تتضمن السورة وصف دقيق لأهوال يوم القيامة التي يكذب بها المكذبون، ففي هذا اليوم لا يبقى شيء في الدنيا على حاله؛ فتتغير السماء والأرض، وتصبح الجبال القاسية كالصوف اللين، ولا يقتصر التغيير على الجمادات، بل يصل إلى النفوس، ولا يهتم أحد في هذا اليوم إلا بسلامته وحده، ويكون مستعدا للتخلي عن كل شيء مقابل ذلك، ثم يأتي بعد هذا اليوم المخيف والحساب العظيم عذاب أليم في نار جهنم ينزع اللحم والجلد عن الجسم، وتدعو هذه النار المنكرين الذين كذبوا الأنبياء، والفرق كبير بين هذه الدعوى والدعوى التي دعاهم إليها الأنبياء في الحياة الدنيا.
يرشد الله تعالى إلى الطريقة المناسبة للصمود في هذا اليوم؛ وهي المحافظة على الصلاة، والتصدق بالأموال، والإيمان باليوم الاخر، والالتزام بما أمر الله به،
﴿ فَٱصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ﴾ [ سورة المعارج آية:﴿٥﴾ ] يعني: صبراً لا جزع فيه. الطبري: 23/603.
﴿ فَٱصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ﴾ [ سورة المعارج آية:﴿٥﴾ ] (فاصبر) أي: على أذاهم. ولا ينفك ذلك عن تبليغهم؛ فإنك شارفت وقت الانتقام منهم أيها الفاتح الخاتم الذي لم أبين لأحد ما بينت على لسانه. والصبر: حبس النفس على المكروه. البقاعي: 20/392.
(واهجرهم هجرا جميلا) (فاصفح الصفح الجميل) (وسرحوهن سراحا جميلا) (فاصبر صبرا جميلا) لأن الله جميل فقد أوصى بالجمال في كل شيء.
﴿ إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُۥ بَعِيدًا ﴿٦﴾ وَنَرَىٰهُ قَرِيبًا ﴾ [ سورة المعارج آية:﴿٦﴾ ] والله يراه قريباً؛ لأنه رفيق حليم لا يعجل، ويعلم أنه لا بد أن يكون، وكل ما هو آت فهو قريب. السعدي: 886.
"يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه" لم يذكر أنه يفتدي بأبويه ، لعظم منزلتهما، مع أنه يفر منهما لهول الأمر، وخوفا من مطالبته بحقهما / ناصر العمر
{يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ}
أرأيت إلى أحب الخلق إليك، من كنت تضعهم بين أهداب عينيك، إنهم أولُ من لو أُتيح لك أن تفتدي بهم من العذاب لفعلت!. يا له من مشهدٍ مَهول!.
حين تبصر بعينيك فلذات أكبادك يهيمون في فزع الحشر على وجوههم، فتُشيح عنهم مشغولاً بهمِّك، و هواجس نفسِك
فاحرص في دينك على ما ينفعك.
﴿ يَوْمَ تَكُونُ ٱلسَّمَآءُ كَٱلْمُهْلِ ﴿٨﴾ وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ ﴾ [ سورة المعارج آية:﴿٨﴾ ] فإذا كان هذا القلق والانزعاج لهذه الأجرام الكبيرة الشديدة، فما ظنك بالعبد الضعيف الذي قد أثقل ظهره بالذنوب والأوزار. السعدي: 886.
﴿ وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ ﴾ [ سورة المعارج آية:﴿٩﴾ ] العِهن هو الصوف، شبّه الجبال به في انتفاشه وتخلخل أجزائه. ابن جزي: 2/495.
﴿ كَلَّآ ۖ إِنَّا خَلَقْنَٰهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ ﴾ [ سورة المعارج آية:﴿٣٩﴾ ] وفي المقصود بهذا الكلام ثلاثة أوجه؛ أحدها: تحقير الإنسان والردّ على المتكبرين. الثاني: الردّ على الكفار في طمعهم أن يدخلوا الجنة؛ كأنه يقول: إنا خلقناكم مما خلقنا منه الناس، فلا يدخل أحد الجنة إلا بالعمل الصالح؛ لأنكم سواء في الخلقة. الثالث: الاحتجاج على البعث بأن الله خلقهم من ماء مهين، فهو قادر على أن يعيدهم؛ كقوله: (ألم يك نطفة من مني يمن) [القيامة: 37]. ابن جزي: 2/495.
﴿ ٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَآئِمُونَ ﴿٢٣﴾ ﴾وقوله تعالى: ﴿ وَٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴿٣٤﴾ ﴾ [ سورة المعارج آية:﴿٢٣﴾ ] وكرر ذكر الصلاة لاختلاف ما وصفهم به أولاً وما وصفهم به ثانياً؛ فإن معنى الدوام هو أن لا يشتغل عنها بشيء من الشواغل -كما سلف- ومعنى المحافظة أن يراعى الأمور التي لا تكون صلاة بدونها. الشوكاني: 5/293.
