنية حتى ولو كان متوضئا. وليقف بين يدي الله، وليقل-إنه أمر يارب عزّ عليّ في أسبابك، وليصل بخشوع، وأنا أجزم بأن الإنسان ما إن يسلم من هذه الصلاة إلاّ ويكون الفرج قد جاء.
ألم نتلق عن رسول الله هذا السلوك البديع؟
إنه كلما حزبه أمر قام إلى الصلاة؟

ومعنى حزبه أمر، أي أن أسبابه ضاقت، لذلك يذهب إلى الصلاة لخالق الأسباب، إنها ذهاب إلى المسبب. وبدلا من أن تلف وتدور حول نفسك، اذهب إلى الله من أقصر الطرق وهو الصلاة، لماذا تتعب نفسك أيها العبد ولك رب حكيم؟ وقديما قلنا: إن من له أب لا يحمل هما، والذي له رب أليس أولى بالإطمئنان؟

إن زكريا قد دعا الله في الأمر الذي حزبه، وبمجرد أن دعا في الأمر الذي حزبه، قام إلى الصلاة، فنادته الملائكة، وهو قائم يصلي، إن الملائكة لم تنتظر إلى أن ينتهي من صلاته، {فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ}.


والبشارة هي إخبار بخير زمنه لم يأت، فإذا كانت البشارة بخير زمنه لم يأت فلنر من الذي يخبر بالبشارة؟ أمن يقدر على إيجاده أم من لا يقدر؟ فإذا كان الله هو الذي يبشر، فهو الذي يقدر، لذلك فالمبشر به قادم لا محالة، {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى} لقد قال له الله: سأعطيك. وزيادة على العطاء سماه الله ب {يحيى} وفوق كل ذلك: {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله}.



ولننظر إلى دقة الحق حين يقول:
{بيحيى مُصَدِّقاً}.
هذا دليل على أنه سيعيش بمنهج الله وما يعرفه من الطاعات سيسير في هذا الطريق وهو مصدق، وهو سيأتي بكلمة من الله، أو هو يأتي ليصدق بكلمة من الله، لأن سيدنا يحيى هو أول من آمن برسالة عيسى عليه السلام.

وهو موصوف بالقول الحق:
{وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصالحين}.
أي ممنوعا عن كل ما حُرم عليه، أو ممنوعا عن قمة الغرائز وهي الشهوة، وهو نبيّ، أي قدوة في اتباع الرسول الذي يجيء في عصره، لقد دعا زكريا، وقام ليصلي، وتلقى البشارة بيحيى، وهنا ارتجت الأمور على بشرية زكريا، ويصوره الحق






https://media.gemini.media/img/large...7_17_6_547.jpg



قال تعالى: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}.. [آل عمران : 40].

إن زكريا- وهو الطالب- يصيبه التعجب من الاستجابة فيتساءل. كيف يكون ذلك؟
والحق يورد ذلك ليعلمنا أن النفس البشرية دائما تكون في دائرات التلوين، وليست في دائرات التمكين، وذلك ليعطي الله لخلقه الذين لا يهتدون إلى الصراط المستقيم الأسوة في أنه إذا ما حدث له ابتلاء فعليه الرجوع إلى الله، فيقول زكريا: {أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر وامرأتي عَاقِرٌ}.

إن بلوغ الكبر ليس دليلا على أنه عاجز عن الإنجاب لأنه يكون كبير العمر، وقادرا على إخصاب امرأة، ذلك أن الإخصاب بالنسبة لبعض الرجال ليس أمرا عسيرا مهما بلغ من العمر إن لم يكن عاقرا، ولكن المرأة هي العنصر المهم، فإن كانت عاقرا، فذلك قمة العجز في الأسباب.

ولو أن زكريا قال فقط: {وامرأتي عَاقِرٌ} لكان أمرا غير مستحب بالنسبة لزوجته، ولكان معنى ذلك أنه نسب لنفسه الصلاحية وهي غير القادرة.


إنه أدب النبوة وهو أدب عال؛ لذلك أوردها من أولها: {وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر وامرأتي عَاقِرٌ} ولنر دقة القول في: {بَلَغَنِي الكبر} ‘ إنه لم يقل: (بلغت الكبر) بل يقول: إن الكبر هو الذي جاءني ولم أجيء أنا إلى الكبر؛ لأن بلوغ الشيء يعني أن هناك إحساسا ورغبة في أن تذهب إليه، وذكر زكريا {وامرأتي عَاقِرٌ} هو تضخيم لطلاقة القدرة عند من يستمع للقصة، لقد أورد كل الخوالج البشرية، وبعد ذلك يأتي القول الفصل: {قَالَ كَذَلِكَ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} إنها طلاقة القدرة التي فوق الأسباب لأنها خالقة الأسباب. ويقول زكريا: {قَالَ رَبِّ اجعل لي آيَةً...}.



https://media.gemini.media/img/large..._13_33_229.jpg






قال تعالى: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ}.. [آل عمران : 41].



إن زكريا يطلب علامة على أن القول قد انتقل إلى فعل. {قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً}.. [مريم: 8- 9].



لقد كان هذا القول تأكيدا لا شك فيه، فبمجرد أن قال الرب فقد انتهى الأمر. فماذا يريد زكريا من بعد ذلك؟ إنه يطلب آية، أي علامة على أن يحيى قد تم إيجاده في رحم أمه، وما دامت المرأة قد كبرت فهي قد انقطع عنها الحيض، ولابد أنه عرف الآية لأنه يعرف مسبقا أنها عاقر. لكن زكريا لم يرغب أن يفوت على نفسه لحظة من لحظات هبات الله عليه، وما دام الحمل قد حدث فهنا كانت استغاثة زكريا، لا تتركني يارب إلى أن أفهم بالعلامات الظاهرة المحسة، لأنني أريد أن أعيش من أول نعمتك علىّ في إطار الشكر لك على النعمة، فبمجرد أن يحدث الإخصاب لابد أن أحيا في نطاق الشكر؛ لأن النعمة قد تأتي وأنا غير شاكر.


إنه يطلب آية ليعيش في نطاق الشكر، إنه لم يطلب آية لأنه يشك- معاذ الله- في قدرة الله، ولكن لأنه لا يريد أن يفوت على نفسه لحظة النعمة من أول وجودها إلا ومعها الشكر عليها، والذي يعطينا هذا المعنى هو القول الحق: {قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً واذكر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بالعشي والإبكار}. لابد أن معناها أنه يرغب في الكلام فلا يستطيع.




إن هناك فارقا بين أن يقدر على الكلام ولا يتكلم، وبين ألا يقدر على الكلام. وما دامت الآية هبة من الله. فالحق هو الذي قال له: سأمنعك من أن تتكلم، فساعة أن تجد نفسك غير قادر على الكلام فاعرف أنها العلامة، وستعرف أن تتكلم مع الناس رمزا، أي بالإشارة، وحتى تعرف أن الآية قادمة من الله، وأن الله علم عن عبده أنه لا يريد أن تمر عليه لحظة مع نعمة الله بدون شكر الله عليها، فإننا نعلم أن الله سينطقه.. {واذكر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بالعشي والإبكار}.




لقد أراد زكريا أن يعيش من أول لحظة مع نعمة المنعم شكرا، وجعل كل وقته ذكرا، فلم ينشغل بالناس أو بكلام الناس، وذكر الرب كثيرا هو ما علمه سبحانه عن زكريا عندما طلب الآية ليصحبها دائما بشكر الله عليها، إن قوله: {واذكر رَّبَّكَ كَثِيراً} تفيد أن زكريا قادر على الذكر وغير قادر على كلام الناس، لذلك لا يريد الله أن يشغله بكلام الناس، وكأن الله يريد أن يقول له: ما دمت قد أردت أن تعيش مع النعمة شكرا فسأجعلك غير قادر على الكلام مع الناس لكنك قادر على الذكر.




والذكر مطلقا هو ذكر الله بآلائه وعظمته وقدرته وصفات الكمال له، والتسبيح هو التنزيه لله، لأن ما فعله الله لا يمكن أن يحدث من سواه، فسبحان الله، معناها تنزيه لله، لأنه القادر على أن يفعل ما لا تفعله الأسباب ولا يقدر أحد أن يصنعه.. إنه يريد أن يشكر الحق الذي يرزق من يشاء بغير حساب. تلك اللفتة.. التي جاءت من قبل من مريم لزكريا.




وزكريا كما نعلم هو الكفيل لها، فكونها تنطق بهذه العبارة دلالة على أن الله مهد لها بالرزق، يجيئها من غير زكريا، بأنها ستأتي بشيء من غير أسباب. وكأن التجربة قد أراد الله أن تكون من ذاتها لذاتها؛ لأنها ستتعرض لشيء يتعلق بعرض المرأة، فلابد أن تعلم مسبقا أن الله يرزق من يشاء بغير حساب، وبدون أسباب. فإن جاءت بولد بدون سبب من أبوة فلتعلم أن الله يرزق من يشاء بغير حساب.




فلما سمع زكريا منها ذلك قال: ما دام الله يرزق من غير حساب ويأتي بالأشياء بلا أسباب فأنا قد بلغت من الكبر عتيا، وامرأتي عاقر، فلماذا لا أطلب من ربي أن يهبني غلاما؟

إذن فمقولة مريم: {إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} قد لفتت زكريا، ونبهت إيمانا موجودا في أعماقه وحاشية شعوره، ولا نقول أوجدت إيمانا جديدا لزكريا بأن الله يرزق من يشاء بغير حساب، ولكنها أخرجت القضية الإيمانية من حاشية الشعور إلى بؤرة الشعور، فقال زكريا: ما دام الأمر كذلك فأنا أسأل الله أن يهبني غلاما.. وقول زكريا: {هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} دل على أنه وزوجته لا يملكان اكتساب الأبوة والأمومة ولذلك طلب الهبة من الله. والهبة شيء بدون مقابل.




فلما سأل الله ذلك استجاب الله له، وقال له سبحانه: سأهبك غلاما بدون أسباب من خصوبتك في التلقيح أو خصوبة الزوجة في الحمل، وما دامت المسألة ستكون بلا أسباب وأنا- الخالق- سأتولى الإيجاب ب (كن) ولمعنى سام شريف سأمنحكم شيئا آخر تقومون به أنتم معشر الآباء والأمهات- عادة- إنه تسمية المولود، فأفاض الحق عليهم نعمة أخرى وهي تسمية المولود بعد أن وهبه لهما.. هنا وقفة عند الهبة بالاسم. {فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصالحين}.. [آل عمران: 39].



حين يولد للناس ولد فهم يسمونه، فالتسمية أمر شائع في عادات الناس. ولكن من يهمهم أمر الوليد حينما يقبلون على تسميته؛ فهم يحاولون أن يتفاءلوا؛ فيسموه اسما يرجون أن يتحقق في المسمى، فيسمونه (سعيدا) أملا في أن يكون سعيدا، أو يسمونه (فضلا) أو يسمونه (كريما).


إنهم يأتون بالاسم الذي يحبون أن يجدوا وليدهم على صفته وذلك هو الأمل منهم ولكن أتأتي المقادير على وفق الآمال؟


قد يسمونه سعيدا، ولا يكون سعيدا. ويسمونه فضلا، ولا يكون فضلا. ويسمونه عزا، ولا يكون عزا. ولكن ماذا يحدث حين يسمى الله سبحانه وتعالى؟ لابد أن يختلف الموقف تماما، فإذا قال اسمه {يحيى} دل على أنه سيعيش. وقديما قال الشاعر حينما تفاءل بتسمية ابنه يحيى:



فسميته يحيا ليحيا فلم يكن *** لرد قضاء الله فيه سبيل


كان الشاعر قد سمى ابنه يحيى أملا أن يحيا، ولكن الله لم يرد ذلك، فمات الابن. لماذا؟ لأن المسمىِّ من البشر ليس هو الذي يُحْيِي، إن المسمى إنسان قدرته عاجزة، ولكن (المحيى) له طلاقة القدرة، فحين يسمى من له طلاقة القدرة على إرادة أن يحيا فلابد من أن يحيا حياة متميزة؟ وحتى لا تفهم أن الحياة التي أشار الله إليها بقوله: (اسمه يحيى) بأنها الحياة المعروفة للبشر عادة- لأن الرجل حينما يسمى ابنه (يحيى) يأمل أن يحيا الابن متوسط الأعمار، كما يحيا الناس ستين عاما، أو سبعين، أو أي عدد من السنوات مكتوبة له في الأزل.




لكن الله حينما يسمى (يحيى) فانه لا يأخذ (يحيى) على قدر ما يأخذه الناس، بل لابد أن يعطيه أطول من حدود أعمار الناس، ويهيء له الحق من خصومه ومن أعدائه من يقتله ليكون شهيدا، وهو بالشهادة يصير حيا، فكأنه يحيا دائما، فالشهداء أحياء عند ربهم يرزقون.



وهكذا أراد الله ليحيى عليه السلام أن يحيا كحياة الناس، ويحيا أطول من حياة الناس إلى أن تقوم الساعة، وأيضا نأخذ ملحظا في أن زكريا حينما بُشِّر بأن الله سيهبه غلاما ويسميه يحيى، نجده قد استقبلها بالعجب. كيف يستقبل زكريا مسألة الرزق بالولد متعجبا مع أنه رآها في الرزق الذي كان يجده عند مريم؟ {يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.


ولنا أن نقول: أكنت تحب أن يمر مثل هذا الأمر الخارق للعادة والخارق للناموس على سيدنا زكريا كأنه أمر عادي لا يندهش له ولا يتعجب؟ لا، لابد أن يندهش ويتعجب لذلك قال: {رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ}. فكأن الدهشة لفتته إلى أنه ستأتي آية عجيبة، ولو لم تكن تلك الدهشة لكانت المسألة رتيبة وكأنها أمر عادي. إذن، فهو يلفتنا إلى الأمر العجيب الذي خصه الله به. وأيضا جاءت المسألة على خلاف ناموس التكاثر والإنجاب والنسل: {وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر وامرأتي عَاقِرٌ}.




إن المسألة كلها تفضل وهبة من الله.



فلما جاءته البشارة، لم يقل الله له: إنني سأهبك الغلام واسمه يحيى من امرأتك هذه، أو وأنت على حالتك هذه. فيتشكك ويتردد ويقول: أترى يأتي الغلام الذي اسمه (يحيى) منى وأنا على هذه الحالة، امرأتي عاقر وأنا قد بلغت هذا الكبر، أو ربما ردنا الله شبابا حتى نستطيع الإنجاب، أو تأتي امرأة أخرى فأتزوجها وأنجب.


إذن فالعجب في الهيئة التي سيصير عليها الإنجاب فقوله: {أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقد بلغني الكبر وامرأتي عَاقِراً} هذا التساؤل من زكريا يهدف به إلى معرفة الهيئة أو الحالة التي سيأتي بها الإنجاب، لأن الإنجاب يأتي على حالات متعددة. فلما أكد الله ذلك قال: (كذلك) ماذا تعني كذلك؟ إنها تعني أن الإنجاب سيأتي منك ومن زوجك وأنتما على حالكما، أنت قد بلغت من الكبر عتيا، وامرأتك عاقر. لأن العجيبة تتحقق بذلك، أكان من المعقول أن يردهما الله شبابا حتى يساعداه أن يهبهما الولد؟ لا. لذلك قال الحق: {كَذَلِكَ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ}. أي كما أنتما، وعلى حالتكما.




لقد جعل الحق الآية ألا يكلم زكريا الناس ثلاثة أيام إلا بالإشارة، وقد يكون عدم الكلام في نظر الناس مرضا لا، إنه ليس كذلك، لأن الحق يقول له: {واذكر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بالعشي والإبكار} إن الحق يجعل زكريا قادرا على التسبيح، وغير قادر على الكلام. وهذه قدرة أخرى من طلاقة قدرة الله، إنه اللسان الواحد، غير القادر على الكلام، ولو حاول أن يتكلم لما استطاع، ولكن هذا اللسان نفسه- أيضا- يصبح قادرا فقط على التسبيح، وذكر الله بالعشيّ والإبكار، ذكر الله باللسان وسيسمعه الناس، وذلك بيان لطلاقة القدرة.




وبعد ذلك ينتقل بنا الحق إلى مسألة أخرى تتعلق بمريم، لأن مريم هي الأصل في الكلام، فالرزق الذي كان يأتيها من الله بغير حساب هو الذي نبه سيدنا زكريا إلى طلب الولد، وجاء الحق لنا بقصة زكريا والولد، ثم عاد إلى قصة مريم: {وَإِذْ قَالَتِ الملائكة يامريم إِنَّ الله اصطفاك...}.

المصدر: موقع نداء الإيمان

https://media.gemini.media/img/large..._16_55_213.jpg




امانى يسرى محمد 19-06-2021 06:51 AM

رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة ال عمران)
 









https://lh5.googleusercontent.com/pr...cwPNo3Chg=s0-d



قال تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ}.. [آل عمران : 42].

{وَإِذْ قَالَتِ الملائكة}

المراد بها جبريل عليه السلام

والسبب في أن الحق يورد ذلك ب {قَالَتِ الملائكة} لأن كلام المتكلم- أي الإنسان- له- كما قلنا- زاوية انطلاق يأتي من جهتها الصوت. وتستطيع أن تتأكد من ذلك عندما يجيء لك صوت، فأنت تجد ميل أذنك لجهة مصدر الصوت، فإن جاء الصوت من ناحية أذنك اليمنى فأنت تلتفت وتميل إلى يمينك، وإذا جاءك الصوت من شمالك تلتفت إلى الشمال. لكن المتكلم هنا هو جبريل عليه السلام، ويأتي صوته من كل جهة حتى يصير الأمر عجيبا، لهذا جاء الكلام منسوبا إلى الملائكة.
فماذا قال جبريل؟
قال جبريل مبلغا عن رب العزة:
{يامريم إِنَّ الله اصطفاك وَطَهَّرَكِ واصطفاك على نِسَآءِ العالمين}
وما الاصطفاء؟
إن الاصطفاء اختيار واجتباء، وهو مأخوذ من الصفو أو الصافي، أي الشيء الخالص من الكدر. وعادة تؤخذ المعاني من المحسات، وعندما تقول الماء الصافي أي الماء غير المكدر، أو كما يقول الحق: {وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى} .. [محمد: 15].

وعندما يقول الحق: {إِنَّ الله اصطفاك وَطَهَّرَكِ واصطفاك على نِسَآءِ العالمين}
نحن هنا أمام اصطفاءين
الاصطفاء الأول ورد دون أن تسبقه كلمة (على) والإصطفاء الثاني تسبقه كلمة (على) والمقصود بالإصطفاء الأول هو إبلاغ مريم أن الله ميزها بالإيمان، والصلاح والخلق الطيب، ولكن هذا الاصطفاء الأول جاء مجردا عن (على) أي أن هذا الاصطفاء الأول لا يمنع أن يوجد معها في مجال هذا الإصطفاء آخرون، بدليل قول الحق: {إِنَّ الله اصطفى ءَادَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العالمين}.. [آل عمران: 33].

ثم أورد الحق سبحانه أنه طهرها، وجاء من بعد ذلك بالاصطفاء الثاني المسبوق ب (على) فقال {واصطفاك على نِسَآءِ العالمين} إذن فهذا خروج للرجال عن دائرة هذا الاصطفاء، ولن يكون مجال الاصطفاء موضوعا يتعلق بالرجولة؛ فهي مصطفاة على نساء العالمين، فكأنه لا توجد أنثى في العالمين تشاركها هذا الاصطفاء. لماذا؟ لأنها الوحيدة التي ستلد دون ذكر، وهذه مسألة لن يشاركها فيها أحد.

وقوله الحق: {واصطفاك على نِسَآءِ العالمين} هذا القول يجب أن ينبه في نفسها سؤالا هو: ما الذي تمتاز هي به عن نساء العالمين؟ إن الذهن ينشغل بهذا الأمر، وينشغل على أمر من وظيفة الأنثى، ولنضم هذه إلى قول الحق على لسانها: {إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ونجد أن هذه كلها إيناسات للحدث الذي سيأتي من بعد ذلك، وهو حدث يتعلق بعرضها وعفافها، فلابد أن يمهد الله له تمهيدا مناسبا حتى تتأكد من أن هذه المسألة ليس فيها شيء يخدش الكرامة.

{واصطفاك على نِسَآءِ العالمين}
ولنا أن نسأل: ما نتيجة الاصطفاء؟
لقد عرفنا أن الاصطفاء هو الاجتباء والآختيار، ويقتضي (مصطفِى) بفتح الفاء. ويقتضي (مصطفِى) بكسر الفاء. والمصطفى هو الله، لكن ما علة الاصطفاء؟ إن الذي يصطفيه الله إنما يصطفيه لمهمة، وتكون مهمة صعبة. إذن هو يصطفيه حتى يشيع اصطفاؤه في الناس. كأن الله قد خصه بالاصطفاء من أجل الناس ومصلحتهم، سواء أكان هذا الاصطفاء لمكان أم لإنسان أم لزمان ليشيع صفاؤه في كل ما اصطفى عليه. لقد اصطفى الله الكعبة من أجل ماذا؟ حتى يتجه كل إنسان إلى الكعبة. إذن فقد اصطفاها من أجل البشر وليشيع اصطفاؤها في كل مكان آخر، ولذلك قال الحق عن الكعبة: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ}.. [آل عمران: 96].

وإذا اصطفى الحق سبحانه زمانا، كاصطفائه لرمضان، فلماذا اصطفاه؟ ليشيع صفاؤه، وصفاء ما أنزل فيه في كل زمان. إذن فاصطفاء الحق للشخص أو للمكان أو للزمان هو لمصلحة بقية الناس أو الأمكنة أو الأزمنة، لماذا؟ لأن أحدا من الخلق ليس ابنا لله، وليس هناك مكان أولى بمكان عند الله. ولكن الله يصطفي زمانا على زمان، ومكانا على مكان، وإنسانا على إنسان ليشيع اصطفاء المُصطفى في كل ما اصطُفِىَ عليه. إذن فهل يجب على الناس أن يفرحوا بالمصطفى، أو لا يفرحوا به؟ إن عليهم أن يفرحوا به؛ لأنه جاء لمصلحتهم، والحق سبحانه يقول: {يامريم اقنتي لِرَبِّكِ...}.



+https://media.gemini.media/img/large..._19_29_432.jpg


قال تعالى:
{يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ}.. [آل عمران : 43].

فكأن ما تقدم من حيثيات الاصطفاء الأول، والاصطفاء الثاني، يستحق منها القنوت، أي العبادة الخالصة الخاضعة الخاشعة. وقد يقول قائل: ولماذا يصطفى الله واحدا، ليشيع اصطفاؤه في الناس؟ لأن الاصطفاء من الحق لابد أن يبرئه من كل ما يمكن أن يقع فيه نظيره من الاختيارات غير المرضية، والحق سبحانه يريده نموذجاً لا يقع منه الا الخير، والمثال الكامل على ذلك اصطفاء الحق سبحانه لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم من أول الأمر وجعله لا يفعل إلا السلوك الطيب من أول الأمر، وذلك حتى يعطينا الرسول القدوة الإيمانية في ثلاث وعشرين سنة هي مدة الرسالة المحمدية.

والحق يقول لمريم على لسان الملائكة: {يامريم اقنتي لِرَبِّكِ} إنه أمر بالعبادة الخاشعة المستديمة لربها، وكلمة {لِرَبِّكِ} تعني التربية، فكأن الاصطفاءات هي من نعم الله عليك يا مريم، وتستحق منك القنوت {واسجدي واركعي مَعَ الراكعين} و{واسجدي} أي بَالِغِي في الخشوع، والخضوع، بوضع الجبهة التي هي أشرف شيء في الإنسان على الأرض، لأن السجود هو أعلى مرتبة من الخضوع.

لكن أيعفيها هذا اللون من الخضوع مما يكون من الركوع لله مع الناس؟ لا، إنه الأمر الحق يصدر لمريم {واركعي مَعَ الراكعين} ولا يعفيك من الركوع أنك فعلت الأمر الأعلى منه في الخضوع وهو السجود، بل عليك أن تركعي مع الراكعين، فلا يحق لك يا مريم أن تقولي: (لقد أمرني الله بأمر) أعلى ولم أنفذ الأمر الأدنى.

إن الحق يأمرها أن تكون أيضا في ركب الراكعين مثلما نقرأ قوله الحق عن الكفار: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المصلين}.. [المدثر: 42-43].

إنهم كفار، فكيف يصلون؟ إنه اعتراف منهم بأنهم كفار، ولم يكونوا مسلوكين في سلك من يصل، واعتراف بانهم لم يكونوا مسلمين أو مؤمنين بالله. وهنا يسأل سائل كريم: لماذا قال سبحانه وتعالى في خطابه لمريم: {يامريم اقنتي لِرَبِّكِ واسجدي واركعي مَعَ الراكعين} ولم يقل الحق: مع الراكعات؟ هذا هو السؤال.

وإجابة على هذا السؤال نحب أن نمهد تمهيدا بسيطا إلى فلسفة الأسماء في وضعها على مسمياتها. إن الأسماء ألفاظ من اللغة تعين مسماها. والمسميات مختلفة، فمنها الجماد، ومنها النبات ومنها الحيوان، ومنها الأسماء التي تدل على عالم الغيب كالجن، والملائكة، وكل ما غيب الله. هذه الأسماء تدل على معانيها.

وهدى الله سبحانه البشر إليها بما علم آدم من الأسماء، فكيف كان باستطاعة آدم التعبير عن معطيات الأسماء بمسمياتها؟ إذن لابد أن يوجد لكل شيء اسم حتى نستطيع حين نتفاهم على الشيء أو الكائن بأن نذكر لفظا واحدا موجزاً يشير إليه.

ولو لم يكن يذكر هذا فكيف كان باستطاعة إنسان أن يتكلم مع إنسان آخر عن الجبل مثلا؟. أكان على المتكلم أن يأخذ السامع إلى الجبل ويشير إليه؟ أم يكفي أن يقول له لفظ (جبل) حتى يستحضر السامع في ذهنه صورة لهذا المسمى؟

إذن.. ففلسفة تعليم الحق للأسماء لنا أزاحت عنا عبئا كبيرا من صعوبة التفاهم. ولو لا ذلك لما استطعنا أن نتفاهم على شيء إلا إذا واجهنا الشيء وأشرنا إليه. فكلمة (جبل) وكلمة (صخر) وغيرها من الكلمات هي أسماء لمسميات.. وعندما أتكلم على سبيل المثال عن أمريكا فإنني لن آخذ السامع إليها وأشير إليه قائلا (إن هذه هي أمريكا)، لكن كلمة واحدة هي (أمريكا) تعطي السامع معنى للمسمى، فتلحق الأحكام على مسمياتها. وما دامت المسألة هكذا فلابد من وجود أسماء لمسميات، هذه الأسماء علمها الله للإنسان حتى يتفاهم بها والإنسان أصله من آدم.

وكلمة (آدم) حينما تتكلم بها تجدها في النحو مذكرة، والمذكر يقابله المؤنث. وقد خلق الحق الأعلى: الذكورة والأنوثة؛ لأن من تزاوجهما سيخرج النسل. إذن فكان لابد من التمييز بين النوعين للجنس الواحد. فالذكر والأنثى، هما بنو آدم، ومنها ينشأ التكاثر، لكن العجيب أن الله حين سمى آدم ونطقناه اسما مذكرا وسمى (حواء) ونطقناه اسما مؤنثا، وجعل سبحانه الاسم الأصيل الذي وجِدَ منه الخلق هو (نفس). لقد قال الحق: {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}.. [النساء: 1].

لقد سمى الحق آدم بكلمة نفس، وهي مؤنثة، إذن فليس معنى التأنيث أنه أقل من معنى التذكير، ولكن (التذكير) هو فقط علامة لتضع الأشياء في مسمياتها الحقيقية وكذلك التأنيث. إن الحق سبحانه يطلق على كل إنسان منا (نفس) وهي كلمة مؤنثة، وحينما تكلم الحق سبحانه كلاما آخر عن الخلق قال: {ياأيها الناس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لتعارفوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ}.. [الحجرات: 13].

وكلمة (ناس) تعني مجموع الإنسان. وهكذا نعرف أن كلمة: (إنسان) تُطلق مرة على المذكر، ومرة أخرى على المؤنث. إذن فالحق قد أورد مرة لفظا مذكرا، ومرة أخرى أطلق لفظا مؤنثا، وذلك حتى لا نقول: أن المذكر أفضل وأحسن من المؤنث، ولكن ذلك وسيلة للتفاهم فقط، ولذلك يؤكد لنا الحق سبحانه أنه قد وضع الأسماء لمسمياتها لنتعارف بها. {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لتعارفوا} .. [الحجرات: 13].

ومعنى (لنتعارف) أي أن يكون لكل منا اسمٌ يعرف به عند الآخرين.

وفي حياتنا العادية- ولله المثل الأعلى- نجد رجلا عنده أولاد كثيرون، لذلك يُطلق على كل ابن اسما ليعرفه المجتمع به، والعجيب في هذه الآية الكريمة: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لتعارفوا}. أننا نجد كلمة (شعوبا) مذكرة وكلمة (قبائل) مؤنثة. إذن فلا تمايز بالأحسن، ولكن الكلمات هنا مسميات للتعارف. والحق الأعلى يقول: {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} [العصر: 1-3].

إذن فما وضع النساء اللائي آمنّ؟ إنهن يدخلن ضمن {الذين آمَنُواْ}. ولماذا أدخل الله المؤنث في الذكر؟ لأن المذكر هو الأصل، والمؤنث جاء منه فرعا. إذن فالمؤنث هو الذي يدخل مع المذكر في الأمور المشتركة في الجنس. {يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.. [البقرة: 21].

وهذا يعني أن (المؤنث) عليه أن يدخل في تكليف العبودية لله.

والمعنى العام يحدد أن المطلوب منه العبادة هو الإنسان كجنس. وبنوعية الذكر والأنثى. وفي الأمر الخاص بالمرأة، ويحدد الله المرأة بذاتيتها. فالحق سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً} ..[الأحزاب: 36].

لماذا؟ إن المسألة هنا تشمل النوعين من الجنس الواحد: الرجل والمرأة، زوج وزوجة، فمثلا نجد زوجا يريد تطليق زوجته، فيأتي الحق بتفصيل يوضح ذلك. وإذا كان هناك أمر خاص بالمرأة فالحق سبحانه وتعالى يحدد الأمر فها هوذا قوله الحكيم: {يانسآء النبي لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النسآء إِنِ اتقيتن فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول فَيَطْمَعَ الذي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى وَأَقِمْنَ الصلاة وَآتِينَ الزكاة وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}.. [الأحزاب: 32-33].

إن كل ما جاء في الآية السابقة يحدد المهام بالنسبة لنساء النبي صلى الله عليه وسلم، فالخطاب الموجه يحدد الأمر بدقة (لستن) و(اتقيتن)، و(لا تخضعن)، و(قرن)، و(لا تبرجن). الحديث في هذه الآية الكريمة يتعلق بالمرأة لذلك يأتي لها بضميرها مؤنثا.

ولكن إذا جاء أمر يتعلق بالإنسان بوجه عام فإن الحق يأتي بالأمر شاملا للرجل والمرأة ويكون مذكرا، ولذلك فعندما قالت النساء لماذا يكون الرجل أحسن من المرأة، جاء قول الحق: {إِنَّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فُرُوجَهُمْ والحافظات والذاكرين الله كَثِيراً والذاكرات أَعَدَّ الله لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}.. [الأحزاب: 35].

هكذا حسم الحق الأمر.

قال سبحانه تأكيدا لذلك؛ {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات مِن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً}.. [النساء: 124].

إن الذكر والأنثى هنا يدخلان في وصف واحد هو {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} إذن فعندما يأتي الأمر في المعنى العام الذي يُطلب من الرجل والمرأة فهو يُضمر المرأة في الرجل لأنها مبنية على الستر والحجاب، مطمورة فيه. داخله معه.. فإذا قال الحق سبحانه لمريم: {واركعي مَعَ الراكعين} فالركوع ليس خاصا بالمرأة حتى يقول (مع الراكعات) ولكنه أمر عام يشمل الرجل والمرأة، لذلك جاء الأمر لمريم بأن تركع مع الراكعين، وبعد ذلك يقول الحق: {ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ...}.

المصدر: موقع نداء الإيمان




https://media.gemini.media/img/large..._14_55_860.jpg



امانى يسرى محمد 21-06-2021 01:56 PM

رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة ال عمران)
 

https://lh3.googleusercontent.com/pr...MFNyD9lLQ=s0-d



تفسير الشعراوي لمعنى الوحى فى الآية 44



قال تعالى:
{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}.. [آل عمران : 44].


وقد قلنا من قبل: إن كلمة
(نبأ)، لا تأتي إلاّ في الخبر العظيم. والغيب هو ما غاب عن الحس. وهناك (غياب عن الحس) من الممكن أن يدركه مثلك. وهناك غياب عن الحس لا يدركه مثلك.

وقلنا من قبل:
إن حجب الغيب ثلاثة:
مرة يكون الحجاب في الزمن ماضيا، ومرة مستقبلا، ومرة ثالثة يكون الحجاب في المكان.
لماذا؟
لأن ظروف الأحداث زمان ومكان. فإذا أنبأني منبئ بخبر مضى زمنه فهذا اختراق للحجاب الزمن الماضي، فالحدث يكون قد وقع من سنوات وصار ماضيا وإذا أخبرني به الآن فهذا يعني أنه اخترق حجاب الزمن الماضي، وإذا قال لي عن أمر سيحدث بعد سنتين من الآن فهذا اختراق حجاب الزمن المستقبل، وهب أنه أخبرك بنبأ معاصر لزمنك الآن نقول: هنا يوجد حجاب المكان، فعندما أكون معكم الآن لا أعرف ما الحادث في مدينة أخرى غير التي نحن بها، ورغم أن الزمن واحد.
لذلك فعلينا أن نعرف، أنه مرة يكون الحجاب زمان.. أي قد يكون الزمن ماضيا، أو يكون الزمن مستقبلا، وقد يكون حجاب مكان.

فإذا كان الله ينبئ رسوله بهذا النبأ فوسائل علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث

لأن وسيلة العلم بالنبأ أحد ثلاثة أمور: مشاهدة؛ أو سماع؛ أو قراءة.
الوسيلة الأولى وهي مشاهدة النبأ يشترط أن يوجد في زمن هذا النبأ، والنبأ الذي أخبر الله به رسوله حدث من قبل بعث الرسول بما لا يقل عن ستة قرون. إذن فالمشاهدة كوسيلة علم بهذا النبأ لا تصلح، لأن النبأ قد حدث في الماضي. قد يقول قائل: لعل الرسول صلى الله عليه وسلم قد قرأها، أو سمعها وبإقرار خصوم محمد صلى الله عليه وسلم أنه ليس بقارئ، فامتنعت هذه الوسيلة أيضا، وبإقرار خصومة صلى الله عليه وسلم أنه لم يجلس إلى معلم فلم يستمع من معلم. إذن فلم يكن من سبيل لمعرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا النبأ إلا بالوحي، لذلك قال الحق سبحانه:
{ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}.. [آل عمران: 44].

وقلنا قديما إن الوحي، هو إعلام بخفاء؛ لأن الإعلام العادي هو أن يقول إنسان لإنسان خبراً ما، أو يقرأ الإنسان الخبر، أما الإعلام بخفاء فاسمه (وحي). والوحي يقتضي (موحي) وهو الله، (وموحى إليه) وهو الرسول الله صلى الله عليه وسلم، و(موحى به) وهو القرآن الكريم.
وإذا نظرنا إلى الإعلام بخفاء لوجدنا له وسائل كثيرة.

إن الله يوحي. لكن الموحي إليه يختلف. الله سبحانه وتعالى يوحي للأرض: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا وَقَالَ الإنسان مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا}.. [الزلزلة: 1-5].

إنه إعلام بخفاء، لأن أحدا منا لم يسمع الله وهو يوحي للأرض، والحق سبحانه يوحي للنحل، ويوحي للملائكة، ويوحي للأنبياء، وهناك وحي من غير الله، كوحي الشياطين. {وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}.. [الانعام: 121].

وهناك وحي من البشر للبشر: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}.. [الأنعام: 112].

لكن الوحي إذا أُطلق، ينصرف إلى الوحي من الله إلى من اختاره لرسالة، وما عدا ذلك من أنواع الوحي يسمونه (وحيا لغويا) إنما الوحي الاصطلاحي وحي من الله لرسول، إذن فوحى الله للأرض ليس وحيا اصطلاحيا، ووحى الله للنحل ليس وحيا اصطلاحيا، ووحي الله لأم موسى ليس وحيا اصطلاحيا، ووحي الله للحواريين ليس وحيا اصطلاحيا، إن الحق سبحانه يقول: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قالوا آمَنَّا واشهد بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ}.. [المائدة: 111].

إن هذا لون من الوحي غير اصطلاحي، بل هو وحي لغوي، أي أعلمهم بخفاء. لكن الوحي الحقيقي أن يُعلم الله من اختاره لرسالة، وهذا هو الوحي الذي جاء للرسول صلى الله عليه وسلم. يقول الحق: {ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}.

هكذا يخبرنا الحق ان الرسول تلقى هذا النبأ بالوحي، فلم يقرأه، ولم يشاهده، ونحن نعرف أن خصوم رسول الله شهدوا انه لم يقرأ ولم يستمع من معلم. وهكذا يخبرنا الحق أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن موجودا مع قوم مريم حين ألقوا أقلامهم.

والقلم يُطلق على القلم الذي نكتب به، أو يطلق القلم على القداح التي كانوا يقترعون بها إذا اختلفوا على شيء. وكانوا عندما يختلفون يحضرون قداحا، ليعفروا من يظفر بالشيء المختلف عليه ونسميها نحن القرعة، والقرعة يقومون بإجرائها لإخراج الهوى من قسمة شائعة بين أفراد، وذلك حتى لا يميل الهوى إلى هذا أو إلى ذاك مفضلا له على الآخرين، ولذلك فنحن أيضا نجري القرعة فنضع لكل واحد ورقة.

إذن فلا هوى لأحد في إجراء قسمة عن طريق القرعة، وبذلك نكون قد تركنا المسألة إلى قدر الله لأن الورقة لا هوى لها، ولما اختلف قوم مريم على كفالتها، واختصموا حول مَن الذي له الحق في أن يكفلها. هنا أرادوا أن يعزلوا الهوى عن هذه المسألة، وأرادوا أن تكون قدرية، ويكون القول فيها عن طريق قدح لا هوى له.

وهذا القدح سيجري على وفق المقادير. أما
(أقلامهم) فقد تكون هي القداح التي يقتسمون بها القرعة، أو الأقلام التي كتبوا بها التوراة تبركا.

وتساؤل البعض، ما المقصود بقول الحق: (إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ) وأين تم إلقاء هذه الأقلام؟ قيل: إنها ألقيت في البحر وإذا ألقيت الأقلام في البحر فمن الذي يتميز في ذلك؟ قيل: إنه إذا ما أطل قلم بسنه إلى أعلى فصاحبه الفائز، أو إذا غرقت كل الأقلام وطفا قلم واحد يكون صاحبه هو الفائز. ولابد أنهم اتفقوا على علامة أو سمة ما تميز القلم الذي كان لصاحبه فضل كفالة مريم. {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}.

وكلمة
{إِذْ يَخْتَصِمُونَ} تدل على حرارة المنافسة بين القوم شوقا إلى كفالة مريم، لدرجة أن أمر كفالتها دخل في خصومة، وحتى تنتهي الخصومة لجئوا إلى الاقتراع بالأقلام.

https://media.gemini.media/img/large..._41_31_133.jpg


تفسير الشعراوي لآية "بشارة الله للسيدة مريم"



وننتقل الآن إلى مرحلة أخرى.
{إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)}

لقد كانت المرحلة الأولى بالنسبة لإعداد مريم هي قوله الحق على لسانها: {إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. وبذاك تعرفت على طلاقة قدرة الله، والمرحلة الثانية هي سماعها لحكاية زكريا ويحيى وتأكيد الحق لها أنه اصطفاها على نساء العالمين، وفي ذلك أمر يتعلق بالنساء، وكان ذلك إيناساً من الحق لها، وتدخل مريم إلى مرحلة جديدة.

{إِذْ قَالَتِ الملائكة يامريم إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ} [آل عمران: 45].

