أتى أعرابيٌ إلى عمر بن الخطاب فقال: يا عمر الخير ُجزيت الجنه, ُأكْسُ بُنيَاتِى وأُمَهُنَّ, وكُن لنا من الزمان جُنَّه, ُأقسم بالله لتَفعَلنَّ, فقال عمر: إن لم أفعل يكون ماذا؟ قال الأعرابى: إذاً أبا حفصٍ لأذهبنَّ, قال عمر: وإن ذهبت يكون ماذا؟ فقال الرجل: والله عن حالى لتُسئَلَنَّ يوم تكون الأُعطِيَاتُ مِنًّا وموقف المسؤلِ بينهُنَّ إما إلى نارٍ وإما إلى جَنَّه, فبكى عمر حتى اخضَلَّت لحيته ثم قال يا غلام أعطِه قميصى هذا لذلك اليوم لا لشِعرِه, والله لا أملك غيره.
هكذا كانت حياة عمر بن الخطاب فى فترة خلافته, عنايةٌ بالأفراد دون ملل ورعاية للمجتمع الإسلامى دون كَلل لكن ذلك المجتمع كانت قد ترامت أطرافه واتسعت رُقعته, وكان من الصعوبة أن ُيدار من قبل شخص واحد مهما كان نشيطاً وملما بمرافق الحياة.
كان أول ما فعله عمر أن فَصَل القضاء عن الولاية فجعل بجانب الوالى قاضياً ينظر فى أمور القضاء وقد يجمع لبعض القضاة التعليم أو القيام بشئون بيت المال إلى جانب عمل القضاء وقد نَفَّذَ هذه الخُطة فى الولايات الجديدة التى فُتحت فى عهده فى العراق وبلاد الشام ومصر, ولعل سبب ذلك ما تمتاز به تلك الأمصار من كثافة السكان من أهل تلك البلدان بالإضافة إلى المسلمين الفاتحين وما ينتج عن ذلك من كثرة القضايا والمشكلات وثِقل القيام بأعمال الولاية على الوالى
وقد فرض عمر لكل قاضٍ راتباً منتظماً من بيت مال المسلمين يعينه على أداء مهمته ويضمن استمرار مصلحته للأمة.
ويبدو أن كثرة موارد الدولة المالية بعد استقرار الفتوح دفعت عمر إلى تغيير سياسته فوافق على وضع دِيوانٍ تُحفظ فيه أسماء المسلمين ويُعطَون المال على ذلك بشكل منتظم,
فقد ورد أن أبا هريرة قدم على عمر بمالٍ من البحرين فقال له عمر ماذا جئت به فقال: خمسمائةِ ألفِ درهم, فاستكثره عمر فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال ( أيها الناس قد جاءنا مالٌ كثير فإن شئتم كِلْنا لكم كَيْلا وإن شئتم عدَدنا لكم عَدَّا ) فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين قد رأيت الأعاجم يدونون ديواناً لهم فدون أنت لنا ديوانا, فاستحسنه عمر.
ولما أراد عمر وضع الديوان قال له على وعبد الرحمن بن عوف ابدأ بنفسك , قال: لا, بل ابدأ بعم رسول الله ثم الأقرب فالأقرب ففرض للعباس وبدأ به.
ولما كان عمر حريص على أن يقف على دقائق الأمور فى تصرف ولاته وما كان يجرى فى كل ولاية, اختار رجلاً من خيرةِ رجاله قوةً وتقوى وأمانةً وسناً وتجربة, هو محمد بن مَسْلَمة الأنصارى ليكون مُراقبه الخاص على العمال وأعمالهم والنظر فى الشكاوى المرفوعة لهم,
وكان عمر يجمع عماله بمكة فى موسم الحج من كل عام ويسألهم عن أعمالهم ويسأل الناس عنهم ليرى مدى دقتهم فى الإضطلاع بواجبهم, وكان يغتَبِط حين يرى عماله يتجردون لخير الرعيه ويثنى عليهم لذلك ثناء عظيما.
