مثالان متباينان لرجل من أبناء الدنيا تبعها حتى قتلته، ورجل من أبناء الآخرة اشتراها حتى صار ذكره وذكر مناقبه شفاء لقلوب المؤمنين.. قارون أحد أبناء الدنيا المشاهير: قال الله تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ . وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ . قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ . فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ . وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ . فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ . وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ . تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:76-83]. قال ابن كثير رحمه الله في تفسيرها: قال الأعمش: عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: "كان قارون ابن عم موسى" (ص:202)، وكذا قال إبراهيم النخعي، وعبد الله بن الحارث بن نوفل، وسماك بن حرب، وقتادة، ومالك بن دينار، وابن جريج، وزاد فقال: "هو قارون بن يصهر بن قاهث، وموسى بن عمران بن قاهث"، قال ابن جريج: "وهذا قول أكثر أهل العلم; أنه كان ابن عم موسى"، ورد قول ابن إسحاق: "إنه كان عم موسى"، قال قتادة: "وكان يسمى المنور; لحسن صوته بالتوراة ولكن عدو الله نافق، كما نافق السامري، فأهلكه البغي لكثرة ماله".، وقال شهر بن حوشب: "زاد في ثيابه شبرا طولا; ترفعا على قومه". وقد ذكر الله تعالى كثرة كنوزه; حتى إن مفاتيحه كان يثقل حملها على الفئام من الرجال الشداد، وقد قيل: "إنها كانت من الجلود، وإنها كانت تحمل على ستين بغلا"، فالله أعلم. وقد وعظه النصحاء من قومه; قائلين: {لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} أي: لا تبطر بما أعطيت، وتفخر على غيرك، {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ}، يقولون: "لتكن همتك مصروفة لتحصيل ثواب الله في الدار الآخرة، فإنه خير وأبقى، ومع هذا {لَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} أي: وتناول منها بمالك ما أحل الله لك، فتمتع لنفسك بالملاذ الطيبة الحلال، {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ}، أي: وأحسن إلى خلق الله كما أحسن الله خالقهم وبارئهم إليك، {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} أي: ولا تسئ إليهم، ولا تفسد فيهم فتقابلهم ضد ما أمرت فيهم، فيعاقبك ويسلبك ما وهبك، إن الله لا يحب المفسدين (ص:203). فما كان جوابه قومه لهذه النصيحة الصحيحة الفصيحة إلا أن قال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} يعني: أنا لا أحتاج إلى استعمال ما ذكرتم ولا إلى ما إليه أشرتم; فإن الله إنما أعطاني هذا لعلمه أني أستحقه، وأني أهل له ولولا أني حبيب إليه، وحظي عنده لما أعطاني ما أعطاني، قال الله تعالى ردا عليه ما ذهب إليه: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} أي: قد أهلكنا من الأمم الماضين بذنوبهم وخطاياهم من هو أشد من قارون قوة وأكثر أموالا وأولادا، فلو كان ما قال صحيحا لم نعاقب أحدا ممن كان أكثر مالا منه، ولم يكن ماله دليلا على محبتنا له، واعتنائنا به، كما قال تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [سبأ:37]. وقال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ . نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:55-56]. وهذا