والبشارة لا تكون إلا بخبر عظيم مفرح، وقد يتساءل البعض؟ ماذا يقصد الحق بقوله: {بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ}؟ والإجابة هي: أن الحق سبحانه وتعالى يزاول سلطانه في ملكه بالكلمة، لا بالعلاج، فالحق سبحانه علمنا ذلك بقوله: {الله يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 47].

وهذا القول هو مجرد إيضاح لنا وتقريب لأنه لا يوجد عندنا أقصر في الأمر من كلمة (كن) إن قدرته قادرة بطلاقتها أن تسبق نطقنا بالكاف وهي الحرف الأول من (كن)، ولكن الحق يوضح لنا بأقصر أمر على طريقة البشر، إن الحق سبحانه وتعالى إذا أراد أمرا فإنه يقول له كن فيكون، وذلك إيضاح أن مجرد الإرادة الإلهية لأمر ما تجعله ينشأ على الفور، و(كن) هي مجرد إظهار الأمر للخلق، هكذا نفهم معنى بشارة الحق لمريم ب {بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ}
ويقول الحق:
{اسمه المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ}.
إنها ثلاثة أسماء، (المسيح)، (عيسى)، (ابن مريم).
ما معنى المسيح؟
قد يكون المسموح من الذنوب، أو أن تكون من آياته أن يمسح على المريض فيبرأ، أو المسيح المبارك.. أما عيسى. فهذا هو الاسم، والمسيح هو اللقب، وابن مريم هي الكنية.. ونحن نعرف أن العََلمَ في اللغة العربية يأتي على ثلاثة أنواع: اسم أو لقب أو كنية. وابن مالك يقول: (واسما أتى وكنية ولقبا) إن العَلَم على الشخص له ثلاث حالات. إما اسم وهو ما يطلق على المسمى أولا. والاسم الثاني الذي أطلقناه عليه. إن كان يشعر برفعة صاحبه أو بضِعَته نسميه لقبا. أما ما كان فيه أب أو أم فيقال له: (كنية) وجاءت الثلاثة في عيسى {اسمه المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ}.

(المسيح) هو اللقب، (عيسى) هو الاسم وابن مريم وهو الكنية. ومجيء عيسى باللقب والاسم والكنية ستكون لها حكمة تظهر لنا من بعد ذلك.

ويقول عنه الحق:
{وَجِيهاً فِي الدنيا والآخرة}.
ونحن في حياتنا نستعمل كلمة فلان وجيه من وجهاء القوم، والوجيه هو الذي لا يرده مسئول للكرامة في وجهه، ونحن نسمع في حياتنا اليومية.

فلان لا يصح أن نسبب له الخجل برفض أي طلب له. وكما يقول العامة: (هو الوجه ده حد يكسفه) إذن فالوجيه هو الذي يأخذ سمة وتميزا بحيث يستحي الناس أن يردوه إذا كان طالبا، وهناك إنسان آخر قد يسألك أو يسأل الناس، فلا يبالي به أحد، إنه يريق ماء وجهه وتنتهي المسألة.

إذن فقوله الحق في وصف عيسى بن مريم:
{وَجِيهاً فِي الدنيا والآخرة} أي أن أحدا لا يرده إن سأله. لكرم وجهه، فالإنسان يخجل أن يرد صاحب مثل هذه الكرامة، لذلك نجد أن السائل قد يقول: أعطني لوجه الله. أي أنه يقول لك: لا تنظر إلى وجهي، ولكن انظر إلى وجه الله؛ لأن الله هو الذي جاء بي إلى الدنيا وخلقني، وما دام قد جاء بي الخالق إلى الدنيا فهو المتكفل برزقي، فأنت حينما تعين على رزق من استدعاه الله إلى الوجود تكون قد أعطيت لوجه الله، إنه الخالق الذي يرزق كل مخلوق له حتى الكافر.

إذن فعطاء الإنسان للسائل ليس عطاء لوجه السائل، ولكنه عطاء لوجه الله. والحق يقول عن عيسى بن مريم:
{وَجِيهاً فِي الدنيا والآخرة} وعرفنا كيف يكون الإنسان وجيها في الدنيا، فلماذا نص الحق على وجاهة عيسى في الآخرة؟ وخصوصا أن كل وجوه المؤمنين ستكون ناضرة، لقد نص الحق على وجاهة عيسى في الآخرة لأنه سوف يُسأل سؤالا يتعلق بالقمة الإيمانية: {وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب} [المائدة: 116].

إياك أن تظن أن هذا السؤال هو تقريع من الله لعيسى بن مريم. لا إن الحق يريد أن يقرّع من قالوا هذا الكلام. ولذلك يقول عنه الحق: {والسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} [مريم: 33].

لأن ميلاده كان له ضجة، وبعض بني إسرائيل اتهموا والعياذ بالله أمه مريم البتول، و(يوم الممات)، كلنا نعرف حكاية الصلب وكان لها ضجة. إنه لم يصلب ولكن صلب من خانه ووشي به فألقى الله شبه عيسى عليه فقتلوه. ويوم البعث حيا يوم يسأله الله: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة: 116].

إنه عيسى ابن مريم الذي أنعم الله عليه بالسلام في هذه المواقف الثلاثة. ويتابع الحق فيصف عيسى ابن مريم بقوله: {وَجِيهاً فِي الدنيا والآخرة وَمِنَ المقربين} إن كلمة (من المقربين) تدل على تعالى الحق في عظمته، فحين يفتن بعض البشر في واحد منهم قد يغضب بعضهم من الشخص الذي فتن الآخرون فيه مع أنه ليس له ذنب في ذلك.

والحق سبحانه يعلمنا أن للمغالي جزاءه ولكن المغالَى فيه تنجيه رحمة الغفار.

إن الحق يعلمنا أن فتنة بعض الناس بعيسى ابن مريم عليه السلام لا تؤثر في مكانة عيسى عليه السلام عند الحق، إنه مقرب من الله، ولا تؤثر فتنة الآخرين في مكانته عند الله، ويقول الحق: {وَيُكَلِّمُ الناس فِي المهد...}.

المصدر: موقع نداء الإيمان


https://media.gemini.media/img/large..._27_19_126.jpg





امانى يسرى محمد 22-06-2021 12:56 PM

رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة ال عمران)
 
http://uupload.ir/files/67xw_24056544980240135208.gif


قال تعالى: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران : 46].

الكلام: معناه اللفظ الذي ينقل فكر الناطق إلى السامع، وقول الحق: {وَيُكَلِّمُ الناس فِي المهد}، معناه أن المواجه لعيسى عليه السلام في المهد هم الناس و(المهد) هو ما أعد كفراش للوليد. ولقد أورد الحق {المهد وَكَهْلاً} رمزية لشئ، وهي أن عيسى ابن مريم من الأغيار، يطرأ عليه مرة أن يكون في المهد، ويطرأ عليه مرة أخرى أن يكون كهلا، وما دام في عالم الأغيار فلا يصح أن يفتتن به أحد ليقول إنه (إله) أو (ابن إله).


ونفهم أيضا من {وَيُكَلِّمُ الناس فِي المهد} سر وجود آية المعجزة التي وهبها له الله وهو طفل في المهد. لأن المسألة تعلقت بعِرض أمه وكرامتها وعفتها، فكان من الواجب أن تأتي آية لتمحو عجبا من الناس حين يرونها تلد بدون أب لهذا الوليد أو زواج لها. وهذه المسألة لم نجد لها وجودا. مع أنها مسألة كان يجب أن تقال لأنهم يمجدون نبيهم، وكان من الواجب ألا يغفلوا عن هذه العجيبة، إن كلام طفل في المهد لما كان أمرا عجيبا كان لابد أنّه سيكون محل حفظ وتداول بين الناس، ولن يكتفي الناس برواية واقعة كلامه في المهد فقط، بل سيحفظون ما قاله، ويرددون قوله.



والكلمة التي قالها عيسى عليه السلام في المهد لا تسعف من يصف عيسى عليه السلام بوصف يناقض بشريته؛ لأن الكلمة التي نطق بها أول ما نطق: إني عبد الله، فأخفوا هم هذه المسألة كلها لأن هذه الكلمة تنقض القضية التي يريدون أن يضعوا فيها عيسى عليه السلام، إن الحق يقول: {وَيُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلاً}.



ونعرف أن الكلام في المهد أي وهو طفل و(كهلا) أي بعد الثلاثين من العمر أي في العقد الرابع. والبعض قد قال: إن الكهولة.. بعد الأربعين من العمر. وهو قد حدثت له في روايتهم حكاية الصلب قبل أن يكون كهلا، فإذا كان قد تكلم في المهد فيبقى أن يتكلم وهو كهل، وقالوا إن حادثة الصلب أو عدم الصلب، أو الاختفاء عن حس البشر قد حدثت قبل أن يكون كهلا، إذن فلابد أن يأتي وقت يتكلم فيه عيسى بن مريم عندما يصير كهلا، وأيضاً قوله الحق: {وَيُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلاً} أي انه تكلم في المهد طفلاً ويتكلم كهلا أي ناضج التكوين، وبذلك نعرف أن عيسى بن مريم فيه أغيار وفيه أحوال، فإذا كنتم تقولون إنه إله فهل الألوهية في المهد هي الألوهية في الكهولة؟



إن كانت الألوهية في المهد فقط فهي ناقصة لأنه لم يستمر في المهد، وحدثت له أغيار، وما دام قد حدثت له أغيار فهو محدث، وما دام محدثا فلا يكون إلها، وبعد ذلك يقول الحق عن عيسى ابن مريم: {وَمِنَ الصالحين} ما حكايتها؟



إن العجيبة التي قال عنها الله: إنه يكلم الناس في المهد لم تكن باختياره، وكلامه وهو كهل سيكون بالوحي، أي ليس له اختيار فيه أيضا، {وَمِنَ الصالحين} مقصود بها عمله، أي الحركة السلوكية.


لماذا؟ لأنه لا يكفي أن يكون مبلغا، ولا يكفي أن يكون حامل آية، بل لابد أن يؤدي السلوك الإيماني.
ويقول الحق على لسان مريم البتول: {قَالَتْ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ...}.






https://media.gemini.media/img/large..._16_14_151.jpg


قال تعالى: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.. [آل عمران : 47].


ونريد أن نقف وقفة ذهنية تدبرية عند قولها: {قَالَتْ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} فلو أنها سكتت عند قولها: {أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ} لكان أمرا معقولا في تساؤلها، ولكن إضافتها {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} تثير سؤالا، من أين أتت بهذا القول {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ}؟ هل قال لها أحد: إنك ستلدين ولدا من غير أب؟ إن الملائكة لم تخبرها بذلك، لذلك انصرف ذهنها إلى مسألة المس. إنها فطرة وفطنة المهيأة والمعدة للتلقي عن الله، عندما قال لها: (المسيح عيسى ابن مريم).
قالت لنفسها: إن نسبته بأمر الله هي لي، فلا أب له، لقد قال الحق: إنه (ابن مريم) ولذلك جاء قولها: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} ذلك أنه لا يمكن أن ينسب الطفل للأم مع وجود الأب.

هكذا نرى فطنة التلقي عن الله في مريم البتول. لقد مر بها خوف عندما عرفت أن عيسى منسوب إليها وقالت لنفسها، إن الحمل بعيسى لن يكون بوساطة أب، وكيف يكون الحمل دون أن يمسسني بشر. وقال الخالق الأكرم: {كَذَلِكَ} أي لن يمسك بشر، ولم يقل لها: لقد نسبناه لك لأنك منذورة لخدمة البيت، ولكن الحق قال: {كَذَلِكَ} تأكيدا لما فهمته عن إنجاب عيسى دون أن يمسسها بشر. وتتجلى طلاقة القدرة في قوله سبحانه: {الله يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ}.



إنها طلاقة القدرة، وطلاقة القدرة في الإنسال أو الإنجاب أو في عدم التكثير بالنسبة للإنسان وطلاقة القدرة لا تتوقف على إيجاد ذكورة وأنوثة، ولو كانت طلاقة القدرة في الخلق لا تتوقف على إيجاد ذكورة وأنوثة، إنه الحق الأعلى القادر على أن يخلق دون ذكورة أو أنوثة، كخلقه لآدم عليه السلام، ويخلق الحق سبحانه بواحد منهما، كخلقه سبحانه لحواء وخلق عيسى عليه السلام، ويخلق الخالق الأعلى الذكورة والأنوثة يمكن أن يُحقق الخلق، فقد توجد الذكورة والأنوثة ولا يوجد إنجاب، ها هو ذا القول الحق: {لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}.. [الشورى: 49-50].


هذه هي إرادة الحق، إذن فلا تقل: إن اكتمال عنصري الذكورة والأنوثة هو الذي يحدث الخلق، لأن الخلق يحدث بإرادة الحق {كَذَلِكَ الله يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}. فأنتم أيها المحدثون تفعلون بالأسباب. لكن الذي خلقكم وخلق الأسباب لكم هو الذي بيده أن يوجد بلا أسباب، لأنه أنشأ العالم أول ما أنشأ بدون أسباب.
ويقول الحق سبحانه عن عيسى عليه السلام: {وَيُعَلِّمُهُ الكتاب والحكمة...}.



https://media.gemini.media/img/large..._24_54_481.jpg

قال تعالى: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ}.. [آل عمران : 48].

وساعة نسمع {وَيُعَلِّمُهُ الكتاب} فنحن نفهم أن المقصود بها الكتاب المنزل، ولكن ما دام الحق قد أتبع ذلك بقوله: {التوراة والإنجيل} فلابد لنا أن نسأل.
إذن ما المقصود بالكتاب؟
هل كان المقصود بذلك الكتاب الكتب المتقدمة، كالزبور، والصحف الأولى، كصحف إبراهيم عليه السلام؟ إن ذلك قد يكون صحيحا، ومعنى {وَيُعَلِّمُهُ الكتاب} أن الحق قد علمه ما نزل قبله من زبور داود، ومن صحف إبراهيم، وبعد ذلك توراة موسى الذي جاء عيسى مكملا لها.


وبعض العلماء قد قال: أُثِرَ عن عيسى عليه السلام أن تسعة أعشار جمال الخط كان في يده.
وبذلك يمكن أن نفهم {وَيُعَلِّمُهُ الكتاب} أي القدرة على الكتابة.

وما المقصود بقوله: إن عيسى عليه السلام تلقى عن الله بالإضافة إلى {وَيُعَلِّمُهُ الكتاب} أنه تعلم أيضا {الحكمة والتوراة والإنجيل} وكلمة الحكمة عادة تأتي بعد كتاب منزل، مثال ذلك قوله الحق: {واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله والحكمة إِنَّ الله كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً}.. [الأحزاب: 34].


كتاب الله المقصود هنا هو القرآن الكريم، والحكمة هي كلام الرسول عليه الصلاة والسلام. فالرسول له كلام يتلقاه ويبلغه، ويعطيه الحق أيضا أن يقول الحكمة، أما التوراة التي علمها الله لعيسى عليه السلام فقد علمها له الله، لأننا كما نعلم أن مهمة عيسى عليه السلام جاءت لتكمل التوراة، ويكمل ما أنقصه اليهود من التوراة، فالتوراة أصل من أصول التشريع لعصره والمجتمع المبعوث إليه فهو بالنص القرآني: {وَرَسُولاً إلى بني إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ...}.

المصدر نداء الايمان


https://b.top4top.io/p_14989zzmn1.png





امانى يسرى محمد 23-06-2021 04:00 PM

رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة ال عمران)
 

http://bayanbox.ir/view/686293463862...imotehrk-4.gif


قال تعالى:
{وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.. [آل عمران : 49].

إن كلمة رسول تحتاج إلى علامة، فليس لأي أحد أن يقول:
(أنا رسول من عند الله) بل لابد أن يقدم بين يدي دعواه معجزة تثبت أنه رسول من الله. والأية كما نعرف هي الأمر العجيب الذي خرج عن القوانين والنواميس لتثبت صدق الرسول في البلاغ، وما دامت المعجزة خارجة عن نواميس البشر، فالمخالف نقول له: أنت حين تكذب أن حامل المعجزة رسول، فكيف تعلل أنه جاء بمعجزة خرجت عن الناموس؟ إذن فالمعجزة تلزم المنكر الذي يتحدى وتفحمه، لأنه لا يستطيع أن يأتي بمثلها، ولذلك قلنا: إن من لزوم التحدي ألا يتحدى الله حين يعطي رسولا معجزة إلا بشيء نبغ فيه القوم المبعوث إليهم ذلك الرسول؛ لأن الحق لو جاء لهم بشيء لم يدرسوه ولم يعرفوه، فالرد منهم يكون للرسول بقولهم: إن هذا أمر لم نروّض أنفسنا ولم ندربها عليه، ولو روّضنا أنفسنا عليه لا ستطعنا أن نفعل مثله، وأنت قد جئت لنا بشيء لم نعود أنفسنا عليه، لذلك يرسل الحق الرسول- أي رسول- بمعجزة من جنس ما ينبغ فيه القوم المرسل إليهم.. مثال ذلك، موسى عليه السلام، أرسله الله إلى قوم كانوا نابغين في السحر، فكانت معجزته تقرب من السحر.

وإياك أن تقول إن معجزة موسى كانت سحرا؛ لأن موسى عليه السلام لم ينزل بسحر ولكن بمعجزة. كانوا هم يخيلون للناس أشياء ليست واقعا لذلك تجد القرآن يعطيك الفارق بين ما يكون عليه ما يأتي به الله على يد رسول من الرسل من معجزة وسحر القوم، فيقول القرآن: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى قَالَ أَلْقِهَا ياموسى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى}.. [طه: 17-20].

كأن الحق يقول لموسى عليه السلام: إن حدود علمك بما في يدك أنها عصا تتوكأ عليها وتهش بها على غنمك، أما علمي أنا فهو علم آخر. لذلك يأمره أن يلقى العصا، فلما ألقاها وجدها حية تسعى، فأوجس في نفسه خيفة.. إن (أوجس في نفسه خيفة) هي التي فرقت بين سحر القوم ومعجزة موسى عليه السلام.
لماذا؟
لأن الساحر يلقى العصا فيراها الناس حية وهو يراها عصا لأنّ الساحر لو رآها حية لخاف مثل الناس، لقد خاف موسى عليه السلام لأنها تغيرت وصارت حية فعلا، ولذلك قال له الله: {قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأولى}.. [طه: 21].

فلو كانت من جنس السحر لما أوجس في نفسه خيفة لأنه سوف يراها عصا وإن رآها غيره حية، وهذا هو الفارق.

وقوم عيسى أيضا كانوا مشهورين بالحكمة والطب، إذن فستجيء الآيات من جنس الحكمة والطب، ثم تتسامى المعجزة، لأن الذي يطبب جسما ويداويه لا يستطيع أن يعيد الميت إلى الحياة، لأن الإنسان إذا ما مات فقد خرج الميت عن دائرة علاج الطبيب. ولذلك رقّى الله آية عيسى، إنه يشفي المرضى، ويحيى الموتى أيضا، وهذا ترق في الإعجاز.


https://3.bp.blogspot.com/-ueLQp2v35...7.imgcache.gif


قال عيسى:
{أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أني أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ الله}.
إن كلمة (أخلق) تحتاج إلى وقفة وكذلك (الطين) و(الهيئة) و(الطير).

(أخلق) مأخوذة من الخلق، والخلق هو إيجاد شيء على تقدير، فأنت تتخيله وتقدره في ذهنك أولا ثم تأتي به على هذه الحالة. فإن كان قد أتى على غير تقديرك فليس خلقا، إنما هو شيء جزافى جاء على غير علم وتقدير، وإنّ من يأخذ قطعة من الطين ويصنع منها أي شيء فهذا ليس خلقا. إن الخلق هو المطلوب على تقدير. مثال ذلك الكوب أو الكأس البلور الذي نشرب فيه حينما صنعه الصانع. هل كانت هناك شجرة تخرج أكوابا، أم أن الصانع أخذ الرمال وصهرها ووضع عليها مواد كيماوية تخليها من الشوائب، ثم قام بتشكيلها على هيئة الكوب؟
إذن فالكوب لم تكن موجودة، ووجدت على تقدير أن تكون شكل الكوب، فهي خلق أُوجد على تقدير.

فماذا عن خلق الله؟
إنه يخلق على تقدير، وفرق بين صنعة البشر حين يخلق، وبين صنعة الله حين يخلق. إن صنعة البشر حين تخلق، إنما تخلق من موجود، وحين يخلق الله فهو يخلق من معدوم، وهذا هو أول فرق، إنه سبحانه يخلق من عدم، أما الإنسان فيضع الأشياء بنظام يحدث فيها تفاعلات أرادها الله فتوجد، فلا يوجد من يستطيع- على سبيل المثال- من يصنع كوبا من غير المادة التي خلقها الله.

إن هذا أول فرق بين خلق الله، وخلق الإنسان، فخلق الله يكون من عدم، وخلق الإنسان من موجود، وإن كان الإثنان على تقدير. وأيضا يعطي الله لخلقه سرا لا يستطيع البشر إعطاءه لصنعته، فالله يعطيه سر الحياة والحياة فيها نمو، وفيها تكاثر، لكن البشر يصنعون الكوب مثلا، فتظل كوبا، ولا يوجد تكاثر بين كوب ذكر وكوب أنثى.

إن الإنسان يوجد صنعته فتظل على حالتها، ولا يستطيع أن يصنعها صغيرة ثم تكبر، لكن صنعة الله هي صنعة القادر الذي يهب الحياة، فتكبر مخلوقاته وتتطور وتمر بمراحل، وتعطي مثلها. إذن، فالخلق إيجاد على تقدير، هذا الإيجاد يوجد معدوما، والمعدوم موجودة مادته، هذا في خلق الإنسان، أما في خلق الله، فالله يخلق من معدوم لا توجد له مادة.

والله يخلق من الشيء ذكرا وأنثى ويعطيهما القدرة على التناسل، فها هو ذا قول الحق سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين}.. [المؤمنون : 12-14].

ولم يمنع الحق خَلْقَه أن يخلقوا أشياء، ولكن خلق الله أحسن، لماذا؟
لأنه يخلق من عدم، والبشر يخلقون من موجود. وهو الحق يخلق ويوجد في مخلوقاته حياة وتكاثرا، والبشر يخلقون بلا نمو ولا حياة، إنه الحق أحسن الخالقين، إذن قول عيسى عليه السلام:
{أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ الله}.

يعني أن كل إنسان يستطيع أن يصنع تمثالا كهيئة الطير. لكن الله أوجد معجزة عيسى وجعله يخلق من الطين كهيئة الطير، وينفخ فيه، وقد تسأل، في ماذا ينفخ؟ أينفخ في الطير، أم في الطين، أم في الهيئة؟ إن قلنا: أن النفخ في الطين بعد ما صار طيرا. يكون النفخ في الطين، كالنفخ في الطير، وجاءت في آية أخرى أنها نفخ في الهيئة. {إِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ اذكر نِعْمَتِي عَلَيْكَ وعلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القدس تُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي} .. [المائدة : 110].

إن النفخ فيه، تكون للطين أو الطير. والنفخ فيها تكون للهيئة، وهناك آية بالنسبة للسيدة مريم البتول: {وَمَرْيَمَ ابنت عِمْرَانَ التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القانتين}.. [التحريم: 12].

إن النفخ هنا في الفرج، وآية أخرى بالنسبة للسيدة مريم البتول: {والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وابنهآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ}.. [الأنبياء: 91].

مرة يقول: {نفخنا فيه} أي في الفرج، ومرة يقول: {نفخنا فيها} أي فيها هي، والقولان متساويان، وهنا في هذه الآية، نجد أن الإعجاز ليس في أن عيسى صنع من الطين كهيئة الطير، لأن أي إنسان يستطيع أن يفعل ذلك، فكأنه حينما قال: {أني أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ الله}.

كأنه صار طيرا من النفخة، أما عن أمر صناعة طير من الطين فأي إنسان يمكن أن يفعلها، لكن عيسى عليه السلام يفعل ذلك بإذن الله، ولابد أن يجيء الأمر مختلفا، و
{بإذن الله} هنا تضم صناعة الطير، والنفخ فيه.
إن عيسى لم يكن ليجترئ ويصنع ذلك كله إلا بإذن الله، وجاءت كلمة
{بإذن الله} من عيسى وعلى لسانه كاعتراف منه بأن ذلك ليس من صناعته، وكأنه يقول لقومه: إن كنتم فتنتم بهذه.
فكان يجب أن تفتنوا بإبراهيم من باب أولى، حينما قطَّع الطير وجعل على كل جبل جزءا منهن ثم دعاهن. {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطير فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجعل على كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادعهن يَأْتِينَكَ سَعْياً واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.. [البقرة: 260].

إذن كان من الأولى الفتنة بما أعطاه الله إبراهيم عليه السلام من معجزة، فإن كانت الفتنة من ناحية الإحياء لكان ما صنعه إبراهيم عليه السلام أولى بها، وإن كانت الفتنة من ناحية أنه جاء إلى الدنيا بدون أب لكانت الفتنة أكثر في خلق آدم، لأن الله خلقه بلا أب أو أم. إذن فالفتنة لا أصل لها ولا منطق يبررها..


https://3.bp.blogspot.com/-ueLQp2v35...7.imgcache.gif

ويتابع الحق سبحانه على لسان عيسى ابن مريم عليه السلام

{وَأُبْرِىءُ الأكمه والأبرص وَأُحْيِ الموتى بِإِذْنِ الله}.

لماذا تعرض عيسى ابن مريم لهذين المرضين؟
لأنها كانت الأمراض المستعصية في ذلك العصر، والأكمه هو الذي ولد أعمى أي لم يحدث له العمى من بعد ميلاده. والبرص، هو ابيضاض بقعة في الجلد وإن كان صاحبها آدم أو أسود. وبعد ذلك تنتشر بقع متناثرة في كافة الجسم بلون أبيض، مما يدل على أن لون الجلد له كيماويات في الجسم تغذى هذا اللون، فإن مُنعت الكيماويات في الجسم صار أبرص.

وتبين صدق هذا في أن العلم المعاصر قد عرف أن الملونات للجلد هي غدد خاصة توجد في الجسم، واسمها الغدد الملونة، فإن امتنعت الغدد الملونة من إعطاء الألوان، جاء البرص والعياذ بالله. وهو مرض صعب، لم يكن باستطاعتهم أن يداووه، فعندما جاء عيسى ابن مريم أعطاه الله الآية من جنس ما نبغوا فيه وهو الطب. وجاء لهم بآية هي إبراء ما كانوا عاجزين عنه.

وبعض القوم الذين يحاولون أن يقربوا بين المعجزة وعقول الناس. يقولون: إن هذه المعجزة إنما هي سبق زمني، بمعنى أنه من الممكن أن يتوصل الإنسان إلى أن يكتشف علاجا لهذه الأمراض، لكن لهؤلاء نقول: لا، إن المعجزة تظل معجزة إلى أن تقوم الساعة. كيف؟

لنأخذ مثالا من طب العيون، وعندما قالوا إن هناك علاجاً للعمى. (سنقوم بتركيب قرنية) أو أن نأخذ مثالا من طب الجلد لو قالوا: (سنداوي البرص) واكتشفوا ألوانا مختلفة من العلاج تحاول أن تجعل الجلد على لون واحد، لكنه لا يستعيد لونه الأصلي. ولذلك قال البعض: (إن معجزة عيسى كانت مجرد سبق زمني). لهؤلاء نقول: لا، لنأخذ كل أمر بأدواته.

إن عيسى ابن مريم عليه السلام كان يبرئ بالكلمة والدعوة ومهما تقدم العلم فلن يستطيع العلم أن يبرئ المرض بالكلمة والدعوة، إنما سيأخذون أشياء ويقومون بتحليل تلك الأشياء، وخلط الكيماويات وإجراء الجراحات، لذلك تظل المعجزة التي جاء بها عيسى ابن مريم عليه السلام معجزة؛ لأنه كان يبرئ بالكلمة والدعوة.

ويضيف الحق على لسان عيسى ابن مريم:
{وَأُحْيِ الموتى بِإِذْنِ الله وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ}.
ومسألة إحياء الموتى لم يأخذها عيسى هكذا على إطلاقها فيحيي كل ميت، إنما قام بها وفي وحدات تثبت صدق الآية ولا تعمم مدلول المعجزة كسام بن نوح مثلا، و(عازر) إنها أشياء لمجرد إثبات المعجزة، ولكنها ليست مطلقة، ذلك أنه نبي ورسول من الله فلا يمكن أن يصادم قدر الله في الآجال. ولذلك قالوا إنه عندما أحيا سام بن نوح، أحياه حتى نطق بكلمة، ثم عاد سام إلى الموت من بعد ذلك ويضيف الحق على لسان عيسى ابن مريم عليه السلام:
{وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ}.. [آل عمران: 49].
لماذا؟
لأن كل إنسان يعلم جزئية من أحداثه الحياتية الخاصة، يكون هذا العلم خاصا به، وكل إنسان-مثلا- يأكل طعامه بألوان مختلفة يعرفها هو، ولا يعرفها الآخرون. إن الأمر الأول كخلق الطير، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، هي أمور عامة للكل. أما الإنباء بألوان الطعام التي يأكلها كل إنسان فهي خاصية أحداث، لأن كل واحد يأكل أكلا معينا فيقول له عيسى ابن مريم ماذا أكل. وليس من المعقول أن يكون عيسى ابن مريم قد دخل كل بيت أو جاءت له أخبار عن كل بيت.

وكذلك أمر الادخار. وذلك حتى تنتفي شبهة أنه كان يشم رائحة الإنسان فيعرف لون الطعام الذي يأكله، لذلك كان الإخبار بما يدخر كل واحد في بيته، فهذه مسألة توضح بالجلاء التام أنها آية من إخبار من يعلم مغيبات الأمور.

{إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.. [آل عمران: 49].

إن هذه آية عجيبة تثبت أن هناك قوة أعلى قاهرة هي قوة الله الحق هي التي تعطيه هذه الأشياء، فإن كنتم مؤمنين بوجود قوة أعلى فعليكم تصديق الرسالة التي جاء بها عيسى ابن مريم، لأن معنى (رسول) أنه مخلوق اصطفاه الله وأرسله سبحانه إلى الأدنى منه، فالذي يؤمن الآية هو الذي يؤمن بوجود إله أعلى قادر ومن يريد أن يتثب- مع إيمانه بالله- من الآية التي بعثها الله مع عيسى ابن مريم، فالآية واضحة. بالله فلن تفيده الآية في الإيمان. ويقول الحق متابعا على لسان عيسى ابن مريم: {وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة...}.

نداء الايمان


https://media.gemini.media/img/large..._21_54_921.jpg

امانى يسرى محمد 26-06-2021 10:40 AM

رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة ال عمران)
 
قال تعالي: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}.. [آل عمران : 50].



وقد قلنا: إن (مصدقا) تعني أن ما جاء به عيسى بن مريم مطابق لما جاء في التوراة. وقلنا: إن (ما بين يدي) الإنسان هو الذي سبقه، أي الذي جاء من قبله وصار أمامه. وما دام عيسى ابن مريم جاء مصدقا لما بين يديه من التوراة في زمانه، وكانت التوراة موجودة، فلماذا جاءت رسالته إذن؟



لكن القول الحق يتضمن هذا المعنى: إن عيسى سيأتي بأحكام جديدة، ويتضح ذلك في قوله الحق سبحانه على لسان عبده عيسى ابن مريم: {وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} إذن فليس المهم هو التصديق فقط، ذلك أن عيسى جاء ليحل بعضا من الذي حرمته التوراة.


وقد يقول قائل:
إذا كانت الكتب السماوية تأتي مصدقة بعضها بعضا فما فائدة توالي نزول الكتب السماوية؟
والإجابة هي: أن فائدة الكتب السماوية اللاحقة أنها تذكر من سها عن الكتب السابقة، هذا في المرتبة الأولى، وثانيا: تأتي الكتب السماوية بأشياء، وأحكام تناسب التوقيتات الزمنية التي تنزل فيها هذه الكتب. هذه هي فوائد الكتب السماوية التي توالت نزولا من الحق على رسله، إنها تذكر من عقل وتُعَدلّ في بعض الأحكام.


ومن الطبيعي أننا جميعا نفهم أن العقائد لا تبديل فيها، وكذلك الأخبار والقصص، لكن التبديل يشمل بعضا من الأحكام.

ولهذا جاء القول الحق على لسان عبده عيسى ابن مريم: {وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} ونحن نعرف أن القوم الذي أرسل الله عيسى ابن مريم لهم هم بنو إسرائيل، والتحريم والتحليل يكون بحكمة من الله.




إن لله حكمة فيما يحلل وحكمة فيما يحرم، إنما إياك أن تفهم أن كل شيء يحرمه الله يكون ضارا؛ قد يحرم الله أشياء لتأديب الخلق، فيأمر بالتحريم، ولا يصح أن تسأل عن الضرر فيها، وقد يعيش المؤمن دنياه ولم يثبت له ضرر بعض ما حرم الله. فإن تساءل أحد: لماذا حرم الله ذلك؟ تقول له: من الذي قال لك إن الله حين يحرم فهو يحرم الشيء الضار فقط؟ إنه الحق سبحانه يحرم الضار ويحرم بعضا مما هو غير ضار، ولذلك قال الحق: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ الله كَثِيراً}.. [النساء: 160].


وتفصيل ذلك في آية أخرى: {وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الحوايآ أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ ذلك جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ}.. [الأنعام: 146].


إذن التحرير ليس ضروريا أن يكون لما فيه الضرر، ولهذا جاء قول الحق على لسان عبده ورسوله إلى بني إسرائيل عيسى ابن مريم: {وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} لقد جاء عيسى ابن مريم ليُحل لهم بأمر من الله ما كان قد حرمه الله عليهم من قبل.


وبعد ذلك يقول الحق على لسان عبده ورسوله عيسى ابن مريم: {وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} ومجموعة هذه الأوامر التي تقدمت هي آية أي شيء عجيب، بلغت القوم الذين أرسل الله عيسى إليهم، إنه كرسول وكبشر لا يستطيع أن يجيء بالآية المعجزة بمفرده بل لابد أن يكون مبعوثا من الله. فيجب أن يلتفتوا إلى أن الله الذي أرسله، وله طلاقة القدرة في خرق النواميس هو سبحانه الذي أجرى على يدي عيسى هذه الأمور، ويأمرهم عيسى ابن مريم بتقوى الله نتيجة لذلك، ويدعو القوم لطاعته في تطبيق منهج الله.



وبعد ذلك يقول الحق على لسان عيسى ابن مريم: {إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه...}.




https://3.bp.blogspot.com/-ueLQp2v35...7.imgcache.gif


قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}.. [آل عمران : 51].



إذن اجتمع الرسول والمرسل إليهم في أنهم جميعا مربوبون إلى إله واحد، هو الذي يتولَّى تربيتهم والتربية تقتضي إيجادا من عدم، وتقتضي إمدادا من عدم، وتقتضي رعاية قيومية، وعيسى ابن مريم يقر بعبوديته لله وكأنه يقول: وأنا لم أصنع ذلك لأكون سيدا عليكم، ولكن أنا وأنتم مشتركون في العبودية لله. {إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيم}.



ومعنى {هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيم}
أي أنه صراط غير ملتويا لأن الطريق إذ إلتوى؛ انحرف عن الهدف، وحتى تعرف أن الكل يسير على طريق مستقيم واحد، فلتعلم أنك إذا نظرت على سبيل المثال إلى الدائرة، فستجد أن لها محيطا، ولها مركزا، ومركز الدائرة هو الذي نضع فيه (سن الفرجار) حتى نرسم الدائرة، وبعد ذلك تصل من المركز إلى المحيط بأنصاف أقطار، وكلما بعدنا عن المركز زاد الفرق، وكلما تقرب من المركز تتلاشى الفروق.




فإذا ما كان الخلق جميعا يلتقون عند المركز الواحد فهذا يعني الاتفاق، لكن الاختلاف يحدث بين البشر كلما بعدوا عن المركز ولذلك لا تجد للناس أهواء ولا نجد الناس شيعا إلا إذا ابتعدوا عن المركز الجامع لهم والمركز الجامع لهم هو العبودية للإله الواحد، وما دامت عبوديته لإله واحد ففي هذا جمع للناس بلا هوى أو تفرق.


إنه حتى في الأمر الحسي وهو الدائرة المرسومة، نجد أن الأقطار المأخوذة من المحيط وتمر بمركز الدائرة، سنجد أنه في مسافة ما قبل المركز تتداخل الأقطار إلى أن تصير عند نقطة المركز شيئا واحدا لا انفصال بينها أبدا. وهكذا الناس إذا التقوا جميعا عند مركز عبوديتهم للإله الواحد، فإذا ما اختلفوا، بعدوا عن العبودية للإله الواحد بمقدار ذلك الاختلاف.


ولذلك دعا المسيح عيسى ابن مريم الناس لعبادة الله {إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيم} ذلك هو منطق عيسى. كان منطقه الأول حينما كان في المهد {قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً}.. [مريم: 30].


إن قضية عبوديته لله قد حُسمت من البداية، وهي قضية القمة، إنه عبد الله والقضية الثانية هي قضية الرسالة ونقل مراد الله وتكليفه إلى خلق الله حتى يبنوا حركة حياتهم على مقتضى ما أنزل الله عليهم، ومن الطبيعي أن أي رسول عندما يأتي بمنهج من عند الله، فالهدف أن يحمل الناس جميعا على سلوك هذا المنهج، ويحدد حركة حياتهم ب (افعل كذا) و(لا تفعل كذا) وعندما يسمع الواحد من الناس الأمر ب (افعل) فقد يجد في التكليف مشقة، لماذا؟ لأنها تلزمه بعمل قد يثقل عليه، و(لا تفعل كذا) فيها مشقة؛ لأنها تبعده عن عمل كان يحبه.



والمرء في الأحداث بين اثنين:
عمل يشق عليه فيحب أن يجتنبه، وعمل يستهويه فيحب أن يقترب منه، والمنهج جاء من السماء ليقول للإنسان (افعل) ولا (تفعل) إذن فهناك مشقة في أن يحمل الإنسان نفسه على أن يقوم بعمل ما من أعمال التكليف، ومشقة أخرى في أن يبتعد عن عمل نهى عنه التكليف.


ومعظم الناس لا تلتفت إلى الغاية الأصيلة؛ ولا يفهمونها حق الفهم، فيأتي أنصار الشر؛ ولا يعجبهم حمل نفوسهم على مرادات خالقهم. إن أفكار الشر تلح على صاحبها فيتمرد على التكليف الإيماني، وأفكار الشر تحاول الاقتراب بصاحبها من فعل الأمور التي حرمها التكليف. ولذلك ينقسم الناس لأنهم لم يحددوا هدفهم في الوجود.


إن كل حركة في الوجود يمكننا أن نعرف أنها حركة إيمانية في صالح انسجام الإنسان مع الكون، أو هي حركة غير إيمانية تفسد انسجام الإنسان مع فطرته ومع الكون، فإذا كانت الحركة تصل بالإنسان إلى هدفه الإيماني.


فستكون حركة طيبة وحسنة بالنسبة للمؤمن، وإذا كانت تبعده عن هدفه تكون حركة سيئة وباطلة، وهكذا نرى أن الهدف هو الذي يحدد الحركة.


إن التلميذ الذي يذهب إلى المدرسة له هدف بأن يتخرج في مهنة ما، وما دام ذلك هو هدفه فنحن نقيس حركة سلوكه، هل هي حركة تقربه إلى الهدف أن تبعد به عنه؟ فإن كان مجتهدا. فاجتهاده حركة تقرب له الهدف، وإن كان كسولا، خاملا فإنه يبتعد بنفسه عن الهدف. إذن يجب أن نحدد الهدف حتى نعرف هل يكون هذا العمل صالحا. أو غير صالح.


وآفة الناس أنهم عندما يحددون أهدافهم يقعون في اعتبار ما ليس بالهدف هدفا وغاية. وما دام هناك من يعتبر غير الهدف هدفا فلابد من حدوث اضطراب وضلال، فالذي يعتبر أن الحياة هي الهدف، فهو يريد أن يحقق لنفسه أكبر قدر من اللذة فيها. أما الذي يعرف أن الهدف ليس هو الحياة، إنما الحياة مرحلة، نسأله.. ما الهدف إذن، فيقول: إنه لقاء الله والآخرة.