إن عمر رضي الله عنه لم يستأثر الأمر لنفسه مع كونه مُحدَّثَا, بل اتخذ المشورة منهجاً له فى حكمه وإدارته لشئون المسلمين عملاً بقوله تعالى وشاورهم فى الأمر واتباعاً لهدى النبى ولذلك فقد اتخذ لنفسه ثلاثةَ مجالس للشورى
فالمجلس الأول هو للمهاجرين خاصة لبِنَةِ الإسلام الأولى, وكان عمر يعرض فى هذا المجلس الأخبار اليوميه التى كانت تصل إليه من الأقاليم والمراكز ويأخذ رأيهم فيها,
والمجلس الثانى هو لكبار الصحابة من المهاجرين والأنصار من ذوى الخبرة والتجربة فكانوا يزَوِدُون الخليفة بالنصيحة ويتناقشون معه فى القضايا المهمة,
والمجلس الثالث هو لعامة المسلمين من المهاجرين والأنصار وزعماء البدو الوافدين على المدينة فإذا أراد عمر أخذ رأى عامة الناس نادى بالصلاة جامعه فيجتمعون فى المسجد ويأتى عمر فيُلقى خطبة ثم يُقدم القضية التى تحتاج إلى النقاش والبحث.
هكذا كانت سيرة الفاروق عمر بن الخطاب علم وعمل, مسؤلية وعدل لا تأخذه فى الحق لومة لائم.
حج عمر آخر حجة له عام ثلاثٍ وعشرين للهجرة, فلما نفَر من منى أنَاخَ بالأبْطَح وهناك رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم كبٌرت سنى وضعفت قوتى وانتشرت رعيتى فاقبضنى إليك غير مُضَّيِع ولا مُفَّرِط,
وسمعته ابنته أم المؤمنين حفصة رضى الله عنها يدعوا ذات يوم قائلا: اللهم ارزقنى شهادة فى سبيلك ووفاة فى بلد نبيك فقالت: وأنَّا ذلك, قال عمر: إن الله يأتى بأمره أنَّا شاء.
وكان من سياسته رضي الله عنه أنه لا يَأذن للسَبى من الأقطار المفتوحة بدخول المدينة عاصمة دولة الخلافة إلا إذا أسلموا ودخلوا فى هذا الدين, وهذا الموقف السياسي يدل على حكمته وبُعد نظره لأن هؤلاء القوم المغلوبين المنهزمين حاقدون على الإسلام مبغضون له مهيَئون للتآمر والكيد ضد الإسلام والمسلمين
ولكن بعض الصحابة كان لهم عبيدٌ ورقيقٌ من هؤلاء السَبَايَا النصارى أو المجوس وكان بعضهم يٌلِحُ على عمر أن يأذن لبعض عبيده ورقيقه من هؤلاء المغلوبين بالإقامة فى المدينة ليستعين بهم فى أموره وأعماله
ومن هؤلاء المغيرةُ بن شعبة رضي الله عنه حيث كتب إليه يستأذنه فى دخول عبد له إلى المدينة يدعى فيروز النهاوندى وكُنيته أبو لؤلؤة المجوسي ويقول إن عنده أعمالاً تنفع الناس إنه حدادٌ نقاشٌ نجار فأذن له عمر على كُرهٍ منه ووقع ما توقعه عمر.
ففى فجر يوم الأربعاء قبل نهاية شهر ذى الحجة بأربعة أيام كَمَنَ أبو لؤلؤة فى المسجد ومعه سكينٌ ذات طرفين مسمومة فوقف عمر يُعَدِلُ الصفوف للصلاة فلما كبَّر يصلى بالناس طعنه العبد فى كَتِفه وفى خاصِرَتِه فسقط عمر وهو يقول: وكان أمر الله قدراً مقدورا.
ثم أخذ العبد فى الهرب لا يمر على أحد يميناً ولا شمالاً إلا طعنه حتى طَعَن ثلاثةَ عشر رجلا مات منهم سبعه, فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه ردائه فلما ظن العِلجُ أنه مأخوذ نَحر نفسه,
وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدَّمه للصلاة بالناس فصلى بهم صلاة خفيفه وحُمل عمر إلى بيته وقد غلبه النَزْف حتى غُشي عليه, فلما أسْفَرَ الصبح استيقظ فقال: أصلى الناس , قالوا له: نعم, فقال: لا إسلام لمن ترك الصلاة, ثم توضأ وصلى واستند إلى ابنه عبد الله وجُرحُه يثْغُبُ دما, فجاء الطبيب فسقى عمر نَبيذا فخرج من جُرحه ثم سقاه لبنا فخرج من جرحه فعرف أنه الموت.
