يظن البعض أن التضحية من أجل الوطن غالباً ما تكون بالنفس فقط وداخل حدود الوطن تحديداً من خلال الدفاع عنه أمام المخاطر الأمنية والعسكرية المعتدية ولا أحد ينكر أن التضحية بالنفس أسمى أنواع التضحيات على الإطلاق، ولكن الوطن اليوم بحاجة ماسة أيضاً لتضحيات من نوع أخر وعلى كافة المستويات والأصعدة ومن جميع أبنائه دون استثناء أكانت التضحيات داخلية أم خارجية، الجندي يضحي بنفسه وهذا شرف كبير له وللوطن الذي ينتمي إليه وكذلك الطبيب والمهندس و المعلم والداعية وغيرهم كلاٌ في مجاله يضحي بأمانة وبصدق و بتفاني في بناءه من أجل عزة و رفعة شعبه ووطنه .
وفي حب النبي لوطنه عبرة وعظة، فلما خرج رسول الله صلي الله عليه وسل مهاجراً من مكة إلى المدينة كما روي عنه : وقف علي الحزورة (سوق) ونظر إلى البيت وقال: والله انك لأحب أرض الله إلي وانك لأحب أرض الله إلى الله ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت منك " (الترمذي والنسائي ) .
ورغم فساد أهلها وظلمهم له ومحاربتهم لدعوته ولكن الرسول صلي الله عليه وسلم يعطينا درساً في الانتماء الحقيقي فيقول في رواية أخري :" ما أطيبك من بلد وأحبك إلي ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك - قاله لمكة . (صحيح )
وهذا يشير إلى مدي حب رسول الله صلي الله عليه وسلم لبلده مكة المكرمة موطن ولادته ونشأته وفيها البيت الحرام ولأنها منزل الوحي ولأن بها الأهل والأقربين ولأن بها مآثر إبراهيم.(خاتم النبيين2/5) .
والرسول صلي الله عليه وسلم كان حين يذكر أحد الصحابة مكة أمامه تذرف عيناه بالدمع ويقول له "دع القلوب تقر " ولا عجب فحب الوطن من الإيمان
قال ابن عباس: لو قنع الناس بأرزاقهم قنوعهم بأوطانهم لما شكا عبد رزقه. وقيل لأعرابي: كيف تصبرون؟ على جفاء البادية وضيق العيش؟ فقال: لولا أن الله تعالى أقنع بعض العباد بشر البلاد ما وسع خير البلاد جميع العباد، وقال بعض الفلاسفة فطرة الرجل معجونة بحب الوطن.
روي في الخبر: حبّ الوطن من طيب المولد. وقال أبو عمرو بن العلاء مما يدلّ على كرم الرجل وطيب غريزته حنينه إلى أوطانه وحبه متقدمي إخوانه وبكاؤه على ما مضى من زمانه.
وقالت العجم: من علامة الرشد أن تكون النفس إلى مولدها مشتاقة وإلى مسقط رأسها توّاقة. وسمع أبو دلف رجلا ينشد:
ألقى بكلّ بلاد إن حللت بها ... ناسا بناس وإخوانا بإخوان
فقال: هذا الأم بيت قالته العرب، لقلة حنينه إلى ألّافه.
قال عمر بن الخطاب: لولا حب الوطن لخرب بلد السوء. وكان يقال: بحب الأوطان عمرت البلدان ، وقال جالينوس: يتروح العليل بنسيم أرضه كما تتروح الأرض الجدبة ببل المطر. وقال بقراط: يداوي كل عليل بعقاقير أرضه كأن الطبيعة تنزع إلى غذائها، ومما يؤكذ ذلك قول إعرابي وقد مرض بالحضر فقيل له: ما تشتهي؟ فقال: مخيضاً روباً وضباً مشوياً، وقد قيل: أحق البلدان بنزاعك إليها بلد أمصك حلب رضاعه، وقيل: احفظ أرضاً أرسخك رضاعها، وأصلحك غذاؤها، وارع حمى اكتنفك فناؤه.
وقديما قال الحكماء :"الحنين من رقة القلب ورقة القلب من الرعاية والرعاية من الرحمة والرحمة من كرم الفطرة وكرم الفطرة من طهارة الرشدة (أي صحة النسب) وطهارة الرشدة من كرم المحتد (أي الأصل ) وقال أخر :"ميلك إلى مولدك من كرم محتدك " وقال بعض الفلاسفة :"فطرة الرجل معجون بحب الوطن" وقال أخر:من إمارات العاقل بره لإخوانه وحنينه لأوطانه ومداراته لأهل زمانه لذلك كانت السيدة عائشة رضي الله عنها دائماً تقول :"مارأيت القمر أبهي ولا أجمل مما رأيته في مكة"وذلك كناية علي حبها وعشقها وشدة حنينها للوطن.