هذا المؤمن سيكون عمله من أجل هذا الهدف. لكن الضال الذي يرى الدنيا وحدها هدفه ولا يؤمن بالجنة أو النار، هو غارق في ضلاله ويقبل على ما تشتهيه نفسه، ويبتعد عما يتعبه وإن كانت فيه سعادته.


ولكن المؤمن يعرف أن الهدف ليس هو الدنيا، وأن الهدف في مجال آخر، لذلك يسعى في تطبيق التكاليف الإيمانية ليصل إلى الهدف، وهو الجنة. إذن ما يفسد سلوك الناس هو جهلهم بالهدف، وحين يوجد الهدف، فالإنسان يحاول أن يعرف العمل الذي يقربه من الهدف فيفعله، فهذا هو الخير. أما الذي يبعده عن الهدف ويفعل عكس الموصل إليه فهذا هو الشر.


وإذا كان الأمر كذلك والمسألة هي في تحديد الهدف يجب أن تعلم أن الناس يستقبلون الكثير من الأحداث بما يناقض معرفة الهدف، وما دام الهدف هو أن تذهب إلى الآخرة لتلقى الله فلماذا يغرق في الحزن إنسان لأن له حبيبا قد انتقل إلى رحمة الله؟


هذا الإنسان يمكننا أن نسأله، لماذا تحزن وقد قصر الله عليه خطواته إلى الهدف؟ لابد أنك حزين على نفسك لأنك مستوحش له، ولأنك كنت تأنس به، أما حزنك من أجله هو، فلا حزن، لأنه اقترب من الهدف ووصل إليه.


وفي حياتنا اليومية عندما يكون هدف جماعة أن تصل إلى الإسكندرية من القاهرة، نجد إنسانا ما يذهب إلى الإسكندرية ما شيا، لأنه لا يجد نقودا أو وسيلة توصله، وتجد آخر يذهب إليها راكبا حمارا، وثالثا يذهب إليها راكبا حصانا، ورابعا يصل إليها راكبا (أتوبيسا)، وخامسا يصل إليها بركوب الطائرة، وسادسا يصل إليها بصاروخ، وكل ما حدث هو أن كل واحد في هذه الجماعة قد اقترب من الهدف بالوسيلة التي توافرت له، وهكذا نجد إنسانا يذهب إلى الله ماشيا في سبعين عاما، وآخر يستدعيه الله فورا، فلماذا تحزن عليه؟


إن لنا أن نحزن على الإنسان الذي لم يكن موفقا في خدمة الهدف، أما الموفق في خدمة الهدف فلنا أن نفرح له، ونقول: إن الله قد قصر عليه المسافة، وأغلبنا إن كان عنده ولد حبيب إلى قلبه وصغير ويفقده فهو يغرق في الحزن قائلا (إنه لم ير الدنيا) لهذا الإنسان نقول: يا رجلإن الله جعل ابنك يقفز الخطايا ويتجاوزها وأخذه إلى الغاية، فما الذي يحزنك؟ إن علينا أن نحسن استقبال ما يقضي به الله في خلقه، ونعرف أنه حكيم وأنه رحيم وأن كل شيء منه يجب ألا نفهمه خارجا عن الحكمة.


وبعد تلك الآيات الكريمة التي تحدث فيها الحق عن مريم وعيسى عليه السلام.. قال الحق سبحانه: {فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر قَالَ مَنْ أنصاري إِلَى الله...}.





نداء الايمان

امانى يسرى محمد 28-06-2021 07:35 PM

رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة ال عمران)
 
قال تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}.. [آل عمران : 52].


لقد ذكر عيسى ابن مريم القضية الجامعة المانعة أولا حين قال: {إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} [آل عمران: 51].




وأوضح عيسى ابن مريم بما لا يقبل الجدل: أنا معكم سواء في مربوبيتنا إلى إله واحد، وأنا لم أجيء لأعلمّكم لأني تميزت عنكم بشيء. فيما يتعلق بالعبادة نحن سواء، فالله رب لي ورب لكم، والصراط المستقيم هو عبادة الله الحق.


ونحن ساعة نسمع {الصراط المستقيم} فإننا نتخيل على الفور الطرق الموصلة إلى الغاية، ونعرف جميعا أنه لا يوجد طريق في الحياة مصنوع لذات الطريق، إنما الطريق يصنع ليوصل إلى غاية. وساعة تسمع {صراط} فإننا نفهم على الفور الغاية التي نريد أن نصل إليها. والحق سبحانه يقول: {وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.. [الأنعام: 153].


وما دام هناك طريق لغاية ما فلابد أن نحدد الغاية أولا، وتحديد الغاية إنما يهدف إلى إيضاح السبيل أمام الإنسان ليسلك الطريق الموصل إلى تلك الغاية. وهكذا يقول الحق على لسان عيسى ابن مريم: {إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه}.


والعبادة هي إطاعة العابد لأمر المعبود، وهكذا يجب أن نفطن إلى أن العبادة لا تقتصر على إقامة الأركان التعبدية في الدين من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا، إن هذه هي أركان الإسلام ولا يستقيم أن ينفصل الإنسان المسلم عن ربه بين أوقات الأركان التعبدية، إن الأركان التعبدية لازمة، لأنها تشحن الطاقة الإيمانية للنفس حتى تقبل على العمل الخاص بعمارة الدنيا، ويجب أن نفطن إلى أن العبادة في الدنيا هي كل حركة تؤدي إلى إسعاد الناس وعمارة الكون.


ويجب أن نعرف أن الأركان التعبدية هي تقسيم اصطلاحي وضعه العلماء في الفقه كباب العبادات وباب المعاملات، لكن علينا أن نعرف أن كل شيء يأمر به الله اسمه عبادة. إذن فالعبادة منها ما يصل العبد بالمعبود ليأخذ الشحنة الإيمانية من خالقه، خالق الكون، ومنها ما يتصل بعمارة الكون. ولذلك قلنا: إنك حينما تتقبل من الله أمرا بعبادة ما، فأنت تتلقاه وأنت موصول بأسباب الله بحثا عن الرزق وغير ذلك من أمور الحياة، والمثل الواضح لذلك هو قول الحق: {ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9].


إن هذا الأمر بالصلاة الجامعة يوم الجمعة يخرج بالإنسان من أمر البيع، وهذا الأمر بالصلاة لم يأخذ الإنسان من فراغ، إنما أخذ الإنسان من عمل، هو البيع.


ولو نظرنا إلى دقة الأداء في البيع لوجدناها قمة الأخذ المباشر للرزق. إن كلام الله يصل في دقته إلى ما لا يصل إليه كلام بشر، فلم يقل الله مثلا (اتركوا الصنعة) (اتركوا الحرث) ولكن الحق جاء بالبيع هنا لأنه قمة النفعية العاجلة.


إن الذي يحرث ويزرع ينتظر وقتا قد يطول حتى تنضج الثمار، لكن الذي يبيع شيئا، فإنه ينال المنفعة فوراً، لقد جاء الأمر بترك هذه الثمرة العاجلة لأداء صلاة الجمعة، ويتضمن هذا الأمر ترك كل الأمور التي قد تأتي ثمراتها من بعد ذلك لأداء الصلاة.


إن البيع هو التعبير الدقيق لأن المتكلم هو الله، والحق لم يتكلم هنا مثلا عن الشراء، لأن الشاري قد يشتري وهو كاره، لكن البائع يملأه السرور وهو يبيع فقد يذهب رجل لشراء أشياء لبيته فيسمع الأذان فيسرع إلى الصلاة ويقول لأهله من بعد ذلك: لقد ذهبت إلى الشراء، لكن المؤذن قد أذن لصلاة الجمعة، ذلك أن الإنسان يجب ألا يدفع نقودا، لكن البائع يستفيد بقمة الفائدة. لذلك يخرجنا الحق من قمة (كل الأعمال ونهاية كل الأعمال وهي مبادلة السلع بأثمانها). لكن ماذا بعد انقضاء الصلاة؟ {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.. [الجمعة: 10].


لقد أخرجنا من الصلاة إلى الحياة نبتغي من فضل الله، ولذلك يكون الإنتشار في الأرض والبحث عن الرزق عبادة.


ولننظر إلى الدقة في قوله الحق: {فانتشروا فِي الأرض} إن الانتشار يعني أن ينساح البشر لينتظموا في كل حركات الحياة، وبذلك تعمر كل حركة فيها. إن كل حركة في الحياة هي عبادة، وهكذا نستوعب قوله الحق على لسان عيسى ابن مريم: {إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} ومن بعد ذلك يقول الحق: {فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر} لقد حسم عيسى ابن مريم أمر العقيدة حينما قال: {إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ} إن في ذلك تحذيرا من أن يقول أتباع عيسى أي شيء آخر عن عيسى غير أنه عبد الله خاضع لله، مأمور بالطاعة والعبادة لله. ووضع أمامهم المنهج، فقال: {هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ}.


https://akhawat.islamway.net/forum/a...9a6ae5bb147830





وقول الحق: {فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر} يدل على أن كل صاحب فكرة، وكل صاحب مهمة، وكل صاحب هدف لابد أن يكون يقظ الأحاسيس، لأن صاحب الفكرة وخاصة الدينية يخرج الناس من الظلمات إلى النور.
وقد يقول قائل: لماذا يعيش الناس في الظلام ولا يتجهون إلى النور من أول الأمر؟ وتكون الإجابة: إن هناك أناسا يستفيدون من وجود جموع الناس في الظلمات، لذلك يكون بينهم أناس ظالمون وأناس مظلومون، والظالم الذي يأخذ- اغتصابا- خيرَ الآخرين ويعربد في الكون يخاف من رجل الدعوة الذي ينهاه عن الظلم، ويدعوه إلى الهداية إلى منطق العقل، ومثل هذا الظالم عندما يسمع كلمة المنطق والدعوة إلى الإيمان لا يحب أن تُنطق هذه الكلمة، إنه يكره الكلمة والقائل لها.


إن الداعية مأمور من الله بأن يكون يقظا لأنه إن اهتدى بكلماته أناس وسعدوا بها، فإنّه يغضب أناساً آخرين، ذلك أن المجتمع الفاسد يوجد به المستفيدون من الفساد، فالداعية عليه أن يعرف يقظة الحس، ويقظة الحس معناها الالتفاف إلى الأحاسيس الخفية الموجودة عند كل إنسان، ونحن نسمى الأشياء الظاهرة منها الحواس الخمس، اللمس، والرؤية، والسمع، والتذوق، والشم.


إن رجل الدعوة مأمور بأن تعمل كل حواسه حتى يعرف من الذي يجبن ويرتجف لحظة أن تأتي دعوة الخير، ومن الذي يطمئن ويحسن الراحة لدعوة الخير. إن رجل الدعوة مأمور بدقة اليقظة والإحساس ليميز بين الذي تتغير سحنته لحظة دعوة الخير، ومن الذي يستبشر ويفرح.


وعندما أعلن عيسى ابن مريم منهج الحق، وجد أنصار الظلم وأنصار البغي، وأنصار الظلمات غير معجبين بالمنهج الواضح للإيمان بالله، لذلك أحس منهم الكفر لقد كان مليئا باليقظة والانتباه. إنه يعلم أنه قد جاء برسالة من الله؛ ليخرج أناساً من مفسدة إلى مصلحة. وعندما أحس منهم الكفر، أراد أن ينتدب جماعة ليعينوه على أمر الدعوة. {قَالَ مَنْ أنصاري إِلَى الله}؟


إن الدعوة تحتاج إلى معركة، والمعركة تحتاج إلى تضحية. والتضحية تكون بالنفس والنفيس، لذلك لابد أن يستثير ويحرك من يجد في نفسه العون على هذه المسألة. وهو لم يناد أفرادا محددين، إنما طرح الدعوة ليأتي الأنصار الذين يستشرفون في أنفسهم القدرة على حمل لواء الدعوة، ولتكون التضحية بإقبال نفس لا استجابة لداع. {فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر قَالَ مَنْ أنصاري إِلَى الله} وكلمة (أنصار) هي جمع (نصير). والنصير هو المعين لك بقوة على بُغْيَتِك.


وعندما سأل عيسى: {مَنْ أنصاري إِلَى الله} كانت إلى في السؤال تفيد الغاية، وهي الله، أي من ينصرني نصرا تصير غايته إلى الله وحده لا إلى هؤلاء البشر؟ إنه لا يسأل عن أناس يدخلون في لواء الدعوة من أجل الغنيمة أو يدخلون من أجل الجاه أو غير ذلك إنه يسأل عن أهل العزم ليكون كل منهم متجها بطاقته إلى نصرة الله وحده.


https://akhawat.islamway.net/forum/a...9a6ae5bb147830







ومثال ذلك ما دار بين رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وبين رجال من المدينة في أثناء مبايعتهم له في العقبة

فقد قال لهم رسول الله : «أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون فيه نساءكم وأبناءكم». فأخذ الداء بن معرور بيده ثم قال: نعم والذي بعثك بالحق لنمنعنّك مِما نمنع منه أزرنا. فبايعوا رسول الله على ذلك فقام أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين اليهود حبالا وإنا قاطعوها فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتَدَعنَا؟ فتبسم رسول الله ثم قال: (بل الدم الدم والهدم الهدم أنا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم) أي ذمتي ذمتكم وحرمتي حرمتكم.


أقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم ستمتلكون الأرض وستسودون الدنيا، أو ستنتصرون على أعدائكم؟ لا. بل قال صلى الله عليه وسلم أنا منكم وأنتم مِنِّي. لماذا؟ لأنه لو قال لهم ستنتصرون على أعدائكم، فقد يدخلون المعركة، ويموت واحد منهم؛ ولا يرى النصر، لكن الأمر الذي سيراه كل المؤمنين أن رسول الله منهم وأنهم من رسول الله وما داموا كذلك فسيدخلون معه الجنة وهي الغاية الأصيلة.


وعندما سأل عيسى ابن مريم {مَنْ أنصاري إِلَى الله} فكأنه كان يسأل: من يعينني معونة غايتها الله؟ ولماذا نأخذ هذا المعنى؟ تكون الإجابة: أنا آخذ المعنى على قدر ذهني؛ لأن مرادات الله في كلماته لا تتناهى كمالاً، وقد يأتي غيري ويأخذ منها معنى آخر. ومعنى (النصير): هو (من ينصر بجهد وقوة). وننظر النصر في الإيمان كيف يأتي؟ إن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن النصر في الإيمان قال: {ياأيها الذين آمنوا إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}.. [محمد: 7].


إذن فالنصر منا لله بأن نُطبق دينه، وهذا مراد الله، ولذلك يأتي النصر مرة من المؤمن لربه، ومرة من الرب لمربوبه، وقد يكون مراد عيسى- عليه السلام- من الذي ينصرني كي ينضم إلى الله في النصر؟


ونحن هنا أمام معسكرين معسكر الإيمان، ومعسكر الكفر. لقد سأل عيسى {مَنْ أنصاري إِلَى الله} أي أنه يسأل عن الذين بإمكانهم أن ينضموا إلى غاية هي الله ونتفهم نحن هذا المعنى على ضوء ما قاله الحق: {ياأيها الذين آمنوا إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} .. [محمد: 7].


ونعرف أيضا أن هناك نصراً من المؤمن لله، وهناك نصر من الله للمؤمن. وهكذا يكون سؤال عيسى ابن مريم {مَنْ أنصاري إِلَى الله}؟

فقد أفاد المعنيين معاً. وكانت الإجابة: {قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله آمَنَّا بالله واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}.


https://akhawat.islamway.net/forum/a...9a6ae5bb147830







والحواريون مأخوذة من الحور، وهو شدة البياض وهم جماعة أشرقت في وجوههم سيماء الإيمان فكأنها مشرقة بالنور. ونور الوجه لا يقصد به البشرة البيضاء، ولكن نور الوجه في المؤمن يكون بإشراقة الإيمان في النفس،

ولذلك يصف الحق المؤمنين برسالة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود}.. [الفتح: 29].


فحتى لو كان المؤمن أسود اللون فإن له سمة على وجهه. كيف ولماذا؟ لأن الإنسان مكون من أجهزة، ومكون من ذرات، وكل جهاز في الإنسان له مطلوب محدد وساعة أن تتجه كل الأجهزة إلى ما أراده الله، فإن الذي يحدث للإنسان هو انسجام كل أجهزته، وما دامت الأجهزة منسجمة فإن النفس تكون مرتاحة، ولكن عندما تتضارب مطلوبات الأجهزة، تكون السحنة مكفهرة.


عندما قال عيسى: {مَنْ أنصاري إِلَى الله} سمع الاستجابة من الحواريين، والحواريون قوم لهم إشراقات انسجام النفس مع الإيمان، أو هم قوم بيض المعاني أي أن معانيهم بيضاء ومشرقة. والنبي صلى الله عليه وسلم سمى بعضا من صحابته حواري رسول الله وهم الذين جعلهم رسول الله معه طوال الوقت.


وحين قال الحواريون: {نَحْنُ أَنْصَارُ الله} كان ذلك يعني أن كل إنسان منهم يريد نصرة الله. فينضم إلى الله ناصرا للمنهج وهذا يتطلب أن يعرف كل منهم المنهج. ونحن نعرف مقومات النصرة لله. إنه الإيمان: وما الإيمان؟ إنه اطمئنان القلب إلى قضية ما، هذا هو الإيمان في عمومه. فلو لم أكن مؤمنا بأن الطريق الذي أسير فيه موصلٌ إلى غاية مطلوبة لي لما سرت فيه.


https://akhawat.islamway.net/forum/a...9a6ae5bb147830





مثال ذلك المسافر من القاهرة إلى دمياط لو لم يعتقد صحة الطريق لما سلك هذا الطريق، وإن لم اعتقد أنني إن لم أذاكر دروسي سوف أرسب لما ذاكرت. إذن فكل أمر في الدنيا يتم بناؤه على الإيمان، لكن إذا أطلق الإيمان بالمعنى الخاص، فهو اطمئنان القلب إلى قمة القضايا، وهي الإيمان بالله، لذلك فأسلحة النصر إلى الله هي: إسلام كل جوارح الإنسان إلى الله. ولذلك قال الحواريون: {نَحْنُ أَنْصَارُ الله آمَنَّا بالله واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}.


لماذا يشهد الرسول لهم؟

لأن المفروض في الرسول أن يبلغ القوم عن الله، فيشهد عليهم كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَفِي هذا لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة واعتصموا بالله هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير}.. [الحج: 78].


ولنا أن نلاحظ أن الحق أورد على لسانهم- الحواريين- الإيمان أولا، لأنه أمر غيبي عقدي في القلب، وجاء من بعد ذلك على لسان الحواريين طلب الشهادة بالإسلام؛ لأن الإسلام خضوع لمطلوبات الإيمان وأحكامه. إن قولهم: {واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} هو أيضا طلب منهم يسألونه لعيسى ابن مريم أن يبلغهم كل مطلوبات الإسلام قل لنا افعلوا كذا ولا تفعلوا كذا إنهم قالوا: (آمنا) وما داموا قد أعلنوا الإيمان بالله، فهم آمنوا بمن بلغهم عن الله، والمطلوب من عيسى ابن مريم أن يشهد بأنهم مسلمون، ولا تتم الشهادة إلا بعد أن يبلغهم كل الأحكام وقد بلغهم ذلك وعملوا به وقالوا من بعد ذلك: {رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتَ واتبعنا الرسول...}.


نداء الايمان

امانى يسرى محمد 29-06-2021 02:46 PM

رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة ال عمران)
 
{رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)}
فهل يكون إعلانهم للإيمان، يعني إيمانهم بتشريعات رسالة سابقة، لا، إن الإيمان هنا مقصود به ما جاء به عيسى من عند الله؛ لأن كل رسول جاء بشيء من الله، فوراء مجيء رسول جديد أمر يريد الله إبلاغه للناس
ونحن نعلم أن العقائد لا تغيير فيها؛ وكذلك الأخبار؛ وكذلك القصص، ولكن الأحكام هي التي تتغير. فكأن إعلان الحواريين هو إعلان بالإيمان بما جاء سابقا على عيسى ابن مريم من عقائد وبما جاء به عيسى ابن مريم من أحكام وتشريعات.


وقولهم:
{رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتَ} كلمة {بِمَآ أَنزَلَتَ} تدل على منهج منزل من أعلى إلى أدنى، ونحن حين نأخذ التشريع فنحن نأخذه من أعلى. ولذلك قلنا سابقا: إن الله حينما ينادي من آمن به ليتبع مناهج الإيمان يقول: (تعالوا) أي ارتفعوا إلى مستوى التلقي من الإله وخذوا منه المنهج ولا تظلوا في حضيض الأرض، أي لا تتبعوا أهواء بعضكم وآراء بعضكم أو تشريع بعضكم، وما دام المؤمن يريد العلو في الإيمان، فليذهب بسلوكه في الأرض إلى منهج السماء.

وقولهم:
{رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتَ واتبعنا الرسول}.
إن المتبع عادة يقتنع بمن اتبعه أولا، حتى يكون الاتباع صادرا من قيم النفس لا من الإرغام قهرا أو قسرا، فنحن قد نجد إنسانا يرغم إنسانا آخر على السير معه، وهنا لا يقال عن المُرغَم: إنه (اتبع) إنما الذي يتبع، أي الذي يسير في نفس طريق صاحبه يكون ذلك بمحض إرادته ومحض اختياره. فلو سار شخص في طريق شخص آخر بالقهر أو القسر لكان ذلك الاتباع بالقالب، لا بالقلب. ولذلك فمن الممكن لمتجبر أن يمسك سوطا ويقهر مستضعفا على السير معه، وفي ذلك إخضاع لقالب المستضعف، لكنه لم يخضع قلبه، فالإكراه يخضع القالب لكنه لا يخضع القلب. {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 3-4].

إن الحق يخبر رسوله أن أحدا من العباد. لا يستعصي على خالقه، وأنه سبحانه القادر على الإحياء والإماتة، ولو أراد الله أن ينزل آية تخضع أعناق كل العباد لَفَعَل، لكن الحق لا يريد أعناق الناس، ولكنه يطلب القلوب التي تأتي طواعية وبالاختيار، وأن يأتي العبد إلى الإيمان وهو قادر ألا يجيء. هذه هي العظمة الإيمانية.

وقال الحواريون بعد إعلانهم الإيمان بما جاء به عيسى:
{فاكتبنا مَعَ الشاهدين} إنه الطلب الإيماني العالي الواعي، الفاهم. إنهم يحملون أمانة التبليغ عن الرسول، ويشهدون كما يشهد الرسل لأممهم، ويطلبون أن يكتبهم الله مع الذين يشهدون أن الرسل يبلغون رسالات الله وأنهم يحملونها من بعدهم؛ ولذلك قلنا عن أمة محمد عليه الصلاة والسلام: إنها الأمة التي حملها الله مهمة وصل بلاغ الرسالة المحمدية إلى أن تقوم الساعة.
لماذا؟
ها هو ذا القول الحق: {وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجتباكم وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة واعتصموا بالله هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير} [الحج: 78].
ولذلك فلن يأتي أنبياء أو رسل من بعد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لقد ائتمن الله أمة محمد؛ بعد محمد صلى الله عليه وسلم، لذلك فلا نبوة من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعد ذلك يخبرنا الحق: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين...}.



https://akhawat.islamway.net/forum/a...9a6ae5bb147830



{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)}

إن الأشياء التي يدركها العقل هي مسميات ولها أسماء وتكون أولا بالحس؛ لأن الحس هو أول مصاحب للإنسان لإدراك الأشياء، وبعد ذلك تأتي المعاني عندما نكبر ونعرف الحقائق. إن البداية دائما تكون هي الأمور المحسة، ولذلك يقول الله عن المنهج الإيماني: إنه طريق مستقيم، أي أن نعرف الغاية والطريق الموصل إليها، وكلمة (الطريق المستقيم) من الأمور المحسة والتي يتعرف الناس عليها بالتطبيق لقواعد المنهج.

إن كلمة (مكر)، مأخوذة من الشجر، فساعة أن ترى الشجرة التي لا تلتف أغصانها على بعضها فإن الإنسان يستطيع أن يحكم أن ورقة ما، هي من فرع ما، ولكنْ هناك نوع من الأشجار تكون فروعه ملفوفة على بعضها بحيث لا يستطيع الإنسان أن يعرف أي ورقة من أي فرع هي، ومن هذا المعنى أخذنا كلمة (المكر) فالرجل الذي يلف ويدور، هو الذي يمكر، فالذي يلف على إنسان من أجل أن يستخلص منه حقيقة ما، والذي يحتال من أجل إبراز حقيقة، فإن كان ذلك بغير قصد الضرر نسميه حيلة، وإن كان بقصد الضرر فهذا هو المكر السيء. ولذلك فالحق يقول: {وَمَكْرَ السيئ وَلاَ يَحِيقُ المكر السيئ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأولين فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَحْوِيلاً} [فاطر: 43].

ومعنى ذلك أن هناك مكراً غير سيء، أي أن المكر الذي لا يقصد منه إيقاع الضرر بأحد، فإننا نسميه مكرَ خير، أما المكر الذي يقصد منه إيقاع الضرر فهو (المكر السيء). ولنا أن نسأل: ما الذي يدفع إنسانا ما إلى المكر؟ إن الذي يمكر يداري نواياه، فقد يظهر لك الحب بينما هو مبغض، ويريد أن يزين لك عملا ليمكر بك، فيحاول مثلا أن يصحبك إلى مكان بعيد غير مأهول بالناس ويريد أن يوقع بك أبلغ الضرر، وقد يكون القتل.

إذن، فمن أسس المكر التبييت، والتبييت يحتاج إلى حنكة وخبرة، لأن الذي يحاول التبييت قد يجد قبالته من يلتقط خبايا التبييت بالحدس والتخمين، وما دام المكر يحتاج إلى التبييت، فإن ذلك علامة على الضعف في البشر لأن القوي لا يمكر ولا يكيد ولكن يواجه.
إن القوي لحظة أن يمسك بخصم ضعيف، فمن الممكن أن يطلقه، لأن القوي مطمئن إلى أن قوته تستطيع أن تؤذي هذا الضعيف. لكن الضعيف حين يملك قويا، فإنه يعتبر الأمر فرصة لم تتكرر، ولذلك فالشاعر يقول:
وضعيفة فإذا أصابت فرصة قتلت ** كذلك قدرة الضعفاء


إن الضعيف هو الذي يمكر ويبيت. والذي يمكر قد يضع في اعتباره أن خصمه أقوى منه حيلة وأرجح عقلا، وقد ينكل به كثيرا، لذلك يخفى الماكر أمر مكره أو تبييته.
فإذا ما أراد خصوم المنهج الإيماني أن يمكروا، فعلى من يمكرون؟ إن الرسول لا يكون في المعركة بمفرده ولكن معه الله. {يُخَادِعُونَ الله والذين آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9].
فالله يعلم ما يبيت أي إنسان، ولذلك فعندما يريد الله أن يبرز شيئا ويوجده فلن يستطيع أحد أن يواجه إرادة الله وأمره، إذن فمكر الله لا قبل لأحد لمواجهته.
{وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين} [آل عمران: 54].

وساعة تجد صفة تستبعد أن يوصف بها الله فاعلم أنما جاءت للمشاكلة فقط وليست من أسماء الله الحسنى، إن المؤمنين بإمكانهم أن يقولوا للكافرين: إنكم إن أردتم أن تبيتوا لنا، فإن الله قادر على أن يقلب المكر عليكم، أما أسماء الله وصفاته فهي توقيفية، نزل بها جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن إذا وجد فعل لله لا يصح أن نشتق نحن منه وصفا ونجعله اسما لله، {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين}، فليس من أسماء الله مخادع، أو ماكر، إياك أن تقول ذلك، لأن أسماء الله وصفاته توقيفية، وجاء القول هنا بمكر الله كمقابل لفعل من البشر، ليدلهم على أنهم لا يستطيعون أن يخدعوا الله، ولا يستطيعون أن يمكروا بالله، لأن الله إذا أراد أن يمكر بهم، فهم لا يستطيعون مواجهة ذلك. إن الحق يقول: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين}.

إذن فهناك (مكر خير).. وذلك دليل على أن هناك من يصنع المكر ليؤدي إلى الخير. ولماذا تأتي هذه الآية هنا؟ لأن هناك معركة سيدخلها عيسى ابن مريم عليه السلام، وعيسى عليه السلام لم يجيء ليقاتل بالسيف ليحمي العقيدة، إنما جاء واعظا ليدل الناس على العقيدة، إن النصرة لا تكون بالسيف فقط، ولكن بالحجة. ونحن نعرف أن السماء كانت لا تطلب من أي رسول أن يحارب في سبيل العقيدة لأن السماء هي التي كانت تتولى التأديب. {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40].

ولم يجيء قتال إلا حينما طلب بنو إسرائيل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بني إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ موسى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابعث لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ والله عَلِيمٌ بالظالمين} [البقرة: 246].
ولكن أمة محمد صلى الله عليه وسلم هي التي أذن الله لها أن تحمل السيف لتؤدب به الذين يحولون دون بلوغ العقيدة الصحيحة للناس.
إن السيف لم يأت ليفرض العقيدة، إنما ليحمي الاختيار في النفس الإيمانية، فبدلا من أن يترك الناس مقهورين على اعتناق عقيدة خاطئة فالمسلمون يرفعون السيف في وجه الظالم القاهر لعباد الله. وعباد الله لهم أن يختاروا عقيدتهم.

ولذلك فعندما يقول اعداء الإسلام: (أن الإسلام انتشر بالسيف).
نرد عليهم:

إن الله قد بدأ الإسلام بضعف حتى يسقط هذا الاتهام، لقد كان المسلمون الأوائل ضعفاء لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، فيتجه بعضهم إلى الحبشة، ويهاجرون بحثا عن الحماية، فلو كان الإسلام قد انتشر بالسيف فلنا أن نسأل: من الذي حمل أول سيف ليكره أول مؤمن؟ إن المؤمنين رضوا الإسلام دينا وهم في غاية الضعف ومنتهاه. إن الإسلام قد بدأ واستمر وما زال يحيا بقوة الإيمان.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء في أمة أمية، ومن قبيلة لها شوكتها، وشاء الحق ألا ينصر الله دينه بإسلام أقوياء قريش أولا، بل آمن بالرسول صلى الله عليه وسلم الضعفاء وخاض رسول الله صلى الله عليه وسلم رحلة الدعوة الإيمانية مدة ثلاثة عشر عاما، دعوة للإيمان بالله، ثم هاجر رسول الله إلى المدينة، إلى أن صار كل المسلمين وحدة إيمانية قوية، وارتفع السيف لا ليفرض العقيدة، ولكن ليحمي حرية اختيار الناس للعقيدة الصحيحة. ولو أن الإسلام انتشر بالسيف. فكيف نفسر وجود أبناء لديانات أخرى في البلاد المسلمة؟ لقد أتاح الإسلام فرصة اختيار العقيدة لكل إنسان.
إذن فكل مسلم يمثل وحدة إيمانية مستقلة، وواجب كل مسلم أن يعرف أن الإسلام قد انتشر بالأسوة الحسنة، وأنه كمؤمن بالله وبدين الله، قد اصطفاه الله ليطبق السلوك الإيماني، فقد مكن الله للإسلام في الأرض بالسلوك والقدوة.

إن كل مسلم عليه واجب ألا يترك في سلوكه ثغرة ينفذ منها خصوم الإسلام إلى الإسلام، ذلك أن اختلال توازن سلوك المسلم بالنسبة لمنهج الله هو ثغرة ينفذ منها خصوم الإسلام، ولذلك فالمفكرون في الأديان الأخرى حينما يذهبون إلى الإسلام، ويقتنعون به، إنما يقتنعون بالإسلام لأنه منهج حق. إنهم يمحصونه بالعقل، ويهتدون إليه بالفطرة الإيمانية. أما الذين يريدون الطعن في الإسلام، فهم ينظرون إلى سلوك بعض من المسلمين، فيجدون فيه من الثغرات ما يتهمون به الإسلام.
إن المفكرين المنصفين يفرقون دائما بين العقيدة، ومتبع العقيدة، ولذلك فأغلب المفكرين الذين يتبعون هذا الاتجاه، يلجأون إلى الإسلام ويؤمنون به. ولكن الذين يذهبون إلى الإسلام من جهة أتباعه، فإن صادفوا تابعا للإسلام ملتزما دعاهم ذلك إلى أن يؤمنوا بالإسلام، ولذلك كانت الجمهرة الكثيرة الوفيرة في البلاد الإسلامية المعاصرة في بلاد لم يدخلها فتح إسلامي، وإنما دخلتها الأسوة الإسلامية في أفراد تابعين ملتزمين، فراق الناس ما عليه هؤلاء المسلمون من حياة ورعة، ومن تصرفات مستقيمة جميلة، ومن أسلوب تعامل سمح أمين، نزيه، نظيف، كل ذلك لفت جمهرة الناس إلى الإسلام، وجعلهم يتساءلون: ما الذي جعلكم على هذا السلوك الطيب؟ قالوا: لأننا مسلمون.

وتساءل الناس في تلك المجتمعات: وما معنى الإسلام؟ وبدأ المسلمون يشرحون لهم الإسلام.
إذن، فالذي لفت إلى الإسلام هو السلوك المنهجي الملتزم، ولذلك فالحق سبحانه وتعالى حين يعرض منهج الدعوة الناجحة يقول: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المسلمين} [فصلت: 33].

والدعوة إلى الله تكون باللسان والعمل الصالح، ليدل المؤمن على أن ما يدعو إليه غيره قد وجده مفيدا فالتزمه هو، فالعمل الصالح هو شهادة للدعوة باللسان، ولا يكتفي المؤمن بذلك، إنما يعلن ويقول: {إِنَّنِي مِنَ المسلمين} يقول ذلك لمن؟
يقوله لمن يرونه على السلوك السمح الرضى الطيب. إنها لفتة من ذاته إلى دينه.
إن هذا يفسر لنا كيف انتشر الإسلام بوساطة جماعة من التجار الذين كانوا يذهبون إلى كثير من البلاد، وتعاملوا مع الناس بأدب الإسلام، وبوقار الإسلام، وبورع الإسلام، فصار سلوكهم الملتزم لافتا، وعندما يسألهم القوم عن السر في سلوكهم الملتزم، ويقول الإنسان منهم: أنا لم أجيء بذلك من عندي ولكن من اتباعي لدين الله الإسلام.

ومثال ذلك في السلوك الأسوة: المسلمون الأوائل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. لقد كان صحابته رضوان الله عليهم يخافون عليه من خصومه، فكانوا يتناوبون حراسته، ومعنى تناوب الحراس أنهم أرادوا أن يكونوا المصد للأخطار يتداولون ذلك فيما بينهم. وأراد الحق سبحانه أن يهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة خفية، ونام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه مكان الرسول صلى الله عليه وسلم. لقد أراد علي- كرم الله وجهه- أن يكون هو المصد، فإذا جاء خطر فإنه هو الذي يصده.
لا شك أنه كان يفعل ذلك لأنه واثق أن بقاء الرسول صلى الله عليه وسلم خير للإسلام حتى ولو افتداه بروحه. هذا هو التسامى العالي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. كان الواحد منهم يحب الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الأسوة بالرسول واتباع دين الله إنّما يعود ذلك عليه بالخير العميم. وعندما يموت واحد منهم في سبيل المحافظة على من أرسله الله رسولا ليبلغ دعوته فقد نال الشهادة في سبيل الله.

هذا هو أبو بكر الصديق رضوان الله عليه مع رسول الله في الغار. ألم يجد الصديق شقوقا فيمزع من ثيابه ليسد الشقوق؟ ألم يضع قدمه في شق لأنه يخشى أن تجيء حشرة من الحشرات قد تؤذي حضرة النبي صلى الله عليه وسلم؟ لقد أراد أن يحافظ على الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ولو افتداه، وهذه شهادة بأن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنوا بأن بقاء الرسول خير لهم وللإيمان ولنفوسهم من بقائهم هم أنفسهم.

وهكذا أراد الله نصرة رسوله على الكفار، عندما مكروا وبيتوا أن يقتلوه قبل الهجرة، وهكذا أراد الله نصر رسوله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة عندما واجه أعداء الإسلام في القتال، لقد مكروا، ولكن الله خير الماكرين.
وكأن الحق سبحانه وتعالى يقول بهذا النصر من الله: لن تستطيعوا أن تقاوموا محمدا لا بالمواجة ولا بالتبييت. وها هو ذا تابع من أتباعه صلى الله عليه وسلم هو سيدنا عمر رضي الله عنه يهاجر علنا، ويقول: من أراد أن تثكله أمه، أو ترمل زوجته، أو ييتم ولدُه، فليلقني وراء هذا الوادي. بينما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم خفية.
لماذا؟ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة للضعيف. إن القوى يستطيع حماية نفسه ويخرج إلى الهجرة مجاهرا. أما الضعيف فلابد أن يهاجر خفية؛ لذلك فالأسوة للضعيف كانت في رسول الله صلى الله عليه وسلم. لقد مكر أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن الله مكر بهم. {وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال} [إبراهيم: 46].

إن مكرهم رغم عنفه وشدته والذي قد يؤدي إلى زوال الجبال، هذا المكر يبور عند مواجهته لمكر الله الذي يحمى رسله وعباده الصالحين. لقد جاء مكر بني إسرائيل وأنزل فيه الله قوله الحكيم: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين}. لأنهم أرادوا أن يتخلصوا من سيدنا عيسى ابن مريم عليه السلام. فقال الحق سبحانه: {إِذْ قَالَ الله ياعيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ...}.

نداء الايمان



امانى يسرى محمد 03-07-2021 02:33 PM

رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة ال عمران)
 
{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)}
لقد جاء الحق سبحانه بعد عرضه لمسألة المكر بهذا القول الحكيم، وذلك دليل على أن عيسى عليه السلام أحس من بني إسرائيل الكفر، والتبييت، ومؤامرة للقتل فطمأن الله عيسى إلى نهاية المعركة. {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُواْ إلى يَوْمِ القيامة}. إنها أربعة مواقف، أرادها الله لعيسى ابن مريم عليه السلام.



ونريد أن نقف الآن عند كلمة قول الحق: {مُتَوَفِّيكَ}.


نحن غالبا ما نأخذ معنى بعض الألفاظ من الغالب الشائع، ثم تموت المعاني الأخرى في اللفظ ويروج المعنى الشائع فنفهم المقصد من اللفظ. إن كلمة (التوفي) نفهمها على أنها الموت، ولكن علينا هنا أن نرجع إلى أصل استعمال اللفظة، فإنه قد يغلب معنى على لفظ،



وهذا اللفظ موضوع لمعان متعددة، فيأخذه واحد ليجعله خاصا بواحد من هذه. إن كلمة (التوفي) قد يأخذها واحدا لمعنى (الوفاة) وهو الموت. ولكن، ألم يكن ربك الذي قال: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ}؟ وهو القائل في القرآن الكريم: {وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم بالليل وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ليقضى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأنعام: 60].
إذن {يَتَوَفَّاكُم} هنا بأي معنى؟


إنها بمعنى ينيمكم. فالنوم معنى من معاني التوفي.

ألم يقل الحق في كتابه أيضا الذي قال فيه: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ}. {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ التي قضى عَلَيْهَا الموت وَيُرْسِلُ الأخرى إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر: 42].
لقد سمى الحق النوم موتا أيضا. هذا من ناحية منطق القرآن، إن منطق القرآن الكريم بين لنا أن كلمة (التوفي) ليس معناها هو الموت فقط ولكن لها معان أخرى، إلا أنه غلب اللفظ عند المستعملين للغة على معنى فاستقل اللفظ عندهم بهذا المعنى، فإذا ما أطلق اللفظ عند هؤلاء لا ينصرف إلا لهذا المعنى، ولهؤلاء نقول: لا، لابد أن ندقق جيدا في اللفظ ولماذا جاء؟


وقد يقول قائل: ولماذا يختار الله اللفظ هكذا؟

والإجابة هي: لأن الأشياء التي قد يقف فيها العقل لا تؤثر في الأحكام المطلوبة ويأتي فيها الله بأسلوب يحتمل هذا، ويحتمل ذلك، حتى لا يقف أحد في أمر لا يستأهل وقفة. فالذي يعتقد أن عيسى عليه السلام قد رفعه الله إلى السماء ما الذي زاد عليه نت أحكام دينه؟ والذي لا يعتقد أن عيسى عليه السلام قد رُفع، ما الذي نقص عليه من أحكام دينه، إن هذه القضية لا تؤثر في الأحكام المطلوبة للدين، لكن العقل قد يقف فيها؟ فيقول قائل: كيف يصعد إلى السماء؟ ويقول آخر: لقد توفاه الله.
وليعتقدها أي إنسان كما يريد لأنها لا تؤثر في الأحكام المطلوبة للدين.
إذن، فالأشياء التي لا تؤثر في الحكم المطلوب من الخلق يأتي بها الله بكلام يحتمل الفهم على أكثر من وجه حتى لا يترك العقل في حيرة أمام مسألة لا تضر ولا تنفع. وعرفنا الآن أن (توفى) تأتي من الوفاة بمعنى النوم من قوله سبحانه: {وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم بالليل وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ليقضى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأنعام: 60].
ومن قوله سبحانه وتعالى: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ التي قضى عَلَيْهَا الموت وَيُرْسِلُ الأخرى إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر: 42].
إن الحق سبحانه قد سمى النوم موتا لأن النوم غيب عن حس الحياة. واللغة العربية توضح ذلك، فأنت تقول- على سبيل المثال- لمن أقرضته مبلغا من المال، ويطلب منك أن تتنازل عن بعضه لا، لابد أن أستوفي مالي، وعندما يعطيك كل مالك، تقول له: استوفيت مالي تماما، فتوفيته، أي أنك أخذته بتمامه.


