كان السلطان بايزيد الأول يلقب بـ"يلديرم"؛ أي: الصاعِقة؛ لكَثْرة تنقُّلاته الحربيَّة بين آسيا وأوربا، وهو لا يقل حماسًا عن أبيه في محبة الغزو والفتوح، فهو الذي تَمَّ النصرُ على يده في قوصوة، واستغل هذا النصر لإخضاع مُعظم بلاد الصِّرب، وعقد صلحًا وأقام علاقات ودية مع البقية منها، بقيادة "ستيفن بن لازار جربلينانوفتش"، وكان ستيفن هذا ميالاً إلى السلم، بخلاف والده إدراكًا منه للوضع الضعيف الذي آل إليه الصِّربُ؛ فقد اتَّفق مع السلطان بايزيد على عقد صلح تتلخَّص بنودُه، فيما يلي:
1- أن يعترف ستيفن بسيادة العثمانيين على بقيَّة بلاده.
2- أن يبقي السلطانُ بايزيد الحكم فيه وفي أسرته؛ تهدِئة للصرب؛ حتى لا يشغلوه عن الفتوحات في مناطق أخرى.
3- أن يلتزم بدفع جزية سنوية.
4- أن يلتزم بإشراك عدد من جنود الصرب العثمانيين وقت الحرب إذا ما احتاجوا إليهم.
وقد وفَّى ستيفن بهذه الشروط، فكان يدفع الجِزْية، وقد اشترك عدد من الجنود الصرب في معركة نيكوبولي الثانية، وكذلك في معركة أنقرة، بقيادة ستيفن نفسه - كما سيأتي - وكانت علاقته ودية مع السلطان بايزيد؛ خاصة بعد زواج السلطان بايزيد من أخته أوليفيرا[1].
الاستيلاء على بلغاريا، وأثره في تشْكيل الحملة الصليبيَّة الرابعة:
تَمَكَّن الجيش العثماني بقيادة "عرنوس بك" من الاستيلاء على تساليا، (وهو أحد أقاليم اليونان حاليًّا)، وهزم آخر حكامه، ثم زحف إلى جزيرة الموره جنوب اليونان؛ فاستولى عليها، وسارع أمير الأفلاق ووالاشيا إلى إعلان ولائهما للسلطان، ودفعا الجزية.
وفي سنة (796هـ/1393م)، وصل السلْطان بايزيد من الأناضول على رأس جيش كبير بعد أن تَمَّ الاستيلاء على كثير من المناطق هناك، وقد تَمَكَّن من إكمال الاستيلاء على بلغاريا؛ حيث سقطت في يده مدن عدَّة في شمال بلغاريا، واستطاع أسْر شيشمان الثالث، وكان قد نقض العهد مع السلطان بايزيد أكثر من مرَّة، وسيق إلى فليبوبولي حيث قتل هناك بأمر من السلطان، واعتنق أكبر أبنائه - واسمه شيشمان كذلك - الإسلام، فعيَّنه السلطان أميرًا على مدينة سامسون في شمال الأناضول إبعادًا له عن بلغاريا؛ حتى لا يتعلق به أهلها فيخرجوا عن طاعته، ولا ريب أن السلطان بايزيد كسب كثيرًا من مسالَمة ابني ملكي الصرب وبلغاريا في إخضاع هاتين المنطقتين لحُكمه، ولقد حاول أحد البطاركة البلغار أن يقود حركة مقاومة ضد العثمانيين بعد مقْتَل حاكمهم وإسلام ابنه وإبعاده، ولكن محاولته باءَتْ بالفشَل فيما يبدو، وأرغم أمير الأفلاق على دفْع الجِزْية ثانية والاعتراف بسيادة العُثمانيين عليه، ثُمَّ عَبَر السلطان بجَيْشِه نهر الدانوب، وأصبح بذلك قريبًا من حدود المجَر، وعقد العزم على فتْحها[2].
