حديثنا اليوم سيكون عن بنتي النبي صلى الله عليه وسلم "رقية وأم كلثوم" رضي الله عنهما، دعونا نبدأ حلقتنا هذه من حادثة مفصلية في حياتهما وحياة كل أنثى، طرق باب بيت النبي صلى الله عليه وسلم أحد صحابته في وقت الظهيرة وهو وقت قلما يتزاور فيه الناس بل يأوون فيه إلى منازلهم اتقاء لحر الشمس، ما هو إلا وقت قليل حتى جاء النبأ المزعج؛ لقد طلق "عتبة وعتيبة" بنتي النبي "رقية وأم كلثوم". صدمت البنتان بالنبأ فقد كانتا تستعدان للزفاف القريب، ولكن خديجة سارعت لتضم بنتيها إلى صدرها وهي تقول مواسية: لا عليكما لا تبتئسا لن يتخلى الله عنكما هو وكيلكما حسبنا الله نعم المولى ونعم النصير. اكتفت أم كلثوم بأن هزت رأسها وهي تداري دمعة كانت تترقرق في عينيها، كانت خديجة تدرك أن هذا الزواج لن يتم حتى قبل أن تنزل رسالة الإسلام على زوجها، لماذا كانت تتوقع أن لا يتم هذا الزواج؟ خديجة تعرف الصفات التي جبلت عليها "أم جميل" زوجة أبي لهب حماة بنتيها "رقية وأم كلثوم" كل من في قريش كان يعرف غلظة أخلاقها وقسوة قلبها وسوء طبعها وحدة لسانها وغيرتها وحسدها وصلفها وطيشها، كل هذه الصفات وأكثر منها كانت موجودة في "أم جميل ـ أروى بنت حرب بن أمية بن عبد شمس" كان زوجها أبو لهب رغم قوته وجبروته ينساق ورائها مسلوب النخوة وفاقد المروءة والإرادة. كانت خديجة تشفق على ابنتيها من الزواج بابني "أم جميل، وأبو لهب" لكنها لم تستطع أن تنبس ببنت شفة يوم أن جاء أبو طالب بصحبة أخيه عبد العزى الملقب بـ"أبي لهب" لخطبة رقية لعتبة وأم كلثوم لعتيبة، كم تمنت يومها أن ترفض هذا الطلب، أن تقول: لا، لكن أبا طالب لا يرد له طلب عند زوجها لما له من أيادٍ بيضاء، ثم إنها خشيت أن تتهمها قريش بأنها تفرق ين زوجها وبين آله من بني هاشم، خصوصًا وأن زوج ابنتها الكبرى "زينب" كان من ابن أختها هالة بنت خويلد أي من غير بني هاشم. بعد الخطبة بفترة وجيزة نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم برسالة الإسلام، كانت خديجة أول من آمن بالنبي عليه الصلاة والسلام وتبعتها بناتها الأربع "زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة"، عندما بلغت الدعوة إلى الإسلام مسامع القرشيين ساءهم أن يسفه "محمد" أحلامهم وأن يعيب آلهتهم فبدؤوا يكيدون له المكائد ويدبرون له صنوف الأذى، كانوا أول ما بدؤوا به أن ألبوا عليه أصهاره قائلين إنكم قد فرغتم محمدًا من همه فردوا عليه بناته واشغلوه بهن، لم يستجب "أبو العاص بن الربيع" زوج "زينب" لوسوساتهم، فقد كان يحب زينب ولا يستبدلها بأية امرأة من قريش مهما علا نسبها وفاق جمالها، بينما تعاضدت "أم جميل" مع قوى الشر في قريش ضد الإسلام ونبيه فظلت تؤلب زوجها حتى قال لولديه "عتبة وعتيبة" رأسي من رأسيكما حرام إن لم تطلقا ابنتي محمد. طلق "عتبة، رقية" وطلق "عتيبة، أم كلثوم" دون تردد أو تلكؤ كيف واجهت البنتان هذه المصيبة؟ كيف تلقت عائلة النبي عليه الصلاة والسلام هذا النبأ الذي يعتبر طعنًا لكرامتها وإيلامًا لبناتها؟ الصمود، الصبر، الثبات، الإيمان، التسليم، والرضا بقدر الله وقضاءه، هو الزاد العتاد الذي حملته أسرة النبي الكريم في تلك المحنة، كانت رقية وأم كلثوم تعرفان أن والدهما على الحق وأنه لابد لإحقاق الحق من دفع الثمن مهما كان باهظًا، فكل شيء يهون في سبيل نصرة الحق. والحقيقة كانتا تعرفان أن للباطل جولات وجولات وقد يبدو للوهلة أن الغلبة لجانبه، ولكن أنى للزبد أن يبقى صامدًا وأنى له أنت تكون له الغلبة، هذا لا يكون أبدًا {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:17]، لابد للحق أن ينتصر أما متى فتوقيت ذلك بيد الله وحده، لابد من الصبر والصمود والثبات إلى أن ينتصر الحق ويعلو، هكذا كان والدهما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهكذا كانت والدتهما خديجة تكرر وتؤكد. إخوتي: ألا يدعونا موقف "رقية وأم كلثوم" أن نستغرب من مواقف بعض فتياتنا اليوم؛ يأتي العريس ليخطب الفتاة يراها محجبة ملتزمة فيعترض على هذا قائلًا: أنا لا أحب التزمت، أنا أحب الدين المودرن العصري، أنا لا أحب المانطو أنا أحب أن تضع خطيبتي على وجهها قليلًا من المكياج، هكذا يقولها بكل صراحة، البعض يقولها قبل عقد الزواج والبعض ينتظر إلى أن ينعقد الزواج على مبدأ "اتمسكن لتتمكن" قليلات هن اللواتي يقفن موقف الصمود والثبات، معظمهن يبدأن بتلبية الطلبات على حساب دينهن تخلع الفتاة المانطو لتبدو أرشق، تصبغ وجهها لتبدو أجمل، تلبس الأحمر والأزرق وفاقع الألوان، قد تنسى الصلاة وتخالط الأصدقاء، تتحلل من الضوابط الشرعية شيئًا فشيئًا كل هذا من أجل العريس، أغلب الفتيات يتنازلن عن أكثر من 20% من الثوابت التي كن يؤمن بها من أجل من؟! من أجل العريس، أين هن من حديث النبي عليه الصلاة والسلام «الطاعة في المعروف» (صحيح البخاري [7257])، ومن قول الله تعالى عن الوالدين {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [لقمان:15]، هذا عن الوالدين الذين هما أغلى من في الوجود، فما بالكم بمن هو دونهما منزلة ومقامًا، الزواج المبني على تنازلات يبغضها الله ورسوله يصعب أن يكون مصيره النجاح والسعادة لأن ما بني على باطل، فمصيره إلى الشقاء والتعاسة. نعود الآن إلى بيت النبي عليه الصلاة والسلام لنرى وقع طلاق رقية وأم كلثوم عليه، لسنا نشك بأن الألم اعتصر قلبه وهو يرى ابنتيه الحبيبتين تطلقان دونما ذنب بدر منهما سوى أن والدهما يدعو إلى عبادة الله الواحد الأحد وترك عبادة الأوثان، كان صلى الله عليه وسلم يدرك أن إيذائه في ابنتيه ما هوإلا بداية البداية، وأن هناك عقبات أكبر وأصعب سوف تعترض مسيرة دعوته إلى الله والإسلام ولكنه أمر الله فيا مرحبًا بالأذى في سبيل الله. سأحمل راية الإسلام وحدي *** ولو أن العالمين لها أساءوا فتلك عقيدة سكنت فؤادي *** كما سكنت شراييني الدماء وإن كان الفناء سبيل خلد *** فمرحا ثم مرحا يا فناء هذا لسان حال من يريد أن يصمد على الحق عندما ترحب المسلمة حتى بالفناء في سبيل الله يصبح الطلاق من زوج كعتبة وعتيبة أهون ما يمر عليهما، كانت أسرة النبي صلى الله عليه وسلم خديجة وبناتها عونًا للرسول عليه الصلاة والسلام بكل ما تحمله كلمة عون من معنى، لم تتضجر إحداهن من الإيذاءات المتوالية، لم تأسف ولم تندم، ولكأني برقية وأم كلثوم تقتربان من والدهما وتلقيان بنفسيهما في حضنه قائلتين لا بأس عليك يا أبتاه فهوانا في هواك. حصل ما توقعه النبي صلى الله عليه وسلم من استمرار أذى قريش عمومًا ومن أذى عمه "عبد العزى أبي لهب" وزوجته خصوصًا، لم يكفي أم جميل وزجها أن آذياه بطلاق ابنتيه، بل حملا سلاح عداوته ومواجهته فما كان أحد أشد عداوة له منهما ولا بلغ أحد من أذاه ما بلغا، يروى أنه لما أنزل الله تعالى أمره للنبي صلى الله عليه وسلم بالجهر بالدعوة {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]، صعد النبي عليه الصلاة والسلام على جبل الصفا ونادى أهل قريش، فلما اجتمعوا قال: «أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلًا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقًا وما جربنا عليك كذبا، فقال: إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» (صحيح البخاري[4770])، فقال عمه أبو لهب مستهزئًا: تب لك ألهذا جمعتنا؟! فنزل قوله تعالى {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1]. أما امرأته أم جميل فسماها القرآن بـ"حمالة الحطب" لأنها كانت تحمل الشوك فتطرحه في طريق النبي عليه الصلاة والسلام حيث كان يمر، لما سمعت حمالة الحطب ما نزل بها وبزوجها من القرآن أتت النبي عليه الصلاة والسلام وهو جالس في المسجد عند الكعبة ومعه أبو بكر الصديق وبيدها حجر ملئ كفها فلما وقفت أمامهما أعمى الله بصرها عن رؤية النبي عليه الصلاة والسلام فلم ترى إلا أبا بكر فسألته: "أين صاحبك يا أبا بكر؟ فقد بلغني أنه يهجوني والله لو وجدته لضربت بهذا الحجر فاه، أما والله إني لشاعرة" ثم أنشدت تقول: مذمما عصينا وأمره أبينا دينه قلينا فلما انصرفت قال أبو بكر: "يا رسول الله أما تراها رأتك؟" قال صلى الله عليه وسلم: «ما رأتني لقد أخذ الله ببصرها عني»، كانت قريش لشدة غيظها من النبي عليه الصلاة والسلام تدعوه "مذمما" بدل محمد كما فعلت حمالة الحطب امرأة أبو لهب، كان صلى الله عليه وسلم يبتسم ويقول لأصحابه: «أما تعجبون لما يصرف الله عني من أذى قريش يسبون "مذمما" وأنا محمد». كان النبي عليه الصلاة والسلام يعرض نفسه على القبائل في موسم الحج قائلا: «أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا» (صحيح دلائل النبوة [67])، فكان أبو لهب يتبعه ويقول: "إنه صابئ كاذب لا تتبعوه" فينصرف عنه بعض الناس وهم يقولون: عمه أعلم به، وكان صلى الله عليه وسلم في كل ذلك يصبر ويقول: «رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر» (صحيح البخاري [3405])، ولكن ماذا حدث لرقية وأم كلثوم بعد هذا لطلاق الجائر من عتبة وعتيبة؟ الحقيقة أن ما حدث يذكرني بقوله تعالى {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2-3]، ما هي إلا مدة حتى تقدم لخطبة رقية فتى من أعرق فتيان قريش نسبًا "عثمان بن عفان" هو قريب النبي عليه الصلاة والسلام، يلتقي معه من جهة الأب عند عبد مناف بن قصي، ومن جهة الأم عند عبد المطلب بن هاشم، إلى جانب النسب كان عثمان بهي الطلعة هني الخلق موفور المال، قال فيه عبد الله بن مسعود: "كان عثمان أوصلنا للرحم وكان من الذين آمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين، كان من السابقين الأولين إلى الإسلام ومن العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم أجمعين"، تزوج عثمان من رقية فكان نعم الزوج دين وخلق ونسب ومال صدق من قال: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً . إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:5-6] وصدق من قال {وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:216]، يروى أن نساء غنين في عرس رقية وعثمان رضي الله عنهما، أحسن شخصين رأى عثمان رقية وبعلها عثمان. ذلك الزواج في الواقع أثار تعجب كفار قريش، وكيف يعني يلاقي محمد بن عبد الله هذه القوة؟ كيف يزداد قوة وثباتًا، وكيف يربط رجل كعثمان بن عفان مستقبله بمستقبل رجل مجهول المصير والمستقبل، يتعرض للإيذاءات المتنوعة لا يدري أحد إلى أين سيصير أمره، أمعن القرشيون في اضطهاد المسلمين، لم يسلم من أذاهم حتى وجهاء مكة وساداتها حسبًا ونسبًا، لذلك عندما رأى النبي عليه الصلاة والسلام ما يصيب أصحابه من البلاء دون أن يقدر على حمايتهم ودفع الأذى عنهم، قال لهم: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد» (السلسلة الصحيحة[7/577]، هي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه، فكان العروسان عثمان ورقية من أول من هاجروا إلى الحبشة، امتدح النبي صلى الله عليه وسلم صهره المهاجر في سبيل الله بقوله: «والذي نفسي بيده إنه أول من هاجر بعد إبراهيم ولوط» (الإصابة [4/304]). إذن هاجرت رقية، فارقت أبويها الحبيبين وأخواتها الغاليات "زينب وأم كلثوم وفاطمة" تركت بلدها الحبيب مكة وما فيها من صديقات مقربات، تركت كل ذلك في سبيل الله تعالى ورحلت إلى بلد بعيدة تقاسي مشاق الطريق ووعورتها مع أخواتها وإخوتها في الله المهاجرين إلى الحبشة، هناك في الحبشة وجدت رقية في عثمان خير زوج، زوج لا يقارن بعتبة الذي طلقها تشفيًا من أبيها، كان عثمان بأخلاقه الدمثة يخفف عنها الغربة وما في الغربة من ضيق وكربه. كانت تجد أيضًا رقية فيمن حولها من الصحابيات المهاجرات أسماء بنت عميس، ورملة بنت أبي سفيان، وأم سلمة هند بنت أبي أمية، تجسيدًا حقيقيًا لمعاني الأخوة في الله التي كان أبوها محمد صلى الله عليه وسلم يحدثهم عنها عندما كانوا في مكة، الأمر الذي جعلها تصبر على فقد الحبيبة زينب وللرفيقة أم كلثوم وللأنيسة المؤنسة فاطمة، تلك الأخوة التي تنطبق عليها أحاديث كثيرة منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (صحيح البخاري [13])، وقوله «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا» (صحيح البخاري [6026])، وينطبق عليها قول الله عز وجل في الحديث القدسي «حقت محبتي للذين يتحابون من أجلي وحقت محبتي للذين يتزاورون من أجلي، وحقت محبتي للذين يتناصرون من أجلي»، ها هي رقية اليوم تعيش هذه المعاني العظيمة وهي راكدة في فراشها إثر مرض ألم بها، فقضت على إثرها جنينها البكر وهاهن أخواتها في الله يطفن حولها متفقدات راعيات معينات الأخوة في الله. إخوتي الكرام: شيء عظيم وهي أن يحب المرء أخاه في الإسلام في ذات الله تعالى، فلا يهدف من وراء هذا الحب الحصول على جاه أو مال أو رفعة لا ينوي التزلف والتملق والوصول إلى منفعة، بل الهدف من هذا الحق إلهي، أنت مقصودي ورضاك مطلوبي، تتساءلون كيف يكون ذاك الحب في ذات الله وفي سبيله؟! أقول من أولى واجبات الأخوة في الله تعالى: أن يبذل الأخ في الله جهده لمعونة أخيه ماديًا وجسديًا ومعنويًا بحسب ما يستطيع، طبعًا علامة هذا الحب الأخوي الصادق أنه لا يزيد بالبر ولا ينقص بالجفاء، لأنه حب خالص لوجه الله تعالى، قد يندهش البعض ويتساءلون أين هم الأخوة في الله تعالى اليوم؟! لا نرى فيمن حولنا إلا أناس لا تهمهم إلا مصالحهم الشخصية بالدرجة الأولى، على مثل المبدأ القائل: أنا ومن بعدي الطوفان، لعلنا بتنا نفتقد هذه المعاني السامية وللأسف نحتاج لأن نعمل اليوم على إحياءها وزرعها وزرع هذه المفاهيم الصحيحة في القلوب والنفوس من جديد. نعد إلى رقية رضي الله عنها لنراها بعد مدة يسيرة من إجهاضها وقد أكرمه الله تعالى بغلام أسمته "عبد الله" وجدت في تربيته ومحبته سلوى لها عما تلاقيه من مشاق الغربة ومصاعبها، ذات يوم دخل عثمان على زوجته رقية فرحًا مسرورًا وهو يقول: أبشري أم عبد الله فقد جاء الفرج، لقد أسلمت قريش وآمنت بأبيكي "محمد بن عبد الله"، صاحت رقية وآفرحتاه هيا هيا يا أبا عبد الله لنعد إلى مكة الحبيبة، إثر هذا الخبر الذي وصل المسلمين المهاجرين