الخلافة الراشدة:
تَوضَأ أبو موسي الأشعرى رضي الله عنه فى بيته ثم خرج وقال: لأَلزَمَنَّ رسول الله ولأَكُونَنَ معه يومى هذا, فجاءه وهو جالس على بئر (أَرِيِسْ) وقد كَشَفَ عن سَاقَيْه ودَلاَّهُمَا فى البئر فَسَلَّمَ عليه ثم انصرف وجلس عند الباب وقال: لأَكُونَنَ بَوَابَ رسول الله اليوم, فجاء رجل فاستَفتَح, فقال النبى لأبى موسى: افتح له وبَشِّرهُ بالجنه, ففتح له فإذا أبو بكر فبَشَّرَه بما قال النبى فحمِد الله ثم دخل وجلس عن يمين رسول الله ودَلَّىظ° رجليه فى البئر, ثم جاء رجلٌ فاستَفتَح, فقال النبى : افتح له وبَشِّرهُ بالجنه, ففتح له فإذا هو عمر, فأخبره أبو موسى بما قال النبى فحمد الله ثم دخل وجلس عن يسار رسول الله ودَلَّىظ° رجلَيْه فى البئر, ثم استفتح رجل, فقال النبى: افتح له وبَشِّره بالجنه على بَلْوىظ° تُصِيِبُه, ففتح له فإذا عثمان رضي الله عنه فأخبره بما قال رسول الله فحمد الله ثم قال: الله المستعان, ثم دخل وجلس مُقابِل النبى من الجانب الآخر من البئر, فَأُوِلَّت أماكنهم بأنها قُبُورُهم.
تدور الأيام دورَتَها وتمضى سنوات طِوال ثم يجئ أمير المؤمنين عثمان بن عفان إلى ذات البئر وقد مضى على خلافته ستُ سنوات فيجلس على حافَتِها وفى يده خاتم النبى ذلك الخاتم الذى كان فى يد النبى حتى وفاتِه ثم كان فى يد أبى بكر ثم فى يد عمر رضي الله عنه ثم صار فى يد عثمان .
نَزَعَ عثمان الخَاتَم من يده وجلس يتأمل فيه فسقط الخاتم من يده فى البئر ففزع عثمان وأخذ يبحث عنه والمسلمون معه واستمر البحث داخل البئر ثلاثةَ أيام حتى أنهم أخرجوا كل ماء البئر فلم يجدوا الخاتم, فتأثر عثمان والمسلمون لذلك وما ذاك إلا لعظيم قَدْرِ هذا الخاتم فى نفوسهم.
قال الإمامُ النووى رحمه الله: ومن حين سَقَطَ الخَاتَم اختلفت الكلمة بين المسلمين وكان الخاتم كالأمان لهم.
دَبَّت الفِتَن فى أرجاء الدولة الإسلامية المترامية الأطراف ولعل من أسباب ذلك حِلْمُ عثمان وَلِينُ جَانِبِه, وفى المقابل كانت العصبية الجاهلية وطمعُ بعض القبائل فى الرئاسة وأيضا انتشار الرخاء بين الناس ومَيْلُهم إلى الترف مما نتج عنه جِيلٌ من الشباب المُتَحمِس دون عِلْمٍ أو رَوِّيَة, ولا نُغْفِلُ أهم أسباب الفتنة وهو دَوْرُ السَبَئِيَة أتباعِ عبد الله بن سبأ اليهودى فى بث الإشاعات وحياكةِ المؤامرات على المسلمين, حيث كان ابن سبأ ومن معه ينشرون الأراجيف بين الناس فيتلقَفُها ضِعَافُ الإيمان وينقِمُون بها على أمير المؤمنين.
ومن ذلك أن رجلاً من أهل مصر جاء لحَجِّ البيت فرأى قوماً جلوساً فقال: من هؤلاء القوم؟ فقالوا: هؤلاء قوم من قريش, قال: فمن الشيخ فيهم؟ قالوا: عبد الله بن عمر, فقال: يا ابن عمر إنى سائلك عن شئ فحدثنى عنه:
هل تعلم أن عثمان فَرَّ يوم ُأحُد؟ قال: نعم.
فقال: هل تعلم أنه تَغَيَّبَ عن بَدْرٍ ولم يشهدها؟ قال: نعم.
فقال:هل تعلم أنه تَغَيَّب عن بيعة الرِضْوَان فلم يشهدها؟ قال: نعم.
فقال الرجل: الله أكبر.
فقال ابن عمر: تعال ُابَيِّنْ لك:
أما فِرَارُه يوم ُأحُد فأشهد أن الله عفا عنه وغفر له.
وأما تَغيُّبُه عن بدر فإنه كانت تحتَه بنت رسول الله وكانت مريضة فقال له رسول الله إن لك أجرُ رجل ممن شهد بدراً وسَهْمُه.
وأما تَغَيُبُه عن بيعة الرِضوان فلو كان أحدٌ أعَزَّ ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه, وكانت بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان إلى مكة, فقال رسول الله بيده اليُمنى: هذه يدُ عثمان, فضَرَب بها على يده الأخرى وقال: هذه لعثمان.
فقال له ابن عمر: اذهب بها الآن معك.
ومن الأمور التى نَقَمَ بها البُغَاةُ على عثمان تَولِيَتُه لخمسة من أقاربه على الأقاليم, وما المانع فى ذلك خصوصاً اذا كانوا من أهل الكفاءة والدِرَاية والحكمة, وقد أثبتوا ذلك فى أيام إمارتهم.
ونَقَمُوا عليه أموراً أخرى كان باعثها الهوى ونزغَاتُ السَبَئِية, فنَّدَهَا ورَدَّها عليهم أهل العلم.
تحرك أهلُ الفتنة من أهلِ مصر متوجهين إلى المدينة النبوية للقاء أمير المؤمنين عثمان بن عفان فلما سمع الناس بخروجهم أتوا إلى حذيفة بن اليمان صاحبِ سر رسول الله يسألونه فقالوا: إن هؤلاء القومَ قد ساروا إلى عثمان فما تقول؟
فقال رضي الله عنه يقتُلُونَه والله, فقالوا: فأين هُوْ؟ فقال: فى الجنة والله, فقالوا وأين قَتلَتُه؟ فقال: فى النار والله.
فلما علم أمير المؤمنين بقدومهم خرج إليهم قبل وصولهم والتقى بهم فى قرية خارج المدينة وحضر على بن أبى طالب معه, فتكلم كل فريق منهم بما فى نَفْسِه واتفقوا على أمورٍ فيها رِضَىظ° الطرفين ومصلحةُ الجميع منها: أن المَنْفِىَّ يرجع إلى مكانه, والمحروم يُعطىظ° ما حُرِم منه, وأن يُوَفَرَّ الفَيْئ, وأن يُعْدَلَ فى القِسْمَةِ ويُستَعمَلَ ذا الأمانة والقوة, وأن يُرَدَّ ابن عامرٍ والياً على البَصْرَة, وأبو موسى الأشعرى والياً على الكُوفَة, وكتبوا بذلك كتابا, فرَضِىَ القوم ثم انصرفوا راجعين.
وبعدما تم الصلح بين أمير المؤمنين عثمان وبين هؤلاء البُغَاةِ الخارجين كتب عثمان كتاباً إلى الأمصار بذلك, فهدأت النفوس وزال الشَغَب.
لكن هذا الأمر لم يَرُقْ لمُشْعِلىِ الفتنة فخُطَتُهم قد فشلت وأهدافهم الدنيئة لم تتحقق, لذا خَطَطوا تخطيطاً آخر يُزْكِى الفتنةَ من جديد ويُدَّمِر ما جرى من صلح بين أهل الأمصار وأمير المؤمنين عثمان , فقد زَوَّرُوا كتاباً على لسان أمير المؤمنين وبعثوا به رجلاً قِبَلَ الوفد المصرى, فجاء الرجلُ إليهم وأصبح يَحْتَكُ بهم ويُثِيرُ انتِبَاهَهُم فقالوا له: ما لك؟ إن لك لأمرا, ما شأنك؟ فقال: أنا رسول أمير المؤمنين إلى عَاملِه بمصر ومعى كتاباً منه إليه, فأخذوه وفتَشُّوه, فوجدوا الكتاب واذا هو على لسان عثمان أمير المؤمنين وعليه خاتَمه يأمر فيه عامِلَه أن اذا وصل الوفد إلى مصر أن يأخذهم فيَصلِبَهُم أو يَقتُلَهم أو يُقَطِّعَ أيديَهم وارجُلَهم حتى يموتوا, فغضب القوم وظنوها خيانةً من عثمان ونقضاً للعهد فرجعوا حتى قدموا المدينة, فأتوا علياً رضى الله عنه وقالوا: ألم ترى إلى عدو الله كتب فينا كذا وكذا وإن الله قد أحَلَّ دَمَه فقُم معنا إليه, فقال على رضي الله عنه: والله ما كتب فيكم كتاباً قط ووالله لا أقوم معكم, فتركوه
وانطلقوا إلى عثمان , فقالوا: كتبت كذا وكذا؟ فقال رضي الله عنه: إنما هما اثنتان, إما أن تأتوا بشاهدين من المسلمين يشهدوا عَلَىَّ بهذا أو لكم يَمِينى بالله الذى لا اله إلا هو ما كَتبتُ ولا أملَيتُ ولا عَلِمت, وقد تعلمون أن الكتاب يُكتَبُ على لسان الرَجُل ويُنقَشُ الخَاتَم على خَاتَمِه, فقالوا: والله قد أحلَّ الله دَمَك, فنقضوا العهد والميثاق وحاصروه فى بيته وطلبوا منه خَلْعَ نفسه من الخلافة.
والحقُ أن أمير المؤمنين عثمان بن عفان كان يترقب وقوع الفتنة حيث أخبره النبى بفتنةٍ تقع له وأنه يُستشهد فيها وأوصاه بعدم التنازل للبُغَاة عن الخِلافة بقوله: يا عثمان إن الله مُقَمِّصُك قَمِيصاً فإن أرادوك على خَلعِه فلا تَخلَعْه لهم.
وكان عثمان فى بادئ الأمر يخرج إلى المسجد فيصلى بالناس والبُغَاة أحقَرُ فى عينه من التُراب ثم إنهم منعوه من الخروج فكان رضي الله عنه يُصلى فى داره وأخذ يُحَاجُّهُم بكتاب الله ويَعِظُهُم وكان مما قاله لهم:
إن وجدتم فى كتاب الله أن تضعوا رجلى فى القَيْد فضعوها, فأعجزهم رضى الله عنه وذلك لقوة حُجَّتِه وعِلْمِه بكتاب الله وسنة رسوله .
ثم أخذ يُذَكِرُهُم ببعض فضائله لعلهم يتقون الله فيه ويَكُفُوا عن بَغْيِهم, حيث أشْرَف عليهم وقال:
- أَنشُدُكُم بالله, هل تعلمون أن رسول الله قَدِمَ المدينة وليس بها ماء ُيسْتَعْذَبُ غير بئر ُرومَة فقال: من يشترى بئر رومة فيجعل دَلوَه مع دِلاءِ المسلمين بخير له منها فى الجنه فاشتريتُها من صُلبِ مالى, فأنتم اليوم تمنعونى أن أشرب منها؟ قالوا: اللهم نعم.
- فقال أَنشُدُكُم بالله, هل تعلمون أن المسجد ضَاقَ بأهله فقال رسول الله: من يشترى بُقعة آل فلان فيزيدُها فى المسجد بخير له منها فى الجنه فاشتريتها من صُلبِ مالى, فأنتم اليوم تمنعونى أن اصلى فيها ركعتين؟ قالوا: اللهم نعم.
- فقال أَنشُدُكُم بالله, هل تعلمون أنى جهزت جيش العُسْرَةِ من مالى, قالوا: اللهم نعم.
- فقال أَنشُدُكُم بالله, هل تعلمون أن رسول الله كان على ثَبِيِرِ مكة ومعه أبو بكر وعمر وأنا فتحرَّك الجبل حتى تساقطت حجارته بالحَضِيِضْ فركَضَهُ برجله وقال: اُسكن ثَبِيِر فإنما عليك نبىٌ وصِدِّيقٌ وشهيدان, قالوا: اللهم نعم.
فقال: الله أكبر شهدتم لى ورب الكعبة أنى شهيد.
فوعظهم وذكَّرَهُم ولكن لم تنفع فيهم الموعظه.
قام البُغاة بتشديد الحصار على أمير المؤمنين ومنعوا من دخول الطعام والشراب إليه والله المستعان, فحاولت أم المؤمنين صفية رضى الله عنها إدخال الطعام إليه خِفْيَة لكن أحدهم عَلِم بذلك فضرب وجه بَغْلتِها حتى رَجَعَت, فوضعت خشباً بين بيتها وبيت أمير المؤمنين وكانت جارةً له لتنقُل إليه الطعام والشراب, وحاولت أم المؤمنين أم حبيبة رضى الله عنها نقل الطعام إليه خِفيَة فجاءت إلى بيته فقالوا: من هذه؟ فقالت: أنا أمكم أم حبيبة, فقالوا: والله لا تدخلين, فرَدُّوها.
لم يكن موقف الصحابة فى المدينة سلبيا حيث جاءوا ومعهم أبناؤهم ليدافعوا عن أمير المؤمنين فعَزَمَ عليهم عثمان أن يَكُفُّوا أيديهم ويُغْمِدُوا سيوفهم ويعودوا إلى بيوتهم وقال لهم: عَزَمتُ على من كان لى عليه طاعةٌ أن لا يُقاتل, فرجعوا بعد أن جعلوا أبناءهم حرساً على بابه, وجاءه الأنصار رضوان الله عليهم وقالوا: ننصر الله مرتين, نصرنا رسول الله وننصُرُك, فقال لا حاجة لى فى ذلك ارجعوا.
وما كان ذلك منه رضي الله عنه إلا حفظاً لدماء المسلمين أن تُرَاق بسببه, فقد كان أهل المدينة قِلةً بجانب البُغاة الذين كان عددهم يزيد على ألفى مقاتل شرس, وأيضا كان عثمان مُستسلماً لقضاء الله وقدره, فقد أخبره النبى أنه يموت مقتولا فى هذه الفتنة.
خاف البُغاة من أن يطول الأمر ويرجع الناس من الحَج وتأتى الوفود من الأمصار لنصرة أمير المؤمنين فسارعوا بتنفيذ جريمتهم وإنا لله وإنا إليه راجعون.
ففى صبيحةِ يوم الجمعه الثانى عشرَ من شهر ذى الحجة من سنة خمسٍ وثلاثينَ للهجرة انتهز البُغَاة الفرصة بقلة الناس وغَيْبَتِهِم فى الحج فأحاطوا بالدار وأحرقوا الباب واقتتلوا مع الحرس من أبناء الصحاب قتالاً مريرا, فجُرح عبد الله بن الزبير جراحاتٍ شديدة وكذا جُرِح الحسن بن على وغيرهما .
عند ذلك أمر عثمان أبناء الصحابة بأن ينصرفوا إلى بيوتهم, وأمر نساءه وغِلمَانه كذلك بأن يَكُّفُوا عن الدفاع عنه ثم اعتق جميع غِلمانه وشَدَّ عليه سَرَاوِيلَه لأن لا تنكشف عورتُه إذا قُتل, ثم قام إلى مُصحفه ونشَرَه بين يديه وأخذ يقرأ منه وكان صائما, وقد رأى النبى فى المنام ومعه أبو بكر وعمر وهم يقولون له: اصبر فإنك تُفطِرُ عندنا الليله.
دخل عليه رجلٌ من المحاصرين فلما رآه عثمان قال له: بينى وبينك كتاب الله فاستَحْىَ الرَجُلُ ورجع, ثم دخل آخر وهو رجلٌ أسود من أهل مصر يقال له ( جَبَلَهْ ) فخنق عثمان ثم ضَربه بالسيف فاتَقَاه عثمان بيده فقطعها, فقال عثمان والله إنها لأول كَفٍّ كتبت المُفَصَّل وذلك أن عثمان أول من كتب القرآن إملاءً من رسول الله, وعندما قُطعت يده اِنتَضَحَ الدم على المصحف الذى بين يديه وسقط على قوله تعالى: "فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم" ثم أهوي إليه الرجل بالسيف فقتله.
وكانت قِتلَتُه رضي الله عنه شَنِيعه حتى أن أبا هريرة كان كلما ذَكر ما صُنِعَ بعثمان بكى حتى ينتَحِبَ ويعلوا صوتُه.
لقد كان مقتله رضي الله عنه مصيبةً عظيمة على المسلمين وخَلَّفَ جُرحً غَائِرً فى جسد الأمة الإسلاميه مازالت تعانى منه إلى اليوم والله المستعان.
وقد انتقم الله لعثمان فى الدنيا, فكل من شارك فى قتلِه لم يَمُتْ أحدٌ منهم مِيتَةً سَوِيَّة.
قال الإمام الذهبى: عامةُ من سعى فى دم عثمان قُتلوا, ويبقى الحساب فى الآخره عند الإله العدل سبحانه.
مات أمير المؤمنين عثمان بن عفان وعمره اثنانِ وثمانون سنه, فغُسِّلَ وكُّفِن وصلى عليه نَفرٌ قليلٌ من الصحابة وتَبِعوا جنازته وذلك بسبب الظروف الحرجة التى كانت تحيط بالمدينة من تسلط البُغاة الخارجين, ودُفِنَ فى (حُشِّ كَوكَب) وهو بُستان لرجل من أهل المدينة يقال له كوكب شرقى البقيع كان عثمان قد اشتراه منه وأدخله فى البقيع.
رضى الله عن الخليفة الراشد عثمان بن عفان المقتول صبرا والمبشرِ بالجنة أكثر من مرة, رضى الله عنه وأرضاه.
oghtm uelhk fk uthk vqd hggi uki 4 îgçé RAn Xëlçk Xçk
التعديل الأخير تم بواسطة احمد محمد حلمي ; 04-02-2022 الساعة 07:49 AM