وقد أدَّى سقوط بلغاريا والاستيلاء على نهر الدانوب إلى القرب من مملكة المجر، فأحس أهلُها بالخطر العثماني الذي بات يتَهَدَّدهم؛ ولهذا قد أصاب الذُّعر ملكهم سيجيز موند[3]، ولكنه حرص على إخافة العثمانيين بقوته وبالعالَم النصراني، فأرسل للسلطان بايزيد يعنِّفه على ضم بلغاريا، ويذكره بهزيمة مُني بها العثمانيون في حربٍ مع أهل والاشيا سنة (794 - 795هـ/ 1391- 1392م) قبل اكتِساح بلغاريا، إلاَّ أنَّ السلطان مرادًا رأى أنها هزيمةٌ محدودة الآثار، وأن تلك الحرب ما هي إلا مِن قبيل الاشتِباكات الاستطلاعية التي تتم بين الجيوش للوقوف على مدى تهيُّؤ كل منها للمعركة الفاصِلة، فعلى الرغْم من تلك الهزيمة التي حلَّتْ بالجيش العثماني، ومِن تحقيق سيجيز موند الانتصار على العثمانيين ثانية، فلم يستطِع الاحتفاظ بما استولَى عليه مِن مناطق، فانسحب إلى بلاده متحاشيًا الاصطدام مع العثمانيين بعد أن علم بقوة استعداداتهم[4].
ولَم يقتصِر الذعر والخوف من العثمانيين على المجريين فحسب؛ بل شمل أوربا كلها، فاستغل السلطان بايزيد ذلك ليحاصِر القسطنطينية بغية الاستيلاء التام عليها؛ فحاصَر إمبراطورها مانويل باليولوغ[5]، وضيَّق عليه ثم ترك حول القُسطنطينية جيشًا كبيرًا ليعود إلى الأناضول بعد أنْ ألزم أمير الأفلاق بالجِزية - كما مرَّ - وتَمَكَّن من الاستيلاء التام على بعض الإمارات السلجوقية كإمارة القرمان، ومنتشا[6]، وصاروخان، وقسطموني[7]، وغيرها، حتى انقرضت تلك الإمارات السلجوقية، واستولَى السلطان بايزيد على كل منطقة الأناضول[8].
ونتيجة لشمول الذعر والخوف من العثمانيين كل أوربا، فقد استغل سيجيز موند ذلك لإثارة أوربا كلها ضد العثمانيين، وكان حريصًا على التأكيد على أن سقوط بلغاريا جعل القوات العثمانية على حُدُود المجر، وأنها مُهَدَّدة بالغزو العثماني، والأوربيون لا شك ازداد خوفهم من قرب العثمانيين من المجر؛ لأنها تُعَدُّ مفتاح أوربا الغربية؛ فاستغاث سيجيز موند بالبابا "بونيفاس التاسع" لدعوة أوربا كلها لحملَة صليبية توقف العثمانيين عن الزحف على البقية الباقية من دول أوربا، فقام هذا البابا بالدعوة للحملة الصليبية الرابعة، ووعد بالغفران الشامل كل من اشترك في هذه الحملة ضد العثمانيين، قتل أم لَم يُقتَلْ[9].
أعضاء الحملة الصليبيَّة الرابعة:
وفي الوقت الذي دعا فيه سيجيز موند البابا بونيفاس التاسع لتشكيل حملة صليبية ضد العثمانيين أرسل بعثات دينية وسياسية لتحقيق ذلك الهدف إلى ملوك أوربا؛ فقد أرْسَلَ بَعْثة إلى شارل السادس[10] ملك فرنسا، ولقيت دعوة سيجيز موند منه كل ترحيب، وقرَّر الإسهام في هذه الحملة، وعلى أن تكون باريس محطة الانطلاق لها بعد أن عقد هُدنة مع إنجلترا في حرب المائة عام مدتها عشرون سنة، كما وافق فيليب السادس على أن تكون باريس محطة الانطلاق للحملة الأولى - كما مرَّ - وأسند قيادة الكتائب الفرنسية إلى أمْهَر قادته العسكريين، وعلى رأسهم كونستايل[11] فرنسا الكونت "إيي"، كما أن إمبراطور ألمانيا ونسلاس ابن شارل الرابع[12] وافق على الاشتراك في هذه الحملة بعددٍ كبيرٍ من الفرسان، على رأسهم أكبر القادة الألمان[13].