في الحبشة انقسموا إلى فريقين: أحدهما: يرى أن لا جدوى إذن من البقاء في الحبشة مادام الإسلام قد انتشر في مكة. أما الفريق الثاني: فقد آثر الانتظار ريثما يتحقق من هذا الخبر. كان عثمان وزوجته رقية ضمن الفريق الأول الذين شدوا الرحال قافلين إلى الديار، وعددهم كان قرابة الـ30 رجلًا وامرأة طارت فرحة القوم عندما وصلوا إلى مشارف مكة وصك سمعهم كذب تلك الأخبار التي وصلتهم هناك في الحبشة، فأهل مكة مازالوا على ما هم عليه من الشرك والكفر، أسرعت رقية الخطى فهي في شوق للقاء الأحبة، دلفت منزل أبيها وقد جلل بكاء الفرح وجهها النضر ها هو والدها يضمها إلى صدره فرحًا مسرورًا، أرعت زينب وأم كلثوم وفاطمة إليها مهللات مقبلات ومعانقات، تلفتت رقية هنا وهناك لماذا لم تهرع أمها لاستقبالها؟!، سألت إخوتها: أين أمي؟ لم يجبنها بشيء نادت بصوت مرتج: أمي، أمي، نظرت إلى من حولها وقد وقفوا صامتين يحاولون كبت دموعهم فأدركت ماذا حدث، كم عانى المسلمون الأوائل حتى وصل إلينا هذا الدين العظيم ذهبت رقية إلى الحجون حيث قبر الحبيبة، وهناك وقفت تذرف الدموع على أغلى الغوالي أمها "خديجة بنت خويلد" ولكن قدر الله وما شاء فعل، إنا لله وإنا إليه راجعون. ثلاث سنوات وربما أقل أمضتها رقية في مكة بصحبة زوجها "عثمان بن عفان" وولدها عبد الله بين عائلتها وأحبابها وأخواتها في الله، عندما جاء الإذن الإلهي للصحابة بالهجرة إلى يثرب شدت الرحال إليها مع زوجها وولدها بعد سنة ونصف من وصول رقية إلى يثرب أصابتها حمى فقعدت طريحة الفراش، لما تجهز النبي صلى الله عليه وسلم لغزوة بدر الكبرى كان المرض قد أنهكها وتمكن منها فزارها والدها النبي قبل خروجه للغزوة، شعر بدنو أجلها فأخذته الرأفة والرحمة بها تمنى لو يبقى بجانبها يملي عينيه منها قبل أن تفارق الحياة، ولكنه دين الله يهون في سبيله كل شيء حتى الأولاد ريحانة الأكباد، قبل أن يغادر النبي صلى الله عليه وسلم بيت رقية نظر إليها نظرة وداع ثم همس في أذن زوجها "عثمان" يطلب إليه أن لا يرافقهم في تلك الغزوة وأن يبقى في جوار زوجته ليمرضها ويرعاها، أسابيع قليلة جاء بعدها "زيد بن ثابت" يبث لأهل المدينة بشرى الانتصار في غزوة بدر، لكنه فوجئ بيثرب واجمة حزينة فبنت رسول الله رقية توارى مثواها الأخير. الآن تمازجت الأخبار، اختلطت المشاعر، أفراح وأحزان في لحظة واحدة فالله في خلقه شؤون، عندما عاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان من أوائل ما فعله زيارة قبر ابنته الحبيبة رقية، هناك أمام القبر الذي ضم رفات الابنة الحبيبة وقف النبي صلى الله عليه وسلم وقد طافت في خياله ذكريات الأحبة الذين سبقوها إلى دار البقاء(خديجة ، القاسم، عبد الله) تلفت عليه الصلاة والسلام فإذا بابنته فاطمة تبكي بجوار قبر أختها بصمت وألم فمسح عليه الصلاة والسلام دموعها بطرف ثوبه. أما "عبد الله بن رقية" رضي الله عنها فقد اختلفت الروايات بشأنه ورد في بعضها أنه توفى بعد وفاة أمه بمدة يسيرة إثر نقرة ديك في وجهه، وأن عمره كان في ذلك الوقت 6 سنوات، فحزن عليه أبوه عثمان وأيضًا حزن عليه جده صلى الله عليه وسلم وصلى عليه النبي ونزل أبوه في قبره فوسده التراب، بينما تؤكد روايات أخرى أنه توفى في حياة أمه وأنها أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تخبره بأن ابنها يفارق الحياة، فلما أتاها ورفع إليه الصبي وقد بلغ روحه الحلقوم فاضت عينا النبي صلى الله عليه وسلم من الحزن، فقال له أحد أصحابه متعجبًا: ماهذا يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم «هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده وإنما يرحم الله من عباده الرحماء» (صحيح مسلم[923])، نعم والله فإن العين لتدمع وإن القلب ليحزن على فراق الأحبة ولكن إنا لله وإنا إليه راجعون. صبر النبي صلى الله عليه وسلم على فراق رقية وولدها فالله ما أعطى وله ما أخذ، وكذلك فعل عثمان الزوج المحب والأب الثاكل، ولكن شهور معدودة فقط عوض الله عثمان خيرًا عما فقده بما جعل المسلمين يلقبونه بذي النورين إلى يوم القيامة، أتدرون ما قصة هذا اللقب؟ تبدأ القصة منذ أن عرض عمر بن الخطاب ابنته حفصة على صديقيه الحميمين أبي بكر وعثمان أن يتزوج أحدهما ابنته حفصة بعد أن توفى زوجها كنيس إثر إصابته بجراحات في غزوة بدر، أما أبو بكر فاستمهله أيامًا ولم يجبه، وأما عثمان فقال: ما أريد أن أتزوج الآن، فوجئ عمر بهذه الردود فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وشكا إليه صاحبيه فابتسم صلى الله عليه وسلم وقال له: «يتزوج حفصة من هو خير من عثمان ويتزوج عثمان من هو خير من حفصة» (الإصابة[4/273])، سمعت أم كلثوم أباها وهو يقول لعمر هذا الكلام وكانت ما تزال لم تتزوج منذ أن طلقها عتيبة بن أبي لهب قبل 16 عامًا، ربما تساءلت في نفسها من هي التي يقول عنها النبي إنها خير من حفصة وسيتزوجها عثمان أتراه يقصدها؟! الله أعلم إن كان يقصدها فسيفاتحها بالموضوع، فلم الاستعجال! عادت بها الذكرى إلى اليوم الذي خطبها فيه ابن عمها عتيبة بن أبي لهب، عقدت المقارنة بين شعور الكآبة الذي خالطها بين ذاك وبين شعور السرور الذي تشعر به الآن، فمن خير من عثمان؟ من هو خير منه في الخلق والنسب والدين؟!، كانت تراه وهو يتعامل مع أختها رقية بأحسن ما تكون به المعاملة بين زوجين، وافقت أم كلثوم وزفت لبيت عثمان في السنة الثالثة للهجرة وعاشت معه قرابة ست سنوات، شهدت فيها انتصار الإسلام ورأت أباها يخوض الغزوة تلو الغزوة في سبيل الله يصبحه زوجها مؤيدًا وناصرًا وعضدًا، كان عثمان رجلًا غنيًا سخر ماله كله في خدمة دين الله. عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين من يشتري بئر رومة، وكانت ليهودي يمنع عن المسلمين مائها إلا بالمال، قال عثمان: أنا يا رسول الله، فاشتراها ووهب المسلمين مائها لوجه الله تعالى. وعندما قال صلى الله عليه وسلم: من يزيد في مسجدنا؟ قال عثمان: أنا يا رسول الله فاشتر الموضع الذي بجانب المسجد فزاده فيه، ولقد جهز عثمان جيش العسرة بـ950 بعيرًا و50 فرسًا، كانت أم كلثوم في كل ذلك تشجعه وتؤيده وتثبته وتدعمه، إلا أن سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «اللهم إني بت راضيًا عن عثمان فارض عنه» (الإصابة[2/339]). وشاءت أقدار الله أن تفارق أم كلثوم الحياة في السنة التاسعة للهجرة، عن غير من رحمته تعالى بها أنها لم تشهد وفاة أبيها بعدها بعام واحد، ولم تشهد استشهاد زوجها بعد ذلك بنحو ربع قرن، بل ماتت قبل الأب الوالد والزوج المؤنس، ماتت وترك موتها في قلب أبيها وزوجها حزنًا لا يندمل أثره، يقول أنس بن مالك: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم واقف على قبرها وعيناه تدمعان". نعم، فالبكاء كما قلنا على فراق الأحبة رحمة طالما أنه كان في حدود الشرع ليس في ضرب للخد ولا شق للجيب ولا اعتراض على قدر الله. صلى الله على معلم الناس الخير فهو قدوة لنا في السراء والضراء، في البلاء والرخاء، في العسر واليسر. لينا الحمصي.