الرد عليه يدل على صحة ما ذهبنا إليه من معنى قوله: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}. وأما من زعم أن المراد من ذلك، أنه كان يعرف صنعة الكيمياء، أو أنه كان يحفظ الاسم الأعظم، فاستعمله في جمع الأموال، فليس بصحيح (ص:204)، لأن الكيمياء تخييل وصبغة لا تحيل الحقائق، ولا تشابه صنعة الخالق، والاسم الأعظم لا يصعد الدعاء به من كافر به، وقارون كان كافرا في الباطن، منافقا في الظاهر، ثم لا يصح جوابه لهم بهذا على هذا التقدير، ولا يبقى بين الكلامين تلازم، وقد وضحنا هذا في كتابنا (التفسير)، ولله الحمد. قال الله تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ}، ذكر كثير من المفسرين أنه خرج في تجمل عظيم; من ملابس ومراكب، وخدم وحشم، فلما رآه من يعظم زهرة الحياة الدنيا، تمنوا أن لو كانوا مثله، وغبطوه بما عليه وله، فلما سمع مقالتهم العلماء ذوو الفهم الصحيح، الزهاد الألباء، قالوا لهم: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} أي: ثواب الله في الدار الآخرة خير وأبقى، وأجل وأعلى، قال الله تعالى: {وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} أي: وما يلقى هذه النصيحة وهذه المقالة، وهذه الهمة السامية إلى الدار الآخرة العلية، عند النظر إلى زهرة هذه الدنيا الدنية، إلا من هدى الله قلبه، وثبت فؤاده وأيد لبه، وحقق مراده، وما أحسن ما قال بعض السلف: إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، والعقل الكامل عند حلول الشهوات. قال الله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} (ص:205)، لما ذكر تعالى خروجه في زينته، واختياله فيها، وفخره على قومه بها، قال: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ}، كما روى البخاري من حديث الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «بينا رجل يجر إزاره، إذ خسف به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة» (ثم رواه البخاري من حديث جرير بن زيد، عن سالم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه). وقد ذكر عن ابن عباس، والسدي: "أن قارون أعطى امرأة بغيا مالا، على أن تقول لموسى عليه السلام وهو في ملأ من الناس: إنك فعلت بي كذا وكذا"، فيقال: "إنها قالت له ذلك فأرعد من الفرق وصلى ركعتين، ثم أقبل عليها فاستحلفها من دلك على ذلك، وما حملك عليه؟ فذكرت أن قارون هو الذي حملها على ذلك، واستغفرت الله، وتابت إليه، فعند ذلك خر موسى لله ساجدا، ودعا الله على قارون، فأوحى الله إليه: إني قد أمرت الأرض أن تطيعك فيه، فأمر موسى الأرض أن تبتلعه وداره، فكان ذلك"، فالله أعلم. وقد قيل: "إن قارون لما خرج على قومه في زينته مر بجحفله وبغاله، وملابسه على مجلس موسى عليه السلام، وهو يذكر قومه بأيام الله، فلما رآه الناس انصرفت وجوه كثير من الناس ينظرون إليه، فدعاه موسى عليه السلام (ص:206). فقال له: "ما حملك على هذا؟ فقال يا موسى، أما لئن كنت فضلت علي بالنبوة، فلقد فضلت عليك بالمال، ولئن شئت لتخرجن فلتدعون علي، ولأدعون عليك، فخرج وخرج قارون في قومه، فقال له موسى تدعو أو أدعو؟ قال: أدعو أنا، فدعا قارون، فلم يجب في موسى، فقال موسى: أدعو؟ قال: نعم. فقال موسى: اللهم مر الأرض فلتطعني اليوم. فأوحى الله إليه: إني قد فعلت، فقال موسى: يا أرض خذيهم. فأخذتهم إلى أقدامهم، ثم قال خذيهم. فأخذتهم إلى ركبهم، ثم إلى مناكبهم، ثم قال: أقبلي بكنوزهم وأموالهم. فأقبلت بها، حتى نظروا إليها ثم أشار موسى بيده، فقال: اذهبوا بني لاوي. فاستوت بهم الأرض". وقد روي عن قتادة أنه قال: "يخسف بهم كل يوم قامة إلى يوم القيامة"، وعن ابن عباس أنه قال: "خسف بهم إلى الأرض السابعة"، وقد ذكر كثير من المفسرين: "ها هنا إسرائيليات كثيرة، أضربنا عنها صفحا وتركناها قصدا". وقوله تعالى: {فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ}، لم يكن له ناصر من نفسه ولا من غيره، كما قال: {فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ} [الطارق:10]، ولما حل به ما حل من الخسف وذهاب الأموال، وخراب الدار وهلاك النفس والأهل والعقار، ندم من كان تمنى مثل ما أوتي، وشكروا الله تعالى الذي يدبر عباده بما يشاء من حسن التدبير المخزون، ولهذا قالوا: {لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [ص:207] وقد تكلمنا على لفظ: (ويك) في التفسير، وقد قال قتادة: "ويكأن بمعنى ألم تر أن"، وهذا قول حسن من حيث المعنى والله أعلم، ثم أخبر تعالى تلك الدار الآخرة وهي دار القرار، وهي الدار التي يغبط من أعطيها، ويعزى من حرمها، إنما هي معدة للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا، فالعلو هو التكبر والفخر والأشر والبطر، والفساد هو عمل المعاصي اللازمة والمتعدية من أخذ أموال الناس، وإفساد معايشهم، والإساءة إليهم، وعدم النصح لهم، ثم قال تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (أهـ. من تفسير ابن كثير). عمر بن عبد العزيز أحد أبناء الآخرة: قال: أبو داود الطيالسي: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، ثنا عبد الله بن دينار، قال: قال ابن عمر: "يا عجبا! يزعم الناس أن الدنيا لا تنقضي حتى يلي رجل من آل عمر يعمل بمثل عمل عمر، قال: فكانوا يرونه بلال بن عبد الله بن عمر قال: وكان بوجهه أثر، فلم يكن هو، وإذا هو عمر بن عبد العزيز وأمه ابنة عاصم بن عمر بن الخطاب"، وقال البيهقي: أنبأ الحاكم، أنا أبو حامد أحمد بن علي المقري، ثنا أبو عيسى الترمذي، ثنا أحمد بن إبراهيم، ثنا عفان بن مسلم، ثنا عثمان بن عبد الحميد بن لاحق، عن جويرية بن أسماء، عن نافع، قال: "بلغنا أن عمر بن الخطاب قال: إن من ولدي رجلا بوجهه شين يلي، فيملأ الأرض عدلا"، قال نافع من قبله: "ولا أحسبه إلا عمر بن عبد العزيز". ورواه مبارك بن فضالة، عن عبيد الله، عن نافع، قال: "كان ابن عمر يقول: ليت شعري، من هذا الذي من ولد عمر في وجهه علامة يملأ الأرض عدلا؟"، وقال: وهيب بن الورد: "بينما أنا نائم، رأيت كأن رجلا دخل من باب بني شيبة، وهو يقول: "يا أيها الناس، ولي عليكم كتاب الله (ص:687). فقلت: من؟ فأشار إلى ظهره، فإذا مكتوب عليه: ع م ر. قال: فجاءت بيعة عمر بن عبد العزيز" وقال بقية عن عيسى بن أبي رزين، حدثني الخزاعي، عن عمر بن عبد العزيز أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في روضة خضراء، فقال له: "إنك ستلي أمر أمتي فزع عن الدم، فإن اسمك في الناس عمر بن عبد العزيز واسمك عند الله جابر". وقد ذكرنا في ترجمة سليمان بن عبد الملك: "أنه لما حضرته الوفاة عزم أن يكتب العهد باسم أحد أولاده، فما زال به وزيره الصادق رجاء بن حيوة حتى صرفه عن ذلك، وأشار عليه أن يجعل الأمر من بعده لأصلح الناس لهم، فألهم الله الخليفة رشده، فعين لها ابن عمه عمر بن عبد العزيز فجود رأيه رجاء بن