شاعَ في لغة الكتَّاب والخطباء اليومَ أنواعٌ من اللَّحْن والغَلَط، ولعلَّ من أكثر أضْرُب الخطأ ذُيوعًا: التخليطَ في أبنية الأسماء والأفعال، مع أن كثيرًا من هذه الأسماء والأفعال تكون واردةً على وَجهها الصَّحيح في الكتاب العَزيز وفي السنَّة النبويَّة المشرَّفَة.
ومن الأفعال التي يَكثُر الخطأ في ضَبطها: الفعل (يلبس)، فقلَّما يُصَرِّفونه من بابه الصحيح، ومن ذلك ما يَستشهدُ به بعضُ الوعَّاظ من حديثٍ يُروى عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يَخرُجُ في آخِرِ الزَّمان رجالٌ يَخْتِلونَ الدُّنيا بالدِّين، يَلْبَسُونَ للناسِ جُلودَ الضَّأْن من اللِّين، ألسِنَتُهُم أحلى من السُّكَّر، وقُلوبُهُم قُلوبُ الذِّئابِ..)) [أخرجه الترمذي، وهو حديث ضعيف].
والمرادُ بقوله: يَخْتِلونَ الدُّنيا بالدِّين، أي: يَطْلُبونَ الدُّنيا بعمل الآخِرَة.
وقوله: يَلْبَسُونَ للناسِ جُلودَ الضَّأْن: كنايةٌ عن إظهار اللِّين للناس، مع أن قلوبَهم تُكِنُّ خلافَ ذلك، وهو وَصْفٌ للمُنافقينَ الذين قال الله عنهم: {ومِنَ النَّاسِ مَن يُعجِبُكَ قَولُهُ في الحَياةِ الدُّنيا ويُشْهِدُ اللهَ على ما في قَلْبِهِ وهُوَ ألَدُّ الخِصَام} [البقرة 204].
فيَضْبطونَ قوله (يلبسون): بكسر الباء، وهو خطأٌ يَجْنَحُ بالمعنى عن وَجهه.
والصَّواب: أن هذا الفعلَ - في هذا السِّياق - من باب (تَعِبَ)، نقول: لَبِسَ الرجلُ الثَّوبَ يَلْبَسُه (بكسر الباء في الماضي، وفتحها في المضارع): إذا استَتَر به وأفرَغَه على جِسْمِه.
وقد وردَ الفعلُ بهذا المعنى في مواضِعَ من كتاب الله تعالى، منها قولُه سبحانَه في وَصْف أهل الجنَّة من المؤمنينَ المحسنين: {يَلْبَسُونَ من سُنْدُسٍ وإسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلينَ} [الدخان 53]، ومنها قولُه: {وهُوَ الَّذي سَخَّرَ البَحْرَ لِتَأكُلُوا مِنهُ لحَمًا طَرِيًّا وتَسْتَخْرِجُوا مِنهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها} [النحل 14].
ويأتي هذا الفعلُ من باب (ضَرَبَ) ولكن بمعنى: الخَلْط، يقال: لَبَسَ عليه الأمرَ يَلْبِسُه أي: خَلَطَه عليه وجَعَلَه مُشْكِلاً حتى لا يَعرفَ حقيقَتَه.
ومنه قولُه تعالى: {ولا تَلْبِسُوا الحَقَّ بالباطِلِ وتَكْتُمُوا الحَقَّ وأنتُم تَعْلَمُونَ} [البقرة 42]، وقولُه: {الَّذينَ آمَنُوا ولم يَلْبِسُوا إيمانَهُم بِظُلْمٍ أولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام 82].
- نشرت في مجلَّة الرسالة التي تصدرها الشؤون الدينيَّة بمجموعة الجريسي بالرياض، العدد (35) ، شهر ربيع الآخر 1426هـ.
- ونشرت في مجلَّة منارات السعوديَّة، العدد (10)، شهر رجب 1426هـ.
تتصرَّفُ الأفعالُ الثلاثيَّةُ المجرَّدةُ في العربيَّة من ستَّة أبواب؛ تَضْبطُ حركةَ عين الفعل في الماضي والمضارع، وقد جُمعَت هذه الأبوابُ - مرتَّبةً بحَسَبِ كَثْرَة دَوَرانها - في بيتٍ من النَّظْم هو:
فَتحُ ضَمٍّ، فَتحُ كَسرٍ، فَتحَتانْ كَسرُ فَتحٍ، ضَمُّ ضَمٍّ، كَسرَتانْ
وقد يأتي الفعلُ الواحدُ من بابَين أو أكثَرَ، بمعنًى واحدٍ، أو بمعانٍ مختلفَةٍ، ولا بُدَّ من تحرِّي الدقَّةِ في ضَبْط هذه الأفعال، وتَجَنُّبِ الخَلْط بينها.
ومنَ الأفعال التي قلَّما يُصيبُ الكتَّابُ والخُطَباءُ في ضَبطها: الفعلُ (يكبر) في قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((رُفِعَ القَلَمُ عَن ثَلاثَةٍ: عَن النَّائمِ حَتَّى يَسْتَيقِظَ، وعَن المُبْتَلى حَتَّى يَبْرَأَ، وعَن الصَّبِيِّ حَتَّى يَكْبَرَ)) [أخرجه أبو داود من حديث أم المؤمنين عائشة]؛
فإنَّهُم يَضْبطونَه (يَكْبُر) بضَمِّ الباء، والصَّوابُ فَتحُها: (يَكْبَر)، فهذا الفعلُ يكونُ من الباب الرابع إذا أُريدَ به التقَدُّمُ في السِّنِّ؛ نقول: كَبِرَ الرجُلُ - أو الحَيَوانُ - يَكْبَرُ: إذا تقَدَّمَ في السِّنِّ.