إذن، فمعنى {مُتَوَفِّيكَ} قد يكون هو أخذك الشيء تاما. أقول ذلك حتى نعرف الفرق بين الموت والقتل، كلاهما يلتقي في أنه سلب للحياة، وكلمة (سلب الحياة) قد تكون مرة بنقض البنية، كضرب واحد لآخر على جمجمته فيقتله، هذا لون من سلب الحياة، ولكن بنقض البنية. أما الموت فلا يكون بنقض البنية، إنما يأخذ الله الروح، وتبقى البنية كما هي، ولذلك فرق الله في قرآنه الحكيم بين (موت) و(قتل) وإن اتحدا معا في إزهاق الحياة. {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً وَسَيَجْزِي الله الشاكرين} [آل عمران: 144].
إن الموت والقتل يؤدي كل منهما إلى انتهاء الحياة، لكن القتل ينهي الحياة بنقض البنية، ولذلك يقدر بعض البشر على البشر فيقتلون بعضهم بعضا. لكن لا أحد يستطيع أن يقول: (أنا أريد أن يموت فلان)، فالموت هو ما يجريه الله على عباده من سلب للحياة بنزع الروح. إن البشر يقدرون على البينة بالقتل، والبينة ليست هي التي تنزع الروح، ولكن الروح تحل في المادة فتحيا، وعندما ينزعها الله من المادة تموت وترم أي تصير رمة.


إذن، فالقتل إنما هو إخلال بالمواصفات الخاصة التي أرادها الله لوجود الروح في المادة، كسلامة المخ أو القلب. فإذا اختل شيء من هذه المواصفات الخاصة الأساسية فالروح تقول: (أنا لا أسكن هنا).
إن الروح إذا ما انتزعت، فلأنها لا تريد أن تنتزع.. لأي سبب ولكن البنية لا تصلح لسكنها. ونضرب المثل ولله المثل الأعلى.


إن الكهرباء التي في المنزل يتم تركيبها، وتعرف وجود الكهرباء بالمصباح الذي يصدر منه الضوء. إن المصباح لم يأت بالنور، لأن النور لا يظهر إلا في بنية بهذه المواصفات بدليل أن المصباح عندما ينكسر تظل الكهرباء موجودة، ولكن الضوء يذهب. وكذلك الروح بالنسبة للجسد. إن الروح لا توجد إلا في جسد له مواصفات خاصة. وأهم هذه المواصفات الخاصة أن تكون خلايا البنية مناسبة، فإن توقف القلب، فمن الممكن تدليكه قبل مرور سبع ثوان على التوقف، لكن إن فسدت خلايا المخ، فكل شيء ينتهي لأن المواصفات اختلت.


إذن، فالروح لا تحل إلا في بنية لها مواصفات خاصة، والقتل وسيلة أساسية لهدم البنية؛ وإذهاب الحياة، لكن الموت هو إزهاق الحياة بغير هدم البنية، ولا يقدر على ذلك إلا الله سبحانه وتعالى. ولكن خلق الله يقدرون على البينة، لأنها مادة ولذلك يستطيعون تخريبها.


إذن، (فمتوفيك) تعني مرة تمام الشيء، (كاستيفاء المال) وتعني مرة (النوم). وحين يقول الحق: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} ماذا يعني ذلك؟ إنه سبحانه يريد أن يقول: أريدك تماما، أي أن خلقي لا يقدرون على هدم بنيتك، إني طالبك إلى تاما، لأنك في الأرض عرضة لأغيار البشر من البشر، لكني سآتي بك في مكان تكون خالصا لي وحدى، لقد أخذتك من البشر تامّاً، ومعنى (تاما)، أي أن الروح في جسدك بكل مواصفاته، فالذين يقدرون عليه من هدم المادة لم يتمكنوا منه.


إذن، فقول الحق: {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} هذا القول الحكيم يأتي مستقيما مع قول الحق: {مُتَوَفِّيكَ}. وقد يقول قائل: لماذا نأخذ الوفاة بهذا المعنى؟

نقول: إن الحق بجلال قدرته كان قادرا على أن يقول: إني رافعك إليّ ثم أتوفاك بعد ذلك. ونقول أيضا: من الذي قال: إن (الواو) تقتضي الترتيب في الحدث؟ ألم يقل الحق سبحانه: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر: 16].
هل جاء العذاب قبل النذر أو بعدها؟ إن العذاب إنما يكون من بعد النذر. إن (الواو) تفيد الجمع للحدثين فقط. ألم يقل الله في كتابه أيضا: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً} [الأحزاب: 7].


إن (الواو) لا تقتضي ترتيب الأحداث، فعلى فرض أنك قد أخذت {مُتَوَفِّيكَ} أي (مميتك)، فمن الذي قال: إن (الواو) تقتضي الترتيب في الحدث؟ بمعنى أن الحق يتوفى عيسى ثم يرفعه. فإذا قال قائل: ولماذا جاءت {مُتَوَفِّيكَ} أولا؟ نرد على ذلك: لأن البعض قد يظن أن الرفع تبرئة من الموت.
ولكن عيسى سيموت قطعا، فالموت ضربة لازب. ومسألة يمر بها كل البشر. هذا الكلام من ناحية النص القرآني. فإذا ما ذهبنا إلى الحديث وجدنا أن الله فوّض رسوله صلى الله عليه وسلم ليشرح ويبين، ألم يقل الحق: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44].
فالحديث كما رواه البخاري ومسلم: (كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم)؟.
إي أن النبي صلى الله عليه وسلم بين لنا أن ابن مريم سينزل مرة أخرى. ولنقف الآن وقفة عقلية لنواجه العقلانيين الذين يحاولون إشاعة التعب في الدنيا فنقول: يا عقلانيون أقبلتم في بداية عيسى أن يوجد من غير أب على غير طريقة الخلق في الإيجاد والميلاد؟ سيقولون نعم. هنا نقول: إذا كنتم قد قبلتم بداية مولده بشيء عجيب خارق للنواميس فكيف تقفون في نهاية حياته إن كانت خارقة للنواميس؟. إن الذي جعلكم تقبلون العجيبة الأولى يمهد لكم أن تقبلوا العجيبة الثانية. إن الحق سبحانه يقول: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُواْ إلى يَوْمِ القيامة} [آل عمران: 55].


إنه سبحانه يبلغ عيسى إنني سأخذك تاما غير مقدور عليك من البشر ومطهرك من خبث هؤلاء الكافرين ونجاستهم، وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة. وكلمة (اتبع) تدل على أن هناك (مُتَّبعاً) يتلو مُتّبعا. أي أن المتبِّع هو الذي يأتي بعد، فمن الذي جاء من بعد عيسى بمنهج من السماء؟ إنه محمد صلى الله عليه وسلم. ولكن على أي منهج يكون الذين اتبعوك؟ أعلى المنهج الذي جاؤا به أم المنهج الذي بلغته أنت يا عيسى؟ إن الذي يتبعك على غير المنهج الذي قلته لن يكون تبعا لك، ولكن الذي يأتي ليصحح الوضع على المنهج الصحيح فهو الذي اتبعك. وقد جاء محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحح الوضع ويبلغ المنهج كما أراده الله. {وَجَاعِلُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُواْ إلى يَوْمِ القيامة} فإن أخذنا المعنى بهذا؛ فإن أمة محمد صلى الله عليه وسلم هي التي اتبعت منهج الله الذي جاء به الرسل جميعا، ونزل به عيسى أيضا، وأن أمة محمد قد صححت كثيرا من القضايا التي انحرف بها القوم. نقول ليس المراد هنا من (فوق) الغلبة والنصر، ولكننا نريد من (فوق) الحجة والبرهان. وذلك إنما يحدث في حالة وجود قوم منصفين عقلاء يزنون الأمور بحججها وأدلتها وهم لن يجدوا إلا قضية الإسلام وعقيدة الإسلام.


إذن، فالفوقية هي فوقية ظهور دليل وقوة برهان. ولذلك قال الحق سبحانه: {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المشركون} [التوبة: 33].


وفي موقع آخر من القرآن الكريم، يؤكد الحق ظهور الإسلام على كافة الأديان وهو الشاهد على ذلك: {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وكفى بالله شَهِيداً} [الفتح: 28].


ومعنى ذلك أن الله قد أراد للإسلام أن يظهر على كل الأديان. وقد يقول قائل: إن في العالم أديانا كثيرة، ولم يظهر عليها الإسلام، والموجودون من المسلمين في العالم الآن مليار وأضعاف ذلك من البشر على ديانات أخرى. نقول لمثل هذا القائل: إن الله أراد للإسلام أن يظهره إظهار حجة، لا من قِبَلِكم أنتم فقط ولكن من قِبلهم هم كذلك، والناس دائما حين يجتمعون ليشرعوا القوانين وليحددوا مصالح بعضهم بعضا، يلجأون أخيرا إلى الإسلام. فلننظر إلى من يشرع من جنس تشريع الأرض ولنسأل أرأيت تشريعا ارضيا ظل على حاله؟ لا، إن التشريع الأرضي يتم تعديله دائما.
لماذا لأن الذي وضع التشريع الأول لم يكن له من العلم ما يدله على مقتضيات الأمور التي تَجدّ، فلما جَدّت أمور في الحياة لم تكن في ذهن من شرع أولا، احتاج الناس إلى تعديل التشريع. ولنمسك بأي قانون بشرى معدل في أي قضية من قضايا الكون، ولننظر إلى أي اتجاه يسير؟ إنه دائما يتجه إلى الإسلام، وإن لم يلتق مع الإسلام فإنه يقرب من الإسلام. وعندما قامت في أوروبا ضجة على الطلاق في الإسلام، ما الذي حدث؟ جاء التشريع بالطلاق في إيطاليا تحت سمع وبصر الفاتيكان. هل شرعوا الطلاق لأن الإسلام أباح الطلاق؟ لا. إنما شرعوه لأن أمور الحياة أخضعتهم إلى ضرورة تشريع الطلاق، فكأنهم أقاموا الدليل بخضوعهم لأمور الحياة على أن ما جاء به الإسلام قبل التجربة كان حقا. بدليل أن أوربا لجأت إلى تشريع الطلاق لا كمسلمين ولكن لأن مصالح حياتهم لا تتأتى إلا به.


وهل هناك ظهور وغلبة أكثر من الدليل الذي يأتي من الخصم؟ تلك هي الغلبة. لقد وصلوا إلى تشريع الطلاق، رغم كراهيتهم للإسلام كدليل على صدق ما جاء به الإسلام. وفي الربا، الذي يريد البعض هنا أن يحلله، تجد أوربا تحاول التخلص منه، لأنهم توصلوا بالتجربة إلى أن المال لا يؤدي وظيفته في الحياة إلا إذا انخفضت الفائدة إلى الصفر أي؟أنهم عرفوا أن إلغاء الربا ضروري حتى يؤدي المال وظيفته الحقيقية في الحياة، والذي ألجأهم إلى الوصول إلى هذه الحقيقة هو أن فساد الحياة سببه الربا، فأرادوا أن يمنعوا الربا. لقد وصلوا إلى ما بدأ به الإسلام من أربعة عشر قرنا. أتريد غلبة، وتريد فوقا، وتريد ظهورا، أكثر من هذا بالنسبة لدين الله؟
إذن، ففهم الخصوم ما يصلح أمر الحياة اضطرهم إلى الأخذ بمبادئ الإسلام ونتابع بالتأمل قول الحق: {وَجَاعِلُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُواْ إلى يَوْمِ القيامة}، أي أن الحق جاعل الذين ساروا على المنهج الأصيل القادم من الله فوق الذين كفروا.
فالذين يقولون فيك يا عيسى ابن مريم ما لا يقال من ألوهية، هل اتبعوك؟ لا.. لم يتبعوك.


إن الذي يتبع عيسى هو الذي يأتي على المنهج القادم من الله. إن عيسى ابن مريم رسول إلى بني إسرائيل. وديانات السماء لا تأتي لعصبيات الجنس أو القومية أو الأوطان أو غير ذلك، ولكن المنهج هو الذي يربط الناس بعضهم ببعض، ولذلك جاء لنا الحق بقصة سيدنا نوح لنتعرف على هذه المعاني. لقد وعد الله سيدنا نوحا أن ينجي له أهله. وعندما دعا نوح عليه السلام ابنه ليركب معه: ولكن ابن نوح رفض، فقال نوح عليه السلام لله: {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين} [هود: 45].


فهل الأهلية بالنسبة للأنبياء هي التي قالها نوح هل أهلية الدم؟ لا، لأن الحق قال: {قَالَ يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين} [هود: 46].
لماذا؟ لأن أهل النبوة هم المؤمنون بها فالذين اتبعوا المنهج الذي جاء به المسيح من عند الله ليس من يطلق على نفسه النسب للمسيح، ومن يطلق على نفسه أنه يهودي إن هذه أسماء فقط. إن المتبع الحق هو من يتبع المنهج المنزل من عند الله. إن الأنبياء ميراثهم المنهج والعلم. ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم على سلمان وهو فارسي لا يجتمع مع رسول الله في أرومة عربية: (سلمان منا آل البيت).
وهكذا انتسب سلمان إلى آل البيت بحكم إيمانه، وبنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.


إذن: (وجاعل الذي اتبعوك فوق الذي كفروا إلى يوم القيامة)، أي أن الحق سبحانه قد جعل الفوقية للذين يتبعون المنهج الحق القادم من عند الله. والذي يصوب منهج عيسى هو محمد رسول الله هل تكون الفوقية هي فوقية مساحة جغرافية؟ لأن رقعة من الأرض التي تتبع الديانات الأخرى غير الإسلام أكبر مساحة من رقعة أرض المؤمنين بالإسلام؟ لا.. فالفوقية تكون فوقية دليل.


وقد يقول قائل: إن الدليل لا يلزم. نرد قائلين: كيف لا يلزم الدليل؟ ونحن نرى الذين لا يؤمنون به يدللون عليه. كيف يدللون عليه؟ إنهم يسيرون فيما يقننون من قوانين البشر إلى ما سبق إليه تقنين السماء. وما دام هنا في هذه الآية كلمة (فوق) وكلمة (كفروا) وهناك أتباع إذن، فهناك قضية وخصومة، وهناك حق، وهناك باطل، وهناك هدى، وهناك ضلال. فلابد من الفصل في هذه القضية.


ويأتي الفصل ساعة ألا يوجد للإنسان تصرف إرادى لا على ذات نفسه ولا على سواه.
إن الظالمين يستطيعون التصرف في الأرض، لكن عندما يكون المرجع إلى الله فالله يقول: أنا ملكتكم وأنتم عصاة لي في كثير من الأسباب، لكن هناك وقت تزول فيه ملكيتكم للأسباب. إذن.. فالظالم قد يتحكم على الأرض وكذلك الباطل لأن الله أوجد لنا جميعا إرادات ومرادات اختيارية. لكن في يوم القيامة فلا إرادات إلا إرادة الله: {يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16].


إذن فالحكم قادم بدون منازع.. والذي يدل على ذلك قوله الحق: {إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا وَرَأَوُاْ العذاب وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب وَقَالَ الذين اتبعوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النار} [البقرة: 166-167].
إن الذي اتبع واحدا على ضلال يأتي يوم القيامة ليجد أن صاحب الضلال يتبرأ منه، فيقول المتبعون سائلين الله: يارب ارجعنا إلى الدنيا لننتقم ممن خدعونا، هذا من ناحية علاقة البشر بالبشر. أما من ناحية الجسد الواحد نفسه، فسوف نجد شهادة الجلود والألسنة والأيدي، بعد أن تسقط عنها إرادة الإنسان ويسقط تسخير الحق لهذه الجوارح والحواس لخدمة الإنسان، تقول الجوارح والحواس: لقد كانت لصاحبي إرادة ترغمني على أن أفعل ما لا أحب، لكن ها هو ذا يوم القيامة، فلا قهر ولا إرغام ولا تسخير لأن الملك كله لله.. لذلك تشهد الألسنة والجلود ولهذا يقول الحق: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}.
إن الحق يحكم فيما كانوا فيه يختلفون لتكون ثمرة الحكم هي ماذا؟ هل هناك تكليف بعد ذلك؟ لا.. لكن ثمرة الحكم هي الجزاء. ففي الآخرة لا عمل هنالك، والحكم فيها للجزاء، وكما قلنا: مادام هناك متبعون وكافرون، وجماعة فوق جماعة، وإلى الله مرجعهم، فلابد لنا أن نرى ما هو الحكم الذي سوف يكون؟ ها هو ذا القول الحكيم: {فَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدنيا والآخرة...}.


https://akhawat.islamway.net/forum/a...9a6ae5bb147830







{فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56)}


لماذا لم يأت الله بالحكم على المؤمنين أولا؟

لأن المؤمنين يؤمنون بذلك تماما، إنهم بإيمانهم يعرفون ذلك ويعونه. ولننتبه هنا إلى أن الحكم لا يشمل العذاب في الآخرة فقط ولكنه يشتمل على العذاب في الدنيا أيضا، فعذاب الدنيا سيكون قبل الحكم، وكأن الحق يقول لنا: لا تعتقدون أن تعذيبي إياهم في الدنيا يعفيهم من تعذيبي إياهم في الآخرة لأن التعذيب في الدنيا فقط قد يصيب من آمن بي.


أما من كفر بي، فإني أعذبه في الدنيا وأعذبه في الآخرة إنني لا أؤجل العذاب للكافرين إلى الآخرة فقط ولكن سأضم عذاب الدنيا إلى عذاب الآخرة.
إن الحصيلة بعد كل شيء هي أن يعذب الكافر في الدنيا وفي الآخرة. ويقول الحق عن هذا العذاب: إنه عذاب شديد؛ لأن الحدث حين يقع لابد أن تلحظ فيه القوة التي تناسب من أحدث.


ولنضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى: إن الطفل قد يكسر شيئا في حدود قوته كطفل، والشاب قد يكسر شيئا مناسبا لقوته. إذن فالحديث يجب أن نأخذه قياسا بالنسبة لفاعله؛ فإذا كان الفاعل هو الله، فهل لأحد طاقة على عذاب الله؟ لا أحد يتصور ذلك، وليس لأحد من هؤلاء من ناصر، لأن الذي يهزمه الله ويعذبه لا ناصر له، وبعد ذلك يأتي الحق بالمقابل: {وَأَمَّا الذين آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ...}.


https://akhawat.islamway.net/forum/a...9a6ae5bb147830






{وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)}



أي فما دام الذين كفروا سينالون العذاب الشديد من الله، فالذين آمنوا سينالون النعيم المقيم بإذن الله.

امانى يسرى محمد 04-07-2021 01:52 PM

رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة ال عمران)
 
{ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)}


يقول الحق تبارك وتعالى: {ذلك} إشارة لما سبق من الأحداث، في شأن امرأة عمران، ومريم، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وكان لكل واحد من هؤلاء قضية عجيبة يخرق فيها ناموس الكون، وكلها آيات، أي عجائب.

وقد نقلت إلينا هذه العجائب من واقع ما رآه الذين عاصروا تلك الأحداث، وجاء الخبر اليقين بتلك العجائب في قرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو الكتاب الحق الموصوف من الله بأنه {الذكر الحكيم} فاطمئنوا- أيها المؤمنين- إلى أن ما وصلكم عن طريق القرآن، إنما حكى واقعا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فما جاء به من أخبار عن تلك الآيات هو ما يطابق الواقع الذي عاصره الناس وحكوه.


وبعد ذلك يعرض الحق لنا سبحانه قضية سيدنا عيسى عليه السلام، وهي قضية يجب أن نتنبه إليها تنبها جديدا فنعرض وجهة نظر الذين يضعونه في غير الموضع الذي أراده الله، كما نعرض وجهة نظر الذين يضعونه في الموضع الذي يريده الله، فالمسألة ليست انتصارا منا في الدنيا على فريق يقول: كذا، لأنها مسألة لها عاقبة تأتي في الآخرة ويحاسبنا عليها الحق تعالى، لذلك كان من المهم جدا أن نصفيها تصفية يتضح فيها الحق، حتى لا يظلم أحد نفسه.


لقد جاء عيسى عليه السلام على دين اليهودية، أي طرأ على دين اليهودية ونحن نعلم أن دين اليهودية قد تم تحريفه من اليهود تحريفا جعله ينحاز إلى الأمور المادية الصرفة، دون أدنى اعتبار للأمور الروحية والإيمان بالغيب، فهم ماديون، وتتمثل ماديتهم في أنهم قالوا لموسى عليه السلام ما حكاه القرآن الكريم: {وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} [البقرة: 55].


إنهم لم يلتفتوا إلى أن بعضا من كمال وجلال الله غيبٌ؛ لأنه لو كان مشهودا محسا، لحدد- بضم الحاء وكسر الدال- وحُيِّزَ، وما دام قد حُدِدَ وحُيِّزَ في تصورهم فذلك يعني أنه سبحانه قد يوجد في مكان ولا يوجد في مكان آخر، والحق سبحانه منزه عن مثل ذلك لأنه موجود في كل الوجود، ولا نراه بالعين، لكن نرى آثار أعماله وجميل صنعه في كل الكون.
إذن فكون الله غيبا هو من تمام الجلال والكمال فيه.


لكن اليهود قد صوروا الأشياء كلها على أنها حسية، حتى أمور اقتيات حياتهم وهي الطعام، لقد أرادها الله لهم غيبا حتى يريحهم في التيه، فأرسل عليهم المنّ والسلوى، كرزق من الغيب الذي يأتي إليهم، لم يستنبتوه. ولم يستوردوه، ولم يعرفوا كنهه، ولم يجتهدوا في استخراجه، إنه رزق من الغيب، ومع ذلك تمردوا على هذا الرزق القادم لهم من الغيب وقالوا كما أخبر الله عنهم: {وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ فادع لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرض مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ اهبطوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق ذلك بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61].


إنهم يريدون أن يكون طعامهم كما ألفوا، وأن يروا هذا الطعام كأمر مادي من أمور الحياة؛ لذلك تشككوا في رزق الغيب، وهو المن والسلوى، وقالوا: (من يدرينا أن المن قد لا يأتي، وأن السلوى قد لا تنزل علينا) فلم تكن لهم ثقة في رزق وُهب لهم من الغيب؛ لأنهم تناولوا كل أمورهم بمادية صرفة. وما دامت كل أمورهم مادية فهم في حاجة إلى هزة عنيفة تهز أوصال ماديتهم هذه؛ لتُخرجهم إلى معنى يؤمنون فيه بالغيب.


ونحن نعلم أن الفكر المادي لا يرى الحياة إلا أسبابا ومسببات، فأراد الحق سبحانه وتعالى أن يخلع منهم ذلك الفكر المادي، لذلك جاء بعيسى عليه السلام على غير طريق الناموس الذي يأتي عليه البشر، فجعله من امرأة دون أب، حتى يزلزل قواعد المادية عند اليهود. لكن الفتنة جاءت في قومه، فقالوا ببنوته للإله، وسبحانه منزه عن أن يكون له ولد.
ولنا أن نسأل ما الشبهة التي جعلتهم يقولون بهذه البنوة؟
قالوا: إن الأمومة موجودة والذكورة ممتنعة، والشبهة إنما جاءت من أن الله نفخ فيه الروح، فالله هو الأب.


نقول لهم: لو أن الأمر كذلك لوجب ان تفتنوا في آدم أولى من أن تفتنوا في عيسى؛ لأن عيسى عليه السلام كان في خلقه أمومة، أما آدم فلا أمومة ولا أبوة، فتكون الفتنة في آدم عليه السلام أكبر، وإن قلتم: (إن الحق قال: إنه نفخ فيه من روحه)، فلكم أن تعرفوا قول الله في آدم عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 28-29].


إذن فالنفخ هنا في آدم موجود، فلماذا سكتم عن هذه الحكاية منذ آدم وحتى مجيء عيسى عليه السلام، وهكذا يتم دحض تلك الحجة ونهايتها، وبعد ذلك نأتي إلى قضية أخرى، وهي توفيه أو وفاته، إلى القضيتين معا- توفيه ووفاته- حتى نُبَيِّن الرأيين معا: وهنا نتساءل: لماذا فتنتم في ذلك؟

يقولون: لقد أحيا عيسى الموتى، ونقول لهم: ألم تأخذوا تاريخ إبراهيم عليه السلام حينما قال الله له: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطير فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجعل على كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادعهن يَأْتِينَكَ سَعْياً واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260].


إذن فمجال الفتنة في إبراهيم عليه السلام كبير، وكذلك، ألم يجيء موسى عليه السلام بآية هي العصا؟ إنه لم يجيء ميتا كانت فيه حياة، إنما أجرى الله على يديه خلق الحياة فيما لم تثبت له حياة، فأصبحت العصا- وهي جماد- حية تسعى لماذا إذن لم تفتنوا في عصا موسى عليه السلام؟


وهكذا نعرف انه لا يصح أن يفتن أحد في المعجزة التي جاءت بعيسى عليه السلام، أو في إحيائه الموتى بإذن الله، وأتباع عيسى عليه السلام يتفقون معنا أن الله سبحانه وتعالى غيب، ولكنهم يختلفون معنا فيقولون: إن الله أراد أن يؤنس البشر بصورة يتجلى لهم فيها بشرا فجاء بعيسى عليه السلام ليتحقق لهم ذلك الأنس.


ونقول لهم: سنبحث هذه المسألة بدون حساسية، وبدون عصبية، بل بالعقل، ونسأل: هل خلق الله عيسى ليعطي صورة للإله؟ إن عيسى كان طفلا، ثم كبر من بعد ذلك، فأي صورة من صورة المرحلية كانت تمثل الله؟
إن كانت صورة طفل فهل هي صورة الله؟ وإن كانت صورة كهل فهل هي صورة الله؟ إن لله صورة واحدة لا نراها ولا نعرف كنهها فهو سبحانه {ليس كمثله شيء}، فأية صورة من الصور التي تقولون: إنها صورة الله؟
وإن كان الله على كل هذه الصور فمعنى ذلك أن لله أغيارا وهو سبحانه منزه عن ذلك، ولو كان على صورة واحدة لقلنا: إنه الثبات والأمر كذلك فهو سبحانه الحق الذي لا يتغير إنهم يقولون: إن الله أراد أن يجعل صورته في بشر ليؤنس الناس بالإله، فتمثل في عيسى.


ولنا أن نسأل: كم استغرق وجود عيسى على الأرض؟

والإجابة: ثلاثين عاما أو يزيد قليلا. وهكذا تكون فترة معرفة الناس بالصورة الإلهية محدودة بهذه السنوات الثلاثين طبقا لتصوركم. ولابد ان نسأل: ما عمر الخلق البشرى كله؟ إن عمر البشرية هو ملايين السنين. فهل ترك الله خلقه السابقين الأولين بدون أن يبدي لهم صورته، ثم ترك خلقه الآخرين الذين قدموا إلى الحياة بعد وفاة عيسى- أي تمام مهمته- ورفعه، بدون أن يعطيهم صورة له؟ إن هذا تصور لإله ظالم، وسبحانه وتعالى منزه عن الشرك والظلم. فلا يعقل أن يضن بصورته فلا يبقيها إلا ثلاثين عاما؟ إن هذا القول لا يقبله عقل يثق في عدالة الله المطلقة.
ثم إنهم يقولون: إن عيسى عليه السلام قد صلب، وهم معذورون والحق سبحانه وتعالى قد عذرهم في ذلك فأورد التأريخ الحق العادل، حين يقول: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ الله وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} [النساء: 157].
لقد جعل الله لهم عذرا في أن يقولوا: إنه قتل أو صلب؛ لأنه شبه لهم وكان من المعقول أن يلتمسوا من الإسلام حلا لهذه المشكلة، لأن الإسلام جاء ليقول: لا، لقد شبه لكم، فما قتلوه وما صلبوه؛ لأن هذا الفعل- القتل أو الصلب- ينقض فكرتهم عن أنه إله أو ابن إله. لأن المصلوب لو كان إلها أو ابن إله، لكانت لديه القدرة التي تغلب الصالب، فكيف يعقل الإنسان أن ينقلب الإله- أو ابن الإله- مقدورا عليه من مخلوق؟ والإسلام عندما يقول: إن عيسى ابن مريم لم يصلب فقد كرمه الله. وهكذا ترى أن الإسلام قد جاء ليصفى العقائد كلها من عيوب التحريف التي قام بها المتبعون لتلك الأديان.


وبعد ذلك يأتي الحق سبحانه وتعالى ليعرض علينا قضية جدلية حدثت في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى يخرج الناس- مسلمين ونصارى ويهودا- من هذه البلبلة، وأن يتم ذلك في مودة، لأنهم كلهم مؤمنون بالعبودية لمعبود واحد.

فقد جاء وفد من نصارى نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، والتقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لهؤلاء القوم جدل مع اليهود، ولهم جدل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كان لليهود والنصارى معا جدل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والجدل بين اليهود والنصارى مصدره أن لليهود والنصارى قولا متضاربا في بعضهم بعضا يرويه لنا الحق: {وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَيْءٍ وَقَالَتِ النصارى لَيْسَتِ اليهود على شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الكتاب كَذَلِكَ قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فالله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [البقرة: 113].
فاليهود يقولون:كان إبراهيم يهوديا. والنصارى يقولون: لا، كان إبراهيم نصرانيا. وأما الجدل بين النصارى وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسببه أنهم قد أرادوا ان يتكلموا في مسألة عيسى وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يصفى القضية تصفية نهائية حتى لا تظل معلقة تلوكها الألسنة وتجعلها مثارا للفتن. فلما اجتمع نصارى نجران تحت لواء رؤسائهم، ومن هؤلاء الرؤساء من اسمه السيد، ومنهم من يسمى العاقب صاحب المشورة، ومعهم قسيس، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: «ماذا تقولون في عيسى؟» قالوا: إنه ابن الله. وقال لهم الرسول: «إن عيسى عليه السلام قال: {إني عبد الله} وهو عبده ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول»، فغضبوا وقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: هل رأيت إنسانا قط من غير أب؟ إن كنت قد رأيت مثل ذلك فأخبرنا به.
وهنا نزلت الآية الكريمة: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءَادَمَ...}.



https://akhawat.islamway.net/forum/a...9a6ae5bb147830




{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)}


لقد جاء القول الفصل بالحجة الأقوى، فإذا كان عيسى عليه السلام قد جاء بدون أب، فإن آدم عليه السلام قد جاء بدون أب، وبدون أم، وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعلمون أني رسول الله وأنني نبي هذه الأمة؟»، فقالوا: أنظرنا غدا نتكلم في هذه المسائل، ودعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان فقالوا: لا.


وعندما يعرض الحق سبحانه صراع قضية حق مع قضية باطل فهو يقول: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 24].
أي إن طرفا واحدا على الهدى، والطرف الآخر على ضلال مبين، لماذا؟ لأن القضيتين متناقضتان، ولا يمكن أن يجتمعا، ودعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يجتمع بهم في مكان ظاهر، ويدعو الطرفان الأبناء والنساء، ويبتهل الجميع إلى الله الحق أن تُسْتَنْزلَ لعنة الله على الكاذبين، وفي هذا جاء القول الكريم: {الحق مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الممترين...}.



https://akhawat.islamway.net/forum/a...9a6ae5bb147830





{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)}


لقد جاء الحق البيّن والقول الفصل من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم فلا مجال للشك أو المراء، ومن يرد أن يحتكم إلى أحدٍ فليقبل الاحتكام إلى الإله العادل الذي لن يحكم بالباطل أبدا، فهو سبحانه الحق، ويجيء هذا القول: {تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ الله عَلَى الكاذبين}. إن الطرفين مدعوان ليوجها الدعوة لأبنائهم ونسائهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم مدعو لدعوة أبنائه ونسائه، ومن له الولاية عليهم، وبحضوره هو صلى الله عليه وسلم، وهم مدعون لدعوة أبنائهم ونسائهم وأنفسهم للابتهال.


وقد يسأل سائل: ولماذا تكون الدعوة للأبناء والنساء؟ والإجابة هي: أن الأبناء والنساء هم القرابة القريبة التي تهم كل إنسان، وإن لم يكن رسولا، إنهم بضعة من نفسه وأهله. فكان الرسول صلى الله عليه وسلم مأمور بأن يقول لهم: هاتوا أحبابكم من الأبناء والنساء لأنهم أعزة الأهل وألصقهم بالقلوب وادخلوا معنا في مباهلة. (والمباهلة): هي التضرع في الدعاء لاستنزال اللعنة على الكاذب، فالبهلة- بضم الباء- هي اللعنة، وعندما يقول الطرفان: (يارب لتنزل لعنتك على الكذاب منا) فهذا دعاء يحمل مطلق العدالة، فالإله الذي يستطيع أن ينزل اللعنة هو الإله الحق. وهو سينزل اللعنة على من يشركون به، ولو كانت اللعنة تنزل من الآلهة المتعددة فسوف تنزل اللعنة على أتباع الإله الواحد.


ولهذا كانت الدعوة إلى المباهلة والبهلة- كما قلنا- وهي ضراعة إلى القوة القاهرة التي تتصرف في الأمر لتنهى الخلاف، ثم صار المراد بالمباهلة هنا مطلق الدعاء، فنحن نقول: (نبتهل إلى الله)، أي ندعو الله.
إذن فالرسول صلى الله عليه وسلم جاءهم بالأمر المنزل من عند الله الحق بدعوة الأبناء والنساء والأنفس، لكنهم قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: «أَنْظِرْنا إلى غد ونأتي إليك».


ثم أرسلوا في الصباح واحدا منهم ليرى ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهل هو مستعد لهذا الأمر حقيقة، أو هو مجرد قول منه أراد به التهديد فقط؟ ووجد رسولهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء ومعه الحسين والحسن وفاطمة وعلي بن أبي طالب، لذلك قالوا: لا لن نستطيع المباهلة، والله ما باهل قوم نبيا إلا أخذوا، وحاولوا ترضية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: لنظل على ديننا ويظل محمد وأتباعه على دينه لقد ظنوا ان الدعوة إلى المباهلة هي مجرد تهديد لن ينفذه الرسول، لكن صاحب اليقين الصادق جاء ومعه أهله استعدادا للمباهلة، ولن يُقبل على مثل هذا الموقف الا من عنده عميق الإيمان واليقين، أما الذي لا يملك يقيناً فلن يقبل على المباهلة بل لابد ان يرجع عنها.


وقد رجعوا عن المباهلة، وقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: لنتفق معا ألا تغزونا أو تخيفنا على أن نرسل لك الجزية في رجب وفي صفر وهي من الخيل وغير ذلك! لقد فروا من المباهلة لمعرفتهم أنهم في شك من أمرهم، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان على يقين بما أنزل الله عليه وكان العرب إذا خرجوا إلى الحرب يأخذون نساءهم معهم، لذلك حتى يخجل الرجل من الفرار، وحتى لا يترك أولاده ونساءه لكيلا يذلوا من بعد موته، فإن قُتِلَ قُتلوا معه هم أيضا.


إذن إن أردنا نحن الآن أن ننهي الجدل في مسألة عيسى عليه السلام فلنسمع قول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ الحق مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الممترين} إنه الحق القادم من الربوبية فلا تكن أيها السامع من الشاكين في هذه المسألة. ومن أراد أن يأتي بحجة مضادة للحجة القادمة من الله فلنا أن نحسمها بأن نقول: {تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ الله عَلَى الكاذبين}.
ولن يجرؤ واحد منهم على ذلك. لماذا؟ لأن السابقين عليهم قد فروا من المباهلة ولأن الله سبحانه يريد ان يزيد المؤمنين إيمانا واطمئنانا إلى أن ما ينزله على رسوله هو الحق قال- جل شأنه-: {إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق...}.




نداء الايمان

امانى يسرى محمد 06-07-2021 02:27 PM

رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة ال عمران)
 

{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62)}


وقوله الحق: {إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق} يلفتنا إلى أن ما يرويه الحق لنا هو الحق المطلق، وليس مجرد حكاية أو قصة، أو مزج خيال بواقع، كما يحدث في العصر الحديث، عندما أُخذت كلمة القصة في العرف الأدبي الحديث- القادم من حضارة الغرب- إن القصة بشكلها الحديث المعروف إنما يلعب فيها الخيال دورا كبيرا، لكن لو عرفنا ان كلمة (قصة) مشتقة من قص الأثر لبحث أهل الأدب فيما يكتبون من روايات وخيالات عن كلمة أخرى غير (قصة)، فالقصص هو تتبع ما حدث بالفعل لا تبديل فيه ولا أخيلة.
وها هو ذا الحق سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله} فإذا جاء القصص من الإله الواحد فلنطمئن إلى أنه لا يوجد إله آخر سيأتي بقصص أخرى، ولأن الله الواحد هو {العزيز الحكيم} أي الغالب على أمره، ومع أنه غالب على أمره فهو حكيم في تصرفه.
لكن هل اتعظ القوم الذين جادلوا؟ لا، إن الحق يقول: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بالمفسدين...}.


https://akhawat.islamway.net/forum/a...9a6ae5bb147830



{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)}



إن قوله {فَإِن تَوَلَّوْاْ} يدل على أن الله قد علم أزلا أنهم لن يقبلوا المباهلة، وهكذا حكموا على أنفسهم بأنهم المفسدون، فصدق الحق سبحانه في قوله: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بالمفسدين} ومع ذلك فقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم إلى الدين الكامل لأنهم مؤمنون بالإله، وبالسماء، وبالكتاب، لذلك يقول الحق: {قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ...}.


https://akhawat.islamway.net/forum/a...9a6ae5bb147830




{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)}



إنها دعوة إلى كلمة مستوية لا التواء فيها {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله} وهذا أمر لا جدال فيه، ثم {وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} أي لا ندخل معه من لا يقدر على الارتفاع إلى جلال كماله، فالعقول السليمة ترفض كلمة (الشرك)؛ لأن الشرك يكون على ماذا؟ هل الشرك على خلق الكون؟ إن كل مخلوق أشركوه في الألوهية إنما جاء من بعد أن خلق الله الكون. أو يكون الشرك على إدارة هذا الكون؟


إذا كان هذا هو السبب في الشرك فهو أتفه من أن يكون سببا لأن الحق سبحانه قادر على إدارة هذا الكون، وأنزل منهجا إذا ما اتبعه الإنسان صار الكون منسجما، إذن فأي شرك لا لزوم له. وإن كان- والعياذ بالله- له شريك وتمتع إله ما بقدرات خاصة فهذه القدرات تنقص من قدرات الإله الثاني. وهذا عجز في قدرة هؤلاء الآلهة، ولهذا يحسم الحق هذا الأمر بقوله الكريم: {مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91].


إذن فمسألة الشركاء هذه ليست مقبولة، وبعد ذلك يقول الحق: {وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله}. أي ألا نأخذ من بعضنا كهنوتا وكهنة، يضع الواحد منهم الحلال لنا أو الحرام علينا، فالتحليل والتحريم إنما يأتي من الله، وليس لمخلوق أن يحلل أو يحرم. ثم يقول الحق: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ: اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} أي إن من لا يقبل عبادة الإله الواحد الذي لا شريك له ولا أرباب تحلل أو تحرم، إنما يريد أربابا وشركاء، وهذا معناه أن قلبه غير مستعد لتقبل قضية الإيمان؛ لأن قضية الإيمان تتميز بأن مصدرا واحدا هو الذي له مطلق القدرة، وهو مصدر الأمر في الحركة وهو الواحد الأحد، فلا تتضارب الحركات في الكون.


