تأملتم أحبتي في الله: ﴿ سَابِقُوا ﴾، ﴿ سَارِعُوا ﴾، ﴿ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾، ﴿ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴾، وفي الحديث الصحيح: "بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم"، وفي لفظ آخر: "بادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعًا، هَلْ تَنْتَظِرُونَ إلاَّ فَقرًا مُنسيًا، أَوْ غِنىً مُطغِيًا، أَوْ مَرَضًا مُفسِدًا، أَوْ هَرَمًا مُفْندًا، أَوْ مَوتًا مُجْهزًا، أَوْ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوْ السَّاعَةَ فالسَّاعَةُ أدهَى وَأَمَرُّ"، وفي الحديث الآخر: «اغتَنِم خَمسًا قبلَ خَمسٍ: شَبابَك قبلَ هَرَمِك، وصِحَّتَك قبلَ سَقَمِك، وغِناكَ قبلَ فَقرِك، وفَراغَكَ قبلَ شُغلِك، وحياتَك قبلَ مَوتِك»، ويقولُ صلى الله عليه وسلم: "التؤدةُ في كلِّ شيءٍ إلا في عمل الآخرة"؛ قالَ اللهُ تعالى على لسان موسى عليه السلام: ﴿ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ﴾ [طه: 84]، وقال صلى الله عليه وسلم: "من خافَ أدلج، ومن أدلجَ بلغَ المنزل"، وصَحَّ عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لا تزولُ قدما عبدٍ يومَ القيامةِ حتى يُسألَ عن أربع: عن عُمُرِه فيم أفناه, وعن شبابهِ فيم أبلاه, وعن مالهِ من أين اكتسبهُ وفيم أنفقهُ, وعن علمهِ ماذا عملَ به"، وفي صحيح مُسلم: «لا يَزال قَومٌ يتأخَّرُون حتى يُؤخِّرهم اللهُ في النار»، وانظروا إلى هِمم الصحابة ومسارعتهم في الخيرات، فحين سألَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابَه: «مَن أصبَحَ مِنكم صائِمًا؟»، قال أبو بكرٍ: أنا، فقال صلى الله عليه وسلم: «مَن تبِعَ مِنكم اليومَ جنازةً؟»، قال أبو بكرٍ: أنا، فقال صلى الله عليه وسلم: «ومَن عادَ مِنكم مريضًا؟»، فقال أبو بكرٍ: أنا، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «ما اجتَمعنَ في امرِئٍ إلا دخلَ الجنَّة»، والحديث في مسلم، وقال الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه, نقص فيه أجلي ولم يزدد فيه عملي"، وقال وهيب بن الورد رحمه الله: "إن استطعت أن لا يسبقك إلى الله أحدٌ فافعَل"، وقال خالد بن معدان: "إذا فُتحَ لأحدكم بابُ خيرٍ فليسرع إليه، فإنه لا يدري متى يُغلق عنه"، وقال شُعبة بن الحجاج: "لا تقعدوا فُراغًا فإن الموت يطلُبكم"، وقال الحسن البصري: "الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل فيهما"، وظل الجنيد يقرأ القرآن الكريم، حتى وروحه تخرج، فقيل له: "أفي هذا الوقت!"، قال: "أبادرُ طيَّ صحيفتي"، وقال ابن القيِّم رحمه الله: "السَّابِقُونَ في الدُّنْيا إلى الخَيْراتِ هُمْ السَّابِقُونَ يومَ القَيامةِ إلى الجنَّات"، ويقول رحمه الله: "إضاعةُ الوقتِ أشدُّ من الموت؛ لأن إضاعَةَ الوقتِ تقطعك عن اللهِ والدارِ الآخرةِ، والموتُ يقطعك عن الدنيا وأهلها"، وقال بعض الحُكماء: "التوانِي ضياعٌ للفرص، وضياعُ الفُرَصِ غُصص".
الخطبة الثانية
الحمد لله كما ينبغي لجلاله وجماله وكماله، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله وكونوا مع الصادقين.
معاشر المؤمنين الكرام، المُسابقةُ إلى الخيرات خُلُقٌ عظيمٌ، ومسلَكٌ كريمٌ، لا يتَّصِفُ به إلا الجادُّون المُشمِّرون، أصحابُ الهممِ العالية، والعزائمِ القوية، والإرادة الجادَّة..
إذا هبَّت رياحك فاغتنِمها *** فإن لكل خافقةٍ سكونَا
♦ ♦ ♦
وإذا كانت النفوس كبارًا *** تعِبت في مُرادها الأجسام
♦ ♦ ♦
ولم أر في عيوب الناس عيبًا *** كعجز القادرين على التمام
♦ ♦ ♦
ومن يتهيَّب صعود الجبال *** يعش أبد الدهر بين الحفر
♦ ♦ ♦
استبقوا الخيرات، فمن اجتهدَ ورفعَ نفسَهُ, علتْ وارتفعتْ، ومن قصَّرَ بها ووضَعَها, سَفُلَتْ وانحدرتْ، ﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ﴾ [الإسراء: 19].
استبقوا الخيرات، وتنافسوا فيها تكونوا من أهلها، وأكثِروا منها تأْلفوها وتتعوَّدوا عليها، ولازموها تُعرفوا بها وتنسبوا إليها، ﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ﴾ [محمد: 17].
استبقوا الخيرات، واعمَلوا للدنيا بقدر بقائِكم فيها، واعملوا للآخرة بقدر بقائِكم فيها، واعمَلوا لله تعالى على قدر محبتِكم له وطلبِكم لرضاه، واعمَلوا للجنة على قدر شوقِكم إليها، وحرصِكم عليها.
استبقوا الخيرات، وحرِّكوا الهِمم، وشدُّوا العزائم، فإنَّما يُقاسُ المرءُ بهمَتِهِ، فمن صَلَحَتْ همَّتُهُ وصَدَقَ فيها، صَلحَ لهُ ما وراءَ ذلكَ من الأعمَالِ، ورُبَّ هِمَّةٍ أوصلت للقمَّة، ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69].
ألا فاتقوا الله عباد الله، واستبقوا الخيرات، وسارعوا، وسابقوا، واصبروا وصابروا، واتقوا الله ورابطوا، ومن أرادَ الراحةَ هناك، فليترك الراحة هنا، ومن أرادَ أن لا يتعبَ هناك، فليتعب هنا.
ويا بن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبِب مَن شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يَبلى والذنب لا يُنسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان، اللهم صلِّ.