﴿ وَٱلَّذِينَ هُم بِشَهَٰدَٰتِهِمْ قَآئِمُونَ ﴾ [ سورة المعارج آية:﴿٣٣﴾ ] لا يُعبد إِلا إِيَّاه بجَميعِ أَنواعِ الْعبادةِ، فَهذا هو تحْقيق شهادة أَن لا إِلَه إِلا اللَّه، ولهَذا حرَّم اللَّه علَى النَّارِ من شهِد أَن لا إِلَه إِلا اللَّه حقيقَةَ الشهادة، ومحَال أَن يدخل النار مَنْ تحَقَّق بحَقيقَة هذه الشهادة وقَام بها، كَما قَال تعالَى: (والذين هم بشهاداتهم قائمون) فَيكُون قَائمًا بشهادته في ظَاهرِه وباطنهِ، في قَلْبِه وقَالَبِه، فَإِن من النَّاسِ مَنْ تكُون شهادته ميِّتةً، ومنهم مَنْ تكُون نائمةً، إِذا نبهت انْتبهت. ابن القيم: 3/197.
﴿ وَٱلَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ ﴾ [ سورة المعارج آية:﴿٢٧﴾ ] خائفون على أنفسهم مع ما لهم من الأعمال الفاضلة؛ استقصاراً لها، واستعظاماً لجنابه عز وجل؛ كقوله تعالى: (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون) [المؤمنون: 60]. الألوسي: 15/71.
﴿ إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ خُلِقَ هَلُوعًا ﴿١٩﴾ إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعًا ﴿٢٠﴾ وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ مَنُوعًا ﴿٢١﴾ إِلَّا ٱلْمُصَلِّينَ ﴾ [ سورة المعارج آية:﴿١٩﴾ ] وذكره الله على وجه الذم لهذه الخلائق؛ ولذلك استثنى منه المصلين؛ لأن صلاتهم تحملهم على قلة الاكتراث بالدنيا، فلا يجزعون من شرها، ولا يبخلون بخيرها. ابن جزي: 2/495.
{إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر كان جزوعا إذا مسه الخير كان منوعا إلا المصلين) إلى من يشتكي سرعة الإنفعال والهموم اضبط صلاتك تنضبط انفعالاتك
وصف الله اﻹنسان بأنه(خلق هلوعا)و(لفي خسر)و(لظلوم كفار)و(لربه لكنود)وهذا أصل فيه،واستثنى الله القلة(إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون..)
من أعظم أسباب الاستقرار النفسي المداومة على الصلاة{ إن الإنسان خلق هلوعا...}
﴿ إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ خُلِقَ هَلُوعًا ﴿١٩﴾ إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعًا ﴿٢٠﴾ وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ مَنُوعًا ﴿٢١﴾ إِلَّا ٱلْمُصَلِّينَ ﴾ [ سورة المعارج آية:﴿١٩﴾ ] فالنفس لا تكون إلا مريدة عاملة، فإن لم توفق للإرادة الصالحة وإلا وقعت فى الإِرادة الفاسدة والعمل الضار؛ وقد قال تعالى: (إن الإنسان خلق هلوعاً*إذا مسه الشر جزوعاً*وإذا مسه الخير منوعًا*إلا المصلين) فأَخبر تعالى أَن الإنسان خلق على هذه الصفة، وأن من كان على غيرها فلأَجل ما زكاه الله به من فضله وإِحسانه. ابن القيم: 3/196.
﴿ يُبَصَّرُونَهُمْ ۚ يَوَدُّ ٱلْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِى مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍۭ بِبَنِيهِ ﴿١١﴾ وَصَٰحِبَتِهِۦ وَأَخِيهِ ﴿١٢﴾ وَفَصِيلَتِهِ ٱلَّتِى تُـْٔوِيهِ ﴿١٣﴾ وَمَن فِى ٱلْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ ﴾ [ سورة المعارج آية:﴿١١﴾ ] وبدأ جل ثناؤه بذكر البنين، ثم الصاحبة، ثم الأخ، إعلاماً منه عباده أن الكافر من عظيم ما ينزل به يومئذ من البلاء يفتدي نفسه، لو وجد إلى ذلك سبيلاً بأحب الناس إليه كان في الدنيا، وأقربهم إليه نسباً. الطبري: 23/606.
﴿ ثُمَّ إِنِّى دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ﴿٨﴾ ثُمَّ إِنِّىٓ أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ﴾ [ سورة نوح آية:﴿٨﴾ ] ذكر أولاًً أنه دعاهم بالليل والنهار، ثم ذكر أنه دعاهم جهاراًً، ثم ذكر أنه جمع بين الجهر والإسرار، وهذه غاية الجد في النصيحة وتبليغ الرسالة صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. ابن جزي: 2/495.
الدروس المستفادة من سورة المعارج
تُوجد العديد من الدروس والعبر المُستفادة من قراءة سورة المعارج، ومنها ما يلي[٥]:
تَعَرُّضْ الرسول -صلى الله عليه وسلم- للإيذاء والسُخْرية والتَكذيب من المُشركين، وصَبرِه على أذاهم في سبيل إكمال الدعوة إلى الله تعالى، مما يعطي درسًا في وجوب الصبر على أعداء الدين.
ذِكر طبيعة الإنسان التي خلق عليها وأنَّه يفزع ويخاف عندما يتعرَّض للألم، ويُصبح بَخيلا متكبرًا متعاليًا عندما يملك المال الكثير أو الصحة القويَّة ويَنسى أن يَشكر صاحب الفضل في ذلك وهو الله تعالى، إذ إنّ من واجب العبد المسلم أن يُقاوم هذه الفطرة ويعمل كما أمرته التعاليم الإسلامية ويشكر الله.
يَختلف المؤمن عن غيره في أنه لا يجزع ولا يخاف عند الشدائد بل يصبر على ما أصابه، ولا يَتَكبَّر على الناس إذا ما أصبح عنده من المال أو القوة، ويَكون لله شكورًا وينفق مِمَّا أعطاه الله تعالى