ويكونُ هذا الفعلُ من الباب الخامس، إذا قُصِدَ به العِظَمُ، نقول: كَبُرَ الهَمُّ يَكْبُرُ: إذا عَظُمَ. ومن ذلك قَولُه تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا} [الكهف: 5].
قال الزَّمَخْشَريُّ في ((أساس البلاغة)): كَبُرَ الرجُلُ في قَدْرِهِ، وكَبِرَ في سِنِّهِ.
- نشرت في مجلَّة الرسالة التي تصدرها الشؤون الدينيَّة بمجموعة الجريسي بالرياض، العدد (37) ، شهر جمادى الأولى 1426هـ.
- ونشرت في مجلَّة منارات السعوديَّة، العدد (11)، شهر شعبان 1426هـ.
لغتنا الجميلة (15)
الإسلامُ دينُ الفِطرَة، وشريعَتُه شريعَةٌ سَمْحَة، تقدِّر أحوالَ المؤمنين وحاجاتِهم، فلا تُعْنِتُهُم ولا تُكَلِّفُهُم من أمرِهم عُسْرا، بل تَنأى بهم عن المشَقَّة والعُسْر إلى التخفيف واليُسْر.
ومن هدي النبيِّ صلى الله عليه وسلم في التيسير: توجيهُه المصلِّيَ الذي يجدُ في صلاة الليل النُّعاسَ والإعياءَ، إلى أن يُخْلِدَ إلى الرَّاحَة والدَّعَة، حتى يذهبَ عنه النومُ والنَّصَب، ثم يقومَ ويصلِّيَ ما شاء من الركَعات؛ نَشيطَ الجسَد، حاضِرَ القلب والعقل؛ لأن الصَّلاةَ تَضيع ثَمَرتُها المُرْتَجاةُ وتَفقِدُ معناها مع ثِقَلِ الرأسِ ووَطْأَة النَّعْسِ، بل قد يَفُوهُ الناعسُ في صلاته بما لا يَليق من كلام.
يقول صلى الله عليه وسلم : ((إذا نَعَسَ أحَدُكُمْ وهُوَ يُصَلِّي فَلْيَرْقُد حتَّى يَذْهَبَ عنهُ النَّومُ؛ فإنَّ أحَدَكُم إذا صَلَّى وهُوَ ناعِسٌ، لعَلَّهُ يَذْهَبُ يَسْتَغْفِرُ فيَسُبُّ نَفْسَه)) [متفق عليه من حديث عائشة].
وما يعنينا التنبيهُ عليه في قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم هو الفعلُ (نعس)، فقلَّما يُصَرَّفُ من بابه الصَّحيح، وغالبًا ما يُضْبَط خَطأً: نَعِسَ، يقولون مثلاً: نَعِسَ الطِّفلُ يَنْعَسُ، متوهِّمينَ أن هذا الفعلَ من الباب الرابع (باب: فرح)،
والصَّواب: أنه من الباب الأول (باب: نصر)، نقول: نَعَسَ الطِّفلُ يَنْعُسُ، ويأتي في لغةٍ أُخرى من الباب الثالث (باب: فتح)، نقول: نَعَسَ الطِّفلُ يَنْعَسُ،
وبهذا نلاحظُ أن الفعلَ (نعس) لا يكون في الماضي إلا مفتوحَ العين، في حينِ يجوزُ في مُضارعه الضَّمُّ والفَتحُ.
ومن الأفعال التي يكثُرُ الخطأُ في ضَبْطها أيضًا: الفعل (يعمد)، ففي الحديث عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنه: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتَمًا من ذَهَبٍ في يد رجُل، فنَزَعَهُ فطَرَحَهُ، وقال: ((يَعْمِدُ أحَدُكُم إلى جَمْرَةٍ من نارٍ فيَجْعَلُها في يَدِه؟!!))، فقيلَ للرجُل بعدَما ذهبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : خُذ خاتَمَكَ انتَفِعْ به، قال: لا واللهِ، لا آخُذُه أبدًا وقد طَرَحَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. [أخرجه مسلم].
فالفعلُ (يَعْمِدُ) مضارع (عَمَدَ)، بمعنى: قَصَدَ، يتصَرَّفُ من الباب الثاني (باب: ضرب)، يُقال: عَمَدَ المظلومُ إلى القَضاء يَعْمِدُ، ويُخْطِئُ من يَجعَلُ هذا الفعلَ من الباب الثالث فيقول: عَمَدَ يَعْمَدُ.
ولكنَّه يأتي منَ الباب الرابع، أي: عَمِدَ يَعْمَدُ، ولكن بمعانٍ أُخْرى مُجانِفَةٍ لمعنى (القَصْد) المرادِ في الحديثِ المذكور.
- نشرت في مجلَّة الرسالة التي تصدرها الشؤون الدينيَّة بمجموعة الجريسي بالرياض، العدد (38) ، شهر جمادى الآخرة 1426هـ.
- ونشرت في مجلَّة منارات السعوديَّة، العدد (14)، شهر ذي القعدة 1426هـ.