إن حركاتنا كلها وهي الخاضعة لمنهج الله ب (افعل) و(لا تفعل) فلو أن هناك إلها قال: (افعل) وإلها آخر قال: (لا تفعل)، لكان معنى ذلك والعياذ بالله أن هؤلاء الآله أغيار لها أهواء. والحق سبحانه يحسم هذا بقوله: {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ} [المؤمنون: 71].


وهكذا كانت دعوة الله على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم {قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}، إنها آية تحمل دعوة مستوية بلا نتوءات، فلا عبادة إلا لله، ونحن لا نأخذ (افعل) و(لا تفعل) إلا من الله، ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا كهنوتا أو مصدرا للتحليل أو التحريم، فإن رفضوا وتولوا، فليقل المؤمنون: {اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} أي أنه لا يوجد إلا إله واحد، ولا شركاء له، وبعضنا لا يتخذ بعضا أربابا، وتلك شهادة بأن الإسلام إنما جاء بالأمرالمستوى الذي لا عوج ولا نتوء فيه ونحن متبعون ما جاء به.
وبعد ذلك يقول الحق: {ياأهل الكتاب لِمَ تُحَآجُّونَ في إِبْرَاهِيمَ...}.

https://akhawat.islamway.net/forum/a...9a6ae5bb147830




{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65)}



إن الحق يسألهم: لماذا يكون جدالكم في إبراهيم خليل الله؟
إن اليهود منكم ينسبون أنفسهم إلى موسى، والنصارى منكم ينسبون أنفسهم إلى عيسى، وإبراهيم عليه السلام لا يمكن أن يكون يهوديا كما يدعي اليهود، فاليهودية قد جاءت من بعد إبراهيم والنصارى لا يمكنهم الادعاء بأن إبراهيم كان نصرانيا، لأن النصرانية قد جاءت من بعد إبراهيم عليه السلام، فلم المحاجة إذن؟ لقد أنزلت التوراة والإنجيل من بعد إبراهيم فكيف يكون تابعا للتوراة والإنجيل؟
وبعد ذلك يقول الحق: {هاأنتم هؤلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ...}.

https://akhawat.islamway.net/forum/a...9a6ae5bb147830




{هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66)}



أي لقد جادلتم فيما بقي عندكم من التوراة وتريدون أن تأخذوا الجدل على أنه باب مفتوح، تجادلوا في كل شيء، وأنتم لا تعلمون ما يعلمه الخالق الرحمن علام الغيوب.
ويوضح الحق هذا الأمر فيقول: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً...}.

https://akhawat.islamway.net/forum/a...9a6ae5bb147830




{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)}



وبذلك يتأكد أن إبراهيم عليه السلام لم يكن يهوديا، لأن اليهودية جاءت من بعده. ولم يكن إبراهيم نصرانيا، لأن النصرانية جاءت من بعده، لكنه وهو خليل الرحمن {كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} ونحن نفهم أن كلمة
{حَنِيفاً} تعني الدين الصافي القادم من الله، والكلمة مأخوذة من المحسات، فالحنف هو ميل في الساقين من أسفل، أي اعوجاج في الرجلين، ثم نقل الحنف إلى كل أمر غير مستوٍ.


وهنا يتساءل الإنسان، هل كان إبراهيم عليه السلام في العوج أو في الاستقامة؟ وكيف يكون حنيفا، والحنف عوج؟ وهنا نقول: إن إبراهيم عليه السلام كان على الاستقامة، ولكنه جاء على وثنية واعوجاج طاغ فالعالم كان معوجا. وجاء إبراهيم ليخرج عن هذا العوج، وما دام منحرفا عن العوج فهو مستقيم، لماذا؟ لأن الرسل لا يأتون إلا على فساد عقدي وتشريعي طاغ. والحق سبحانه وتعالى ساعة ينزل منهجه يجعل في كل نفس خلية إيمانية. والخلية الإيمانية تستيقظ مرة، فتلتزم، وتغفل مرة، فتنحرف، ثم يأتي الاستيقاظ بعد الانحراف، فيكون الانتباه، وهكذا توجد النفس اللوامة، تلك النفس التي تهمس للإنسان عند الفعل الخاطئ: أن الله لم يأمر بذلك.
ويعود الإنسان إلى منهج الله تائبا ومستغفرا، فإن لم توجد النفس اللوامة صارت النفس أمارة بالسوء، وهي التي تتجه دائما إلى الانحراف، وحول النفس الواحدة توجد نفوس متعددة تحاول أن تقاوم وتقوّم المعوج، وهي نفوس من البيئة والمجتمع، فمرة يكون الاعتدال والاتجاه إلى الصواب بعد الخطأ قادما من ذات الإنسان أي من النفس اللوامة، ومرة لا توجد النفس اللوامة، بل توجد النفس الأمارة بالسوء، لكن المجتمع الذي حول هذا الإنسان لا يخلو من أن يكون فيه خلية من الخير تهديه إلى الصواب، أما إذا كانت كل الخلايا في المجتمع قد أصبحت أمارة بالسوء فمن الذي يعدلها ويصوبها؟


هنا لابد أن يأتي الله برسول جديد، لأن الإنسان يفتقد الردع من ذاتية النفس بخلاياها الإيمانية، ويفتقد الردع من المجتمع الموجود لخلوه كذلك من تلك الخلايا الطيبة، وهكذا يطم الظلام ويعم، فيرسل الله رسولا ليعيد شعلة الإيمان في النفوس. والله سبحانه وتعالى قد ضمن لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ألا يأتي لها نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا فمن الضروري أن يوجد فيها الخير ويبقى، فالخير يبقى في الذات المسلمة، فإذا كانت الغفلة فالنفس اللوامة تصوب، وإن كانت هناك نفس أمارة بالسوء فهناك قوم كثيرون مطمئنون يهدون النفس الأمارة إلى الصواب.
وهكذا لن تخلو أمة محمد في أي عصر من العصور من الخير، أما الأمم الأخرى السابقة فأمرها مختلف؛ فإن الله يرسل لهم الرسل عندما تنطفئ كل شموع الخير في النفوس، ويعم ظلام الفساد فتتدخل السماء، وحين تتدخل السماء يقال: إن السماء قد تدخلت على عوج لتعدله وتقومه.
إذن فإبراهيم عليه السلام جاء حنيفا، أي مائلا عن المائل، وما دام مائلا عن المائل فهو مستقيم، فالحنيفية السمحة هي الاستقامة. وهكذا نفهم قول الحق: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين}.


إن إبراهيم هو أبو الأنبياء، ولم تكن اليهودية قد حٌرفت وبدلت، وكذلك النصرانية لكان من المقبول أن يكون اليهود والنصارى على ملة إبراهيم؛ لأن الأديان لا تختلف في أصولها، ولكن قد تختلف في بعض التشريعات المناسبة للعصور، ولذلك فسيدنا إبراهيم عليه السلام لا يمكن أن يكون يهوديا باعتبار التحريف الذي حدث منهم، أي لا يكون موافقا لهم في عقيدتهم، وكذلك لا يمكن أن يكون نصرانيا للأسباب نفسها، لكنه {كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} أي أنه مائل عن طريق الاعوجاج.
قد يقول قائل: ولماذا لم يقل الله: (إن إبراهيم كان مستقيما) ولماذا جاء بكلمة (حنيفا) التي تدل على العوج؟ ونقول: لو قال: (مستقيما) لظن بعض الناس أنه كان على طريقة أهل زمانه وقد كانوا في عوج وضلال ولهذا يصف الحق إبراهيم بأنه {كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً} وكلمة {مُّسْلِماً} تقتضي (مسلما إليه) وهو الله، أي أنه أسلم زمامه إلى الله، ومُسْلَماً فيه وهو الإيمان بالمنهج.


وعندما أسلم إبراهيم زمامه إلى الله فقد اسلم في كل ما ورد ب (افعل ولا تفعل) وإذا ما طبقنا هذا الاشتقاق على موكب الأنبياء والرسل فسنجد أن آدم عليه السلام كان مسلما، ونوحا عليه السلام كان مسلما، وكل الأنبياء الذين سبقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا مسلمين.
كان كل نبي ورسول من موكب الرسل يلقى زمامه في كل شيء إلى مٌسْلَم إليه؛ وهو الله، ويطبق المنهج الذي نزل إليه، وبذلك كان الإسلام وصفا لكل الأنبياء والمؤمنين بكتب سابقة، إلى أن نزل المنهج الكامل الذي اختتمت به رسالة السماء على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ب (افعل ولا تفعل) ولم يعد هناك أمر جديد يأتي، ولن يشرع أحد إسلاما لله غير ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.


لقد اكتملت الغاية من الإسلام، ونزل المنهج بتمامه من الله. واستقر الإسلام كعقيدة مصفاة، وصار الإسلام علما على الأمة المسلمة، أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهي التي لا يُستدرك عليها لأنها أمة أسلمت لله في كل ما ورد ونزل على محمد صلى الله عليه وسلم. لذلك قال الحق: {إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه...}.

نداء الايمان

امانى يسرى محمد 07-07-2021 07:46 PM

رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة ال عمران)
 
{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)}


ولنا أن نلاحظ أن كل رسول من الرسل السابقين على سيدنا رسول الله إنما نزل لأمة محددة، فموسى عليه السلام أرسله الله إلى بني إسرائيل، وكذلك عيسى عليه السلام، قال تعالى: {وَرَسُولاً إلى بني إِسْرَائِيلَ} أي رسولا مسلما في حدود تطبيق المنهج الذي جاء به ونزل إلى هؤلاء الرسل، فلما تغير بعض من التشريع وتمت تصفية المنهج الإيماني بالرسالة الخاتمة، وهي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وهي عامة لكل البشر فقد آمن بعض من أهل تلك الأمم برسالته عليه الصلاة والسلام، كما آمن بها من أرسل فيهم سيدنا رسول الله، واستمر موكب الإيمان بالدين الخاتم إلى أن وصل إلينا. وهكذا صارت أمة محمد صلى الله عليه وسلم هي خاتمة الأمم الإسلامية؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والمرسلين.


عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين».


وحين يقولون: إن إبراهيم عليه السلام كان يهوديا أو نصرانيا. إنما أوردوا ذلك لأن إبراهيم عليه السلام فيه أبوة الأنبياء. وهم قد أرادوا أن يستحضروا أصل الخلية الإيمانية في محاولة لأن ينسبوها إلى أنفسهم وكأنهم تناسلوا ان المسألة الإيمانية ليست بالجنس أو الوطن أو الدم، أو أي انتماء آخر غير الانتماء لمنهج الله الواحد، ولذلك فأولى الناس بإبراهيم ليسوا من جاءوا من ذريته، بل إن أولى الناس بإبراهيم هم الذين اتبعوه، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم قد اتبع إبراهيم عليه السلام، لذلك فلا علاقة لإبراهيم بمن جاء من نسله، ممن حرفوا المنهج ولم يواصلوا الإيمان، لقد حسم الله هذه القضية مع إبراهيم عندما قال سبحانه: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124].


لقد امتحن الحق إبراهيم بكلمات هي الأوامر والنواهي، فأتمها إبراهيم عليه السلام تماما على أقصى ما يكون من الالتزام، ولم يكن مجرد إتمام يتظاهر بالشكلية، إنما كان إتماما بالشكل والمضمون معا.
والمثال على تمام الأوامر والنواهي بالشكل فقط هو رؤيتنا لمن يتلقى الأمر من الله بأن يصلى خمسة فروض، فيصلي هذه الفروض الخمسة كإجراء شكلي، لكن هناك إنسانا آخر يصلي هذه الفروض الخمسة بحقها في الكمال مضمونا وشكلا، إنه يتم الأوامر الإلهية إتمام يرضى عنه الله.
ولقد أدى إبراهيم عليه السلام الابتلاءات التي جاءت بالكلمات التكليفية من الله على أكمل وجه.


ألم يأمر الله إبراهيم عليه السلام على أن يرفع القواعد من البيت؟ أما كان يكفي إبراهيم عليه السلام لينفذ الأمر برفع بناء الكعبة إلى أقصى ما تطوله يداه؟ إنه لو فعل ذلك لكان قد أدى الأمر، لكن إبراهيم عليه السلام أراد أن يوفي الأمر بإقامة القواعد من البيت تمام الوفاء، فبنى الكعبة بما تطوله يداه، وبما تطوله الحيلة أيضا، فجاء إبراهيم عليه السلام بحجر ليقف من فوقه، ويزيد من طول جدار الكعبة مقدار الحجر، لقد أراد ان يوفي البناء بطاقته في اليدين وبحيلته الابتكارية أيضا، فلم يكن معروفا في ذلك الزمان (السقالات) وغير ذلك من الأدوات التي تساعد الإنسان على الارتفاع عن الأرض إلى أقصى ما يستطيع.


ولو أن إبراهيم عليه السلام قد رفع القواعد من البناء على مقدار ما تطوله يداه؛ لكان قد أدى تكليف الله، لكنه أراد الأداء بإمكاناته الذاتية الواقعية، وأضاف إلى ذلك حيلة من ابتكاره، لذلك جاء بالحجر الذي يقف عليه ليزيد من جدار الكعبة، وهذا ما نعرفه عندما نزور البيت الحرام ب (مقام إبراهيم) فلما أتم إبراهيم الكلمات هذا الإتمام قال الحق سبحانه لإبراهيم: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة: 124].
إي إنك يا إبراهيم مأمون على أن تكون إماما للناس في دينهم لأنك أديت (افعل ولا تفعل) بتمام وإتقان. ولنر غيرة إبراهيم عليه السلام على منهج ربه، إنه لم يرد أن يستمر المنهج في حياته فقط، ولكنه طلب من الله أن يظل المنهج والإمامة في ذريته، فقال الحق سبحانه على لسان إبراهيم طالبا استمرار الأمانة في ذريته: {وَمِن ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124].


إن سيدنا إبراهيم قد امتلأ بالغيرة على المنهج وخاف عليه حتى من بعد موته، لكن الحق سبحانه وتعالى يُعلم الخلق جميعهم من خلال إبراهيم فيقول سبحانه: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124].
أي أن المسألة ليست وراثة، لأنه سيأتي من ذريتك من يكون ظالماً لنفسه ويعدل في المنهج بما يناسب هواه، وهو بذلك لا تتوافر فيه صفات الإمامة. إن الحق يعلمنا قواعد إرث النبوة، إن تلك القواعد تقضي أن يرث الأنبياء من هو قادر على تطبيق المنهج بتمامه دون تحريف، والمثال على ذلك ما علمه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لسلمان الفارسي: (سلمان منا آل البيت).


إن سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم لم يقل لسلمان الفارسي (أنت من العرب) لا. بل نسبه لآل البيت، أي نسبه إلى إرث النبوة بما يتطلبه هذا الإرث من تطبيق المنهج بتمامه، لقد علم الرسول صلى الله عليه وسلم ما علّمه الحق سبحانه لسيدنا إبراهيم عليه السلام عن إرث النبوة، فليس هذا الإرث بالدم، إنما بتطبيق المنهج نصا وروحا، كما تعلم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مما علّمه له الحق عن نوح عليه السلام، لقد وعد الحق نوحا بأن ينجيه وأهله من الطوفان.


ويرى نوح عليه السلام ابنه مشرفا على الغرق، فيتساءل (ألم يعدني الله ان ينجي أهلي؟) فينادي نوح عليه السلام ربَّه، بما أورده القرآن الكريم حين قال: {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين} [هود: 45] فيقول الحق ردا على طلب نوح نجاة ابنه: {قَالَ يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين} [هود: 46].


ولننظر إلى التعليل القرآني لانتفاء الأهلية عن ابن نوح عليه السلام {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ}؟ لماذا؟ {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}. إن الحق لم يقل (إنه عامل غير صالح)- الذاتية ممنوعة- لأن الفعل هو الذي يحاسب به الله؛ فالإيمان ليس نسبا، ولا انتماء لبلد ما، أو انتماء لقوم ما، إنه العمل، فمن يعمل بشرع أي رسول يكون من أهل هذا الرسول، إنَّ النسبة للأنبياء لا تأتي للذات التي تنحدر من نسب النبي، بل يكون الانتساب للأنبياء بالعمل الذي تصنعه الذات.


وفي موقع آخر يعلمنا الحق عن سيدنا إبراهيم موقفا يصور رحمة الخالق بكل خلقه من آمن منهم ومن كفر. لقد طلب إبراهيم عليه السلام سعة الرزق لأهل بيته الذين جعل إقامتهم بمكة، كما جاء في الكتاب الكريم: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} [البقرة: 126].


فهل استجاب الحق لدعوة إبراهيم برزق الذين آمنوا فقط من أهل مكة؟ لا، بل رَزَقَ المؤمن والكافر. وعلّم إبراهيم ذلك حينما قال له: {قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار وَبِئْسَ المصير} [البقرة: 126].
إن الرزق المادي مكفول من الحق لكل الخلق، مؤمنهم وكافرهم، والاقتيات المادي مكفول من قبل الله لأنه هو الذي استدعى المؤمن والكافر إلى هذه الدنيا. أما رزق المنهج فإمر مختلف، إن اتباع المنهج يقتضي التسليم بما جاء به دون تجريف. وهذا المنهج لم يتبعه أحد ممن جاءوا بعد إبراهيم عليه السلام إلا القليل، فمن آمن برسالة موسى عليه السلام دون تحريف هم قلة.


ثم جاء عيسى عليه السلام برسالة تبعد بني إسرائيل عن المادية الصرفة إلى الإيمان بالغيب، لكن رسالة عيسى عليه السلام تم تحريفها أيضا، وعلى ذلك فأولى الناس بإبراهيم عليه السلام هم الذين اتبعوا المنهج الخاتم الصحيح والمصفى لكل ما سبق من رسالات، وهؤلاء هم الذين آمنوا برسالة محمد صلى الله عليه السلام، والله ولي المؤمنين جميعا من آمن منهم برسالة إبراهيم خليل الرحمن، إيمانا صحيحا كاملا، ومن آمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم.. بعد ذلك يقول الحق سبحانه: {وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يُضِلُّونَكُمْ...}.


https://akhawat.islamway.net/forum/a...9a6ae5bb147830





{وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69)}


إن المعنى (ودت) هو (تمنت) و(أحبت). ولماذا أحبوا أن يُضلوا المؤمنين؟ لأن المنحرف حين يرى المستقيم، يعرف أنه كمنحرف لم ينجح في أن يضبط حركته على مقتضى التكليف الإيماني ل (افعل) و(لا تفعل)، أما الملتزم المؤمن فقد استطاع أن يضبط نفسه، وساعة يرى غير الملتزم إنسانا آخر ملتزما، فإنه يحتقر نفسه ويقول بينه وبين نفسه حسدا للمؤمن: لماذا وكيف استطاع هذا الملتزم أن يقدر على نفسه؟


ويحاول المنحرف أن يأخذ الملتزم إلى جانب الانحراف، وعندما لا يستطيع جذب الملتزم إلى الانحراف فهو يسخر منه، ويهزأ به، ويحاول أن يحتال عليه ليأخذه إلى جانب الانحراف. ألم يقل الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين: 29-33].


وهذا ما يحدث الآن عندما يرى أهل الانحراف إنسانا مؤمنا ذا استقامة، فيسخرون منه بكلمات كالتي تسمعها (خذنا على جناحك) أو يحاول النيل من إيمانه وعندما يعود أهل الانحراف إلى أهلهم فهم يروون بتندر كيف سخروا من المؤمنين، وكأنهم يحققون السعادة لهؤلاء الأهل بحكايات السخرية من الإنسان المؤمن، ويطمئن الحق المؤمنين بأن لهم يوما يضحكون فيه من هؤلاء الكفار: {فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ} [المطففين: 34-35].
ويسأل الحق أهل الإيمان: {هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المطففين: 36].
أي قد عرفتم كيف اجازي بالعقاب أهل الكفر.


لذلك فأولى الناس بإبراهيم هم المؤمنين برسالة محمد عليه الصلاة والسلام. ولا يفتأ بعض من أهل الكفر من محاولة جذب المؤمنين إلى الضلال. إنهم يحبون ذلك ويتمنونه، ولكن ليس كل ما يوده الإنسان يحدث، فالتمنى هو أن يطلب الإنسان أمرا مستحيلا أو عسير المنال، هم يحبون ذلك ولكن لن يصلوا إلى ما يريدون، يشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}.
إنهم يتمنون إضلال المؤمنين، لكن هل يستطيعون الوصول إلى ذلك؟ لا: والمثال على ذلك هو ما يفعله بعض أهل الكتاب من اليهود عندما ذهبوا إلى معاذ بن جبل وإلى حذيفة الصحابيين الجليلين، وذهبوا أيضا إلى عمار الصحابي الجليل وحاولوا فتنة معاذ وحذيفة وعمار لكنهم لم يستطعوا.
وعلينا أن نعرف أن (الضلال) يأتي على معان متعددة، فقد يأتي الضلال مرة بمعنى الذهاب والفناء في الشيء، مثل قوله الحق: {وقالوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} [السجدة: 10].
لقد تساءل المشركون (أبعد أن نذوب في الأرض وتتفكك عناصرنا الأولية نعود ثانية، ونُبعث من جديد؟). وقد يأتي الضلال مرة أخرى بمعنى عدم اهتداء الإنسان إلى وجه الحق، كما قال الحق وصفا لرسوله صلى الله عليه وسلم عندما رفض عبادة الأصنام وظل يبحث عن المنهج الحق. {وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى} [الضحى: 7].


أي أنك يا محمد لم يعجبك منهج قريش في عبادة الأصنام، وظللت تبحث عن المنهج الحق، إلى أن هداك الله فأنزل إليك هذا المنهج القويم. لقد كنت ضالا تبحث عن الهداية، فجاءتك النعمة الكاملة من الله.
وهناك لون آخر من الضلال، وهو أن يتعرف الإنسان على المنهج الحق، لكنه ينحرف عنه ويتجه بعيدا عن هذا المنهج مثل قول الحق: {وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ}.


ونتساءل: كيف يحدث إضلال النفس؟ وتكون الإجابة هي: أن الضال الذي يعرف المنهج وينكره إنما يرتكب إثما، ويزداد هذا الإثم جُرماً بمحاولة الضال إضلال غيره، فهو لم يكتف بضلال ذاته بل يزداد ضلالا بمحاولته إضلال غيره. وهذا القول الكريم قد حل لنا إشكالا في فهم قوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قربى} [فاطر: 18].


وفي فهم قوله- جل شأنه-: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25].
وهكذا نعرف أن الوزر في آية فاطر هو وزر الضلال في الذات والأوزار في سورة النحل هي لإضلال غيرهم فهولاء الضالون لا يكتفون بضلال أنفسهم، بل يزيدون من ضلال انفسهم اوزاراً بإضلال غيرهم فهم بذلك يزدادون ضلالا مضافا إلى أنهم يحملون أوزارهم كاملة. {وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}.


إنهم لا يشعرون بالكارثة التي سوف تأتي من هذا الضلال المركب الذي سينالون عليه العقاب. ولو أنهم تعمقوا قليلا في الفهم لتوقفوا عن إضلال غيرهم، ولو بحثوا عن اليقين الحق لتوقفوا عن ضلال أنفسهم.
ومن بعد ذلك يقول الحق: {ياأهل الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله...}.



https://akhawat.islamway.net/forum/a...9a6ae5bb147830



{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)}


إن الحق يسألهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لم تكفرون بآيات الله العجيبة وأنتم تشهدون؟ وهنا قد يسأل سائل هل شهد أهل الكتاب الآيات العجيبة في زمن رسول الله؟


والإجابة هي: ألم يستفتح اليهود على من يقاتلونهم بمجيء نبي قادم؟ إنهم كانوا يدعون الله قائلين: إنا نسألك بحق النبي الأميّ الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلا تنصرنا عليهم فكانوا يُنصرون على أعدائهم فلما بعث صلى الله عليه وسلم كفروا به بغيا وحسداً قال الله تعالى: {وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين} [البقرة: 89].
لقد كفروا من أجل السلطة الزمنية. فقد كانوا يريدون الملك والحكم. وهذا عبد الله بن سلام الذي كان يهوديّاً فأسلم قد قال عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد عرفته حين رأيته كمعرفتي لابني ومعرفتي لمحمد أشد».


إذن فمعرفتهم بنعت رسول الله ووصفه موجودة في آيات التوراة ولقد شهدوا الآيات البينات، لكنهم أنكروا الآيات طمعا في السلطة الزمنية حتى ولو تطلب ذلك أن يُحرِّف بعضهم منهج الله سبحانه وتعالي ويحوّلوا هذا التحريف إلى سلطة زمنية فاسدة كهؤلاء الذين باعوا صكوك الغفران ولذلك قال الحق عن هؤلاء الذين يحرفون منهج الله: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79].
إن العذاب هو مصير هؤلاء الدين يحرفون كلام الله ومنهجه.
ويقول الحق سبحانه: {ياأهل الكتاب لِمَ تَلْبِسُونَ الحق بالباطل...}.​​​​​​​




نداء الايمان

امانى يسرى محمد 08-07-2021 03:40 PM

رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة ال عمران)
 
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)}


ومعنى (تلبس) هو إدخال شيء في شيء، فنحن عندما نرتدي ملابسنا، إنما ندخل أجسامنا في الملابس، وبهذا يختلف منظر اللابس والملبوس.
وفي مجال الدعوة إلى الله نجد دائما الحق وهو يواجه الباطل، إنهم يخلطون الحق بالباطل فهذه الآية تتحدث عن محاولة من بعض أهل الكتاب لإلباس الحق بالباطل، وقد حدث ذلك عندما حرفوا التوراة والإنجيل وأدخلوا فيها ما لم يأت به موسى عليه السلام أو عيسى عليه السلام، وكانت هذه هي محاولة ضمن محاولات أخرى لإلباس الحق بالباطل، ثم جاءت أكبر المحاولات لإلباس الحق بالباطل وهو إنكارهم للبشارة برسول الله صلى الله عليه وسلم، رغم أنها وردت في كتبهم السماوية.
لقد أعلنوا الإيمان بموسى أو عيسى، ولم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، لقد أنكروا بشارة موسى وعيسى برسالة محمد الخاتمة، وكان ذلك قمة إلباس الحق بالباطل، لأنهم أعلنوا الإيمان برسولين ثم أنكروا الإيمان بالنبي الخاتم وذلك لأنهم كانوا يعلمون أن الإسلام الذي جاء به محمد رسول الله هو الدين الحق، وكانوا إذا ما خلوا إلى أنفسهم عرفوا ذلك ولكنهم يجحدونه. {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل: 14].
ومع ذلك فهم يحاولون العثور على حيلة ليبتعد بها الناس عن تلك الرسالة الخاتمة، تماديا منهم في الكفر، ونزل قول الحق: {وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ...}.

https://akhawat.islamway.net/forum/a...9a6ae5bb147830




{وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)}


لقد أراد بعض من أهل الكتاب أن يشككوا المسلمين في أمر المنهج، لذلك اصطنعوا تلك الحيلة، فالمؤمنون من العرب وقريش في ذلك الزمن كانوا أميين وكانوا يعرفون أن أهل الكتاب على علم بمناهج السماء، ولم يكن القرآن كله قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا ما آمن بعض منهم برسالة رسول الله وجه النهار وكفروا به آخر النهار فهذا خلط للحق بالباطل. وفي هذا خداع للمؤمنين.
ولنا أن نعرف أن {وَجْهَ النهار} مقصود به ساعات الصباح والظهر، فالوجه هو أول ما يواجه في أي أمر، ونحن نأخذ ذلك في أمثلة حياتنا اليومية، فنقول عن بائع الفاكهة: (لقد صنع وجها للفاكهة)، أي أنه قد وضع أنضج الثمار في واجهة العربة، وأخفى خلف الثمار الصالحة الناضجة ثمارا أخرى فاسدة. وعندما يفعل التاجر مثل هذا الفعل فمقصده الغش والخداع، لأن الإنسان إذا ما اشترى أي مقدار من هذه الفاكهة فسيجد ربع ما اشترى هو من واجه الفاكهة، والباقي من الثمار الفاسدة.


وكذلك حاول بعض من أهل الكتاب أن يخدعوا المؤمنين بإعلان الإيمان أول النهار ثم إعلان الكفر آخر النهار، والهدف بطبيعة الحال هو إشاعة الشك وزراعة البلبلة في نفوس المؤمنين بخصوص هذا الدين، فقد يقول بعض من الأميين: (لقد اختبر أهل الكتاب هذا الدين الجديد وهم أهل علم بمناهج السماء ولم يجدوه مطابقا لمناهج السماء).
أو أن الآية قد نزلت في مسألة تحويل القبلة إلى الكعبة، فإذا كان الحق سبحانه قد أمر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، فالكافرون من أهل الكتاب أرادوا نقض ذلك، وقالوا: (فلنسمع أول النهار كلام محمد ونتوجه في الصلاة إلى الكعبة ثم نصلي آخر النهار ونجعل قبلتنا بيت المقدس).


وكأن الحق قد أراد بذلك أن يكشف لنا أن كل أساليب الكفر هي من تمام قلة الفطنة وعدم القدرة على حسن التدبر، لقد أرادوا إشعال الحرب النفسية ضد المسلمين، لعل بعضا من المسلمين يتشككون في أمر الدين الجديد، لكنهم دون أن يلحظوا أنهم قد فضحوا أنفسهم، واعترفوا دون قصد منهم بأن الذين آمنوا بالقرآن هم المؤمنون حقا بينما هم قد أخذوا لأنفسهم موقف الكفر الذي هو نقيض للإيمان، قال سبحانه حكاية عنهم: {آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَجْهَ النهار واكفروا آخِرَهُ} فهم قد ارتضوا لأنفسهم الكفر.


لقد أعلن هؤلاء المشككون التصديق بالإسلام؛ وذلك ليعرف الناس عنهم ذلك، ولكونهم أهل كتاب فهم قادرون على الحكم عليه، فإذا ما رجعوا عن الإسلام من بعد معرفته، فسيقولون: إن رجوعنا ليس بسبب الجهل أو التعصب، إنما بسبب اختبارنا لهذا الدين، فلم نجده مناسبا ولا متوافقا مع ما نزل على رسولنا. وهذا من أساليب الحرب النفسية.
والحق سبحانه وتعالى يكشف ذلك المكر والخداع للذين حاولوا أن يكتموا خداعهم ولعبتهم الماكرة، والتي أرادوا بها التشكيك والخداع. فَيُنزل على رسوله هذا القول الحق: {وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله...}.



https://akhawat.islamway.net/forum/a...9a6ae5bb147830


{وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73)}



إن الحق سبحانه يكشف للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين به من الأميين لعبة إيمان بعض من أهل الكتاب بالإسلام وجه النهار والكفر به آخر النهار، لقد طالب المتآمرون بعضهم بعضا أن يظل الأمر سرا حتى لا يفقد المكر هدفه وهو بلبلة المسلمين من الأميين، ولذلك قال هؤلاء المتآمرون بعضهم لبعض: {وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} أي لا تكشفوا سر هذه الخدعة إلا لمن هو على شاكلتكم، لكن الحق يكشف هذا الأمر كله بنزول هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلاغه إياها للمؤمنين، وبذلك فسد أمر تلك البلبلة، وارتدت الحرب النفسية إلى صدور من أشعلوها، ويستمر القول الكريم في كشف خديعة هؤلاء البعض من أهل الكتاب فيقول سبحانه: {قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ}.
إن الحق سبحانه يكشف فعل الماكرين من أهل الكتاب الذين أرادوا إعلان الإيمان أول النهار كلون من (هدى النفس) لكنه من صميم الضلال والإضلال وذريعة له، ولم يكن هدى من الله؛ لأن هدى الله إنما يوصل الإنسان إلى الغاية التي يريدها الله، وهؤلاء البعض من أهل الكتاب أرادوا بالخديعة أن يجعلوا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أتباع يؤمنون بالإسلام؛ لقد تواصي هؤلاء القوم من أهل الكتاب بأن يكتموا اتفاقهم على تمثيل الادعاء بالإيمان وجه النهار والكفر به في آخره، وألا يعلنوا ذلك إلا لأهل ديانتهم حتى لا يفقد المكر هدفه، وهو بلبلة المسلمين.
لقد أخذهم الخوف؛ لأن الناس إن أخذوا بدين محمد صلى الله عليه وسلم لأوتوا مثلما أوتي أهل الكتاب من معرفة بالمنهج، بل إن المنهج الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو المنهج الخاتم، وأهل المكر من أهل الكتاب إنما أرادوا أن يحرموا الناس من الإيمان، أو أنهم خافوا أن يدخل المسلمون معهم في المحاجة في أمر الإيمان، وكان كل ذلك من قلة الفطنة التي تصل إلى حد الغباء.
لماذا؟ لأنهم توهموا أن الله لا يعرف باطن ما كتموا وظاهر ما فعلوا، إنهم تناسوا أن الحق يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وتطابق ذلك مع سابق فعلهم عندما خرجوا من مصر، وذهبوا إلى التيه أثناء عبور الصحراء، وادعوا أن الله قال لموسى عليه السلام: (علموا بيوتكم أيها الإسرائيليون، لأني سأنزل وأبطش بالبلاد كلها). وكأنهم لو لم يضعوا العلامات على البيوت فلن يعرفها الله، إنه كلام خائب للغاية بل هو منتهى الخيبة والضلال، ويبلغ الحق رسوله الكريم: {قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.

وما دام الفضل بيد الله فلن تستطيعوا يا أهل المكر بالمسلمين أن تأخذوا أناسا كما تودون، وبعد ذلك تريدون أن تخدعوهم؛ لأن الفضل حين يؤتيه الله لمن آمن به فلن ينزعه إلا الله.
فالحيلة لن تنزع فضل الإيمان بالله مادام قد أعطاه الله، والله واسع بمعنى أنه قادر على إعطاء الفضل لكل الخلق، ولن ينقص ذلك من فضله شيئا، والحق سبحانه عليم بمن يستحق هذا الفضل لأن قلبه مشغول بربه.
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ...}.





https://akhawat.islamway.net/forum/a...9a6ae5bb147830


{يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)}


إن أحدا ليس له حق على الله؛ فكل لحظة من لحظات الحياة هي فضل من الله، وهو سبحانه يعطي رحمته بالإيمان بمنهجه لمن يشاء وهو صاحب الفضل المطلق.
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: {وَمِنْ أَهْلِ الكتاب مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ...}.



https://akhawat.islamway.net/forum/a...9a6ae5bb147830


{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)}


إنه مطلق الإنصاف الإلهي، فإذا كان الحق قد كشف للرسول بعضا من مكر أهل الكتاب فذلك لا يعني أن هناك حملة على أهل الكتاب وكأنهم كلهم أهل سوء، لا، بل منهم مَنْ يتميز بالأمانة، وهذا القول إنما يؤكد إنصاف الإله المنصف العدل.


إن الحق سبحانه يخاطب النفوس التي يعلمها، فهو يعلم أن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، قد نزلت رحمة للناس أجمعين، ويخاطب بها العالم كله بما فيه من أهل الكتاب، وهم الذين يعرفون الآيات والعلامات التي تدل على مجيء رسالة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنهم أناس قد جعلوا دعوة محمد صلى الله عليه وسلم في بؤرة شعورهم ليدرسوها ويؤمنوا بها. ولو أن الله قد جعل الحملة على كل أهل الكتاب، لقال الذين كفروا في الإيمان برسول الله: (كنا نفكر في أن نؤمن، ونحن نريد أن ننفذ تعاليم الله لنا لكن محمدا يشن حملة على كل أهل الكتاب ونحن منهم).
فساعة يقول الله إن بعضا من أهل الكتاب يتميزون بالأمانة فإن من تراوده فكرة الإسلام يقولون: إن محمد صلى الله عليه وسلم لا يتكلم إلا عن نور من ربه، لكن لو عمم القرآن الحكم على الكل، لتساءل الذين ينشغلون برغبة الإيمان بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم لماذا يعم الحكم الجميع ونحن نسير في الطريق إلى الإيمان؟


ولهذا يضع الحق القول الفصل في أن منهم أناساً يتجهون إلى الإيمان: {لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَآءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113].
وفي هذا ما يطمئن الذي شغلوا أنفسهم بدراسة هذا الدين والتفكير في أن يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم.


لو كان القرآن قد نزل بلعنتهم جميعا لقال الذين يفكرون منهم في الإيمان (نحن لسنا كذلك ولا نستحق اللعنة، فلماذا يأتي محمد بلعنتنا؟).
لذلك نرى القول بأن {وَمِنْ أَهْلِ الكتاب مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} العدل المطلق في الإنصاف: وقد قال بعض المفسرين: إن القرآن يقصد هنا من {أَهْلِ الكتاب} النصارى؛ لأن منهم أصحاب ضمير حي، ونحن نعرف أن المقصود بأهل الكتاب هم اليهود والنصارى، وفي هذا التفسير إنصاف للنصارى فصفة الخير لهم لا ينكرها الله، بل يشيعها في قرآنه الذي يُتلى إلى يوم الدين، وذلك ليصدق أيضا أهل الكتاب أيَّ أمر سيء تنزل فيه آيات من القرآن، لأن القرآن منصف مطلق الإنصاف. فما دام قد قال خصلة الخير فيهم فلابد أن يكون صادقا عندما يقول الأمور السيئة التي اتصفوا بها.
وعندما يقول الحق سبحانه: (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك) فالقنطار هنا للمبالغة في القدر الكبير من المال، وكلمة الأمانة حينما نستعرضها في كتاب الله عز وجل نجد أنها مرة تتعدى بالباء، كمثل هذه الآية {مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ} ومرة تتعدى ب (على): {قَالُواْ ياأبانا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} [يوسف: 11] وقوله الحق {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ مِن قَبْلُ فالله خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين} [يوسف: 64].
إن مادة الأمانة تأتي متعدية مرة بالباء، ومرة متعدية ب (على).
وكل حرف من هذين الحرفين له حكمة، فالمتكلم هو الله.


إن الأمانة هي شيء يأتمن فيه مؤتمِن على مؤتمَن ولا حجة لصاحب الشيء المؤتَمَن عليه إلا ذمة المؤتمَن فإن كانت العلاقة بينهما محكومة بإيصال أو عقد، أو شهود فهذه ليست أمانة إنما الأمانة هي ما يعطيها انسان لاخر فيما بينهما، وبعد ذلك فالمؤتمن بعد ذلك إما أن يُقِرّبها وإمّا لا يقِرّبها.
وقلنا سابقا: إن على المؤمن الحق أن يحتاط للأمانة، لأن هناك وقتاً تتحمل فيه الأمانة، وهناك وقت آخر تؤدي فيه الأمانة إن طلبها صاحبها.
ومثال تحمل الأمانة كأن يعرض عليك إنسان مبلغا من المال، ويقول: (احفظ هذا المبلغ أمانة عندك) فتقول له: نعم سأفعل. وتأخذ المبلغ، إن هذا الفعل يسمى (التحمل)، وعندما يأتي صاحب المال ليطلبه فهذا اسمه (الأداء) والكل يضمنون أنفسهم وقت التحمل، وقد تكون النية هكذا بالفعل، ولكن المؤمن الحق لا يأمن ظروف الأغيار، فمن المتحمل أنه عندما يأتي صاحب المال ليطلبه من المؤتمَن يجد المؤمن نفسه وقد انشغل بالأغيار، فقد تكون ظروف الحياة قد داهمته مما دفعه ليتصرف في الأمانة أو أن تكون نفسه قد تحركت، وقالت له: وماذا يحدث لو تصرفت في الأمانة؟ إن المؤمن الحق لا يضمن نفسه وقت الأداء، وإن ضمن نفسه وقت التحمل.


إذن يجب أن نلاحظ في الأمانة ملحوظتين هما (الأداء) و(التحمل). والذي يأخذون الأمانة وفي نيتهم أن يؤدوها ضمنوا أنفسهم وقت التحمل، لكنهم لا يضمنون أنفسهم وقت الأداء لذلك فالمؤمن المحتاط يقول لنفسه: ولماذا أعرض نفسي لذلك، فقد يأتي وقت الأداء فلا أستطيع ردّها لصاحبها.
لذلك يقول لصاحب الأمانة: أرجوك ابتعد عني فأنا لن أحمل هذه الأمانة.
إنه خائف من وقت الأداء وذلك ما حدث في أمانة التكليف والاختيار والتي قال عنها الحق سبحانه: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب: 72].


إن السماء والأرض والجبال طلبوا ألا يكون لهم اختيار وأن يظلوا مقهورين؛ لأنهم لا يضمنون لحظة الأداء، أما الإنسان فلأنه ظلوم جهول فقد قال: (لا، إنني عاقل وسأرتب الأمور) فالإنسان ظلوم لنفسه، وجهول لأنه لم يعرف ماذا يفعل وقت الأداء.
لذلك نرى هنا القول الحق: {وَمِنْ أَهْلِ الكتاب مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ} ونجد الأمانة متعدية بالباء، فمعنى الباء- في اللغة- الإلصاق، أي التصق القنطار بأمانته، فأصبح هناك ارتباط وامتزاج، وإياك ساعة الأداء أن تفصل الأمانة عن القنطار، فساعة يغريك قنطار الذهب ببريقه فعليك أن تلصق الأمانة بالقنطار، وإياك أن يغريك قنطار فتترك أمانتك لأنك إن نظرت إلى القنطار دون أن تنظر إلى الأمانة فهذه هي الخيبة.
أما استعمال (على) مع الأمانة، ف (على) في اللغة تأتي للاستعلاء والتمكن، أي اجعل الأمانة مستعلية على القنطار، وبذلك تصير أمانتك فوق القنطار، فساعة تحدثك نفسك بأن تأخذ القنطار لأنه يدير لك حركة حياتك، ولأنه يخرجك إلى دنيا عريضة مغرية فتذكر عز الأمانة، ولهذا نجد الفقهاء قد قالوا بقطع يد السارق في ربع دينار، وجعلوا دية قطع يد إنسان لم يسرق خمسمائة دينار وتساؤل البعض قائلا:
يد بخمس مئين عسجد وديت *** مابالها قطعت في ربع دينار
فقال فقيه ردا على ذلك المعترض:
عز الأمانة أغلاها، وأرخصها ذل *** الخيانة، فافهم حكمة الباري


إذن قول الحق سبحانه وتعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الكتاب مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ} هذا القول جاء بالباء ليلصق الأمانة بما اؤتمن عليه ولا يفصل بينهما أبدا لأنه لو فصل الأمانة وعِزَّها عن القنطار ربما سولت له نفسه أن يأخذ القنطار ويترك الأمانة.
وكذلك عندما تأتي الأمانة متعدية بعلى، تكون الأمانة فوق الشيء المؤتمن عليه، فالأمانة يجب أن تكون مستعلية على الشيء مهما غلت قيمته، ويقول الحق من بعد ذلك: {وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً} أي أن تكون دائم السؤال عن دينارك الذي ائتمنت عليه ذلك الإنسان، وأن تلح في طلب دينارك.


ومن بعد ذلك يقول الحق: {ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأميين سَبِيلٌ} وقد قام بعض من بني إسرائيل على عهد رسول الله، يخديعة الأميين من العرب المؤمنين فأنكروا حقوقهم. والمقصود بالأميين هنا المؤمنون الذين لم يكونوا من أهل الكتاب، أو هم المنسوبون إلى الأم كما قال الحق: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].
أو أن يكون المقصود (بالأميين) أهل مكة، فقد كانوا يسمونهم كذلك لأنهم منسوبون إلى أم القرى (مكة المكرمة).


من أين جاء أهل الكتاب إذن بهذا الأسلوب المزدوج في معاملة الناس؟ ومن الذي وضع هذا المنهج الذي يقضي بخديعة المؤمنين الأميين؟ وهل الفضائل ومنازل الخلق تختلف في المعاملة من إنسان إلى آخر؟ وهل يقضي الخلق القويم أن يأخذ إنسان الأمانة وينكرها إذا كانت لرجل أمي؟ ويرد الأمانة ويعترف بها إن كانت ليهودي؟ هل يصح أن يقرض إنسان أمواله بالربا لغير اليهود، ويقرض اليهود دون ربا؟ إذن تكون هذه المعاملات مجحفة، هنا فضيلة، وهناك لا فضيلة، لا، إن القضية يجب أن تكون مستوية ومكتملة في كل وقت وكل زمان ولكل إنسان، ولا ينبغي أن تتنوع.
من أين إذن جاءوا بهذا القول وهم أهل كتاب؟ إن هذا ضد منهج الكتاب الذي أنزله الله عليهم بل هو من التحريف والتحوير لقد خدعوا أنفسهم وألصقوا بالتشريع ما ليس فيه، فالكتاب السماوي الذي نزل عليهم ليس به تصنيف البشر صنفين: صنف هم أهل الكتاب ولهم معاملة خاصة، وصنف هم الأميون ولهم معاملة أخرى، وكان عليهم ان يتعلموا من عدالة رسول الله صلى الله عليه وسلم في معاملتهم.


لقد أرخ لهم رسول الله بالنص المنزل عليه من الله التأريخ الصادق والعادل، في هذا القول الكريم الذي نتناوله بالخواطر إنما يسجل تاريخ اليهودية مع الإسلام. وهذا التأريخ لم يصدر فيه الله حكما واحدا يشملهم جميعا، بل أنصف أصحاب الحق منهم، وإن كانوا على دين اليهودية، وبذلك استقر في أذهان المنصفين منهم أن الإسلام قد جاء بكل الحق، فلو كان الإسلام قد أصدر حكما واحدا ضد كل اليهود سواء من وقف منهم ضد دعوة رسول الله أو المنصف منهم الذي تراوده فكرة الإيمان بالإسلام، لو كان مثل ذلك الحكم العام الشامل قد صدر لقال المنصفون من اليهود: نحن نفكر في أن نؤمن بالإسلام فكيف يهاجمنا الإسلام هذه المهاجمة؟ لكن الإسلام جاء لينصف فيعطي كل ذي حق حقه.


وهؤلاء هم الذين يؤرخ الله لهم بالقول: {مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} وتلك شهادة على صدق اليقين من هؤلاء، أما الذين طغت عليهم المادة فهؤلاء هم الذين جاء فيهم القول الحكيم: {وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً} وهذا هو التأريخ الصادق لمن طغت عليهم المادة فلا يرد الإنسان منهم ما عليه إلا بعد الملاحقة والمطاردة، وهكذا يبلغنا القرآن التاريخ بصدق.
والعلة في أن الذي يؤتمن على قنطار ويؤديه هو إنسان ملتزم أمامه إله موصوف باسم الحق، ولا يريد الله من عباده إلا أن يواجهوا حركة حياتهم بالحق.


وأكرر هنا مرة أخرى، إن كلمة (الأمانة) ترد في القرآن الكريم مرة وهي متعدية ب (على)، ومرة أخرى وهي متعدية بالباء، لأن الباء تأتي في اللغة لإلصاق شيء بشيء آخر، فكأنك إذا اؤتمنت أيها المسلم فلابد أن تلتصق بالأمانة حتى تؤديها، وكذلك جاءت الأمانة متعدية ب (على)، أي أنك أيها المؤمن إذا اؤتمنت فعليك أن تستعلي على الشيء الذي اؤتمنت عليه.
فإذا ما اؤتمنت على مائة جنيه مثلا فلا تنظر إلى ما يعود عليك من نفع إذا ما تصرفت في هذا المبلغ، بل يجب أن تستعلي على تلك المنفعة. فإياك أن تغش نفسك أيها المؤمن بفائدة ونفاسة الشيء الذي تختلسه من الأمانة، بل قارن هذا الشيء بالأمانة فستجد أن كفة الأمانة هي الراجحة.
والذين استباحوا خيانة الأمانة من أهل الكتاب، إنما عميت بصيرتهم عن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نال الشهرة بالأمانة سواء قبل الرسالة أو بعدها. وعميت أبصارهم، إن الدين الحق لا يفرق في أداء الأمانة بين صنف من البشر، وصنف آخر؛ فالدين الحق يضم تشريعا من إله خلق الجميع وهكذا نجد أن تشريعهم بالتفرقة في أداء الأمانة هو تشريع من عند أنفسهم، وليس من الرب المتولي شئون خلقه جميعا، ويدحض الحق القضية التي حكموا بوساطتها أن يعاملوا الأميين معاملة تختلف عن معاملتهم لأهل الكتاب، فقال سبحانه: {ويَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
يعلمون ماذا؟
يعلمون ان قولهم كذب، فهم يعرفون الحكم الصحيح وينحرفون عنه، وياليتهم قالوا: إن ذلك الحكم من عند أنفسهم، لكنهم ينسبون ذلك إلى تعاليم دينهم، وتعاليم الدين- كما قلنا- مأخوذة من الله، وهم بذلك- والعياذ بالله- يفترون على الله كذبا بأنه خلق خلقا ثم صنفهم صنفين: صنفاً تؤدى الأمانة له، وصنفاً لا تؤدى الأمانة له، وهكذا كذبوا على الله وعلموا أنهم كاذبون، وهذا هو الافتراء. وهم أيضا يعلمون العقوبة التي تلحق من يكذب على الله ورغم ذلك كذبوا.


لقد حذف الحق في هذه الآية المفعول به فلم يقل: (يعملون كذا). الحق حين يحذف (المفعول) فهو يريد أن يعمم الفهم ويريد أن يعمم الحركة، إنه سبحانه يريد أن يبلغنا بأن هؤلاء يعلمون أن قولهم هذا كذب، ويعلمون عقوبة ذلك الكذب.. وساعة تأتي قضية منفية ثم يأتي بعدها كلمة (بلى) فإنها تنقض القضية التي سبقتها ومعنى ذلك أنها تُثْبِت ضدها. لقد قالوا: (ليس علينا في الأميين سبيل) وهذه قضية منفية ب (ليس)، والحق يقول في الآية التالية: {بلى مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}


نداء الايمان



امانى يسرى محمد 11-07-2021 12:40 PM

رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة ال عمران)
 
{بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)}


إن قول الحق في بداية هذه الآية {بلى} إنما جاء لينقض القضية السابقة التي ادعاها أهل الكتاب، وكأن الحق يقول: أيْ عليكم في الأميين سبيل؛ لأن المشرع هو الله، والناس بالنسبة له سبحانه سواء.
وبعد ذلك يأتي قول الحق بقضية عامة: {مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 76].


ما العهد؟
إنه العهد الإيماني الذي ارتضيناه لأنفسنا بأننا آمنا بالله وساعة تؤمن بالإله فمعنى إيمانك به هو حيثية قبولك لكل حكم يصدر منه سبحانه، وأن تلتزم بما يطلبه منك. وإن لم تلتزم بما يطلبه منك كان إيمانك بلا قيمة؛ لأن فائدة الإيمان هو الالتزام. ولذلك قلنا: إن الحق سبحانه وتعالى حينما يريد تشريع حكم لمن آمن به ينادي أولا يأيها الذين آمنوا كتب عليكم كذا، إن الحق سبحانه لا ينادي في التكليف كل الناس، إنما ينادي من آمن وكأن سبحانه يقول: (يا من آمن بي إلها، اسمع مني الحكم الذي أريده منك. أنا لا أطلب ممن لم يؤمن بي حكما، إنما أطلب ممن آمن).


وهنا يقول الحق: {مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} وقد يفهم البعض هذا القول بأن من أوفى بعهده الإيماني واتقى الله في أن يجعل كل حركاته مطابقة ل (افعل ولا تفعل) فإن الله يحبه. هذا هو المعنى الذي قد يُفهم للوهلة الأولى، لكن الله لم يقل ذلك، إن (الحب) لا يرجع إلى الذات بل يرجع إلى العمل، لقد قال الحق: {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}.
إن الإنسان قد يخطئ ويقول: (لقد أحبني الله، وسأفعل من بعد ذلك ما يحلو لي) ونحن نذكر صاحب هذا القول بأن الله يحب العمل الصالح الذي يؤديه العبد بنية خالصة لله وليس للذات أي قيمة، لذلك قال: {مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}.


إن الذي أوفى بعهده واتقى سيحب الله فيه التقوى، وإياك أن تفهم أن الحب من الله للعبد سيصبح حبا ذاتيا، لكنه حب لوجود الوصف فيه، فاحرص على أن يكون الوصف لك دائما، لتظل في محبوبية الله.
ولذلك نقول: إن الحق سبحانه وتعالى أوضح لنا أن الذات تتناسل من ذات، والذوات عند الله متناسلة من أصل واحد. فالجنس ليس له قيمة، إنما القيمة للعمل الصالح.


وقد ضربنا المثل قديما، وقلنا: إن الحق سبحانه وتعالى حينما وعد نوحا عليه السلام بأن ينجيه من الغرق هو وأهله، ثم فوجئ نوح بأن ابنه من المغرقين، قال سبحانه حكاية عما حدث: {قَالَ سآوي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المآء قَالَ لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج فَكَانَ مِنَ المغرقين} [هود: 43].


ماذا فعل نوح عليه السلام؟

لقد نادى ربه طالبا نجاة ابنه: {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين} [هود: 45] ويعلمنا الله من خلال رده على نوح، أن أهل الأنبياء ليسوا من جاءوا من نسلهم، إنما أهل الأنبياء هم من جاءوا على منهجهم، لذلك قال الحق لنوح عن ابنه: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46].
لماذا يكون ابن نوح ليس من أهل نوح؟ ذلك لأن أهل النبوة هم الذين يتبعون منهج النبوة، ولذلك لم يقل الحق لنوح عن ابنه: (إنه عامل غير صالح) لكن الحق سبحانه قال عن ابن نوح: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}.. لقد نسب الحق الأمر إلى العمل.
إذن فالحكمة هي أن الله سبحانه وتعالى في أسلوبه القرآني يوضح لنا أن الله لا يحب شخصا لذاته، إنما لعمله وصفاته فلم يقل: (من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحبه)، لأن (الهاء) هنا ترجع إلى الذات، إن في ذلك إيضاحاً كامل البيان بأن الله يحب عمل العبد لا ذات العبد، فإن حرص العبد على محبوبية الله فذلك يتطلب من العبد أن يظل متبعا لمنهج الله، وبعد ذلك يقول الحق: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أولئك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخرة...}.





https://akhawat.islamway.net/forum/a...9a6ae5bb147830





{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)}


وساعة نسمع كلمة (شراء وبيع) فلابد أن نتوقف عندها؛ لنفهم معناها بدقة. ونحن في الريف نرى المقايضات أو المبادلات في الرزق الذي له نفع مباشر، كأن يبادل طرف طرفا آخر، قمحا بقماش، فهذه سلعة يتم مبادلتها بسلعة أخرى، وعلى ذلك فليس هناك شارٍ وبائع، لأن كل من الطرفين قد اشترى وباع. وهنا نسأل: متى يصبح الأمر إذن شراء وبيعا؟


إن الشراء والبيع يحدث عندما نستبدل رزقا مباشرا برزق غير مباشر، ومثال ذلك عندما يشتري الإنسان رغيف خبز بخمسة قروش، إن هذا هو الشراء والبيع، لأن الخمسة قروش هي رزق غير مباشر النفعية؛ لأن النقود لا تشبعك ولا ترويك من عطشك ولا تسترك. والرغيف هو رزق مباشر النفعية لأنه يشبعك ويدفع عنك الجوع وعندما يحب الإنسان أن يشتري شيئا فإن الذي يدفعه في الشراء يسمى ثمنا.
إذن فكيف يشتري الثمن؟


إن الحق يوضح لنا أن الأثمان لا تكون مشتراة أبدا، إنها مُشترى بها، ولذلك تكون أول خيبة في صفقة الذين يشترون بعهد الله ثمنا قليلا، إنهم اشتروا الثمن، بينما الثمن لا يُشترى، فالذي يشتري هو السلعة. ويا ليت الثمن الذي اشتروه ثمن له قيمة، لكنه ثمن قليل، ومن هنا جاء تحريم الربا لأن المرابي يعطي الشخص مائة، ويريد أن يسترده مائة وعشرة، ويكون المرابي في هذه المسألة قد جعل النقود سلعة، وهكذا تكون الصفقة خائبة من بدايتها.


إذن فأول خيبة في نفوس الناس الذين يستبدلون الهدى ويأخذون بدلا منه الضلالة، إنهم خاسرون. {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16].


والحق سبحانه يقول هنا: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً}. ونعرف أن (الباء) دائما تدخل على المتروك، أي أنهم تركوا عهد الله والأيمان التي حلفوا بها على التصديق بالرسول، وعلى نصرته إذا جاءهم، أنهم اشتروا ذلك بثمن قليل، كيف يحدث ذلك؟



لهذه المسألة واقعة حال، وإن كان المراد عموم الموضوع لا خصوص السبب، فلا يقولن أحد: إن هذه الآية نزلت في الأمر الفلاني فلا شأن لي بها، لا فكل من يشتري بآيات الله ثمنا قليلا تنطبق عليه هذه الآية.

وواقعة الحال التي نزلت فيها الآية هي:

أن جماعة في عهد جدب ومجاعة دخلت على كعب بن الأشرف اليهودي يطلبون منه الميرة- أي الطعام والكسوة- فقال لهم: هل تعلمون أن هذا الرجل رسول الله؟ قالوا نعم، قال: إنني هممت أن أطعمكم وأن أكسوكم ولكن الله حرمكم خيرا كثيرا وتساءلوا: لماذا حرمنا الله خير الكثير؟ وجاءتهم الإجابة لقد أعلنتم الإيمان بمحمد فلما وجدوا أنفسهم في هذا الموقف، قالوا لكعب بن الأشرف: دعنا فترة لأنه ربما غلبتنا شبهة، فلنراجع فيها أنفسنا.


وعندما مرت الفترة، فضلوا الطعام والكسوة على الإيمان، وقالوا لكعب بن الأشرف: لقد قرأنا في كتبنا الموجودة لدينا خطأ، ومحمد ليس رسولا. فأعطاهم كعب القوت والكسوة. وهؤلاء هم الذين اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا، وهو الطعام والكسوة. وكل من يشتري بآيات الله ثمنا قليلا، فهو يطمس حكما من أحكام الله من أجل أن يتظاهر أمام الناس أنه عصري، أو أنه مساير لروح الزمان، أو يزين لأولياء الأمر فعلا من الأفعال لا يرضى عنه الله.
إذن فالذي يفعل مثل ذلك إنما يشتري بآيات الله ثمنا قليلا، وكل من يجعل آية من آيات الله عرضة للبيع من أجل أن يأخذ عنها ثمنا قليلا، وكل من يجعل آية من آيات الله عرضة للبيع من أجل أن يأخذ عنها ثمنا يُعتبر داخلا في هذا النص {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً}.
والمقصود هنا بعهد الله، إما أن يكون عهد الفطرة أو العهد الذي أخذه الله على أهل الكتاب بأنهم إن أدركوا بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلابد أن يعلنوا الإيمان به هو العهد الذي جاء به القول الحق: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين} [آل عمران: 81].


إذن فعندما جاءت صفة تكذيبهم لما أعلنوه من إيمان سابق مقابل الميرة والكسوة، وكان ذلك خيبة كبرى فهم قد اشتروا الثمن، والثمن مع ذلك قليل، ولذلك يقول عنهم الحق: {أولئك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخرة وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77].


وكلمة {أولئك} تدل على أن الصلة وهي {يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} تُلِحق بهم كل من يتصف بهذه الصفات وتجعل له المصير نفسه. فهذه الآية وإن نزلت في هؤلاء الأشخاص الذين جرت منهم حادثة شراء الطعام والكسوة مقابل النكوص عن الإيمان برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها تشمل كل متصف بهذه الصفة وكل من كان على هذا اللون في أي عصر، وفي أي دين من الأديان، ويصفهم الحق سبحانه ب {أولئك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ}.


وكلمة {خَلاَقَ} وكلمة (خُلق) وكلمة (خليقة) وكلمة (خلق) كلها تدور حول معنى يكاد يكون متقاربا، فالخلق- بضم الخاء واللام- أن توجد صفة في الإنسان تغلب عليه حتى تصير ملكة. فيقال: (فلان عنده خلق الصدق) أو (فلان خلقه الكرم) ومعناه: أن فلانا الأول صار الصدق عنده ملكة ولا يتعب نفسه في أن يكون صادقا بل صار الصدق أمرا طبيعيا فيه، وكذلك وصف فلان الثاني بالكرم أي أن الكرم صار ملكة وسجية عنده.


وهذه الملكة في الأمور المعنوية تساوي الآلية في الأمور الحسية؛ لأننا نعرف أن كل فعل من الأفعال يحتاج إلى دربة ليكون الإنسان متميزا في أدائه، وعلى سبيل المثال، العامل الذي ينسج على آلة يحتاج إلى أن يتدرب على تحريك مكوك الخيط، وأن يتعلم كيف يحرك المكوك بين خيوط النسيج، وبعد ذلك يختلف الخيطان معا لتمسك بهما حركة المكوك الثانية في ارتدادها، وبذلك يتم النسيج، وحين يتدرب إنسان على هذا العمل فهو يحتاج إلى وقت طويل، ليصل إلى كفاءة الحركة.


في بداية التدريب يكون الأمر صعبا، ويستطيع النساج بعد أن يتقن التدريب أن يجلس أمام آلة النسيج ويداه تحرك المكوك بآلية. لقد صارت المسألة بالنسبة إلى النساج المتدرب آلية.


وسبق أن ضربت المثل بالإنسان الذي يتعلم قيادة السيارة، فالمدرب يعلمه كيف يدير المفتاح، وكيف ينتظر لتسخين المحرك، وكيف يفك مكبح السيارة، ثم كيف يحرك عصا التحكم في اندفاع السيارة، وكيف يوازن بين الضغط على بدال الوقود والضغط على بدال التحكم الفاصل، وكيف يوازن بين سير السيارة بتخفيض السرعة بلمسات خفيفة لبدال المكبح.
وقد يخطئ الإنسان في بداية التعلم ويرتبك، ولكنه بعد تمام التدريب فإنه يعمل بآلية وبدون تفكير، إنه عمل آلي لا يحتاج إلى تفكير، وضربت في السابق مثالا بالصبي الذي يتعلم حياكة الملابس، إنه يأخذ وقتا ليضع الخيط في سم الإبرة، وتقع منه الأخطاء في قياس المسافات المختلفة بين الغرز، لكنه من بعد ذلك يتدرب على فعل هذه الأعمال التي كانت صعبة، ويؤديها بآلية، والعمل الآلي في الأمور المحسة، يقابل الملكة في الأمور المعنوية، فيقال: (إن الصدق عند فلان ملكة) إي أنه إنسان لا يرهُقه أن يكون صادقا.


ونحن أثناء تعليم أبنائنا للنحو- مثلا- نقول لهم: (إن حكم الفاعل الرفع والمفعول به منصوب) وعندما ينطق الابن عبارة ما، فإنه يحاول تطبيق القاعدة أثناء القراءة، وقد ينساها، أو يتلجلج، وعندما يتذكرها فإنه ينطق الكلمات برسمها الصوتي الصحيح، وبعد أن يتم التدريب على القاعدة ويقرأ الابن، فإن أخطاءه تتلاشى، وبذلك يصير النحو ملكة عنده.
وكذلك الخلق، إن الخلق صفة ترسخ في النفس، فتصدر عنها الأفعال بيسر وسهولة، فيقال: (الصدق له خلق)، و(الكرم له خلق)، و(الشجاعة له خلق) إنها الصفات التي ترسخ في النفس فتصدر عنها الأفعال في يسر وسهولة. والحق سبحانه يقول: {أولئك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخرة} وقد فسر البعض حرمان أولئك من الخلق بأن هذا الصنف من الناس لا نصيب لهم من الخلق، لأن الخلق صفة راسخة في الإنسان، والحق يحدد الزمن بأنه {فِي الآخرة}.
والآخرة هي الوقت الذي لا يمكن التدارك فيه، فالآخرة هي يوم التقييم الصحيح والنهائي.


إن الإنسان قد لا يكون له نصيب السلوك القويم فيعدل سلوكه حتى يكتسب هذا السلوك القويم في الدنيا لكن الإنسان لا يستطيع في الآخرة أن يجد مجالا للاستدراك، وهذه هي الخيبة القوية.
فالإنسان في الدنيا، قد يقوم بعمل ما ولا يكون له نصيب من أجره أو قد لا نرى نحن الجزاء والنصيب الذي يعطيه له الله ولكن الله يعوضه في الآخرة عن هذا العمل الذي لم يكن له نصيب منه في الدنيا أما من لا خلاق له في الآخرة فكيف يتم التعويض؟ إنّ ذلك أمر مستحيل؟
ويضيف الحق {ولاَ يُكَلِّمُهُمُ الله وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقد يقول قائل: ألم يقل القرآن الكريم في موقع آخر، إن الله يقول للكافرين: {قَالَ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108].
فلماذا يقول الحق لهم مرة: {اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ}، ومرة أخرى يقول الحق: {لاَ يُكَلِّمُهُمُ الله}؟. ونجيب على مثل هذا القول: إن الحق لا يكلمهم كلاما ينفعهم، أو أنه سبحانه يكلمهم بواسطة ملائكته، ولكن كيف لا ينظر إليهم الله؟


وساعة نجد أمرا يوجد في الناس وله نظير منسوب لله سبحانه وتعالى ويقوله سبحانه عن نفسه، فلابد أن نأخذ هذا الأمر في إطار: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.
إننا في مجالنا البشرى نقول: (فلان لا ينظر إلى فلان) أي أنه لا يوجه عيونه إليه، ويحول حدقتيه عنه، لكن لا يمكن قياس ذلك على الله، لأن الله منزه عن التشبيه ففي الوضع البشرى نجد إنسانا يحب صديقا له فيقبل عليه بالوجه والنظر فيقال: (فتى هو قيد العين) أي أنه شاب عندما تنظر إليه العين فهو يقيد العين فلا تذهب عنه إلى مكان آخر؛ ففي هذا الشاب محاسن تجعل العين لا تذهب بعيدا عنه. وهكذا نأخذ إقبال العين بالنظر على المنظور أو على المرئي كسمة للاهتمام به، وهذا صحيح في الوضع البشرى.


لكن إذا ما جاء ذلك بالنسبة لله، هنا نأخذ المسألة في إطار: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. وهكذا نفهم عدم نظر الله إلى {الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} بأن الله يهملهم، ولا يهتم بهم (لا ينالهم الله برحمته)، فالحق سبحانه منزه عن كل تشبيه، وهكذا الأمر في عدم نظر الحق إليهم، نأخذ الأمر أيضا في إطار: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} إن ولي الأمر من البشر عندما يرغب في عقاب أحد رعاياه، لا ينظر إليه ويهمله، فما بالنا بإهمال الحق سبحانه وتعالى؟! إنه إبعاد لهم عن رحمة الله ورضوانه.
ويضيف الحق سبحانه {وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} والتزكية تأتي بمعنى التطهير، أو بمعنى الثناء أو النماء والزيادة فنقول: (فلان زكى فلانا) أي أثنى عليه ويقال أيضا: (فلان زكى فلانا) أي طهره، ومن هذا تكون (الزكاة) التي هي تطهير ونماء.


وعندما يخبرنا الحق سبحانه أنه لا يكلم ذلك الصنف من البشر ولا ينظر إليهم ولا يطهرهم من أوزارهم، فهذا مقدمة لما أعده لهم بقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فلابد أن نأخذ قوة الحدث بفاعل الحدث.
وفي حياتنا العادية عندما يقال: (صفع الطفل فلانا الرجل) نفهم بطبيعة الحال أن صفعة الطفل تختلف في قوتها عن صفعة الشاب، وكذلك صفعة الشاب تختلف عن صفعة بطل في الملاكمة. إذن فالحدث يختلف باختلاف فاعله قوة وضعفا على المفعول به الذي هو مناط الحدث، فإذا كان فاعل العذاب هو الله فلابد أن يكون عذابا أليما؛ ولا حدود لألمه، أنجانا الله وإياكم منه. ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بالكتاب لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكتاب وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ...}.

https://akhawat.islamway.net/forum/a...9a6ae5bb147830




{وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)}


أي أنهم يلوون ألسنتهم بالكلام الصادر من الله ليحرفوه عن معانيه، أو يَلْوُون ألسنتهم عندما يريدون التعبير عن المعاني. و(اللي) هو الفتل، فنحن عندما نفتل حبلا، ونحاول أن نجدل بين فرعين اثنين من الخيوط، ثم نفتلهم معا لنصنع حبلا، والهدف من الفتل هو أن نضع قوة من شعيرات الخيوط، فهذه الشعيرات لها قوة محدودة، وعندما نفتل هذه الخيوط فإننا نزيد من قوة الخيوط بجدلها معا.


إذن فالفتل المراد به الوصول إلى قوة، وهكذا نرى أنهم يلوون ألسنتهم بكلام يدعون أنه من المنهج المنزل من عند الله، وهذا الكلام ليس من المنهج ولم ينزل من عند الله إنّهم يفعلون ذلك لتقوية مركزهم والتنقيص من مكانة الإسلام والطعن في الرسول كما قالوا من قبل: (راعنا)، لذلك قال الحق مخاطبا المؤمنين: {يَاأَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظرنا واسمعوا وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 104].


إن الحق يوضح لنا ألا نعطي لهم فرصة لتحريف كلام الله، فهو سبحانه القائل: {مِّنَ الذين هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدين وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا واسمع وانظرنا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 46].


لقد فضحهم- الحق سبحانه- لنا، وهم يحرفون الكلام عن موضعه، فقد قال الحق هذا القول بمعنى: أن الذي تسمعه لا يضرك لقد سجل الله عليهم أنهم قالوا سمعنا وعصينا كما قاموا بتحريف الكلمة وقالوا: (اسمع غير مسمع) أي (لا سمعت أبدا)، تماما كما أخذوا من قبل قول الله: {وَقُولُواْ حِطَّةٌ} [الأعراف: 161].


وحرفوا هذا القول: (وَقُولُواْ حِنطَّةٌ)، وهم قد فعلوا ذلك حتى نحسب هذا التحريف من الكتاب، وما هو من الكتاب، أي أنهم يفتلون بعضا من المعاني المستنبطة من الكلمات حتى يوهموا المؤمنين بأن هذه المعاني غير المرادة وغير الصحيحة هي معان مرادة لله، وصحيحة المعنى، إنهم يدعون على المنهج المنزل من السماء ما ليس فيه، ولذلك قال سبحانه: {لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكتاب وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} إنهم عندما يلوون ألسنتهم بالكتاب يحرفونه رغبة في التلبيس والتدليس عليكم لتظنوا أنه من الكتاب المنزل من عند الله على رسولهم، إنهم لو فعلوا ذلك فحسب لجاز أن يتوبوا ويرجعوا إلى ربهم ويندموا على ما فعلوا.


أما قولهم بعد ذلك: {هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ} فهو دليل على أنهم أحدثوا في الكتاب شيئا وأصروا عليه فجاءوا بقولهم: {هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ} لينفوا عن أنفسهم شبهة أن يُدعى عليهم أنهم حرفوا الكتاب، ولو لم يكونوا قد حرفوا الكتاب أكانت تخطر ببالهم، هذه؟ إن أمرهم جاء من باب (يكاد المريب أن يقول خذوني) إنهم بهذا القول يحتالون على إخفاء أمر حدث منهم.
إن الحق سبحانه يؤكد أن الخيانة تلاحقهم فيقول: (وما هو من عند الله)، فهذه الآية الكريمة تفضحهم وتكشف تحريفهم لكتاب الله، يقول سبحانه: {وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ} إنهم يعرفون أن ما يقولونه هو الكذب، والكذب كما عرفنا هو أن تكون النسبة الكلامية غير مطابقة للواقع، فالنسب في الأحداث تأتي على ثلاث حالات:
نسبة واقعة.
نسبة يفكر فيها وهي نسبة ذهنية.
نسبة ينطق بها.


فعندما نعرف إنسانا اسمه محمد، وهو مجتهد بالفعل فهذه نسبة واقعة وإذا خطر ببالك أن تخبر صديقا لك باجتهاد محمد فهذا الخاطر نسبة ذهنية.
وساعة تنطق بهذا الخبر لصديق لك صارت النسبة كلامية. والصدق هو أن تكون النسبة الكلامية لها واقع متسق معها كأن يقول: (محمد مجتهد) ويكون هناك بالفعل من اسمه محمد وهو مجتهد بالفعل، وبهذا تكون أنت الناطق بخبر اجتهاد محمدٍ إنسانا صادقا، أما إن لم يكن هناك من اسمه محمد ومجتهد فالنسبة الكلامية لا تتفق مع النسبة الواقعية، لذلك يصير الخبر كاذبا. والعلماء يفرقون بين الصدق والكذب بهذا المعيار. فالصدق: هو مطابقة الكلام للواقع، والكذب: هو عدم مطابقة الكلام للواقع.


وحاول بعض من الذين يحبون التشكيك أن يقفوا عند سورة المنافقين التي يقول فيها الحق: {إِذَا جَآءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1].
لقد قال المنافقون: نشهد إنك لرسول الله، وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو رسول من عند الله بالفعل، والحق سبحانه يقول: {والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} فهل علمهم كعلم الله؟ لا، لأن الله سبحانه قال: {والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ}، فكيف يصفهم الحق بأنهم كاذبون مع أنهم شهدوا بما شهد هو به؟


إن الحق لا يكذبهم في أن محمدا رسول الله فهذه قضية صادقة، ولكنه سبحانه قد كذبهم في قضية قالوها وهي: {نَشْهَدُ}، لأن قولهم: {نَشْهَدُ} تعني أن يوافق الكلام المنطوق ما يعتقدونه في قلوبهم، وقولهم: {نَشْهَدُ} هو قول لا يتفق مع ما في قلوبهم، ولذلك صاروا كذابين، فلسان كل منهم لا يوافق ما في قلبه.


إذن فقوله الحق: {وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، أي إنهم يقولون كلاما ليس له نسبة خارجية تطابقه، وهم يعلمون أنه كذب، حتى لا نقول: إنهم نطقوا بذلك غفلة، لقد تعمدوا الكذب، وهم يعرفون أنهم يقولون الكذب. والدقة تقتضي أننا يجب أن نفرق بين صدق الخبر، وصدق المخبر. صدق الخبر هو أن يطابق الواقع لكن أحيانا يكون المخبر صادقا، والخبر في ذاته كذب، كأن يقول واحد: (إن فلانا يستذكر طول الليل) لأنه شاهد حجرة فلان مضاءة وأنه يفتح كتابا، بينما يكون هذا الفلان غارقا في قراءة رواية ما، إن المخبر الصادق في هذه الحالة، لكن الخبر كاذب.
ولكن في مجال الآية نحن نجد أنهم كاذبون عن عمد، فللسان هو وسيلة بيان ما في النفس:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ** جعل اللسان على الفؤاد دليلا

ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ الله الكتاب والحكم والنبوة...}.



نداء الايمان

امانى يسرى محمد 12-07-2021 08:26 PM

رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة ال عمران)
 
تفسير الآية رقم (79):


{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)}



ونحن نعرف أن الحق سبحانه وتعالى حين ينزل منهجه، فهو ينزله في كتاب، ويقتضي ذلك أن يصطفي سبحانه إنسانا للرسالة، أي أن الرسول يجيء بمنهج ويطبقه على نفسه ويبلغه للناس، الرسول مصطفى من الله ويختلف في مهمته عن النبي، فالنبي أيضا مصطفى ليطبق المنهج، وهكذا حتى لا يسمع الناس المنهج ككلام فقط ولكن يرونه تطبيقا أيضا، إذن فالرسول واسطة تبليغية ونموذج سلوكي والنبي ليس واسطة تبليغية، بل هو نموذج سلوكي فقط.
إن الحق سبحانه وتعالى يرسل النبي ويرسل الرسول، ولذلك تأتي الآية: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحج: 52].


هكذا نعرف أن الرسول والنبي كليهما مرسل من عند الله، الرسول مرسل للبلاغ والأسوة، والنبي مرسل للأسوة فقط، لأن هناك بعضا من الأزمنة يكون المنهج موجودا، ولكن حمل النفس على المنهج، هو المفتقد، ومثال ذلك عصرنا الحاضر ان المنهج موجود وكلنا نعلم ما الحلال وما الحرام، لكن خيبة هذا الزمان تأتي من ناحية عدم حمل أنفسنا على المنهج، لذلك فنحن نحتاج إلى أسوة سلوكية، هكذا عرفنا الكتاب، والنبوة، فما هو الحكم إذن؟
لقد جاء الحق بكلمة: (الحكم) هنا ليدلنا على أنه ليس من الضروري أن توجد الحكمة الإيمانية في الرسول أو النبي فقط، بل قد تكون الحكمة من نصيب إنسان من الرعية الإيمانية، وتكون القضية الإيمانية ناضجة في ذهنه، فيقولها لأن الحكمة تقتضي هذا. ألم يذكر الله لنا وصية لقمان لابنه؟ إن وصية لقمان لابنه هي المنهج الديني، وعلى ذلك فمن الممكن أن يأتي إنسان دون رسالة أو نبوة، ولكن المنهج الإيماني ينقدح في ذهنه، فيعظ به ويطبقه، وهذا إيذان من الله على أن المنهج يمكن لأي عقل حين يستقبله أن يقتنع به، فيعمل به ويبلغه.


ولابد لنا أن نؤكد أن من يهبه الله الحكمة في الدعوة لمنهج الله وتطبيق هذا المنهج، لن يضيف للمنهج شيئا، وبحكم صدقة مع الله فهو لن يدعي أنه مبعوث من الله للناس، إنه يكتفي بالدعوة لله وبأن، يكون أسوة حسنة.


لكن لماذا جاءت هذه الآية؟

لقد جاءت هذه الآية بعد جدال نصارى نجران مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وأثناء الجدال انضمت إليهم جماعة من اليهود، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماذا تؤمن وتأمر؟ فأبلغهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأوامر المنهج ونواهيه، وأصول العبادة، ولأن تلك الجماعة كانوا من أهل الكتاب، بعضهم من نصارى نجران والبعض الآخر من يهود المدينة، وكانوا يزيفون أوامر تعبدية ليست من عند الله، ويريدون من الناس طاعة هذه الأوامر، لذلك لم يفطنوا إلى الفارق بين منهج رسول الله صلى الله عليه السلام وأوامره، وبين ما زيفوه هم من أوامر، فمحمد صلى الله عليه وسلم يطلب من الناس عبادة الله على ضوء المنهج الذي أنزله عليه الحق سبحانه، أما هم فيطلبون طاعة الناس في أوامر من تزييفهم.
والطاعة- كما نعلم- هي لله وحده في أصول كل الأديان، فإذا ما جاء إنسان بأمر ليس من الله، وطلب من الناس أن يطيعوه فيه، فهذا معناه أن ذلك الإنسان يطلب أن يعبده الناس- والعياذ بالله- لأن طاعة البشر في غير أوامر الله هي شرك بالله. ولهذا تشابهت المواقف على هذا البعض من أهل الكتاب، وظنوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم يطلب منهم طاعتهم لأوامره هو، كما كانوا يطلبون من الناس بعد تحريفهم للمنهج وقالوا: أتريد أن نعبدك ونتخذك إلها؟
إنهم لم يفطنوا إلى الفارق بين الرسول الأمين على منهج الله، وبين رؤسائهم الذين خالفوا الأحكام واستبدلوها بغيرها، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يطلب منهم طاعته لذاته هو، ولكنه قد طلب منهم الطاعة للمنهج الذي جاء به رسولا وقدوة، واستنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قالوه.


وأنزل الله سبحانه قوله الحق: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ الله الكتاب والحكم والنبوة ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ الله} [آل عمران: 79].
لقد بلغت بهم الغفلة والشرك أنهم ظنوا أن الله لم يختر رسولا أمينا على المنهج، وظنوا بالله ظن السوء، أو أنهم ظنوا أن الرسول سيحرف المنهج كما حرفوه هم، فتحولوا عن عبادة الله إلى عبادة من بعثه الله رسولا، ولذلك جاء القول الفصل {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ الله الكتاب والحكم والنبوة ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ الله}.
وقد ينصرف المعنى أيضا إلى أن بعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يُجِلُّونَه صلى الله عليه وسلم وكل مؤمن مطلوب منه أن يُجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يعظمه، ومن فرط حب بعض الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا له: أنسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض، ألا نسجد لك؟


إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يطلب السجود له من أحد، والحق سبحانه هو الذي كلف عباده المؤمنين بتكريم رسوله فقال: {لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].
إن المطلوب هو التعظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أن نعطي له أشياء لا تكون إلا لله.
إن تعظيم المسلمين لرسول الله وتكريمهم له هو أن نجعل دعاءه مختلفاً عن دعاء بعضنا بعضا.


والحق في هذه الآية التي نحن في مجال الخواطر عنها وحولها يقول: {ولكن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكتاب وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ}.
إن (لكن) هنا للاستدراك، مثلما قلنا من قبل: إن (بلى) تنقض القضية التي قبلها وتثبت بعدها قضية مخالفة لها. إن الحق يستدرك هنا لنفهم أنه ليس لأحد من البشر أن يقول: (كونوا عبادا لي) بعد أن أعطاه الله الكتاب والحكم والنبوة، والقضية التي يتم الاستدراك من أجلها وإثباتها هي: {كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ} وكلمة (رباني)، وكلمة (رب)، وكلمة (ربيون)، وكلمة (ربان)، وكل المادة المكونة من (الراء) و(الباء) تدل على التربية، والولاية، وتعهد المربي، وتدور حول هذا المعنى. أليس ربان السفينة هو الذي يقود السفينة؟
وكلمة (الرب) توضح المتولي للتربية، إذن فما معنى كلمة (رباني)؟ إنك إذا أردت أن تنسب إلى (رب) تقول: (ربّي). وإذا أردنا المبالغة في النسبة نضيف لها ألفا ونونا فنقول: (رباني) ولذلك نجد في التعبيرات المعاصرة من يريدون أن ينسبوا أمرا إلى العلم فيقولون: (علماني) وفي ذلك مبالغة في النسبة إلى العلم. والفرق بين (علمي) و(علماني) هو أن العلماني يزعم لنفسه أن كل أموره تمشي على العلم المادي، ونجد أن في (علماني) ألفاً ونوناً زائدين لتأكيد النسبة إلى العلم.


وقد يقول قائل: ولماذا نؤكد الانتساب إلى الله بكلمة (رباني)؟
ونقول: لأن الكلمة مأخوذة من كلمة رب، وتؤدي إلى معان: منها أن كل ما عنده من حصيلة البلاغ لابد أن يكون صادرا ومنسوبا إلى الرب؛ لأنه لم يأت بشيء من عنده، أي أنه يأخذ من الله ولا يأخذ من أحد آخر أبدا؛ فهو رباني الأخذ.
وتؤدي الكلمة إلى معنى آخر: إنه حين يقول ويتكلم فإنه يكون متصفا بخلق أنزله رب يربي الناس ليبلغوا الغاية المقصودة منهم، فهو عندما ينقل ما عنده للناس يكون مربيا، ويدبر الأمر للفلاح والصلاح.
يقول الحق- سبحانه-: {بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكتاب وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} إن العلم هو تلقي النص المنهجي. والدراسة هي البحث الفكري في النص المنهجي.


لذلك فنحن في الريف نقول: (ندرس القمح) أي أننا ندرس القمح بألة حادة كالنورج حتى تنفصل حبوب القمح عن (التبن) وتكون نتيجة الدراس هي استخلاص النافع.
إذن ففيه فرق بين (تعلمون) أي تعلمون غيركم المنهج الصادر من الله وذلك خاضع لتلقي النص، وبين {مَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} أي تعملون أفكاركم في الفهم عن النص.


إن الفهم عن النص يحتاج إلى مدارسة، ومعنى المدارسة هو أخذ وعطاء، ويقال: (دارسه) أي أن واحد قد قام بتبادل التدريس مع آخر، ويقال أيضا: (تدارسنا) أي أنني قلت ما عندي وأنت قد قلت ما عندك حتى يمكن أن نستخلص ونستنبط الحكم الذي يوجد في النص.
وقد يأتي النص محكما، وقد يأتي النص محتملا لأكثر من معنى.
وما دمت قد تعلمت، فلابد أنك تعرفت على النصوص المحكمة للمنهج. وما دمت قد تدارست، فلابد أنك قد فهمت من النصوص المحتملة حين مدارستك لأهل الذكر حُسْن استقبال المنهج؛ لذلك يجب أن تكون ربانياً في الأمرين معاً.
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَاباً...}.

https://akhawat.islamway.net/forum/a...9a6ae5bb147830




{وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)}



أي أنه ليس لبشر آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة أن يأمر الناس باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا. إن من اختصه الله بعلم وكتاب ونبوة لا يمكن أن يقول: اعبدوني، أو اعبدوا الملائكة، أو اعبدوا الأنبياء.
لماذا؟ ويجيب الحق سبحانه: {أَيَأْمُرُكُم بالكفر بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ}.
وقوله الحق: {بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} تدل على أن واقعة القضية وما معها كانت مع مسلمين كأنهم عندما جاءوا وأرادوا أن يعظموا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: نحن نريد أن نعطيك وضعا في التعظيم أكثر من أي كائن ونريد أن نسجد لك. فَوَضَّح النبي صلى الله عليه وسلم لهم: أنَّ السجود لا يكون إلا لله.


إذن فالذين تكلموا مسلمون، وكانوا يقصدون بذلك تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو أن رسول الله وافقهم لكان معنى ذلك انه يخرجهم عن الإسلام، ولا يتصور أن يصدر هذا عن سيدنا وحبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم أو عن غيره من الأنبياء عليهم السلام.
والحق سبحانه يقول: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ...}.

امانى يسرى محمد 14-07-2021 07:21 PM

رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة ال عمران)
 
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)}


هذه الآية تجعلنا نتعرف على أسباب بعث الحق لموكب الرسل، ونعرف جميعا أن المنهج الأول قد أنزله الله على آدم عليه السلام متضمنا كل ما يجعل الحياة تسير إلى انسجام، وبلّغ آدم أولاده هذا المنهج كما علمهم أمور حياتهم، تماما مثلما يعلم الأب أبناءه ما يخدم أمور حياتهم، كما يقوم بإبلاغ الأبناء مطلوب الدين، والأبناء يبلغون أبناءهم، وتتواصل البلاغ من جيل إلى جيل كي يكتمل وصول المنهج للذرية، ولكن مع توالي الزمن وتتابعه نجد أن بعضا من مطلوبات الدين يتم نسيانها.


إن هذا دليل على أن الناس قد غفلت عن المنهج وهكذا نرى أن الغفلة عن المنهج إنما تتم على مراحل، فبعد بلاغ المنهج نجد إنسانا يغفل عن جزئية، ما في هذا المنهج، وتنبهه نفسه وتلومه على تركه لتلك الجزئية، ونسمي صاحب هذا الموقف بصاحب النفس اللوامة، إنه يفعل السيئة لكن نفسه تعود إلى اليقظة لمنهج الله؛ لأنه يتمتع بوجود خلية المناعة الإيمانية فيه، وهناك إنسان آخر يستمرئ المخالفة للمنهج وتلح عليه نفسه بالمخالفة؛ إنه صاحب النفس الأمارة بالسوء، وتتوالى به دواعي ارتكاب السيئات، ومثل هذا الإنسان يحتاج إلى غيره من خارج نفسه ليلفته إلى الخير.
وماذا يحدث للمجتمع إذا صار افراده جميعا من أصحاب النفس الأمارة بالسوء؟


إن معنى ذلك أن الفساد قد طم، ولابد من مجيء رسول؛ لأن مراد الحق سبحانه هو هداية الناس، لقد خلقنا سبحانه وله كل صفات الكمال، ولم يضف خلقُنا إليه شيئا. وها هو ذا الحديث القدسي الذي رواه أبو ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا، ياعبادي، كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي، كلكم عار، إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي، لم أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، قاموا إلى صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المِخْيط إذا أدخل البحر، يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياه، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه).


إن الله سبحانه وتعالى قد خلقنا وهو من الأزل إلى الأبد، في تمام صفات الكمال ولم يضف له هذا الخلق شيئا، وهو القائل: {ما أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ الله هُوَ الرزاق ذُو القوة المتين} [الذاريات: 57-58].
إذن فعندما يشرع لنا الحق أمراً فهو يشرعه لمصلحتنا؛ إنه سبحانه يحب لصنعته أن تظفر بسعادة المنهج؛ لذلك أنزل المنهج (بافعل ولا تفعل) وحين يقول المنهج: (افعل ولا تفعل) فهو لا يريد أن يحدد حرية الحركة على الخلق الا بما يحميهم، إنه يحدد حرية هنا ليحمي حرية هناك. فعندما حرم الله السرقة-
على سبيل المثال- فالأمر شامل لكل البشر، فلا يسرق أحدا أحدا.


إن الحق سبحانه حين منع يدَ واحدٍ من السرقة، كان في ذلك منع لملايين الأيدي أن تسرق من هذا الإنسان، وفي هذا حماية لكل البشر من أن يسرق إنسان إنسانا آخر، وفي ذلك كسب لكل إنسان، فساعة تأخذ التشريع لا تأخذه على أنه مطلوب منك، ولكن خذه على أنه مطلوب منك ومطلوب لك أيضا.


ومثال آخر، لقد حرم المنهج على العبد المؤمن أن يمد عينيه إلى محارم غيره، ولم يكن هذا التحريم لعبد واحد، إنما لكل إنسان مؤمن، وبذلك لا تمتد أي عين إلى محارم هذا العبد، لقد جاء الأمر لك بغض البصر عن محارم غيرك وأنت واحد، وكففنا من أجلك ملايين الأبصار كيلا تمتد إلى محارمك.


إذن فكل عبد مؤمن يكسب حياة مطمئنة من وجود التشريع، وكل التشريعات إنما جاءت لصالحنا جميعا، ولذلك كان الحق رحيما بنا لأن رَكْبَ الرسل قد تواصل واستمر في الكون منذ آدم، وإلى محمد صلى الله عليه وسلم، والمنهج الذي جاء به كل هؤلاء الرسل لا تناقض فيه أبدا، لأن في هذا المنهج مصلحة للخلق، لذلك فلا يمكن أن يكون موكب رسول قد أتى، ليناقض موكب رسول آخر.


لكن ما الذي يأتي بالتناقض بين الأديان والمشرع واحد؟

وكل الناس عيال له؟
إننا نبرئ الرسل من التناقض، وإن حاول البعض أن يصوروا الأمر كذلك فلنعلم أن أتباع الرسل هم الذين يريدون لأنفسهم سلطة زمنية يتحكمون بها في الدنيا، فالذين كانت لهم سلطة زمنية في دين كاليهودية أو النصرانية فعلوا ذلك.
وعندما جاءت النصرانية على اليهودية قال أحبار اليهود: نحن لا نريد النصرانية لماذا؟ لأن السلطة الزمنية كانت في أيديهم، ولو أن هؤلاء الأحبار ظلوا باقين على ما أنزله الله عليهم من منهج لقَبَّلُوا يدي أي رسول قادم شاكرين له مقدَمَة ومجيئه وقالوا له: ساعدنا على أن نعمق فهمنا لمنهج الله.


إذن فالخلاف لا يحدث إلا حين توجد أهواء لها سلطات زمنية، وموكب الرسالات من يوم أن خلق الله الإنسان هو منهج متساند لا متعاند.
وحينما يأتي رسول ليجد أناسا غير مؤمنين بإله فالمشكلة تكون سهلة، لأنه سيلفتهم إلى إله واحد، وبالمنهج الذي يريده الله، لكن المشكلة تكون كبيرة مع الجماعة التي لها رسول وهم منسوبون إلى السماء فإذا ما جاء رسول من الله فهو يجيء وهؤلاء الأتباع قد أخذوا من ادعائهم بالانتساب لرسالة رسول سابق سلطة زمنية كما حدث مع اليهود والنصارى، فتعصبوا للدين الذي كانوا عليه متناسين أن كبارهم قد حرفوا المنهج لحساب السلطة الزمنية.
وقد استمر موكب الرسل إلى الخلق ليحمي الله الخلق من سيادة الانحراف واصطفى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله قد ضمن بقاء الخير في هذه الأمة، فإذا رأيت أناسا بالغوا في الإلحاد فثق أن هناك أناسا زادهم الله في المدد حتى يحدث التوازن؛ لأن الحق هو القائل:
{وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وأولئك هُمُ المفلحون} [آل عمران: 104].


وفي موضع آخر من القرآن الكريم يقول الحق سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَتُؤْمِنُونَ بالله وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكتاب لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون} [آل عمران: 110].
إذن فإن امتنع الوازع النفسي في النفس اللوامة عند فرد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فسوف يأتي أناس مسلمون ينبهونه إلى المنهج، والحق سبحانه وتعالى لا يعصم الناس من أن يخطئوا فهو القائل: {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} [العصر: 1-3].
إن الحق جاء بكلمة (وتواصوا)، ولم يأتِ بكلمة (وصوا) وذلك لنفهم أن التوصية أمر متبادل بين الجميع، فساعة يوجد إنسان في لحظة ضعف أمام المنهج توجد لحظة قوة عند غيره فيوصيه.
وترد هذه المسألة أيضا إلى الموصى، فقد تأتي له لحظة ضعف أمام المنهج؛ فيجد من يوصيه وهكذا نرى أنه لا يوجد أناس مخصوصون ليوصوا، وآخرون مهمتهم تلقى التوصية، إنما الأمر متبادل بينهم، وهذا هو التكافل الإيماني، والإنسان قد يضعف في مسألة من المسائل فيأتي أخ مؤمن يقول له: ابتعد عن هذا الضعف، إن هذه المسألة تحدث بالتناوب لمقاومة لحظات الأغيار في النفس البشرية؛ لأن لحظات الأغيار لا تجعل الإنسان يثبت على حال، فإذا ما رأينا إنسانا قد ضعف أمام التزام ما فعلينا أن نتواصى بالحق ونتواصى بالصبر، وأنت أيضا حين تضعف ستجد من أخوتك الإيمانية مَنْ يوصيك.


هذا هو الحال في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أما الأمم السابقة عليها فقد كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، ولذلك كان لابد أن تتدخل السماء وتأتي برسول جديد ومعه معجزة جديدة تلفت العقول لفتا قسريا إلى أن هناك أشياء تأتي بها المعجزة، وهي خرق ناموس الكون، وفي ذلك لفت من الله للناس إلى مناطق القدرة.
وأخذ الله الميثاق على الأنبياء بأن يبلغ كل نبي قومه هذا البلاغ، انتظروا أن ترسل إليكم السماء رسلا، وساعة يجيء الرسول المبلغ عن الله منهجه فكونوا معه، وأيدوه.


كان الرسل عليهم جميعا السلام مأمورين أن يضعوا في المنهج. وصلبه أن السماء حينما تتدخل وتأتي برسول جديد فلابد أن يتبعه أقوامهم، وألا يتعصبوا ضد الرسول القادم، بل يسلمون معه ويرحبون به؛ لأن الرسول إنما يجيء ليعاون الناس على المنهج الصحيح، لكن الأتباع الذين يعشقون السلطة الزمنية تعمدوا التحريف، ومن أجل أن يحمي الحقُّ خلقه من هذا المرض أنزل الميثاق الذي أخذه على النبيين، فقال: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81].


قد يقول قائل: إن هذا القول يصلح عندما يأتي رسول معاصر لرسول مثلما عاصر شعيب سيدنا موسى عليه السلام، وكما عاصر لوط سيدنا إبراهيم عليه السلام، ونقول: هذا يحدث- أيضا- وإن لم تتعاصر الرسل، فالحق سبحانه قد أراد لكل رسول أن يعطي لقومه البلاغ الواضح، وإن لم يتعاصر الرسولان فلابد أن يعطي الرسول مناعة ضد التعصب، فما داموا قد آمنوا بالرسول واتبعوه فعليهم حسنَ استقبال الرسول القادم من بعد رسولهم، وكان على كل رسول أن يبلغ قومه: كونوا في انتظار أن تتدخل السماء في أي وقت، فإذا تدخلت السماء في أي وقت من الأوقات، وجاءت برسول مصدق لما معكم فإياكم أن تقفوا منه موقف المضارّة، وإياكم أن تقفوا منه موقف العداوة، بل عليكم أن (تنصروه) وهذا قول واضح وجلى ولا لبس فيه. {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ}


ونقول في شرح معنى: {رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ}.
إن الدين يأتي بقضايا متفق عليها؛ لأن العقائد واحدة، والأخبار واحدة، والقصص واحد، لكن الذي يختلف هو الحكم التشريعي الذي قد يناسب زمنا ولا يناسب زمنا آخر، فإذا جاء الرسول بكتاب مصدق لما معكم في الأمور الدائرة في منهج العقائد، أو منهج القصص فلابد لكم أن تصدقوه.
لكن اليهود لم يفعلوا ذلك؛ لأن الرسول جاء ليعيد هداية الجماعة التي آمنت بالرسل والتي تؤمن بإله، وكان مجيء محمد صلى الله عليه وسلم بالمنهج الواضح العقيدة والأخبار الصحيحة غير المحرفة والقصص التي تدعم المنهج كما جاء بالتشريع المناسب وكان مجيء النبي الخاتم مزلزلا لمن استمرءوا السلطة الزمنية، فمنهم من أصر على اتباع رسولهم فقط وبالمنهج الذي تم تحريفه ورفضوا اتباع الرسول الجديد، ومنهم جماعة أخرى آمنت، بالرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت هناك جماعة ثالثة تؤمن برسول آخر، والخيبة تأتي نتيجة للتعصب، ولذلك كانت دعوة الإسلام هي لتصفية العقائد، ودعوة لكل متبع لأي رسالة سابقة أن يدرس ويناقش، هل الدين الخاتم قد جاء بما يختلف عن الأديان السابقة في العقائد؟ أو جاء مصدقاً لها؟


لقد جاء الدين الخاتم مصدقا لما سبقه في العقائد والأخبار والقصص وإن اختلف في التشريعات التي تناسب زمنا ولا تناسب زمنا آخر،

فكأن الحق سبحانه وتعالى أراد أن يعصم البشرية من العصبية الهوجاء، والعصبية العمياء التي تنشأ من اتباع رسول لتقف سدا حائلا أمام رسول آخر؛ فالله حين أرسل كل رسول قد أعطاه الأخبار والحقائق وأنه سبحانه قد أخذ الميثاق على كل نبي أرسله بأن يكون على استعداد هو والمؤمنون معه لتصديق كل رسول يأتي معاصرا ومصدقا لما معهم، وأن يؤمنوا به، وأن يبلغ كل رسول أمته بضرورة هذا الإيمان.
لماذا؟ لأن الحق سبحانه وتعالى يريد من الركب الإيماني المتمثل في مواكب الرسل ألا يكون بعضهم لبعض عدوّا، بل عليهم أن يواجهوا أعداء قضية الدين كلها. فالذي يجعل الإلحاد متفشيا في هذا العصر هو أن المنسوبين إلى الأديان السماوية مختلفون، وربما كانت العداوة بينهم وبين بعضهم أقوى من العداوة بينهم وبين الملحدين والمنكرين لله، وهذا الاختلاف يعطي المجال للملحدين فيقولون: لو كانت هذه الأديان حقا لا تفقوا وما اختلفوا، فما معنى أن يقول أتباع كل رسول إنهم يتبعون رسولا قادما من السماء؟


إن الملحدين يجدون من اختلاف أتباع الديانات السماوية فرصة ليبذروا في الناس بذور الإلحاد، ولا يجدون تكتلا ولا قوة إيمانية لمن يؤمن بالسماء أو بمنهج السماء لكن الحق سبحانه يقول: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين} وهذا يعني أنه سبحانه قد أخذ الميثاق على كل نبي ساعة أرسله أنه قد آتاه الكتاب والحكمة، وإنه إذا جاءكم رسول مصدق لهذا الكتاب وتلك الحكمة فعليكم الإيمان به، ولا يكفي إعلان الإيمان فقط، بل لابد أن يكون النبي ومن معه في نصرة الرسول الجديد نقول: ولو عمل أتباع كل نبيّ بهذا العهد والميثاق لما كان لهؤلاء الملحدين حجة ويضيف سبحانه: {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا} والإقرار سيد الأدلة كما يقولون؛ والإصر هو العهد الشديد، ولذلك يقال: (آصره المودة) أي الرابطة الشديدة المعقودة. قال الموكب الإيماني للأنبياء موجهين إقرارهم لله تعالى {أَقْرَرْنَا}، فقال الحق سبحانه: {فاشهدوا}. والشهادة دائما تقتضي شاهدا ومشهودا عليه ومشهودا به.


وما دام الحق سبحانه هو الذي يقول للنبيين الذين أخذوا منه العهد والميثاق الحق: {فاشهدوا}، إذن فهم في موقف الشاهد، وما المشهود عليه؟ وما المشهود به؟ هل يشهدون على أنفسهم؟
أو يشهد كل نبي على الأنبياء الآخرين؟
أو يشهد أنه قد بلغ أمته هذا القرار الإلهي؟
إن الرسول يشهد على أمته، وأن الأنبياء يشهد بعضهم لبعض.
إذن قد يكون الشاهد نبيا، والمشهود له نبي آخر، والمشهود به أن يؤمنوا بالرسول القادم وينصروه.


وقد يكون الشاهد النبي، والمشهود عليه هي أمته بأنه قد بلغها ضرورة الإيمان بالرسول القادم بمنهج السماء؛ لأن الأمة ما دامت قد آمنت برسول فعليهم مؤازرة هذا الرسول، ومؤازرة مَنْ يأتي من بعده، وذلك حتى لا يتبدد ركب الإيمان ؤمام باطل الإلحاد: {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين} [آل عمران: 81].
ولنرتب الشهادات التي وردت في هذه الآية الكريمة: الأنبياء يشهد بعضهم على بعض، أو الأنبياء يشهدون على أممهم، ثم شهادة الله على الأنبياء.
وما دام الأمر قد جاء بهذا التوثيق فعلينا أن ننبه أنه إذا ما وجدنا دينا سابقا يتعصب أمام دين لاحق، بعد أن يأتي هذا الدين بالمعجزة الدالة على صدق بلاغ ذلك الرسول عن الله فلنعلم أنهم خانوا هذه القضية. وسبب ذلك يرجع إلى أن الله يريد أن يحتفظ للدعوة إلى الإيمان، بانسجام تام، فلا يتعصب رسول لنفسه ولا لقوميته ولا لبيئته، ولا يتعصب أهل رسول لملتهم أو نحلتهم؛ لأنهم جميعا مبلغون عن إله واحد لمنهج واحد، فيجب أن يظل المنهج مترابطا فلا يتعصب كل قوم لنبيهم أو دينهم، وهذا ليكون موكب الرسالات موكبا متلاحما متساندا متعاضدا، فلا حجة من بعد ذلك لنبي، ولا لتابع نبي أن يصادم دعوة أي رسول يأتي، ما دام مصدقا لما بين يديه.



لقد أعلمنا الحق أنه قد عرض شهادة الأنبياء على بعضهم، وشهادة الأنبياء على أممهم، وشهادة الله سبحانه على الجميع، وذلك أوثق العهود وآكدها. ولذلك يزداد موكب الإيمان تآزرا وتلاحما، فلا يأتي مؤمن برسالة من السماء ليصادم مؤمنا آخر برسالة من السماء.. ولندع المصادمة لمن لا يؤمنون برسالة السماء، وحين يتكاتف المؤمنون برسالة السماء يستطيعون الوقوف أمام هؤلاء الملاحدة، وبعد هذا البيان الواضح يقول الحق: {فَمَنْ تولى بَعْدَ ذلك فأولئك هُمُ الفاسقون}




نداء الايمان

امانى يسرى محمد 08-08-2021 02:57 PM

رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة ال عمران)
 
تفسير الآية رقم (82):
{فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ )


معنى (تولى) هي مقابل (أقبل). و(أقبل) تعني أنه جاء بوجه عليك. و(تولى) أعرض كما نقول نحن في تعبيراتنا الشائعة: (أعطاني ظهره). ومعنى هذا أنه لم يأبه لي، ولم يقبل علي. إذن فالمراد مِنْ أَخْذ العهدِ أن يُقْبَل الناسُ على ذلك الدين، فالذي يُعرض ويعطي الإيمان الجديد ظهره يتوعده الله ويصفه بقوله: {فَمَنْ تولى بَعْدَ ذلك فأولئك هُمُ الفاسقون}

بعد ماذا؟

إنه التولي بعد أخذ العهد والميثاق على النبيين، وشهادة الأمم بعضها على بعضها، وشهادة الله على الجميع، إذن فلا عذر لأحد. فمن أعطى ظهره للنبي الجديد، فماذا يكون وعيد الله له؟


إن الحق يصفهم بقوله: {فأولئك هُمُ الفاسقون} أي أن الوعيد هو أن الله يحاسبه حساب الفاسقين، والفسق- كما نعلم- هو الخروج عن منهج الطاعة. والمعاني- كما تعرف- أخذت وضعها من المحسوسات. لأن الأصل في الوعي البشرى هو الشيء المحس أولا، ثم تأتي المعنويات لتأخذ من ألفاظ المحسوسات. والفسق في أصل اللغة هو خروج الرطبة عن قشرتها؛ فالبلح حين يرطب، يكون حجم كل ثمرة قد تناقص عن قشرتها. وحينما يتناقص الحجم الطبيعي عن القشرة تصبح القشرة فضفاضة عليه، وتصبح أي حركة عليه هي فرصة لانفلات الرطبة من قشرتها.
ويقال: (فسقت الرطبة) أي خرجت عن قشرتها. وأَخَذَ الدينُ هذا التعبير وجعله وصفاً لمن يخرج عن منهج الله، فكأن منهج الله يحيط بالإنسان في كل تصرفاته، فإذا ما خرج الإنسان عن منهج الله، كان مثل الرطبة التي خرجت عن قشرتها.



ونحن أمام فسق من نوع أكبر، فهناك فسق صغير، وهناك فسق كبير. وهنا نسأل أيكون الفسق هنا مجرد خروج عن منهج طاعة الرسول؟ لكن هذا الخروج يوصف به كل عاصٍ، أي أن صاحبه مؤمن بمنهج وفسق جزئيا، إننا نقول عن كل عاصٍ: (إنه فسق) أي أنه مؤمن بمنهج وخرج عن جزئية من هذا المنهج، أما الفسق الذي يتحدث عنه الحق هنا فهو فسق القمة؛ لأنه فسق عن ركب الإيمان كله، فإذا كان الله قد أخذ العهد، وشهد الأنبياء على أممهم، وشهدت الأمم بعضها على بعض، وشهد الله على الجميع، أبعد ذلك تكون هناك فرصة لأن يتولى الإنسان ويعرض؟
ثم لماذا يتولى ويعرض؟

إنه يفعل ذلك لأنه يريد منهجا غير هذا المنهج الذي أنزله الله، فلو كان قد اقتنع بمنهج الله لأقبل على هذا المنهج، أما الذي لم يقتنع فإنه يعرض عن المنهج ويطلب منهجا غيره فأي منهج تريد يا من لا ترضى هذه الشهادة ولا هذا التوثيق؟ خصوصا وأنت تعلم أنه لا يوجد منهج صحيح إلا هذا المنهج، فليس هناك إله آخر يرسل مناهج أخرى.


وهكذا نعرف أنه لا يأتي منهج غير منهج الله، إلا منهج من البشر لبعضهم بعضا، ولنا أن نقول لمن يتبع منهجا غير منهج الله: من الذي جعل إنسانا أولى بأن يتبعه إنسان؟ إن التابع لابد أن يبحث عمن يتبعه، ولابد أن يكون الذي يتبعه أعلى منه، لكن أن يتبع إنسان إنسانا آخر في منهج من عنده، فهذا لا يليق، وهو فسق عن منهج الله؛ لأن المساوي لا يتبع مساوياً له أبدا، ومن فضل الله سبحانه أنه جعل المنهج من عنده للناس جميعا حتى لا يتبع إنسان إنسانا آخر. لماذا؟ حتى لا يكون هوى إنسان مسيطرا على مقدرات إنسان آخر، والحق سبحانه لا هوى له. إن كل إنسان يجب أن يكون هواه تابعا لله الذي خلق كل البشر.
وما دام ليس هناك إله آخر فما المنهج الذي يرتضيه الإنسان لنفسه؟

إن المنهج الذي يرتضيه الإنسان لنفسه لو لم يتبع منهج الله هو منهج من وضع البشر، والمنهج الذي يضعه البشر ينبع دائما من الهوى، وما دامت الأهواء قد وجدت، فكل مشرِّع من البشر له هوى، وهذا يؤدي إلى فساد الكون. قال تعالى: {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ} [المؤمنون: 71].
فإذا كانوا لا يرضون منهج الله، فأي فسق هم فيه؟ إنه فسق عظيم؛ لأن الله قد أخذ عليهم العهد وعلى أنبيائهم ووثق هذا العهد، أفغير الله يبغون؟ نعم، إنهم يبغون غير الله ومن هو ذلك الغير؟ أهو إله آخر؟ لا، فليس مع الله إله آخر، بل هم قد جعلوا الخلق مقابل الخالق، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}
..........


.تفسير الآية رقم (83):
{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)}


إنهم ما داموا غير مؤمنين برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله نبيا ورسولا فإن ذلك يكشف رغبتهم في أنهم يريدون منهجا غير منهج الله، وليس أمامهم إذن إلا مناهج البشر النابعة من الأهواء، والتي تقود حتما إلى الضلال، إن الحق سبحانه وتعالى يريد لخلقه أن يكونوا منطقيين مع أنفسهم، إنه الحق سبحانه وتعالى قد أوضح لنا في منهجه، وقال لنا هذا المنهج: أنتم مستخلفون في الكون، وأنتم أيها الخلفاء في الأرض سادة هذا الكون، سادة يخدمكم الكون كله، وانظروا إلى أجناس الوجود تجدوها في خدمتكم، الحيوان أقل منكم بالفكر. والنبات أقل من الحيوان بالحس. والجماد أقل من النبات.

إذن فأجناس الكون من حيوان ونبات وجماد ترضخ لإرادتك أيها الإنسان، فالنبات يخدم الحيوان والحيوان يخدمك أيها الإنسان، والجماد يخدم الجميع، والعناصر التي نأخذها نحن البشر من الجماد يستفيد منها أيضا النبات والحيوان. إذن فكل جنس في الوجود تراه بعينيك إنما يخدم الأجناس التي تعلوه.
والجماد يخدم النبات.
والجماد والنبات يخدمان الحيوان.
والجماد والنبات والحيوان في خدمة الإنسان وأنت أيها الإنسان تخدم من؟ كان من واجب عقلك أيها الإنسان أن تفكر فيمن ترتبط به ارتباطا يناسب سيادتك على الأجناس الأخرى كان لابد أن تبحث عمن اعطاك السيادة على الأجناس الأخرى.


هل أنت أيها الإنسان قد سخرت هذه الأجناس بقدرتك وقوتك؟
لا؛ فلست تملك قدرة ذاتية تتيح لك ذلك؟ أما كان يجب عليك أن تفكر ما هي القوة التي سخرت لك ما لا تقدر عليه، فخدمتك حين لا توجد لك قدرة، وخدمتك وأنت نائم تغط في نوم عميق؟ أما كان يجب أن تفكر هذا الفكر؟ إنك أيها الإنسان يجب أن تكون منطقيا مع نفسك، وأن تبحث لك عن سيد يناسب سيادتك على غيرك. والكون لا يوجد فيه سيد عليك؛ لأن الكون محس، فإن جاءك من يحدثك بأن غيبا هو الإله يطلب أن تكون في خدمته فيجب أن تقول: (إن هذا كلامي منطقي بالنسبة لوضعي في الكون) وبعد ذلك انظر إلى الكون، فأنت في الكون لست وحدك بل هناك أجناس أخرى، وكل جنس من الأجناس له قانونه وله مهمته، للحيوان مهمة، وللنبات مهمة، وللجماد مهمة. فهل وجدت جنسا من الأجناس تمرد على مهمته؟ لا.


إن الحصان مثلا، تستخدمه كمطية عليها وسادة من حرير وجلد ولها لجام من فضة لتركبه، وتجد هذه المطية في يوم آخر تحمل سماد الأرض من روث الحيوان وما تأبت، لقد أدت الخدمة لك راكبا، وأدت الخدمة لك ناقلا، وما تمردت عليك أبدا. كل الأجناس- إذن- تؤدي مهمتها كما ينبغي، فاستقام الأمر فيها، وما دام الأمر قد استقام فيها، فبأي شيء استقام؟ إن الله هو الذي خلقها ذللها، قال لها: (كوني في خدمة الإنسان مؤمنا كان أو كافرا) وفي هذا الأمر عدالة الربوبية، فلا تتأخر أو تشذ عن حركتها في خدمة الإنسان.


أرأى أحدكم الشمس مرة قالت: لم يعد الخلق يعجبونني، ولن أشرق عليهم وسأحتجب اليوم؟! أتمرد الهواء وقال: لا، إن الخلق لم تعد تستحق تنفس الهواء، لذلك لن أمكنهم من الانتفاع بي.
أرأينا المطر امتنع؟ هل استنبت الإنسان أرضا صالحة للزراعة واستعصت عليه؟ لا.. فكل شيء في الوجود يؤدي مهمته تسخيرا وتذليلا.

لذلك يقول الحق: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ} [يس: 72-73].
والحق سبحانه وتعالى يطلق بعضا من الحيوان فلا يذلل، ولا يستأنس، وذلك حتى تعلم أيها الإنسان أنك لم تستأنس الجمل بقدرتك فإن كانت لك قدرة مطلقة على الكون فاستأنس بعض ثعابين هذا العالم أو استأنس الأسد. وأنت أيها الإنسان ترى في هذا الكون بعضا من الحيوانات والمخلوقات شاردة مثل الثعابين والحيوانات المتوحشة. بغير استئناس ليدلنا الحق على أن هذا الذي يخدمك لو لم يذلله الله لك لما استطعت أنت بقدرتك أن تذلله، إنه تذليل وتسخير وخضوع لهذه المخلوقات منحه الله تعالى لك أيها الإنسان تفضلا منه سبحانه مع عجزك وضعفك.
ولم نجد شيئا نافعا قد عصى الإنسان في الكون، لأن كل الخلق مسخر من الله لخدمة الإنسان كافرا كان أو مؤمنا، وهذا هو عطاء الربوبية، لأن عطاء الربوبية يشمل الخلق جميعا، فالخالق الأكرم هو رب الناس كلهم ويتولى تربيتهم جميعا، ولذلك تستجيب الأجناس من غير الإنسان للإنسان سواء أكان مؤمنا أم كافرا. فإن أحسن الكافر استخدام الأسباب فإن الأسباب تعطيه ولا تعطي المؤمن الذي لا يستخدم الأسباب، أو لا يُحسن استخدامها فهذا هو عطاء الربوبية، والربوبية للجميع. أما عطاء الألوهية فهو (افعل ولا تفعل) وهو عطاء للمؤمنين فقط.


فإذا كانت هذه هي صورة الكون وهو يؤدي مهمته بلا شذوذ فيه، ومنسجم في ذاته انسحاما عجيبا فلنا أن نسأل (من أين جاء الخلل في الكون؟) إن الخلل قد جاء منك أيها الإنسان. ولهذا فنحن لا نجد فسادا في الكون إلا وللإنسان مدخل فيه، أما مالا مدخل للإنسان فيه فلا فساد فيه أبدا.
أرأيت أحدا قد اشتكى من أن الهواء قصر؟ لا.
لماذا لأن أحدا لا دخل له بمسألة الهواء هذه أبدا، صحيح أننا نتدخل في الهواء بتلويثه بالعادم والفضلات، وصحيح أيضا أن الحق يٌكرم الخلق باكتشافات قد تصلح من هذا الفساد إذن، فحين يتدخل الإنسان فإن الشيء قد يفسد.
لكن هل معنى ذلك ألا نتدخل؟ هل نقف من الكون مكتوفي الأيدي؟ لا، بل يجب أن نتدخل في الكون، ولكن بمنهج الله.


إنك إن تدخلت في الكون بمنهج الله، فكل شيء يسير الكون الذي لا منهج له إلا الخضوع والتسخير، فكما أدت الشمس مهمتها والجماد مهمته، والحيوان مهمته، وأنت أيها الإنسان مطلوب منك أن تؤدي مهمتك، وهي أن تطيع الله، تلك الطاعة التي تتلخص مطلوباته منك في: (افعل كذا ولا تفعل كذا) فإن انتظمت مع المنهج ب (افعل) و(لا تفعل) تكن قد انسجمت مع الكون.
إن الله سبحانه يزيّل هذه القضية ويختمها باستفهام تنقطع وتنفطر له قلوب المؤمنين: {أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83].
إن كل شيء في السماوات وفي الأرض قد أسلم لله طوعا أو كرها. وإذا ما تساءلنا، وما معنى (طوعا؟) فالإجابة هي طاعة التسخير، كما قالت السماوات والأرض في النص القرآني الحكيم: {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [فصلت: 11].
فكل ما لا تكليف له جاء طائعا مسخرا، وما معنى: (كرها)؟ إن بعضا من العلماء قد قال: إن (طوعا) تشمل أجناس الملائكة، والجماد، والنبات، والحيوان، فكل منهم يؤدي مهمته بخضوع ولا يعترض أحد منهم ولا يملك أحدهم قدرة على العصيان، وأما عن (كرها) فقد فهم بعض العلماء أنهم الناس الذين يخدمون الناس بالقوة كالعبيد مثلا، ولهؤلاء نقول: لا يصح ولا يستقيم أن نعطي خصوم الإسلام فرصة ليقولوا إن الإسلام قد أكره أحداً من البشر أن يخدم أحدا كرها؛ لأن الحق سبحانه قال: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت وَيْؤْمِن بالله فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى لاَ انفصام لَهَا والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256].


فما دام الله لم يكره أحداً على الإيمان به فكيف يكره إنسانا ليخدم إنسانا آخر؟! ولهذا فإننا يجب أن نفهم كرها على وضعها الحقيقي، والحق سبحانه أبلغنا أن هذا الكون كله مسخر له، لأنه سبحانه هو الذي خلقه ولا إله غيره وهذه مسألة مسلم بها، فالكون كله لله، وهو المدبر والقاهر له، قال الحق: {مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91].


ومادام هو الواحد وهو الخالق فلن يتمرد أحد على مراده، وكان يجب أن يفهم الإنسان مهمته على أنه هو الوحيد الذي كلفه الله؛ لأن بقية الأجناس لا اختيار لها وهي غير مكلفة كما كلف الله الإنسان ب (افعل) و(لا تفعل) إذن فالتكليف فرع الإختيار؛ فالمنهج يقول لك: (افعل كذا ولا تفعل كذا) لأن الذي وضعه يعلم أنه قد خلقك صالحا لأن تفعل ما يأمرك به، وصالحا لأن تفعل ما لا يأمرك به.


إن اليد- مثلا- مخلوقة لتتحرك حسب إرادة صاحبها، بدليل أن الإرادة إن شُلت وانقطع الخيط الموصل للإرادة الآمرة إلى الجارحة الفاعلة عندئذ يحاول الإنسان المصاب بذلك- والعياذ بالله- أن يرفع يده فلا يستطيع، فاليد مسخرة لإرادة الإنسان، وإرادتك أيها الإنسان عندما تسير في ضوء منهج الله فإنك توجهها في ضوء (افعل) و(لا تفعل).
وعندما يقال لك مثلا: (لا تضرب بها أحداً) فمعنى ذلك أن اليد صالحة لأن تضرب، وعندما يقال لك: (خذ بيد العاثر) فيدك قادرة على أن تأخذ بيد العاثر، فأنت مخلوق على هيئة الطواعية من جوارحك لإرادتك. ويأتي المنهج ليقول لك: (نفذ الإرادة في كذا ولا تنفذ الإرادة في كذا).
إذن فالإنسان عندما يتبع المنهج فهو يتفق مع الأشياء المسخرة تمام الاتفاق، ويؤدي كل شيء على خير أداء، لكن متى يختلف الإنسان عن الانسجام عندما لا يطبق المنهج، فيشذ عن الركب في الكون كله، ولتقرأ قوله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} [الحج: 18].


إنها الأجناس كلها ساجدة، الشمس ساجدة، القمر ساجد، والنجوم، والجبال، كل هذه الجمادات ساجدة، وكذلك الشجر والنبات ساجد لله، والحيوان والدواب ساجدة لله، وكثير من الناس سجود، لكن في مقابل هذا الكثير الساجد من البشر، هناك كثير غير ساجد لذلك حق عليه العذاب، ولو أن الإنسان قد أخذ منهج الله فنفذه لصار كبقية الأجناس، لكن الإنسان اختلف، وقال: (أنا سوف آخذ اختيار تحمل الأمانة، لأني عالم وعاقل) كما جاء في القول الحق: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب: 72].


فلو أخذ الإنسان منهج الله في (افعل) و(لا تفعل)، لانسجم الإنسان مع الوجود كله وحين ينسجم الإنسان مع الوجود كله فلن تأتي منه مخالفة أبدا كما لا تأتي مخالفة في الوجود من غير الإنسان، وعند ذلك يصبح الكون مثاليا في الانسجام. ونحن نعرف أن الطموحات العلمية حين تعمل وتُشغل العقل في أمر ما فإنها تريد الخير، ولكنها تعلم شيئا، ويغيب عنها شيء آخر، ولو أخذوا عن الله العليم بكل شيء لصارت الدنيا إلى انسجامها.
إن المخترعين الذين صمموا المحركات التي تتحرك بسائل البنزين قاموا بتسهيل الحركة على الإنسانية، ولكن العادم والمخلفات الناتجة من البنزين صنعت ضررا بالكون، ودليل ذلك ان العلماء الآن يبحثون عن أساليب لمقاومة تلوث البيئة. وعندما كان الوقود هو الحطب لم يكن هناك تلوث للبيئة، لماذا؟ لأن كل عنصر كان يؤدي مهمته، فجزء من احتراق الحطب كان يتحول إلى كربون، وجزء آخر يتحول إلى غازات، وتنصرف كل الأشياء إلى مساراتها.


إن هذا يدلنا على أن الإنسان قد دخل إلى المخترعات المعاصرة بنصف علم. لقد قدّر الإنسان انه يريد تخفيف الحركة، وينقل الأثقال ويختصر المسافات، لكنه لم ينظر إلى البيئة وتلوثها، فنشأ عادم يفسد البيئة، لكن لو كان عند الإنسان القدرة الشاملة على العلم لكان ساعة اختراع هذه المحركات قد بحث عن وضع معادلة لتعدل من فساد العادم.
ولننظر إلى عظمة الحق، إنه يترك للعقل البشري أن يتقدم، ولكن العقل البشري قاصر وينسى من الأشياء ما ينتج عنه الضرر أخيرا. إن الذين اخترعوا المبيدات الحشرية كانوا يظنون أنهم قاموا بفتح جديد في الكون، وتشاء إرادة الحق ان يقوم بتحريم هذه المبيدات القوم أنفسهم الذين اخترعوها؛ لأنهم وجدوا منها الضرر، لذلك يقول الحق سبحانه: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أولئك الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً} [الكهف: 103-105].


إنك أن أردت أن تكمل صنعتك فابحث عن الحسن في ضوء منهج الله، والحق سبحانه يضرب لنا المثل الواضح. إننا نعرف أن عادم صناعتنا ضار كعادم المصانع والسيارات وغيرها، لكن عادم خلق الله في الحيوان نافع، فالإنسان يأخذ روث الحيوان ويصنع منه السماد ليزيد من خصوبة الأرض، والعجيب أن فضلات الحيوان التي تعطي خصوبة للأرض لا نجد فيها شيئا يقزز، ولا نجد لها الرائحة التي توجد في فضلات الإنسان، لماذا؟
لأن الحيوان يأكل على قدر حاجته، إن الحيوان قد يجد أمامه أصنافا كثيرة، مثل الحشيش اليابس، وإذا شبع الحيوان امتنع عن الطعام، ولذلك لا يُخرج فضلات كريهة الرائحة، لكن الإنسان ينوع ويلون ويأكل فوق طاقته ويحث شهيته على الانطلاق والانفلات، إن الحيوان لا اختيار له، ومحكوم بالغريزة ويجد أمامه هذا الذي يؤكل وذلك الذي لا يؤكل فيختار بغريزته المناسب له، وإذا امتلأت البطن لا يأكل؛ لأنه محكوم بالغريزة والتسخير المطلق، لكن الإنسان يتمتع بالاختيار، فأفسد عليه هذا الاختيار وأبعده عن منهج الله وجعله بما لديه من قدرة يتجاوز الاكتفاء بحدود الشبع.
وهكذا نرى بوضوح أن الكون كله أسلم لله طوعا في المسخرات.



وإياك أن تفهم أن هناك إسلاما بالقهر والإكراه. وبعض العلماء قد فاتهم ذلك وهم يعطون لخصوم الإسلام حجة الإسلام حجة فيقولون: (إن دينكم انتشر بإكراه السيف) ولذلك نقول لهم: لا، إن أحدا لم يسلم كرها أبدا؛ لأن السيف إنما رفع لشيء واحد هو حماية حرية الاختيار. إن السيف قد رُفع ليمنع الإكراه، وليمنع تسلط بعض الناس بقوتهم ليجبروا الناس على عقائدهم فقال لهم السيف: (قفوا عند حدكم، ودعوا الناس أحرارا في اختيار ما يعتقدون)، ودليل ذلك أن البلاد التي فتحها الإسلام تجد فيها غير المسلمين، ولو كان الأمر فتحا بالسيف لما وجدنا ديانات أخرى. غير الإسلام، نجدهم أيضا يتشدقون بذلك ويزيدون (إنكم تفرضون جزية).
ونقول لهم: أنتم تردون على أنفسكم، نحن لم نفرض جزية على المؤمن ولكن الكافر تركناه على كفره، والجزية يدفعها الكافر ليدافع عنه المؤمنون لو أصاب البلاد مكروه.


إذن فكيف نفهم قوله الحق بأن هناك من أسلم كرها؟


نحن نفهمها كالآتي: إن الإنسان هو الذي انقسمت عنده المسائل، وفيه أمور تدخل في فعله ومراداته، وفيه أمور تجدث قهرا عنه، وتحدث له بلا إرادة ولا اختيار، فالإنسان يكون مختارا في الفعل الذي يقع منه، أما الفعل الذي يقع عليه أو فيه فلا دخل له فيه بالاختيار؛ إن أحدا منا لا يختار يوم ميلاده، أو يوم وفاته أو يوم إصابته بالمرض، والإنسان الذكي هو الذي يعرف ذلك ونقول للإنسان الذي لا يعرف أو يتجاهل ذلك: أيها الإنسان دعك من الغباء؛ إن هناك زوايا من حياتك أنت مجبر فيها على أن تكون مسلما لله كرها إنك تسلم لله دون إرادتك في كثير من الأمور التي تقع عليك، ولا تستطيع لها دفعا، فلماذا تقف في الإسلام عند زاوية الاختيار؟
إن المسخرات كلها مسلمة لله، والإنسان فيما يقع فيه أو عليه من أمور لا يستطيع دفعها. هو تسليم لله كرها من الإنسان، وهكذا نرى أن قيادة التسخير فيما ليس لك دخل فيه أيها الإنسان هي مسلمة لله، مثلك في ذلك مثل كل الكائنات، أفلا يجب عليك أن تسلم بكل زوايا حياتك؟ فلو كان هناك إنسان كافر بكل ما فيه من أبعاض فعلى هذا الكافر ألا يسلم بأي شيء من جوارحه؛ هل يستطيع أن يمنعها من أن تؤدي عملها؟

ولنر ما سيحدث له لابد أن يتوقف عن التنفس؛ لأن التنفس يحدث رغما عنه، لابد أن يوقف دقات قلبه؛ لأنها تدق رغما عنه. وما دام هناك من يستمرئ الكفر فليحاول أن يجعل كل ما فيه كافرا، ولن يستطيع؛ بل سيجد أنه يحب أمورا ولا تأتي له، ويكره أمورا وتنزل به، ولم يفلت أحد من الإسلام لله، لأن الله قد اختار لكل إنسان يوم الميلاد ويوم الموت، واختار الله للإنسان أن تجري الأحداث فوقه ولا يستطيع دفعها، ويصبح خاضعا رغم أنفه، لذلك قال الحق: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}.


إذن ولنأخذ (طوعا) لغير الإنسان، وللمؤمن الذين نفذ تعاليم المنهج، ولنأخذ (كرها) في المسائل التي لا دخل لاختيار الإنسان فيها وتقع عليه وهو يكرهها، ولا يستطيع دفعها، لأن الذي يجريها عليه هو الخالق الفعال لما يريد، وما دامت هناك زاوية من حياتك أيها الإنسان أنت مكره فيها فلماذا تمردت في المسألة الاختيارية؟
كان يجب أن يأخذ الكافر هذه النقطة ويقول للكفر: (لا)، ويتجه إلى الإيمان؛ لأن المؤمن يأخذ هذه النقطة ويقول: أنا أريد أن أنسجم مع الكون كله حتى لا تطغى ملكة على ملكة، ولا تطغى إرادة على إرادة أخرى، وهذه رحمة من الله بالخلق.


وحين يسلم الإنسان منهجه لله فإنه يفعل ما يطلبه المنهج ولا يفعل ما يحرمه المنهج ومن يريد أن يقف في (افعل) و(لا تفعل)، ونقول له: إذا فعلت ما الذي يستفيده الله منك؟ وإذا لم تفعل ما الذي يضر الله منك؟
لا شيء، إن عليك أن تفكر جيدا فالأمر إنما يُرَدّ أو يتمرد عليه إن كان للآمر فيه مصلحة، وحيث إنه لا مصلحة للحق سبحانه وتعالى في مراداته من الخلق إلا إصلاح الخلق ذاته، إذن فمنهج الحق هو لمصلحة الإنسان، وأول ما يصاب به من يقف في منهج الله أنه يصبح ضد نفسه، ولا ينسجم مع الكون، فإن كان هناك من يريد ألا يسلم، فليجرب نفسه بألا يسلم في المقهورات التي هو مقهور عليها، وهذا أمر مستحيل.

ولنقرأ الموقف القرآني بدقة، لنرى أنه الحق بعد القسم وبعد العهد وبعد الإشهاد عليه، قال لنا: {أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}. إن من يبغي غير دين الله ليس منطقيا مع نفسه أو مع الكون؛ لأن الكون كله لله بما فيه ومن فيه من السماوات والأرض، وكذلك الإنسان الذي ارتضى منهج الله، وأيضا أسلم الكافر لله

فيما ليس له فيه اختيار.
(وأسلم) في هذا السياق القرآني الكريم تعني أنه خضع وسُخر، وقُهر على أن ينفذ، ولكن الحق سبحانه أورد عن السماء والأرض قال: {قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [فصلت: 11]. إن المألوف أن ترضخ السماء والأرض لأمر الله، وعندما (قالتا أتينا طائعين) فقد كسبت السماء والأرض الإسلام لله، فإلى الله كل مرجع فالإنسان- مؤمنا كان أو كافرا- سيعود إلى الله حتما.
وكلمة (يرجعون) التي تأتي في تذييل الآية يمكننا أن نراها في مواقع أخرى من القرآن مرة تأتي مبنية للمفعول وننطقها (يُرجعون) بمعنى أنهم مقهورون على الرجوع إلى الله، ونجدها في مواقع أخرى في القرآن كفعل مبنى للفاعل فننطقها {يُرْجَعُونَ}، أي أنهم يريدون الإسراع في العودة إلى الله، وفي هذه الآية نفهم أن الذين يبغون غير دين الله لا يرغبون أن يعودوا إلى الله لذلك يتم إرجاعهم بالقهر، فسبحانه وتعالى يقول: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور: 13].
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: {قُلْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ على إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط...}.



نداء الايمان



امانى يسرى محمد 15-08-2021 12:32 PM

رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة ال عمران)
 
.تفسير الآية رقم (84):

{قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)}



عندما ننظر إلى هذه الآية بخواطرنا فإننا نجد أن الحق يمزج الرسول والمؤمنين به والمرسل إليهم في الإيمان به، ويتحدث إلى الرسول والمؤمنين كوحدة إيمانية، إن قول الحق: (قل) هو خطاب لمفرد هو النبي صلى الله عليه وسلم، والمقول: {آمَنَّا} دليل على انسجام الرسول مع الأمة المؤمنة به، فكأن الأمة الإسلامية قد انصهرت في (قل)، وكأن الرسول موجود في {آمَنَّا}، وبذلك يتحقق الامتزاج والانسجام بين الرسول وبين المؤمنين به، ويصير خطاب الحق إليهم هو خطاب لوحدة إيمانية واحدة لا انفصام فيها.


وقد جاء الحق بهذا الأسلوب ليوضح لنا أن الرسول لم يأت ليتعالى على أمته، بل جاء ليحمل أعْباءَ هذه الأمة، ولذلك قلنا من قبل: إن للرسول صلى الله عليه وسلم إيمانين، لقد آمن بالله، وأمن للمؤمنين، وهو صلى الله عليه وسلم سيشفع لنا، لأنه قد أدى مُؤدى يسع أمته كلها، لقد أتم البلاغ وخضع للتكليف بما يسع أمته كلها



ولذلك يقول الحق: {قُلْ آمَنَّا}، كان القياس أن يقول: (قل آمنت)، أو أن يقول: {قولوا آمَنَّا}. لكن الحق في قرآنه الكريم يضع كل كلمة في موضعها، فتصبح الكلمة جاذبة لمعناها، ويصبح كل معنى عاشقا لكلمته، وقد قال الحق هنا: {قُلْ آمَنَّا} ليتضح لنا أن محمدا رسول ممتزج في أمته، وأمة الإسلام في طواعية لرسولها، والأمر يأتي لرسول الله من الحق سبحانه، والتنفيذ لهذا الأمر يكون من الجميع، وفي هذا إشعار للخصوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيكون ذا عصبية إيمانية قوية، فلو قال: (قل آمنت) لكان معنى ذلك أن الرسول لن يملك إلا إيمانه فقط، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم آمن به قومه، وكثير غيرهم وجاء على يديه فتح مكة كما قال الحق: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجاً} [النصر: 1-2].


وعندما نقرأ قوله الحق: {قُلْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا} فلنا أن نلتفت إلى أن العلماء لهم وقفة في مسألة الإنزال، فمرة يقول الحق: {والذين يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4].
ومرة أخرى يقول الحق: {وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الذي اختلفوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64].
وهكذا نجد أن (الإنزال) يأتي مرة متعديا ب (إلى)، ويأتي مرة مرة أخرى متعديا (بعلى). وقال بعض من العلماء: إن الكلام حينما يكون موجها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فالحق يقول: (أنزل عليك)، وكأن هؤلاء العلماء- دون قصد منهم- يفصلون بين بلاغ الله للرسول عن البلاغ إلى أمة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يلتفتوا إلى أن الغاية من إنزال المنهج على الرسول هو هداية الأمة.


ونحن نقول: إن علينا ألا نأخذ الأمر بسطحية من أسلوب ظهر لنا؛ ذلك أن هناك أسلوبا خفيَّا، وهو أن (إلى) و(على) إنما تفيدان أن المنهج نزل للأمة والرسول صلى الله عليه وسلم؛ فمرة يأتي الحق بالنزول متعديا ب (إلى) والخطاب موجه للرسول صلى الله عليه وسلم كقوله الحق: {وَإِذَا سَمِعُواْ ما أُنزِلَ إِلَى الرسول ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فاكتبنا مَعَ الشاهدين} [المائدة: 83].
ومرة يأتي الحق بالنزول متعديا ب (على) والخطاب موجه للرسول صلى الله عليه وسلم كقوله الحق: {وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الذي اختلفوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64].
ومرة ثالثة يأتي الحق بالإنزال في حديث إلى المؤمنين: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكتاب أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ الله جَامِعُ المنافقين والكافرين فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} [النساء: 140].


إنه كتاب منزل من السماء وملحوظ فيه العلو، والغاية من النزول هو مصلحة الأمة، فالإتيان ب (على) يْفيد العلو، ولمصلحة الأمة، (العلية) هنا لتزيد مقام المنهج بالنسبة للمؤمنين فهو قد نزل لمصلحتهم. إذن فالنزول يقتضي (علِّية)، وهو من حيث العلو يأتي ب (على)، ومن حيث الغاية يأتي ب (إلى)، فهو منهج نزل من الحق الأعلى ونزل إلى الرسول وعلى الرسول ليبلغه إلى المؤمنين لمصلحتهم. ولذلك قلنا: إننا إذا رأينا حكما يقيد من حرية الفرد فلا يصح أن نفهم أن الله قد قصد هذا الفرد ليقيد حريته، إنما جاء مثل هذا القيد لقيد الملايين من أجل حرية الفرد، مثال ذلك ساعة يحرم المنهج السرقة على الإنسان، فهو أمر لكل إنسان من الملايين وهو لمصلحة كل إنسان، فالقرآن قد نزل لمصلحتك، ومصلحة المؤمنين جميعا.


وعندما نقرأ قوله الحق: {قُلْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ على إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط وَمَا أُوتِيَ موسى وعيسى والنبيون مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}. فهذا القول يوضح أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما جاء بمنهج يضم صحيح العقائد والقصص والأخبار، وهو يوافق ما جاء في موكب الرسالات من يوم أن خلق الله الأرض وأرسل الرسل. وقد أخذ الله العهد على الأمم والأنبياء من قبل، بأنه إذا جاء رسول مصدق لما معهم ليؤمنن به، وكذلك أخذ الله على رسولنا صلى الله عليه وسلم بأن يؤمن بالرسل السابقين، فهو صلى الله عليه وسلم لم يأت ليهدم أديانا، ولكن ليكمل أديانا، وهكذا نرى النص القرآني الجليل: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً} [المائدة: 3].


كأن الأديان السابقة بكل ما جاء فيها من صحيح العقائد، والقصص، والأخبار موجودة في الإسلام، وفوق كل ذلك جاء الإسلام بشرائع تناسب كل زمان ومكان، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف: (إنما مثلى ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بني بنيانا فأحسنه وأجمله وأكمله إلا موضع لبنة فجعل الناس يطوفون به ويقولون ما رأينا أحسن من هذا لولا موضع هذه اللبنة فكنت أنا اللبنة).


إذن فزمام كل الأمر انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أخذ الله العهد على غيره أن يصدقوه عندما يجيء، وهو صلى الله عليه وسلم آمن وصدق بمن سبق من الرسل، ولم يجيء من بعده شيء يطلب من رسول الله ولا من أمته أن يصدقوه، وقال الحق تذييلا لهذه الآية الكريمة: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}.


أي أنه لا يوجد لأتباع أي رسول من الرسل السابقين ما يعطيهم سلطة زمنية، بل المسألة كلها تبدأ من الله، وتنتهي إلى الله. وتلك هي القضية النهائية في موكب الرسالات. وما دام الإسلام هو ذلك الانقياد الذي يختاره الإنسان لنفسه ليكون منسجما مع نفسه في الإسلام لله، ويكّون انسجاما مع الكون الآخر وما يحتويه من حيوان ونبات وجماد وغيرها في أنه أسلم خضوعا لله، وبذلك يصبح الكون بما فيه الإنسان المؤمن المسلم لله كله مسخَّراً لله سبحانه وتعالى. وما دام الكون بالإنسان قد صار مسخرا لله فلا تضاد في حركة لِتعاند حركة أخرى؛ لأن الذي يهيمن هذه الهيمْنة هو الذي وضع لكل إنسان في مجال حركته في الحياة قانونا يعصمه من أن يصطدم بغيره، وإذا كان البشر قد استطاعوا أن يضعوا لأنفسهم معايير تمنع التصادم في الحركة، ذلك التصادم الذي يؤدي إلى كوارث ومصائب.


مثال ذلك، للنظر إلى السكك الحديدية، ألا يوجد موظف اسمه (المحولجي)؟ ومعنى هذه الوظيفة هو أن القائم بها يقوم بتحويل القاطرة القادمة من طريق معين إلى مسار محدد حتى لا تدهم قاطرة أخرى جاءت من الطريق نفسه. إن ذلك من فعل الإنسان فيما صنع من قطارات ومواصلات، لقد صنع أيضا وسائل تمنع تصادمها، فما بالنا بالحق- وله المثل الأعلى- وهو الذي خلق الإنسان؟ إنه سبحانه قد وضع المنهج حتى لا تصطدم حركة في الوجود بحركة أخرى.
ولننظر إلى الأشياء التي جاءت بقانون التسخير، والأشياء التي دخلت في ظل الاختيار. أسمعنا أن جملين سارا في طريقين متعارضين واصطدم الجمل بجمل؟ لم يحدث ذلك أبدا، فالجمل يفادي نفسه وما يحمل من الجمل الآخر وما يحمله، لكننا نسمع عن تصادم سيارة مع سيارة، ذلك أن السيارة لا تسير بذاتها بل تسير بقيادة إنسان مختار، وهو الذي يصدم وهو الذي قد تأتي منه في غفلته الكوارث.
إذن فتصادم حركة بحركة إنما ينشأ في الأمور الاختيارية، أو غفلة إنسان عن مهمته، كغفلة (المحولجي) عن عمله في تنظيم مرور القطارات، لكن تصادم حركة في الوجود بحركة أخرى في الوجود هو أمر مستحيل، ولا يحدث أبدا، لأن الأمر الذي ما زال في يد المهيمن الأعلى، مهيمن الأرض والسماء، وهو الله الذي يسير الكون منسجما ويعرفنا بصفاته فيقول: {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ}
ومعناه: أني أنا القائم بأسبابكم ومدبر أمركم ولا أنام أو تأخذنا سنة أو غفلةاي فناموا أنتم فقد سخرت الوجود كله من أجلكم.


وما دام الأمر في الإسلام هكذا، والوجود ينسجم مع نفسه، فلماذا تشذ أنت أيها الإنسان عن الوجود؟ ولماذا تشِّذُ عن ملكات نفسك؟
لماذا لا تكون منسجما مع الكون؟ إنك إن انسجمت مع نفسك ومع الكون صرت الإنسان السعيد.


وفي عصرنا الحديث نرى ارتقاء العالم ماديا بصورة عالية، بحيث يقع الحدث في أمريكا مثلا فنراه على شاشة التلفزيون فورا، ويركب الإنسان مركبا صاروخيا إلى الفضاء ولكن هل استراح العالم؟ لا، لقد ازداد العالم عناء، وكأنه يكد ذهنه ويرهق العلماء في معاملهم لابتكار أشياء تعطي للعالم مزيدا من القلق والاضطراب وتتصادم وتتعارض. وبذلك صار الكون لا يفرغ أبدا من حرب باردة أو ساخنة.


كل ذلك إنما ينشأ من إدارة أمور العالم بأهواء البشر، فلسنا جميعا مردودون إلى منهج واحد يأمرنا فنأتمر، وينهانا فننتهي، بل كل إنسان يتبع في عمله هواه، لذلك نرى القلق والاضطراب، ونرى الصرخات تملأ الدنيا من أهوال ومصائب، منها مثلا المخدرات هو إنسان غير راضٍ عن واقع حياته، فلا يريد مواجهة حياته، إنما يحاول الهرب منها بالإدمان، ونقول لمثل هذا الإنسان: ليس هذا حلا للمشكلة؛ لأن الإنسان عندما تأتيه مشكلة فهو يحتاج عقلا على عقله ليواجه هذه المشكلة، وأنت بهذا الإدمان إنما تُضَيِّع عقلك، رغم أنك مطالب بأن تأتي بعقل آخر بجانب عقلك لتحل مشكلتك، فالهرب من المشكلة لا يحلها، إنما الهروب غباء وقلة فطنة فالمشكلة زادت تعقيدا ونقول للمجتمعات التي تشكو من مثل هذه البلايا لو أخذتم شرائعكم من منهج الله لكان ذلك حماية لكم من مثل تلك الكوارث.
وهكذا نرى أن كل الابتكارات تُوجه دائما إلى الشر أولا، فإذا لم يوجد لها ميدان شر فإننا نوجهها إلى الخير، ويا ليته خير خالص لوجه الله، لا، إنه خير مجنح ومنحرف عن الخير لأن الذي لا يملك هذا اللون من الاختراعات كالشعوب النامية والعالم الثالث قد جعله المخترعون بوساطة هذه الاكتشافات والاختراعات مستعبدا ومقهورا لهم؛ إنهم جعلوا تقدمهم استعبادا وإذلالا لغيرهم وإن تظاهروا بغير ذلك.


لماذا يحدث كل ذلك؟ لأننا لم نكن منطقيين- كما يجب- مع أنفسنا ولا مع واقع الأمور النهوضية التي نحن فيها فالطموحات العلمية التي لا حد لها لا يصح أن تسبب لنا كل هذا التعب، بل كان المفروض بعد الوصول إلى تحقيق هذه الطموحات ان نستريح، ولكن لِمَ لم يحدث هذا؟ لأن زمامنا نحن البشر بيد أهوائنا، والأهواء ليست هي اليد الأمينة، إن اليد الأمينة هي شرع الله الذي لم يشرع إلا لمصلحة من خلق، وما دام الإسلام يرسم طريق الأمان مع الخالق والنفس والكون الذي نحياه، بما فيه من الأجناس الأخرى، إذن فالدين عند الله هو الإسلام، وهذه هي النتيجة الحتمية لذلك يقول الحق سبحانه: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} ويتبعها الحق سبحانه بقوله: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ...}.


نداء الايمان

امانى يسرى محمد 29-08-2021 11:47 AM

رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة ال عمران)
 
{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)}


إن الغاية التي تسعد العالم كله هي دين الإسلام، ومن يرد دينا غير ذلك فلن يقبله الله منه. فإن كان هناك من لا يعجبه تقنين السماء ويقول مندهشا: إن في هذا التقنين قسوة؛ إنك تُقطع يد إنسان وتشوهه نرد على مثل هذا القائل: إن سيارة تصدم سيارة تشوه عشرات من البشر داخل السيارتين، أو قطار يصاب بكارثة فيشوه مئات من البشر.
ونحن عندما نبحث عن عدد الأيدي التي تم قطعها في تاريخ الإسلام كله، فلن نجدها إلا أقل كثيرا من عدد المشوهين بالحوادث، وأي ادعاء بالمحافظة على جمال الإنسان مسألة تثير السخرية؛ لأن تقنين قطع يد السارق استقامت به الحياة، بينما الحروب الناتجة عن الهوى شوهت وأفنت المئات والآلاف، إن مثل هذا القول سفسطة، هل معنى تشريع العقوبة أن يحدث الذنب؟ لا، إن تشريع العقوبة يعني تحذير الإنسان من أن يرتكب الذنب.



وعندما نقول لإنسان: (إن قتلت نفسا فسيتولى ولي الأمر قتلك) أليس في ذلك حفاظ على حياته وحياة الآخرين؟ وحين يحافظ التشريع على حياة فرد واحد فهو يحافظ في الوقت نفسه على حياة كل إنسان، يقول الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ ياأولي الألباب لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179].
وهكذا يصبح هذا التقنين سليما غاية السلامة، إذن فقول الحق سبحانه: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} يدلنا على أن الذي يشرع تشريعا يناقض ما شرعه الله فكأنه خطأ الله فيما شرع، وكأنه قد قال لله: أنا أكثر حنانا على الخلق منك أيها الإله؛ لأنه قد فاتتك هذه المسألة.



وفي هذا القول فسق عن شرع الله، وعلى الإنسان أن يلتزم الأدب مع خالقه. وليرد كل شيء إلى الله المربي، وحين ترد أيها الإنسان كل شيء إلى ربك فأنت تستريح وتريح، اللهم إلا أن يكون لك مصلحة في الانحراف. فإن كان لك مصلحة في الانحراف فأنت تريد غير ما أراد الله، أما إذا أردت مصلحة الناس فقد شرع الحق ما فيه مصلحة كل الناس؛ لذلك قال الحق: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين}.


وقد يقول قائل في قوله تعالى: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} إن هذه العبارة لا تكفي في منحى اطمئنانا إلى جزاء العمل الذي أتقرب به إلى الله، فالله قد يقبل وقد لا يقبل فهو سبحانه لا أحد يكرهه على شيء، ونقول له: إنك ستأتي إلى ربك رضيت أو أبيت فما حاجتك إلى هذا القول؟ لو كنت تستطيع، فكن عاقلا ولا تتمرد على أمر ربك، ويقول الحق: {وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين}. والخاسر: مأخوذة من (الخسر)، و(الخسر) هو ذهاب رأس المال وضياعه، والآخرة حياة ليس بعدها حياة، ومن الغباء أن يقول قائل: (سوف أتعذب قليلا ثم تنتهي المسألة) لا، إن المسألة لا تنتهي؛ لأن الآخرة حياة دائمة ولا حياة بعدها. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: {كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وشهدوا أَنَّ الرسول حَق...}.




امانى يسرى محمد 30-08-2021 02:30 PM

رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة ال عمران)
 
هداية الدلالة وهداية المعونة





{كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)}


إننا نرى هنا الأسلوب البديع؛ إن الحق سبحانه يدعونا أن نتعجب من قوم كفروا بعد الإيمان، إنهم لو لم يعلنوا الإيمان من قبل لقلنا: إنهم لم يذوقوا حلاوة الإيمان، لكن الذي آمن وذاق حلاوة الإيمان كيف يقبل على نفسه أن يذهب إلى الكفر؟ إنه التمرد المركب.


وقد يتساءل إنسان قائلا: مادام الله لم يهدهم، فما ذنبهم؟

نقول له: يجب أن تتذكر ما نكرره دائما، لتتضح القضية في الذهن لأنها قضية شائعة وخاصة عند غير الملتزمين، الذين يقول الواحد منهم: إن الله لم يرد هدايتي، فماذا أفعل أنا؟

إن ذلك استدلال لتبرير الانحراف ومثل هذا القول لا يصدر إلا من المسرف على نفسه، ولا يأتي هذا القول أبدا من طائع لله، إن الذي يقول: إن المعصية إنما أرادها الله مني، فما ذنبي؟ يجب أن يعرف أن الطاعة من الله، فلماذا لم يقل: إن الطاعة من الله فلماذا يثيبنا عليها؟ لماذا تغفل أيها العاصي عن ذكر ثواب الطاعة، وتقف عند المعصية وتقول: إن الله قد كتب على المعصية فلماذا يعذبني؟ كان يجب أن نقول أيضا: ما دام قد كتب علي الطاعة فلماذا يعطيني عليها ثوابا؟.


إننا نقول لمن يبرر لنفسه الانحراف: إنك تريد أن تأخذ من الطاعة ثوابها، وتريد أن تهرب من عقاب المعصية. وأنت تحتاج إلى أن تفهم الأمر على حقيقته



لقد قلت من قبل: إن الهداية تأتي بمعنيين؛

هَدَى أي دل على الطريق الموصلة للغاية المرجوة ولم يصنع شيئا أكثر من ذلك والمثال هو إشارات المرور الصماء؛ إن كل إشارة توضح طريقا معينا وتهدي إليه، وإشارة أخرى توضح طريقا آخر وتهدي إليه. ولا يوجد أحد عند هذه الإشارة يأخذ بيد إنسان ويقول له: أنا سآخذ بيدك وأصلح العربة عندما تقف منك، أو أركب معك لأوصلك إلى غايتك.
إن هذه الإشارة هي هداية فقط، إي أنها دلالة على الطريق الموصلة إلى الغاية المرجوة و
الله سبحانه وتعالى قد هدى الناس جميعا المؤمن منهم والكافر أيضا، أي دلّهم سبحانه على الطريق الموصل للغاية.



وانقسم الناس بعد ذلك إلى قسمين: قسم قبِل هذا المنهج وارتضاه وسار كما يريد الله، وساعة أن راح هذا المؤمن إلى جناب الله وآمن به، فكأن الحق يقول له: إنك آمنت بي وبمنهجي، لذلك ستكون لك جائزة أخرى، وهي أن أعينك وأخفف عليك الأمور، وهذه هي الهداية الثانية التي يعطيها الله جائزة لمن آمن به وارتضى منهجه. وتعني: المعونة، إن الله يعطي عبده المؤمن حلاوة الطاعة، ويجعله مقبلا عليها بنشاط.


إذن فالهداية تكون مرة (دلالة) وتكون مرة ثانية (معونة)

إنني أكرر هذا القول حتى يتضح الأمر في أذهاننا جميعا، ولنذكره دائما، ونقول: مَن يعين الإنسان؟ إن الذي يعينه هو من آمن به، أما من كفر بالله، فلا يعينه الله.


وسبق أن قلت مثلا- وما زلت أضربه-: إن إنسانا ما يسير في طريق ثم التبس عليه الطريق الموصل للغاية كالمسافر إلى الإسكندرية مثلا، وبعد ذلك وجد شرطيا واقفا فسأله: أين الطريق إلى الإسكندرية؟
فيشير الشرطي إلى الطريق الموصل إلى الإسكندرية قائلا للسائل: هذا هو الطريق الصحيح إلى الإسكندرية.
إن الشرطي هنا قد دل هذا الإنسان، لكن عندما يقول السائل للشرطي: (الحمد لله أنني وجدتك هنا لأنك يسرت لي السبيل) فهذا القول يأسر قلب الشرطي، فيزيد من إرشاداته للسائل ويوضح له بالتفصيل الدقيق كيف يصل إلى الطريق، وينبهه إلى أي عقبة قد تعترضه، وإن زاد السائل في شكره للشرطي، فإن ذلك يأسر وجدان الشرطي أكثر، ويتطوع ليركب مع السائل ليوصله إلى الطريق، شارحا له ما يجب أن يتجنبه من عقبات، وبذلك يكون الشرطي قد قدم كل المعونة لمن شكره.


لكن لنفترض أن رجلا آخر سأل الشرطي عن الطريق، فكذب الرجل الشرطي، وفي مثل هذا الموقف يتجاهل الشرطي مثل هذا الرجل، وقد ضربت هذا المثل للتقريب لا للتشبيه. إن الحق يدل أولا بهداية الدلالة، وقد هدى الله الناس جميعا، أي دلهم على المنهج، فمن ذهب إلى رحابه وآمن به، أعطاه الله هداية ثانية، وهي هداية المعونة والتيسير. {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} [محمد: 17].


إن الحق يعطيهم حلاوة الهداية وهي التقوى، كأن الحق يقول للعبد المؤمن: ما دمت قد أقبلت عليَِّ بالإيمان فلك حلاوة الإيمان، أما الذي يكفر، والذي يظلم نفسه بالشرك، فالحق يمنع عنه هداية المعونة؛ لأنه قد رأى هداية الدلالة ولم يؤمن بها. إذن فالاستفهام في قوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} هو تساؤل يراد به الإنكار والاستبعاد لا عن الهداية الأولى وهي هداية الدلالة، ولكنه عن هداية المعونة، أي: كيف أعين من كفر بي؟
والمقصود بهذا القول هو بعض من أهل الكتاب الذي جاءهم نعت الرسول صلى الله عليه وسلم في كتبهم حتى إن عبد الله بن سلام وهو منهم، يقول: لقد عرفت محمداً حين رأيته كمعرفتي لابني، ومعرفتي لمحمد أشد، ومصداق ذلك ما يقوله الحق سبحانه وتعالى: {الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل يَأْمُرُهُم بالمعروف وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المنكر وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فالذين آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ واتبعوا النور الذي أُنزِلَ مَعَهُ أولئك هُمُ المفلحون} [الأعراف: 157].
والتعبير القرآني الدقيق لم يقل: يجدون وصفة مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل إنما يقول الحق: {الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل} [الأعراف: 157].


كأن الذي يقرأ التوراة والإنجيل يمكنه أن يرى صورة النبي عليه الصلاة والسلام من دقة الوصف، لقد عرفته التوراة وعرفه الإنجيل معرفة مفصلة وشاملة، مع نطق وقول يؤكد ذلك وهناك فرق بين أن (تعرف) وبين أن (تقول)؛ فقد يعرف الإنسان ويكتم ما عرف، ولكنهم عرفوا الرسول صلى الله عليه وسلم واعترفوا بذلك، فقد كانوا من قبل يستفتحون به على الذين كفروا، قال الحق سبحانه: {وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين} [البقرة: 89].
لقد أخذوا الرسول صلى الله عليه وسلم قبل مجيئه نصرة على الكافرين، فقالوا: سيأتي نبي ونتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم. فماذا فعلوا؟ إن الحق يجيب: {فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين} [البقرة: 89].
إذن هم آمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم من قبل مجيئه، فلما جاء كفروا به. انظر إلى العدالة من الحق سبحانه وتعالى، حين يريد أن يدلهم على موقف الصدق والحق والكرامة الإيمانية. {قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} [الرعد: 43].


إن الذين عندهم علم الكتاب هم اليهود والنصارى، هؤلاء يشهدون أن محمدا رسول الله، وإن القرآن بعدالته ينصف التوراة والإنجيل وهي الكتب التي بين أيديهم، {كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وشهدوا أَنَّ الرسول حَقٌّ} لقد آمنوا به رسولا من منطوق كتبهم، ثم أعلنوها حينما قالوا: (يأتي نبي نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم).
فإذا كانوا قد صنعوا ذلك، فكيف يهديهم الله؟ إنهم ليس لديهم الاستعداد للهداية، ولم يقبلوا على الله بشيء من الحب، لذلك فهو سبحانه لا يعينهم على الهداية ولو أقبلوا على الله لأعانهم قال تعالى: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} [محمد: 17].
وهؤلاء لم يهتدوا، فلذلك تركهم الله بدون هداية المعونة، وهذا يوضح لنا معنى القول الحق: {وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} [النساء: 88].
إن الذين لم يهتدوا بهداية الدلالة فلم يؤمنوا يضلهم الله أي يتركهم في غيهم وكفرهم، أي أنه ما دام هناك من لم يؤمن بالله فهل يمسك الله بيده ليهديه هداية المعونة؟ لا؛ لأنه إذا لم يؤمن بالأصل وهو هداية الدلالة، فكيف يمنحه الله هداية المعونة؟ وما دام لم يؤمن بالله أكان يصدق التيسيرات التي يمنحها الله له؟ لا. إنه لا يصدقها، ويجب أن تعلم أن هداية الدلالة هداية عامة لكل مخاطب خطابا تكليفيا، وهو الإنسان على إطلاقه، أما هداية المعونة فهي لمن أقبل مؤمنا بالله وكأن الحق يقول له: (أنت آمنت بدلالتي فخذ معونتي) أو (أنت أهل لمعونتي) أو (ستجد التيسير في كل الأمور)، أما الذي كفر فلا يهديه الله.


إن الحق سبحانه لا يعين الكافر؛ لأن المعونة تقتضي ابتداء فعلاً من المُعان، والكافر لم يفعل ما يمكن أن ينال به هذه المعونة، فهو لم يؤمن، لذلك يكون القول الفصل: {والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} ويكون القول الحق {والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} ويكون القول الحق {والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين}. إن هؤلاء هم الظالمون الذين ارتكبوا الظلم الأصيل وهو الشرك بالله كما قال الحق: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يابني لاَ تُشْرِكْ بالله إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
والحق عندما يتركهم فإنه يزيدهم ضلالا، ويختم على قلوبهم، فلا يعرفون طريقا إلى الإيمان: {كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وشهدوا أَنَّ الرسول حَقٌّ وَجَآءَهُمُ البينات والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} [آل عمران: 86].


لقد جاءهم الرسول بالآيات الدالة على صدق رسالته، ولكنهم ظلموا أنفسهم الظلم الكبير العظيم، وهو الشرك بالله، ولكن هل هذه الآية قد نزلت في أهل الكتاب الذين كان عندهم نعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإشارات وبشارات به؟ أو نزلت من أجل شيء آخر هو أن أناسا آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ثم كفروا به؟


إن القول الحق يتناول الفئتين، وينطبق عليهم، سواء أكانوا من أهل الكتاب الذين آمنوا بالرسل من قبل ولم يؤمنوا برسالة محمد عليه الصلاة والسلام، أم من الذين آمنوا برسالة رسول الله ثم كفروا به، كما حدث من بعضهم في عهد الرسول، مثال ذلك طعمة بن أبيرق، وابن الأسلت والحارث بن سويد، هؤلاء أعلنوا الإيمان واتجهوا إلى مكة ومكثوا فيها، تاب منهم واحد وأخذ له أخوه ضمانا عند رسول الله، والباقون لم يتوبوا.
إن القول الحق يتناول الفئتين، وينطبق عليهم جميعا قوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وشهدوا أَنَّ الرسول حَقٌّ وَجَآءَهُمُ البينات والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} [آل عمران: 86].
ويفصل لنا الحق سبحانه جزاء هؤلاء بقوله الحكيم: {أولئك جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ}

نداء الايمان



الساعة الآن 10:16 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Content Relevant URLs by vBSEO 3.3.0 , Designed & TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة لمنتدى قصة الإسلام