حيوة وصوبه، فكتب سليمان العهد في صحيفة وختمها، ولم يشعر بذلك عمر ولا أحد من بني مروان سوى سليمان ورجاء، ثم أمر صاحب الشرطة بإحضار الأمراء، ورءوس الناس من بني مروان وغيرهم، فبايعوا سليمان على ما في الصحيفة المختومة، ثم انصرفوا، ثم لما مات الخليفة استدعاهم رجاء بن حيوة فبايعوا ثانية، قبل أن يعلموا موت الخليفة، ثم فتحها فقرأها عليهم، فإذا فيها البيعة لعمر بن عبد العزيز، فأخذوه فأجلسوه على المنبر وبايعوه، فانعقدت له البيعة"، ثم قال: "ما شاء الله لا قوة إلا بالله، قدموا إلي بغلتي، ثم أمر ببيع تلك المراكب الخليفية في من يريد، وكانت من الخيول الجياد المثمنة، فباعها وجعل أثمانها في بيت المال". قالوا: "فلما رجع من الجنازة، وقد بايعه الناس، واستقرت الخلافة باسمه، انقلب وهو مغتم مهموم، فقال له مولاه: ما لك هكذا مغتما مهموما، وليس هذا بوقت هذا؟ فقال: ويحك! وما لي لا أغتم، وليس أحد من أهل المشارق والمغارب من هذه الأمة إلا وهو يطالبني بحقه أن أؤديه إليه، كتب إلي في ذلك أو لم يكتب، طلبه مني أو لم يطلب"، قالوا: "ثم إنه خير امرأته فاطمة بين أن تقيم معه على أنه لا فراغ له إليها، وبين أن تلحق بأهلها، فبكت وبكى جواريها لبكائها، فسمعت ضجة في داره، ثم اختارت مقامها معه على كل حال، -رحمها الله-". وقال له رجل: "تفرغ لنا يا أمير المؤمنين"، فأنشأ يقول: قد جاء شغل شاغل *** وعدلت عن طرق السلامة ذهب الفراغ فلا فراغ *** لنا إلى يوم القيامه (ص:691)، وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن سلام، عن سلام بن سليم، قال: "لما ولي عمر بن عبد العزيز صعد المنبر، وكان أول خطبة خطبها حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس! من صحبنا فليصحبنا بخمس، وإلا فليفارقنا ; يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها، ويعيننا على الخير بجهده، ويدلنا من الخير على ما لا نهتدي إليه، ولا يغتابن عندنا الرعية، ولا يعرضن فيما لا يعنيه، فانقشع عنه الشعراء والخطباء، وثبت معه الفقهاء والزهاد، وقالوا: ما يسعنا أن نفارق هذا الرجل حتى يخالف فعله قوله"، وقال سفيان بن عيينة: "لما ولي عمر بن عبد العزيز بعث إلى محمد بن كعب، ورجاء بن حيوة، وسالم بن عبد الله، فقال لهم: قد ترون ما ابتليت به وما قد نزل بي، فما عندكم؟" فقال محمد بن كعب: "اجعل الشيخ أبا، والشاب أخا، والصغير ولدا، فبر أباك، وصل أخاك، وتعطف على ولدك"، وقال رجاء: "ارض للناس ما ترضى لنفسك، وما كرهت أن يؤتى إليك فلا تأته إليهم، واعلم أنك أول خليفة تموت"، وقال سالم: "اجعل الأمر يوما واحدا صم فيه عن شهوات الدنيا، واجعل آخر فطرك فيه الموت، فكأن قد". فقال عمر: "لا حول ولا قوة إلا بالله". (ص:692) وقال غيره: "خطب عمر بن عبد العزيز يوما الناس فقال وقد خنقته العبرة: أيها الناس، أصلحوا آخرتكم تصلح لكم دنياكم، وأصلحوا سرائركم تصلح لكم علانيتكم، والله إن عبدا ليس بينه وبين آدم أب إلا قد مات، إنه لمعرق له في الموت"، وقال في بعض خطبه: "كم من عامر مؤنق عما قليل يخرب، وكم من مقيم مغتبط عما قليل يظعن، فأحسنوا رحمكم الله من الدنيا الرحلة بأحسن ما بحضرتكم من النقلة، بينما ابن آدم في الدنيا ينافس فيها قرير العين قانعا، إذ دعاه الله بقدره ورماه بيوم حتفه، فسلبه آثاره ودنياه، وصير لقوم آخرين مصانعه ومغناه، إن الدنيا لا تسر بقدر ما تضر، تسر قليلا، وتحزن طويلا". قد روي: "أنه