كما استجابَتْ للنداء المجري إنجلترا، نظرًا للهُدنة مع فرنسا، وقرَّر ملكها ريتشارد الثاني[14] الاشتراك في هذه الحملة، وقررت الاشتراك فيها سويسرا ولكسمبرج، وهولندا وإيطاليا، والفلاندرز والأفلاق وجمهورية البندقية، التي قدمت أموالها وأساطيلها في سبيل تسهيل هذه الحملة، كما انضَمَّ إليها القراصنة الإسبتارية، واشتركت فيها كتائب من بولندا ووالاشيا والتشيك وترانسلفانيا، وانضمت هذه القوات إلى قوات المجر التي كان عددها 36.000، فارتفع العدد الإجمالي إلى 120.000مقاتل[15]، وكان أبرز مَن في هذه الحملة النبلاء والأمراء وكبار الأساقِفة، ويُعَدُّ هذا التكتُّل الصليبي أكبر التكتُّلات التي واجهت الدولة العثمانية لكثْرة الدول التي اشتركت فيه، والأموال التي بذلتْ لإنجاحه، والقوات البرية والبحرية التي شاركت فيه[16].
خطة الحملة، واختلاف الأعضاء حولها:
كانت الخطة العامة للحملة أن يقومَ فرسان القراصنة الإسبتارية في جزيرة رودس مع أساطيل جمهورية البندقية وبعض الجزر، بالهجوم على العثمانيين بَحْرًا، في الوقت الذي تقوم فيه بقية أعضاء الحملة بالهجوم برًّا، وبذلك يقع العثمانيون بين شقَّي الرحى، واحتَشَد هذا الجيش في مدينة (بودابشت)[17] عاصمة المَجَر، وكان سيجيز موند يؤثر الانتظار حتى يهاجمهم العثمانيون، لكن الفرنسيين اعترضوا على هذا الرأي ووصفوه بالانهزامية، وقد تغلب الرأي الأخير؛ لأنه مثل رأي أغلب المشتركين في هذه الحملة، وقد أتبع الفرسان الفرنسيون رأيهم هذا بأن أصروا على أن يكونوا في مقدمة الجيش[18].
سير الحملة:
بعد أن اجتمعت القوات عند بودابشت انحدرتْ شرقًا على طول نهر الدانوب باتجاه نيكوبولي، واستولت على المدن الواقعة على ضفافه، وأعملت النهب والقتْل فيها، ونتيجة لكَوْن الفرنسيين في مقدِّمة الحملة، ولتعجلهم وسبقهم بقية الجيش، فقد تكبَّدوا خسائر فادِحة في الأرواح والعتاد، بحيثُ أبيد أغلب الفُرسان الفرنسيين، وفي سنة 798هـ/1396م، عسكرتْ قوات الحمْلة الصليبية الرابعة أمام نيكوبولي، وحاصرتها من جميع الجهات[19].
ولما كان الصليبيون يُمَثِّلون دولاً أوربية كثيرة، وذات أثر كبير في أوربا ولكثرة عدد جيشهم، وكونه يحوي أمهر القادَة والجنود، ولكونهم قد اجتاحوا بسرعة معظم بلغاريا، فقد انْتابتهم موجة من الحماس الديني غير المنضَبط، وتيقنوا من النصر الحاسم على العثمانيين، بل اعتبر معظمهم هذه الحملة هي القاضية على العثمانيين، لا في أوربا فحسب؛ بل في آسيا، وأنهم سيجتاحون الأناضول، فبلاد الشام إلى بيت المقدس؛ لاستخلاصه من المسلمين، ولا ريب أن هذه الحملة كانت أكبر محاوَلة أوربية شاملة لغربها مع شرقها، لوَقْف تقدُّم العثمانيين في تلك الفترة؛ بحيث إنها فاقت الحملات الثلاث السابقة.
وقد شجَّع الصليبيين على هذا الشعور أن السلطان بايزيد كان محاصرًا القسطنطينية بغية فتحها؛ ولأنه كان محاصرًا بوحدات من الأسطول البندقي وسفن القراصنة الإسبتارية، فظنوا أنه لا يُمكن عبور البحر إلى أوربا[20].
وتُشير بعضُ المصادِر إلى أن قادة الجيش الصَّليبي حتى لا تنخفض معنويات جندهم، فقد قطعوا آذان فرق الاستطلاع؛ حيث أشاعوا أن السلطان بايزيد قد ترك حصار القسطنطينية، وأنه متَّجِه إليهم بِجَيْش كبيرٍ، وأنه على مشارف نيكوبولي، لكن الحقيقة ما لبثت أن تأكدت لدى هؤلاء القادة، فأقدموا على قتْل 1000 أسير عثماني، كانوا قد وقعوا في أيديهم أثناء زحفهم من بودابشت إلى نيكوبولي[21].
