قال المؤلفُ - رحمه الله - فيما نقله عن حنظلةَ الكاتب، أحدِ كُتاب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: لقيني أبو بكر - رضي الله عنه - فقلت: نافق حنظلة - يعني نفسه - ومعنى نافق: يعني صار من المنافقين، قال ذلك ظنًّا منه - رضي الله عنه - أن ما فعله نفاقٌ، فقال أبو بكرٍ: وما ذاك؟ فقال - رضي الله عنه -: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يُذكِّرُ بالجنة والنار حتى كأنَّا رأىَ عينٍ، يعني كأنما نرى الجنة والنار رأىَ عينٍ من قوة اليقين، حيث يخبرهم بذلك صلى الله عليه وسلم، وما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كالمشاهدِ، بل قد يكون أعظم؛ لأنه خبرٌ من أصدقِ الخلق صلوات الله وسلامه عليه، وأعلم الخلق بالله.
فإذا خرجنا من عنده عَافَسْنا الأزواج والأولاد والضَّيْعاتِ، يعني لهونا معهم ونسينا ما كنا عليه عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكرٍ عن نفسِه أنه يصيبه كذلك، ثم ذهبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما وصلا إليه قال حنظلةُ: نافق حنظلة يا رسولَ اللهِ، قال: وما ذاك؟ فأخبره بأنهم إذا كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم فحدَّثهم عن الجنة والنار، أخذهم من اليقين ما يجعلهم كأنهم يرونهما رأي العينِ، ولكن إذا خرجوا عافَسُوا الأهل والأولادَ والضَّيعاتِ وتلهوا بهم نسوا كثيرًا.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: «والذي نفسي بيدِه، لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذِّكرِ لصَافحَكم الملائكةُ على فُرُشِكم وفي طُرُقِكم» أي من شدَّةِ اليقينِ تصافحكم إكرامًا لكم وتثبيتًا لكم؛ لأنه كلما زاد يقين العبد، فإن الله سبحانه وتعالى يثبته ويقويه، كما قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ﴾ [محمد: 17]، ولكن يا حنظلةُ ساعةً وساعةً، ساعةً وساعةً. ساعةً وساعةً. يعني ساعةً للربِّ عزَّ وجلَّ، وساعةً مع الأهلِ والأولادِ، وساعةً للنفسِ حتَّى يعطي الإنسان لنفسِه راحتَها، ويعطِي ذوي الحقوقِ حقوقَهم.
وهذا من عدلِ الشريعةِ الإسلامية وكمالها، أنَّ الله عزَّ وجلَّ له حقٌ فيُعطَي حقَّه عزَّ وجلَّ، وكذلك للنفس حقٌّ فتُعطى حقَّها، وللأهل حقٌّ فيعطون حقوقهم، وللزوار والضيوف حق فيعطون حقوقهم، حتى يقوم الإنسان بجميع الحقوق التي عليه على وجه الراحة، ويتعبد لله عز وجل براحة، لأن الإنسان إذا أثقل على نفسِه وشدَّد عليها ملَّ وتَعِب، وأضاع حقوقًا كثيرة.
وهذا كما يكون في العبادة وفي حقوق النفس والأهل والضيف، يكون كذلك أيضًا في العلوم، فإذا طلب الإنسانُ العلم، ورأى في نفسه مللًا في مراجعة كتاب ما، فلينتقل إلى كتابٍ آخر، وإذا رأى من نفسِه مللًا من دراسةٍ فن معينٍ، فإنه ينتقل إلى دراسة فن آخر، وهكذا يريحُ نفسَه، ويحصل علمًا كثيرًا. أما إذا أكره نفسه على الشيء حصل له من الملل والتعب ما يجعله يسأم وينصرف، إلا ما شاء الله؛ فإن بعض الناس يكره نفسه على المراجعة والمطالعة والبحث مع التعب، ثم يأخذ عليه ويكون هذا دأبًا له، ويكون ديدنًا له، حتى إنه إذا فقد هذا الشيء ضاق صدره، والله يؤتي فضله من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.