ولما علم عمر أن الذى قتله عبد مجوسي قال: الحمد لله الذي لم يجعل قاتلى يحاجُّنى عند الله بسجدة سجدها قط.
جاء الناس يزورون عمر ويودعونه ويثنون عليه ويذكرون أعماله العظيمة فى الإسلام فكان يجيبهم بقوله: إن المغرورَ من تغرونه.
وجاءه شاب فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك فقال عمر: ودِدت أن ذلك كَفاف لا عَلىَّ ولا لِى.
فلما أدبر الشاب إذا إزاره يَمس الأرض فقال: ردوا على الغلام ثم قال له يا ابن أخى ارفع ثوبك فإنه ابقى لثوبك وأتقى لربك.
قال ابن مسعود رضي الله عنه يرحم الله عمر لم يمنعه ما كان فيه من قول الحق.
وقال بعضهم له: أوصى يا أمير المؤمنين واستخلف فقال: ما أرى أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر الذين توفى رسول الله وهو راضٍ عنهم فسمىٰ علياً وطلحة وعثمان والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبى وقاص وقال: ويشهد عبد الله ابن عمر وليس له من الأمر شئ ( كهيئة التعزية له ).
وأرسل عمر رضي الله عنه ابنه عبد الله إلى عائشة رضى الله عنها وقال: انطلق إلى عائشة أم المؤمنين فقل يقرأ عليك عمر السلام ولا تقل أمير المؤمنين فإنى لست اليوم للمؤمنين أميرا وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يُدفن مع صاحبيه, وإنما قال ذلك لأن لا تفهم عائشة أنه أمر, فسَلَّم عبد الله بن عمر واستأذن على عائشة فوجدها قاعدةً تبكى فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام ويستأذن أن يُدفن مع صاحبيه, فقالت: كنت أريده لنفسي ولأُثرنه به اليوم على نفسي,
فلما أقبل قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء فقال عمر: ارفعونى, ما لديك يا بنى؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين, لقد أذِنَتْ, قال: الحمد لله, ما كان شئ أهم إلى من ذلك فإذا أنا قَضيت فاحملونى ثم سَلِّم فقل: يستأذن عمر بن الخطاب, فإن أذنت لى فأدخلونى وإن ردتنى فردونى إلى مقابر المسلمين.
قال عثمان بن عفان رضي الله عنه أنا آخركم عهداً بعمر, دخلت عليه ورأسه فى حجر ابنه عبد الله فقال عمر لإبنه: ضع خدى على الأرض فقال ابنه: هل فخذى والأرض إلا سواء, فقال عمر: ضع خدى على الأرض لا أم لك, قال: فوضعته, فقال: ويلك عمر إن لم يغفر الله لك, ويلك عمر إن لم يغفر الله لك.
فلما مات قال على رضي الله عنه ما على الأرض أحد ألقى الله بصحيفته أحب إلى من هذا المُسَجَّىٰ بينكم.
وصلى عليه صُهيبٌ الرومى فى مسجد رسول الله ودُفن بجانب صاحبيه فى حجرة عائشة رضى الله عنها.
رضى الله عن ذلك الرجل , عمر , فهو أول خليفة دُعى بأمير المؤمنين, وأول من كتب التاريخ للمسلمين, وأول من جمع الناس على صلاة التراويح, وأول من طاف بالليل يتفقد أحوال المسلمين, حمل الدِرَّة ( عصا قصيرة ) فأدَّب بها, وفتح الفتوح, ووضع الخَراج , ومصَّرَ الأمصار, واستقضى القضاه , ودوَّن الدِيوان, وفرض الأُعطية, وحج بأمهات المؤمنين أزواج رسول الله فى آخر حجة حجها, فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرا.
oghtm ulv fk hgo'hf vqn hggi uki 6 çgî~çè îgçé RAn XlR
التعديل الأخير تم بواسطة احمد محمد حلمي ; 09-09-2021 الساعة 08:21 PM