استفحال الخلاف بين الصليبيين:
عقد الصليبيون مجْلسًا حربيًّا لِوَضْع الخطة للهُجُوم، ما لبثت الخلافات أن برزت بينهم بشَكْلٍ خطر ينذر بهزيمتهم، وفي هذا المجْلس اقْتَرَح مَلِك المجر أن يكون فرسان الأفلاق في الصَّفِّ الأول حتى يقطع خط الرَّجْعة عليهم - لعدم ثقتِه بثباتهم - فإمَّا أن يصمدوا أو يقتلوا وفي الصف الثاني فرسان المجر، أما الصف الثالث وهو قلْب الجيش فهم بقية الفرسان الفرنسيين، ثم يليهم سائر الفرق الصليبية من الدول الأخرى.
وقد تجدَّدت الخلافات التي برزت بين المجريين والفرنسيين عند إعداد الخطة الأولى كما مر، فرفَض الفرنسيون هذا الرأي، وأصَرُّوا على أن يكون فرسان فرنسا على رأسِ القوَّات الصليبية؛ لأن لديهم من القدرة العسكرية، والخبرة بأسلوب الحرب مع المسلمين ما يفوقون بها سائر الفِرَق الصليبية، تلك الخبرة التي اكتسبوها من قيادتهم، واشتراكهم الأبرز في الحروب الصليبية في العهدَيْن الأيوبي والمملوكي، ولذلك فكانوا يعتَقِدون أنهم أحق بمُقدمة الجيش الذي أطلقوا عليه "مكان الشرف"، وفسروا رأي سيجيز موند بأنه أناني ويريد نيل شرف النصر على العثمانيين وحده، فضلاً عن أن هذا الرأي يُعد ازدراء بقدرة الفرنسيين العسكرية، ولذلك فقد أصروا على الانسحاب من المعركة أو التقدُّم على رأس الحملة، وعجز أعضاء الحملة عن إقناعهم بترك الخلاف[22].
المرحلة الأولى للمعركة، وانتصار الصليبيين فيها:
تَمَسَّك الفرنسيون برأيهم فتقدموا على رأس الحملة ليبدؤوا الهجوم على العثمانيين، وأسرع سيجيز موند مُحاولاً إقْناعهم؛ فتظاهَر الفرنسيون بالامتناع، لكن ما أن غادَر سيجيز موند المعسكر الفرنسي، حتى أصدر كونستابل فرنسا أوامره للفرسان بالهجوم فهاجموا، وهم يهتفون بأسماء مجموعة من القديسين.
ولما رأى سيجيز موند عزمهم على الهجوم لم يجدْ بُدًّا منَ المسارَعة بقوته لشَدِّ أزْرهم، ولذلك حقَّقوا بعض المكاسِب في المرْحلة الأُولى لهذه المعركة، فتَمَكَّنوا من التوغُّل في قلب الجيش العثماني، وألحقوا به بعض الخسائر، حيث استطاعوا قتْل عدد من الجند العثمانيين[23].
المرحلة الأخيرة للمعركة:
أدَّى النصْر الأول الذي تحقَّق للصليبيين في المرحلة الأولى من المعركة إلى إدراك السلطان بايزيد خطورة الموقِف، فأسرع إلى تدارُكه، وأعاد ترتيب الجيش وتنظيمه من جديد، والْتَحَمَ مع القوات الصليبية، وأطبق جناحا الجيش العثماني على الفرنسيين الذين في المقدِّمة، فاختل مركزهم مما اضطرهم إلى التراجُع والاحتماء بقوة المجر.
ولما بدأت الحرب دخلتْ بقيَّة الفرَق الصليبية مجتمِعة إلى ميدان المعركة، واشتبكت بالعثمانيين، وحدثت معركة ضارية بين الطرَفين، دار القتال فيها مريرًا؛ لأنَّ كلاًّ منهما كان حريصًا على انتزاع النصر، وقد اشترك ستيفن بن لازار على رأس جيش من الصرب مع الجيش العثماني؛ تنفيذًا لبنود الصلح الذي عقده مع السلطان بايزيد عقب موقعة قوصوة، ثم حمل العثمانيون على أعدائهم حملة قوية تَمَكَّنوا فيها من انتزاع عَلَم القيادة من ملك المجر، وكان ذلك علامة على إنزالهم بالصليبيين هزيمة ساحقة، وذلك في شهر ذي الحجة 798هـ/سبتمبر 1396م، وغنم العثمانيون غنائم وفيرة، لكنهم دفعوا ثَمَن هذا النصر غاليًا؛ فقد قُتل منهم حوالي 30.000 بعد أن قَتَلوا من الصليبيين ما يقرب من هذا العدد[24]، وقد تَمَكَّن العثمانيون في نهاية المعركة من أسر عدد من كبار القادة الصليبيين؛ مثل: كونستابل فرنسا الكونت "إيي"، والمارشال دي بوسيكو، وجان سان بيير، والأميرال جان الفيني حامل لواء العذراء، وعدد منَ القادة والأمراء والأساقفة، أما أغلبية الصليبيين فقد فرتْ متَّجهة إلى الدانوب لتستقل سفن البندقية التي حملتهم من ميدان المعركة؛ فقد فرَّ سيجيز موند بصحبة رئيس القراصنة الإسبتارية، ووصلا إلى البحر الأسود، حيث وجدا هناك بعض وحدات الأسطول الصليبي، فأقلَّتهما خوفًا من تعقُّب العثمانيين لهما؛ لأنهم كانوا حريصينَ على القبْض عليهما لأنها من أبرز قادة هذه الحملة[25].
وبهذه النهاية لهذه المعركة تحقَّق للعثمانيين نصرٌ باهرٌ على الصليبيين، وتعرَّض هؤلاء لهزيمة شنعاء لم يتعرَّضوا لِمِثْلها في الحملات السابقة، ومن هنا فإنه بقدر كبر هذه الحملة، فقد كانت هزيمة الصليبيين فيها كبيرة كذلك.
نتائج معركة نيكوبولي الثانية:
تُعَدُّ الحملة الصليبية الرابعة أكبر الحملات التي وجهتْ للقضاء على العثمانيين، وإخراجهم من أوربا في تلك الحقبة، ومن هنا، فإن معركتها - معركة نيكوبولي الثانية - مِن أهمِّ المعارك الفاصلة في التاريخ الإسلامي والحروب الصليبية، وتبرز أهميتها من خلال عرض النتائج التالية:
1- تواصل الفتوحات العثمانية في أوربا، ورسوخ فكرة الغزو لبقية أوربا لدى السلطان بايزيد، وقد تبلورتْ هذه الفكرة لديه؛ رغبة في القضاء على المركز البابوي في روما، وهو المركز الداعي والداعم للحملات الصليبية على العثمانيين، ويؤكد ذلك قول السلطان بايزيد لوفد قدم من إيطاليا لعقد بعض الصفات التجارية: "إنه سيفتح إيطاليا، ويطعم حصانه الأبيض الشعير في مذبح القديس بطرس[26] في روما"، ولولا إغارة المغول على بلاد الأناضول لسَعَى السلطان بايزيد لتحقيق رغبته تلك[27].
2- فقدان المجر مكانتها بين الدول الأوربية عامة، ودول البلقان خاصة، فقد كان الأوربيون يعتقدون أنها الدولة البلقانية الوحيدة القادرة على التصَدِّي للعثمانيين، وبخاصة بعد فشل البلغار وعجز الصِّرب؛ لكن وقعة نيكوبولي وما أعقبها من هزيمة الصليبيين أزال كل ما كان يحيط بالمجر من مكانة وهالة وهيبة، وبخاصة بعد أن فرَّ ملكُها سيجيز موند الذي كان قد بلغ من الإعجاب بقوة جيش هذه الحملة حدًّا أنه قال: "لو انقضت السماء من عليائها لأمسكناها بحرابنا[28]".
3- عم الحزن والأسى كل أوربا الغربية وبخاصة فرنسا؛ لكونها من أبرز دول أوربا التي كانت تشجِّع الحملات الصليبية؛ بل تستمد مكانتها في أوربا والشرق من هذه الحملات، وفتحت جميع الكنائس في باريس لتخفف عن الناس مآسيهم وأحزانهم[29].
4- سيْطَرَ الخوفُ والرعب من العثمانيين والاعتراف بقوَّتهم الكبرى في أوربا على كل الدول الأوربية الشرقيَّة والغربية، وقد تمثل ذلك في موقف ملك فرنسا الذي بعث وفدًا بالهدايا للسلطان بايزيد؛ لإقناعه بفداء الأسرى الفرنسيين؛ فقبل السلطان بايزيد ذلك بعد دفع مبالغ لذلك، وقد استقبلهم السلطان وقدَّم لهم هدايا للملك شارل السادس، وودعهم عند سفرهم؛ لكنه استعرض الأسرى بحضور الوفد وقائد القوات الفرنسية، وكان دي نيفر كبير الأسرى قد أقسم أمام السلطان ألا يعود لمحاربته؛ فقال له السلطان: "إني لا أنتزع منك يمينًا بألا تعود لمحاربتي، فإني أجيز لك ألا تحفظ هذا اليمين؛ فإذا عدت لبلادك وشعرت مرة أخرى برغبة في محاربتي فأنت في حِلٍّ من ذلك؛ فستجدني دائمًا مستعدًّا لمُلاقاتك في ساحة القِتال؛ إذ لا شيء أحب إليَّ مِن محاربة جميع مسيحيي أوربا والانتصار عليهم؛ لأنِّي ولدت للحرب والغزو"[30].
5- توطدتْ أقدامُ العثمانيين في البلقان أكثر من ذي قبل، ففي المناطق البلقانية التي سبق أن استولى عليها العثمانيون، انتشر الرعب والخوف بين أهلها، وأيقنوا خطورة الخروج على العثمانيين الذي كانوا يقومون به بين فترة وأخرى، فخضعتْ هذه المناطق خُضُوعًا تامًّا؛ وبخاصة أن العثمانيين قاموا بمعاقَبة أهلها الذين قدموا مساعدة للحملة الصليبية الرابعة، وقد تَمَثَّل هذا في تدْميرهم لمعظم أراضي شبه جزيزة المورة، التي قدمت بعضًا من تلك المساعدات[31].
6- أدى فشَل هذه الحملة إلى وقوف البيزنطيين وجهًا لوجه أمام العثمانيين، وليس لهم حامٍ أو مدافعٌ من الأوربيين، فقد كانوا قبل هذه الحملة يركنون إلى دول البلقان وأوربا الغربيَّة، لكن تلك الهزيمة أتاحت للسلطان بايزيد محاصَرة القسطنطينية بغية الاستيلاء عليها، وكان قاب قوسَين أو أدنى مِن فتحها لولا مجيء الخطر المغولي الذي اجتاح مُعظم الأناضول؛ فأصْبَحَ لزامًا على السلطان بايزيد مواجَهته في معركة أنقرة سنة 805 هـ/1402 م، التي انتصَر فيها تيمورلنك والجيش المغولي على السلطان بايزيد والجيش العثماني، ومات السلطان في الأسْر سنة 806هـ/1403م، وكادت أن تسقط الدولة العثمانية إلا أنه على الرغم مِن تعاوُن الصليبيين مع تيمورلنك وتحقيقه لذلك الانتصار الكبير، فإن الدولة العثمانية ما لبثت أن نهضتْ من كبْوتِها، فقد تَمَكَّن السلطان محمد الأول بن بايزيد من إعادة بناء الدولة، وقمع الخارجين عليها ليبدأ عصر القوة الثاني، وينشط العثمانيون في الغزو والفتوح في أوربا بدرجة أقوى من ذي قبل[32].
الخاتمة
لقد تتبع هذا البحث جذور الوجود التركي في الأناضول منذ العصر العباسي الأول، مُرُورًا بجهود دولة سلاجقة الروم في تكثيف هذا الوجود.
وتطَرَّق إلى أساليب السلاجقة التي عمَّقَتْ وزادت من هذا الوجود التُّركي، وأن هذه الجهود والأساليب لا تخرج عن كونِها سياسة من سياسات الاحتواء والتقرُّب والنفع للعناصر التركية قريبة الصلة من السلاجقة؛ كما أنها تنبع من الخوف من هذه العناصر أن يكون بينها رابطة ضد السلاجقة.
إن انتماء السلاجقة والعثمانيين إلى الأتراك الغز، قد أسهم في بروز العثمانيين كقوة مهمة ضمن الإمارات السلجوقية؛ زيادة على أن توسيع السلاجقة ملكهم على حساب البيزنطيين في غرب الأناضول على يد العُثمانيين، قد زاد من قوة هؤلاء في توسُّعهم باسم السلاجقة أولاً، ثم لحسابهم الخاص ثانيًا.
ومن هنا فقد ظهرتْ عوامل دينية وسياسية وجغرافية واجتماعية وغيرها، ساعدتْ على قيام دولة العثمانيين قوية بجانب الإمارات السلجوقية الأخرى الأضْعف منها.
ومن الطبعي أن تتبلور النظرةُ الصليبية ضد العثمانيين في بداية قيام دولتِهم؛ نظرًا لأنَّ توسُّعهم كان على حساب الإمارات البيزنطية في الأناضول، وهذا ما أوجد هذه الحملات الصليبية التي توافقت زيادة في قوتها وكثرة في المتحالِفين معها، مع اتِّساع العثمانيين في أوربا التي شعرت بالخطر العثماني أكثر من ذي قبْل.
ولقد كانت الحملة الصليبية الأولى ضعيفة في تشكِيلها تحمل عوامل الفشل منذ بدء الدعوة لها، وكان هذا طبعيًّا؛ لأنها أول تفكير صليبي للحرب ضد العثمانيين، وكأن وضع هذه الحملات قد أخذ طابع التدرج من الضعف إلى القوة، والقلة إلى الكثرة؛ بحيث إن الحملة الأولى كانت أضعف من الثانية التي هي أضعف من الثالثة وهكذا، وهذا ما أدى إلى فشل الحملة الصليبية الأولى قبل أن يحصل احتكاك مع العثمانيين.
ولا ريب أن فشل هذه الحملة قد رفع من معنويات العثمانيين، وزاد من إصرارهم على الدخول إلى البر الأوربي، والاستيلاء على بعض القلاع والمدن المهمة؛ مثل: تزيمب، وغاليبولي، وغيرهما، مما أدى إلى قيام الحملة الصليبية الثانية، لكن الدعوة إلى هذه الحملة لم تلق الاستجابة الكاملة من ملوك أوربا؛ زيادة على وُجُود بعض الاختلافات عند بعض مَن اشترك فيها مما حقَّق للعثمانيين انتصارًا ساحقًا في وقعة تشيرمن أومارتزا، وبذلك انتهت هذه الحملة بالهزيمة لقوى التحالُف الصليبي.
إن هزيمة الصليبيين في الحملة الثانية لم تصبهم بالإحباط كما كان متوقعًا؛ فقد واجه العثمانيون خطر تحالف آخر ضدهم، وحدثت معركة تيكوبولوي الأولى ضمن الحملة الصليبية الثالثة، وتبادل الصليبيون والعثمانيون النصر فيها في المرحلة الأولى، لكن المرحلة الأخيرة كانت نتيجتها للعثمانيين، فحَقَّقوا نصرًا مؤزرًا على القوى الصليبية، ثم لَمَّ الصليبيون شعثهم، والتقوا بالعثمانيين في قوصوه، وقبل نيكوبولي، ولم يكسب أحد الفريقين الجولة لصالِحه في المراحل الأولى، حتى إذا حدثت المرحلة الأخيرة تحقَّق للعثمانيين فيها نصر كبير على قوى التحالف الصليبي؛ لكنهم فقدوا السلطان مرادًا الأول الذي تولَّى قتله بعض جند الصرب، وأهمية وقعة قوصوه تكمُن في أن الصرب ما زالوا يتذكرون نتيجتها الأليمة عليهم، وهذا ما جعلهم يذكون نار الانتقام ضد المسلمين في أجيالهم المتعاقبة.
ولقد تَمَكَّن العثمانيون من الاستيلاء على ممالك مهمة في أوربا بعد الحملة الصليبية الثالثة؛ مثل: بلغاريا وصربيا وغيرها، وانتشر الإسلام أكثر من ذي قبل في منطقة البلقان، لكن انتصار العثمانيين في وقعة قوصوه قد أثار الذين تولوا مع البابوية الدعوة للحملة الرابعة التي تُعَدُّ أكبر الحملات التي وجهت للقضاء على العثمانيين في عصر القوة الأول.
ويبدو أن الطابع العام لمعارك هذه الحملات تحقيق الانتصار الجُزئي في المراحل الأولى للصليبيين، وحصول العثمانيين على النصر النهائي، وهذا ما حدث في هذه الحملة الرابعة، كما حدث في الثانية والثالثة، فقد انتصر الصليبيون في المرحلة الأولى لمعركة نيكوبولي الثانية، وانتصر العثمانيون في المراحل الأخيرة لها، وقد أدى انتصار العثمانيين في هذه المعركة إلى انتشار الإسلام في البلقان، وكاد العثمانيون أن يستولوا على كل أوربا الشرقية، بل وبعض أوروبا الغربية، وأوْشكوا على إسقاط البابوية لولا تعرضهم لهجوم مغولي كاسح من جهة الشرق أوقع بالعثمانيين هزيمةً شنعاء في وقعة أنقرة على يد تيمورلنك، ومات السلطان بايزيد في الأسر، وانتهى بذلك عصر القوة الأول.
المصادر والمراجع
1- أبو سعيد، د. حامد غنيم.
الجبهة الإسلامية في عصر الحروب الصليبية - القاهرة: نشر مكتبة الشباب، 1971م.
2- بارتولد، فاسيلي.
تاريخ الترك في آسيا الصغرى؛ ترجمة د/ أحمد السعيد سليمان: مراجعة إبراهيم صبري مطبعة المعرفة، نشر مكتبة الأنجلو المصرية.
3- ــــ.
تاريخ الحضارة الإسلامية؛ ترجمة حمزة طاهر - ط2 - القاهرة: مطبعة دار المعارف، 1372هـ.
4- ــــ.
تركستان من الفتح العربي إلى الغزو المغولي؛ ترجمة صلاح الدين هاشم - ط1 - الكويت: نشر المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1401هـ/1981م.
5- بروكلمان، كارل.
تاريخ الشعوب الإسلامية؛ ترجمة: نبيه فارس، ومنير البعلبكي - ط7- بيروت: دار العلم للملايين، 1977م.
6- بك، محمد فريد.
تاريخ الدولة العلية العثمانية؛ تحقيق د. إحسان حقي - ط1 - دار النفائس، 1401هـ.
7- توران، د. عثمان.
الأناضول في عهد السلاجقة والإمارات التركية؛ ترجمة د/ علي بن محمد الغامدي - ط1- مكة: مطابع الصفا، 1418هـ.
8- جرار، مأمون فريز.
الغزو المغولي: أحداث وأشعار - ط1 - عمان - الأردن: دار البشير، 1404هـ.
9- جودت باشا، أحمد.
تاريخ جودت، تعريب عبدالقادر الدنا؛ تحقيق د/ عبداللطيف الحميد - ط1 - مؤسسة الرسالة 1420هـ.
10- جيبون، إدوار.
اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسُقُوطها؛ ترجمة د/ محمد سليم سالِم، طبع الهيئة المصرية العامة للكتاب.
11- الرشيد، سالِم.
محمد الفاتح - ط2 - جدة: مكتبة الإرشاد، 1969م.
12- سليمان، د/ أحمد السعيد.
تاريخ الدولة الإسلامية ومعجم الأُسَر الحاكمة - القاهرة: نشر دار المعارف.
13- ــــ.
مذكرة في تاريخ الدولة العثمانية، لم تنشر.
14- الشناوي، د/عبدالعزيز.
أوربا في مطلع العصور الحديثة - مصر؛ نشر دار المعارف، 1389هـ.
15- ــــ.
الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها، مطبعة جامعة القاهرة، نشر الأنجلو المصرية، 1980م.
16- عاشور، د/ سعيد عبدالفتاح.
أوربا العصور الوسطى - ط3 - مكتبة الأنجلو المصرية 1964م.
17- العقيقي، نجيب.
المستشرقون - ط4 - القاهرة: دار المعارف.
18- كوبريلي، محمد فؤاد.
قيام الدولة العثمانية؛ ترجمة د/ أحمد السعيد سليمان، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر 1967م.
19- لانجر، وليم.
موسوعة تاريخ العالَم؛ أشرف على ترجمتها د/ محمد مصطفى زيادة - القاهرة: نشر مكتبة النهضة المصرية.
20- مجموعة مستشرقين.
دائرة المعارف الإسلامية: ترجمة: محمد ثابت الفندي وزملائه، نسخة مصورة عن طبعة عام 1352هـ/1933م، انتشارات جهان. طهران.
21- ياغي، د/ إسماعيل.
الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي الحديث - ط1 - مكتبة العبيكان 1416هـ.
22- الموسوعة العربية الميسرة، طبعة دار الشعب ومؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر - القاهرة 1965م.