كان نقش خاتمه: لا إله إلا الله وحده لا شريك له"، وفي رواية: "آمنت بالله"، وفي رواية: "الوفاء عزيز"، وقد جمع يوما رءوس الناس فخطبهم، فقال: "إن فدك كانت بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم يضعها حيث أراه الله، ثم وليها أبو بكر وعمر كذلك"، قال الأصمعي: "وما أدري ما قال في عثمان"، قال: "ثم إن مروان أقطعها فحصل لي منها نصيب، ووهبني الوليد وسليمان نصيبهما، ولم يكن من مالي شيء أرد علي منها، وقد رددتها في بيت المال على ما كانت عليه في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فيئس الناس عند ذلك من المظالم (ص:695)، ثم أخذ أموال جماعة من بني أمية فردها إلى بيت المال وسماها أموال المظالم، فاستشفعوا إليه بالناس، وتوسلوا إليه بعمته فاطمة بنت مروان فلم ينجع فيه ولم يرده عن الحق شيء، وقال لهم: والله لتدعني، وإلا ذهبت إلى مكة فنزلت عن هذا الأمر لأحق الناس به. وقال: والله لو أقمت فيكم خمسين عاما ما أقمت فيكم ما أريد من العدل، وإني لأريد الأمر فما أنفذه إلا مع طمع من الدنيا حتى تسكن قلوبهم". وقد اجتهد رحمه الله في مدة ولايته مع قصرها حتى رد المظالم، وصرف إلى كل ذي حق حقه، وكان مناديه في كل يوم ينادي: "أين الغارمون؟ أين الناكحون؟ أين المساكين؟ أين اليتامى؟" حتى أغنى كلا من هؤلاء! وقد اختلف العلماء أيهما أفضل هو أو معاوية بن أبي سفيان؟ ففضل بعضهم عمر لسيرته ومعدلته وزهده وعبادته، وفضل آخرون معاوية لسابقته وصحبته، حتى قال بعضهم: "ليوم شهده معاوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من عمر بن عبد العزيز وأيامه، وأهل بيته". وذكر الحافظ ابن عساكر في (تاريخه): "أن عمر بن عبد العزيز كان يعجبه جارية من جواري زوجته فاطمة بنت عبد الملك، فكان يسألها إياها إما بيعا أو هبة، فكانت تأبى عليه ذلك، فلما ولي الخلافة ألبستها وطيبتها وأهدتها إليه (ص:697) ووهبتها له، فلما أخلتها به أعرض عنها، فتعرضت له فصدف عنها، فقالت له: يا سيدي، فأين ما كان يظهر لي من محبتك إياي؟ فقال: والله إن محبتك لباقية كما هي، ولكن لا حاجة لي في النساء، فقد جاءني أمر شغلني عنك، وعن غيرك، ثم سألها عن أصلها، ومن أين جلبوها، فقالت: يا أمير المؤمنين إن أبي أصاب جناية ببلاد المغرب، فصادره موسى بن نصير فأخذت في الجناية، وبعث بي إلى الوليد فوهبني الوليد لأخته فاطمة زوجتك، فأهدتني إليك، فقال عمر: إنا لله وإنا إليه راجعون، كدنا والله نفتضح ونهلك، ثم أمر بردها مكرمة إلى بلادها وأهلها". وقال إسماعيل بن عياش، عن عمرو بن مهاجر، قال: "لما استخلف عمر بن عبد العزيز قام في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنه لا كتاب بعد القرآن، ولا نبي بعد محمد عليه السلام، وإني لست بقاض ولكني منفذ، وإني لست بمبتدع ولكني متبع، إن الرجل الهارب من الإمام الظالم ليس بظالم، ألا إن الإمام الظالم هو العاصي، ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق عز وجل (ص:693)، وفي رواية أنه قال فيها: "وإني لست بخير من أحد منكم ولكني أثقلكم حملا، ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الله، ألا هل أسمعت؟". وقالت زوجته فاطمة: "دخلت يوما عليه وهو جالس في مصلاه واضعا خده على يده، ودموعه تسيل على خديه، فقلت: ما لك؟ فقال: ويحك يا فاطمة، إني قد وليت من أمر هذه الأمة ما وليت، فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهود، واليتيم المكسور، والأرملة الوحيدة، والمظلوم المقهور، والغريب، والأسير، والشيخ الكبير، وذي العيال الكثير والمال القليل، وأشباههم في أقطار الأرض وأطراف البلاد، فعلمت أن ربي عز وجل سيسألني عنهم يوم القيامة، وأن خصمي دونهم محمد صلى الله عليه وسلم، فخشيت أن لا يثبت لي حجة عند خصومته، فرحمت نفسي فبكيت". وقال ميمون بن مهران: "ولاني عمر بن عبد العزيز عمالة، ثم قال لي: إذا جاءك كتاب مني على غير الحق فاضرب به الأرض"، وكتب إلى بعض عماله: "إذا دعتك قدرتك على الناس إلى ظلمهم، فاذكر قدرة الله عليك، ونفاد ما تأتي إليهم، وبقاء ما يأتون إليك"، وقال عبد الرحمن بن مهدي، عن جرير بن حازم، عن عيسى بن عاصم، قال: "كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن عدي: إن للإسلام سننا وشرائع وفرائض، فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، فإن أعش أبينها لكم لتعملوا بها، وإن أمت فوالله ما أنا على صحبتكم بحريص" (وذكره البخاري في صحيحه تعليقا مجزوما به)، قال مالك بن دينار يقولون: "مالك زاهد. أي زهد عندي! إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز أتته الدنيا فاغرة فاها فتركها"، قالوا: "ولم يكن له سوى قميص واحد فكان إذا غسلوه جلس في المنزل حتى ييبس". قالوا: "ودخل على امرأته يوما فسألها أن تقرضه درهما أو فلوسا يشتري له بها عنبا (ص:700)، فلم يجد عندها شيئا، فقالت له: أنت أمير المؤمنين وليس في خزانتك ما تشتري به عنبا؟! فقال: هذا أيسر من معالجة الأغلال والأنكال غدا في نار جهنم!"، قال رجاء بن حيوة: "سمرت عند عمر بن عبد العزيز ذات ليلة فعشي السراج فقلت: ألا أنبه هذا الغلام يصلحه؟ فقال: لا، دعه ينام، فقلت: أفلا أقوم أصلحه؟ فقال: لا، ليس من مروءة الرجل استخدام ضيفه، ثم قام بنفسه فأصلحه وصب فيه زيتا، ثم جاء وقال: قمت وأنا عمر بن عبد العزيز وجئت وأنا عمر بن عبد العزيز"، وقال: "أكثروا ذكر النعم فإن ذكرها شكرها". وقال مقاتل بن حيان: "صليت وراء عمر بن عبد العزيز فقرأ: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات:24]، فجعل يكررها وما يستطيع أن يجاوزها"، وقالت امرأته فاطمة: "ما رأيت أحدا أكثر صلاة وصياما منه، ولا أحدا أشد فرقا من ربه منه، كان يصلي العشاء ثم يجلس يبكي حتى تغلبه عينه، ثم ينتبه فلا يزال يبكي حتى تغلبه عينه، قالت: ولقد كان يكون معي في الفراش فيذكر الشيء من أمر الآخرة، فينتفض كما ينتفض العصفور في الماء، ويجلس يبكي، فأطرح عليه اللحاف رحمة له، وأنا أقول: يا ليت كان بيننا وبين الخلافة بعد المشرقين، فوالله ما رأينا سرورا منذ دخلنا فيها". وفاته رحمه الله: قال ابن كثير: "لما احتضر قال: أجلسوني. فأجلسوه، فقال: إلهي، أنا الذي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت ثلاثا، ولكن لا إله إلا الله، ثم رفع رأسه فأحد النظر، فقالوا: إنك لتنظر نظرا شديدا يا أمير المؤمنين، فقال: إني لأرى حضرة ما هم بإنس ولا جان، ثم قبض من ساعته". وفي رواية: "أنه قال لأهله: اخرجوا عني، فخرجوا وجلس على الباب مسلمة بن عبد الملك وأخته فاطمة، فسمعوه يقول: مرحبا بهذه الوجوه التي ليست بوجوه إنس ولا جان، ثم قرأ: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]، ثم هدأ الصوت، فدخلوا عليه فوجدوه قد غمض، وسوي إلى القبلة، وقبض". المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام