منتدى قصة الإسلام

منتدى قصة الإسلام (http://forum.islamstory.com//index.php)
-   الشريعة و الحياة (http://forum.islamstory.com//forumdisplay.php?f=99)
-   -   إعجاز في آية (http://forum.islamstory.com//showthread.php?t=134361)

نبيل القيسي 10-11-2021 02:17 PM

إعجاز في آية
 
الحمد لله الذي أنزَل على عبده الكتاب ولم يجعل له عِوجًا، أنزَله هاديًا شافيًا وضَّاءً، فشَفَت براهينُه أعيُنًا عُميًا فأبصَرت، وقَرَعت حُججُه آذانًا صُمًّا فوَعَت، وأضاءَت أنوارُه قلوبًا غُلفًا فاهتدَت، فكان أبلغَ دلائل النبوة، وأجَلَّ آيات الصدق والبرهان.



الحمد لله القائل: ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء: 88].



الحمد لله الذي أرسَل رُسلَه مبشرين ومنذرين؛ لئلاَّ يكون للناس على الله حُجة بعد الرُّسل.



الحمد لله الذي اختار الإسلامَ ليكون الدينَ عنده، وخَتم الرسالات برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي أقام في الناس بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا.



وبعدُ:

فأيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وكلَّ عام أنتم بخير.



لا شكَّ أن القرآن الكريم إلى جانب صفاته الدينية والتشريعية، هو النموذج الأمثل الذي أثَّر بوضوحٍ في نفوس مَن سمِعه بقلبه قبل أُذنه، فوعاه وفَقِه مكنوناته وأسرارَه، فترَك في النفس والرُّوح بصماتٍ واضحة، جعلتْ أفئدةَ البُلغاء تَهوي إليه، ورحالَ المُنصفين العُقلاء تُشَدُّ إليه؛ لتَحُطَّ عنده.



وقد استعلَت معجزة القرآن الخالدة فوق جميع المواهب الأدبية قاطبةً، وبزَغت شمسُها فوق سائر الشعوب، فارتقَت لذلك العربية، فإذا هي قد برَزت في أدبها وفصاحتها وبلاغتها في حُلة قَشيبة، ما سبَقتها إليها لغة قبلَها ولا بعدها.



وخاطَب الله بهذا الكتاب العقلَ والفكرَ والفؤاد، فانبهرَت له أبصارُ الأدباء، وبصائر العلماء، وأُسِرَت به مشاعر البلغاء، وعُقِدت لدهشتها منه ألسِنة الخطباء والشعراء.



قد شعَّت ألفاظه نورًا، وفاضت كلماته رِقَّة وعذوبة، وتدفَّقت حروفه جَزَالة وجلالاً، فإذا به وقد انساب في ثنايا النفس وحنايا الضلوع، صافيًا نميرًا غضًّا طريًّا، فأمسَك بنواصي الأفكار ومجامع الأحاسيس، وسحَر بيانُه من استمَع له من الجن والإنس، وما هو من السِّحر في شيءٍ، بل هو تنزيل ربِّ العالمين، نزَل به الرُّوح الأمين بلسان عربي مبين.



كثيرة هي الآيات القرآنية الكريمة، التي نقف أمامها طويلاً بخشوع وتدبُّرٍ، وننظرُ إليها نظرة الباحث الفاحص المتأمِّل، وبخاصة تلك الآياتُ التي تحمل بين طيَّاتها إعجازًا علميًّا أو بيانيًّا.



أتى العلم الحديث ليكشف عن جانبٍ من خفاياها، ويُميط اللثامَ عن بعض ما احتَوته من حقائقَ ومعلومات، في عصر تفجَّرت فيه ينابيعُ العلوم والمكتشَفات، وظهرت فيه بذلك عظمةُ الخالق - عز وجل - جليلةً باهرة.



ونتيجة لذلك فقد بدَت معالمُ إبداع صُنع الله في خلْق جسم الإنسان، الذي سوَّاه في أجمل صورة، فجعله في أحسن تقويم، فإذا بالجسد يغدو معجزة تحمِل بين جَنباتها مئات المعجزات التي تَشهَد بوحدانيَّة الإله، وتَنطق بإعجاز الخَلق والتكوين، وتَدعونا إلى الإيمان، ولسان حالها يقول وينادي: ﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الذاريات: 21].



ومن تلك الآيات التي كثيرًا ما وقفتُ عندها، وتدارستُها، وحاولتُ سَبْر أغوارها: قولُ الله - تعالى - في سورة النساء: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 56].



ودارَت في مُخيلتي أسئلةٌ كثيرة حول حال أهل النار في ظلِّ هذه الآية الكريمة، وما ينتظرهم من عذاب الله - تعالى - الذي استحقَّ عليهم، لِمَا اقترفَته أيديهم من كُفر وظُلمٍ وتفريط في جَنْب الله، وماذا عن تخصيص جلْد الإنسان في هذه الآية، دون غيره من أعضاء الجسم.



ما الذي قصده الله - تعالى - من كلمة ﴿ نَضِجَتْ ﴾؟ ولماذا تتبدَّل الجلود حينها بجلود غيرها؟ ولماذا كان التبديل خاصًّا بالجلد دون غيره من أعضاء الجسم؟ ولِمَ قال - تعالى-: ﴿ لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ﴾؟ وكثير من الأسئلة الأخرى التي دفعَتني إلى دراسة هذا الموضوع عن كَثبٍ، وعدم المرور أمامَ ألفاظ هذه الآية الكريمة من دون تدقيقٍ في مقصودها ومعانيها.



فكان أن عدتُ إلى كتب التفسير واللغة، والطب الحديث، ولعلي أكون قد وُفِّقتُ لأقف على بعض ما احتَوته الآية من أسرارٍ وإبداعٍ تصويري بَياني مُحكَم، كيف لا وهي آية من آيات القرآن الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو الكتاب المُنزَّل من لدُن حكيم عليمٍ؟!



أيها الإخوة والأخوات:

ما كان بوسع أحد قبل اختراع عدَسات المِجهر المكبِّرة، وتقدُّم علمَي التشريح والأنسجة - معرفةُ تفسير الحقيقة الغائبة، والبوحُ بالأسرار الخفية التي أشار إليها القرآن الكريم منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا، والتي نحن اليومَ بصدد الحديث عن جوانبَ منها، أثبتتها بحوثُ العلماء المعاصرين بعد دراسات دقيقة متأنِّية؛ لتتجلَّى بنتائجها المعجزة، ولتَظهر بوضوح آياتُ الله - تعالى - في الآفاق وفي أنفسنا البشرية؛ حتى نُؤمن ونُدرك، ويتبيَّن لنا أنه الحقُّ.



يَجدر بنا أيها الإخوة قبل أن نخوضَ في الحديث عن أسرار هذه الآية الكريمة، وما احتَوته من صور بيانيَّة بديعة - أن نقف قليلاً، ونُمعن النظر في بعض الحقائق العلمية التي تخص جلد الإنسان، وهو موضوع بحثنا وتأمُّلنا، فهو الجزء الذي يشهد مسرحًا لحدوث بعض العمليات الخاصة، التي تقود في نهاية الأمر إلى ظهور تغيُّرات تشريحيَّة ووظيفية؛ نتيجة لتعرُّضه إلى عملية الاحتراق بالنار، وستُعيننا الثوابتُ العلمية والحقائق تلك على فَهْمٍ أعمقَ وإدراكٍ أوسعَ، لِما تحمله الآية بين طيَّاتها من دلائلَ وإشاراتٍ، وإعجاز علمي ولغوي.



يتكون جلدُ جسم الإنسان من طبقتين تشريحيَّتين رئيسَتين؛ هما: البشرة Epidermis، والأدمة Dermis، وتتفرَّع كلٌّ من هاتين الطبقتين إلى طبقات أدقَّ؛ إذ تنقسم البشرة (وهي الجزء السطحي الظاهر من جلد الإنسان)، فتتفرَّع إلى أربع طبقات، تتوزَّع خلالها خلايا الجلد في نَسَق دقيقٍ؛ بُغية القيام بوظائفها الفسيولوجية المنوطة بها، ويَبلغ متوسط سُمك طبقة البشرة هذه 0,1 ملليمترًا.



وتقسَّم طبقة الأدمة - (وهي طبقة الجلد الأخرى التي تلي البشرة) - إلى طبقتين دقيقتين، ولكلٍّ منهما خلاياها الخاصة، وهي ذات سماكة أكبر من البشرة، فقد تصل إلى ثلاثة ملليمترات في بعض أجزاء الجسم، وتضم طبقة الأدمة بين ثناياها الكثير من النهايات العصبية، والشعيرات الدموية، وبعضَ الغدد الدهنية والعرقيَّة، ويزِن جلد الإنسان البالغ قرابةَ أربعة كيلوجرامات، وتتراوح مِساحته الإجمالية بين المتر الواحد المربع والمترين.



ما وظيفة جِلْد الإنسان؟

لعل القليل منَّا مَن يعلم أن لجلد الإنسان وظائفَ هامة، تجعله أحدَ أهم أعضاء الجسم اللازمة لاستمرار حياة الجسم بصورة طبيعية، لا يَعتريها داءٌ أو علة أو سَقَمٌ؛ فالإنسان لا يستطيع أن يعيش من غير جلدٍ، وفقْد مساحة كبيرة منه لأي سببٍ كان قد يهدِّد حياة المريض؛ وذلك لأنه يعمل حاجزًا منيعًا يقي جسمَ صاحبه وبيئته الداخلية، من دخول الجراثيم والكائنات المِجهرية الدقيقة، التي لا تُرى بالعين المجرَّدة.



ونُشبِّه الجلد هنا، فنقول: إنه سورٌ يُحيط بقلعة الجسم، ودِرعُ حماية يقف صامدًا أمام الأعداء الغاشمين، فهو إذًا خطُّ الدفاع الأول أمام هجوم هذه الكائنات الحية الضارة، التي يُمكن لها غزو الجسم في حال عدم تغليف الجلد له، وبالتالي إصابته بالكثير من الأمراض الالتهابيَّة.



من جانبٍ آخر، فإن جسم الإنسان يحوي كميات كبيرة من السوائل الفسيولوجية الهامة، التي يقف الجلد حائلاً قويًّا أمام عملية تبخُّرها وخروجها من محيط الجسم وبيئته الداخلية، وبالتالي تتم المحافظة على رطوبة الجسم ضمن حدودها الطبيعية، وعدم إصابته بالجفاف، ويساهم الجلد أيضًا في تنظيم درجة حرارة الجسم؛ حيث يعمل بآليات وظيفية معقَّدة، تدخل في تنظيمها العديد من أعضاء الجسم الأخرى، على ضبْط درجة الحرارة عند حدودها الطبيعية، وذلك حتى يتمكَّن الجسم من القيام بتفاعُلاته الحيوية بشكلٍ دقيق.



وأخيرًا، فإنَّ للجلد أيضًا دورًا في المشاركة بصناعة بعض الفيتامينات الهامة، وأهمها: فيتامين (د)، وله كذلك مهام في تنظيم ضغط الدم في جسم الإنسان.



ما أسباب حروق الجلد؟

تُحيط بنا ونحن نحيا في عصر المدنية الحديثة، وتطوُّر وسائل المكننة والتقنية - العديدُ من مصادر الطاقة والحرارة، وتتفاوت قوة تلك المصادر ما بين خفيفٍ، أو متوسطٍ، أو شديد التأثير؛ وذلك بناءً على قوة المصدر الحراري، ومقدار ما يَنبعث منه من طاقة.



تتحكم مدة تعرُّض الجسم للمصادر الحرارية، ودرجة تماسِّها المباشر مع سطح الجسم، في حِدَّة الأذى الناتج عنها، وبمعنى آخر، فإن تعرُّض الجسم لمصدر حراري قوي مع تماسِّ مباشر مدة طويلة - يزيد خطرًا عن التعرُّض العابر لجسم ذي درجة حرارة منخفضة، ويمكن لنا تقسيم مُسبِّبات الحروق الجلدية الناتجة عن تعرُّض الجسم إلى مصدر حراري إلى الأسباب التالية:

1- الحروق الناتجة عن السوائل المَغليَّة، ومن أمثلتها تعرُّض الجسم للماء المغلي، والمشروبات الساخنة؛ كالشاي والقهوة، وزيت الطهي المُعد لقلي الطعام، وهذه الحروق أكثر مشاهدة وحدوثًا لدى الأطفال، ويكثُر حدوثها في المنزل، أثناء مغافلة الطفل لأهله، فيدخل إلى الحمام، ويَنتج عن ذلك تعرُّضه للماء الساخن المتدفِّق من "الحنفية"، وكثيرًا ما تَحدُث مثل هذه الإصابات في المطبخ كذلك؛ إذ يدفع الفضولُ بالطفل لمعرفة ما تَعُده والدته من الطعام، فيلجأ إلى كشْف غطاء آنية الطبْخ، فيجري ما فيها من طعامٍ مغليٍّ، فيُصيب جلد الطفل.



2- حروق النار، وتعرف علميًّا باسم حروق اللهب Flame burn، وهذه تمثل أعلى نسبة حدوث للحروق الناتجة عن مصادر الحرارة، وتتعدَّد أماكن حدوثها، فقد تُصيب المنزل، ومكان العمل والمدرسة، وأماكن التجمُّعات العامة، وكثيرًا ما تحدث هذه الإصابات في صورة كوارث إنسانية تُودي بحياة الكثيرين، ومن ذلك الحريقُ الهائل الذي حدَث في سيرك نيتروي بالبرازيل الذي قُتِل على إثره أكثر من 400 شخص.



3- الحروق الناتجة عن التيارات الكهربائية، وبطاريات الطاقة المختلفة، وهذه قد يكون لها تأثير قاتل في حال ملامسة الجسم للطاقة ذات الجهد المرتفع، التي سَرعان ما تَنتشر لتصيب العديد من أعضاء الجسم الداخلية، بالإضافة إلى إصابة مكان التماسِّ وهو الجلد، وتمتاز نسبة كبيرة من حروق الكهرباء بعُمق الإصابة وخطورة عواقبها.



4- الحروق الكيميائية، مثل تلك الناتجة عن ملامسة الجلد للأحماض أو المواد القاعدية، وأكثر ما تُشاهد هذه الحروق في المصانع التي تعتمد في صناعتها على هذه المواد، وفي المختبرات العلمية أثناء تحضير بعض الكيماويات، وتُشاهد بنسبٍ أقلَّ في البيوت أثناء ملامسة الجلد لبعض المنظفات القوية ذات التركيب الكيميائي المركز.



هل جميع حروق الجلد ذات خطورة واحدة؟

تعتمد خطورة الحروق - بصورة عامة - على مساحة سطح الجلد المحروقة، وعلى عُمق الحرق، ومدى تخريبه لأنسجة الجلد وخلاياه، وبناءً على ذلك فإن إصابة جزءٍ صغير من الجلد، أقلُ خطورة وتأثيرًا من إصابة الجزء الأكبر منه، وهذا يعني أن هناك تناسبًا طرديًّا بين مساحة الجلد المحروق وخطورة الحالة، فإن زادت الأولى، زادت أختها، وهكذا.



وقد فصَّل العلماء المختصون الحديثَ عن خطورة الحروق، بتصنيفها - (أيًّا كان مسبِّبُها من مصادر الحرارة) - اعتمادًا على سماكة الجزء المحروق من الجلد، ومدى تأثُّر طبقتيه: (البشرة، والأدمة)، وهنا يتم تصنيف الحروق إلى:

1- حروق سطحية تُصيب طبقة البشرة فقط، وهذه تتماثل للشفاء بسرعة في حال تقديم العلاج المناسب، وتُعرف هذه الحروق علميًّا بحروق الدرجة الأولى.



2- حروق عميقة، وهذه تصيب طبقة البشرة، ويتعدَّى تأثيرها باتجاه أعمق، ليصِل إلى طبقة الأدمة، وهي بالطبع ذات خطورة أكبر من سابقتها، وفي هذه الحروق قد يتأثر جزءٌ صغير فقط من الأدمة، وهنا يكتسب الحرقُ صفة الدرجة الثانية.



وفي حروق أخرى أشد خطورة، يتأثَّر كامل طبقتي الأدمة والبشرة؛ ليُعرَف الحرق حينها أنه من الدرجة الثالثة، وقد تصل الإصابة إلى ما دون الأدمة من الأنسجة وأجزاء الجسم العميقة، كالعضلات أو العظام، وهذا أخطر الأنواع على الإطلاق، وتُطلق عليه بعض المراجع العلمية مصطلح: حرْق الدرجة الرابعة.



ما المشكلات الصحية التي تَنتج عن الحروق؟

كغيرها من الإصابات والأمراض المختلفة التي يتعرَّض لها جسم الإنسان - فإن للحروق مشكلاتها الصحية، التي تتراوَح خطورتها بين الخفيفة والشديدة القاتلة، ويُمكن لنا تقسيم ما تُخلِّفه الحروق من تأثيرات في صحة الجسم، إلى مضاعفات موضعية وأخرى عامة.



يُقصد بالمضاعفات الموضعية: تلك التي تَحدُث في موضع الحرق؛ أي: في المكان الذي تعرَّض فيه الجلد إلى مصدر الحرارة المباشرة، ومن أمثلتها: التهاب الجلد، والنزيف، وظهور التشوُّهات بأشكالها المختلفة، وتساقُط الشعر، وتغيُّر درجة لون الجلد، والإصابة ببعض أنواع سرطان الجلد، وهذه الأخيرة قد تَحدث بعد سنوات طويلة لاحقة من الإصابة بالحرق.



أما المضاعفات العامة، فتحدث في أي جزءٍ من أجزاء الجسم، وليس بالضرورة أن يكون هذا الجزء قد تعرَّض بصورة مباشرة إلى المصدر الحراري، فقد تتأثَّر بعض أعضاء الجسم الداخلية نتيجة لهذا الحرق، ومن أمثلة هذه التأثيرات: الاختناق الناتج عن الأبخرة والغازات المصاحبة لعملية الاحتراق، الذي يؤدي إلى إصابات بليغة في الجهاز التنفسي، وقد تكون قاتلة في حالات كثيرة.



ومن المشكلات الصحية الأخرى: فشل الكُلى، وقُرحة المعدة، وما يُعرف بتجرْثُم الدم Septicemia، وهي أخطر المضاعفات على الإطلاق، وتعني: انتشار الجراثيم من المكان المصاب إلى أجزاء الجسم المختلفة، عن طريق الدورة الدموية للجسم.



ومن المضاعفات كذلك: فشل القلب، وفِقدان سوائل الجسم، واضطراب نظام معادنه وأملاحه، وإصابة الجسم بالصدمة Shock، وهي حالة مرضيَّة خطيرة تؤدي إلى تدهور سريع في وظائف الجسم وأجهزته المختلفة.



تعتمد النقطة الأولى في برنامج معالجة الحروق الناجح، على إبعاد المصاب بسرعة عن المصدر الحراري، وتجريده من ثيابه التي تأثَّرت بذلك المصدر؛ وذلك لأن بقاء الثياب المحترقة في تماسٍّ مباشر مع الجلد، يؤدي إلى المزيد من تخريب الأنسجة والخلايا؛ لاستمرار التفاعل الحراري بين الثوب الساخن وسطح الجلد.



يلي ذلك صبُّ كميَّات كبيرة من الماء فوق الأجزاء المحروقة، ولهذا الماء دورٌ كبير في تخفيف شدة الألَم، ثم يتم تَغطية الأماكن المحروقة بثوبٍ نظيف، ويجب بعدها نقْل المريض إلى أقرب مستشفى؛ حيث يتم هناك تخفيف الألم بإعطاء الأدوية المسكِّنة، والبَدء بالمعالجة النوعية المتخصِّصة للحرق.



يُعَد تعويض ما فقَده الجسم من السوائل، حجر الأساس الأهم في خطة الحروق العلاجية، وتتفاوَت كميَّة السوائل المُعطاة من مريضٍ لآخر، وتُعطَى عادة في صورة محاليلَ وريدية.



وقد تحتاج بعض الحالات المصابة بحرق عميقٍ، إلى تدخُّل علاجي جراحي، وأكثر ما يتم إجراؤه هنا عملية إزالة أجزاء الجلد الميت Escharectomy ، وتعني: تنظيف الجسم من بقايا عملية الاحتراق ومخلَّفاتها العالقة؛ لأن بقاء هذه الأجزاء قد يؤدي إلى انتشار الالتهاب إلى أعضاء أخرى سليمة.



والعملية الأخرى هي: تطعيم الجلد Skin Grafting، ويُقصَد بها: أخْذ جزءٍ من الجلد السليم غير المحترق، ووضعه مكان الجلد المصاب؛ حيث تتم تغطية المناطق المكشوفة التي سقَط الجلد عنها، بهذا الجلد الجديد المزروع، الذي سيؤدي معظم وظائف الجلد الطبيعي لاحقًا.



وأخيرًا، فإنه يجب توقُّع حدوث بعض التشوُّهات التالية للحروق العميقة، وهذه تستدعي تدخُّلاً جراحيًّا تجميليًّا في وقتٍ لاحق، وهناك العديد من عمليات التجميل التي تطوَّرت في الآونة الأخيرة، والتي تَهدف إلى خدمة هذا الغرض.



وقفة مع حال أهل النار في الآية الكريمة:

والآن أيها الإخوة والأخوات، وبعد هذه اللمحة العلمية الموجزة، عن طبيعة خِلقة جلد الإنسان، وما يُمكن أن يَعتريَه من التغيُّرات والاضطرابات الوظيفية والفسيولوجية، التي تلي تعرُّضَه إلى الحرارة الشديدة - سنقف بعض الوقت مع الألفاظ الكريمة والإشارات التي ورَدت في هذه الآية الكريمة، التي تصوِّر بعض حال أهل النار، وشيئًا مما يَعرِض لهم من عذابها، وهم الذين وقَع عليهم وعيد الله - تعالى - بتعذيبهم في نار جهنَّمَ؛ نتيجة كُفرهم وعِصيانهم، لَمَّا أغمضوا أبصارهم وبصيرتهم عن نور الحق، واستجابوا لنداء الهوى والنفس والشيطان؛ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 56].



إنه لمشهد عظيم، يبدأ ولا يكاد ينتهي، وهو مشهد شاخص متكرِّر، يَشخَص له الفكر والخيال، ويَحار لهوْلِهِ العقل واللبُّ، ولهذا الهول جاذبية تأْسِر وتَقهَر، وقد أبدع سياق الآية الكريمة في رسْم المشهد والصورة الدقيقة، فاعتبِروا يا أُولي الألباب.



في حقيقة الأمر، فلِكَيْ نعطي الآية بعض حقها من الشرح، وإيضاح ما احتَوته من أسرار وإعجاز لغوي وبياني، فإنه يجب علينا الوقوف أمام كل كلمة تضمَّنتها هذه الآية، وسوف نرى أن كل لفظة من ألفاظها الكريمة، تحمل في طيَّاتها الكثيرَ من الأسرار والمعاني والإشارات، التي أخذ يَكشف عن نقابها العلمُ الحديث شيئًا فشيئًا.



تتحدث الآية الكريمة عن الحال التي سيؤول إليها أهل النار ممن كفَر بآيات الله، وجحَد ما أنزَله على رُسله، وقد ورد في النص قول الحق ﴿ سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ﴾، وكلمة (سوف) تعني: حدوث فِعْلٍ في المستقبل مؤكَّدٍ مُحتم، لا بد منه، ولا مفرَّ، ولا مَلجَأ، ولا منجى، فالحادثة لا شك إذًا واقعة، وما يُبدَّل القول، وسيتحقَّق الوعد، وسيجيء الوعيد، وسوف يَصلى الكافرون إذًا نارَ جهنَّمَ لا مَحالةَ، وما ربُّك بظلاَّم للعبيد، ولكن الناس كانوا أنفسَهم يظلمون.



وأصل الصِّلَى في اللغة: الإيقاد بالنار والابتلاء بها، وصَليتُ الشاة: أي شَويتها، قال الخليل: صَلِيَ الكافرُ النارَ؛ أي: قاسى حرَّها، وقال الطبري: سوف يُنضَجون في نار يُصْلَون فيها؛ أي: يُشْوَون فيها.



أما الحافظ ابن كثير، فقد فسَّر الصِّلى بالنار بدخولها دخولاً كاملاً، يُحيط بجميع أجرام الكافر وأجزائه، فهي - والعياذ بالله - عن يمينه وشماله، ومن فوقه وتحته، وأمامه وخلفه، فلا يكاد يُرى لها بدٌّ، ولا منها مَهربٌ أو مفرٌّ.



ثم ورَدت في الآية الكريمة كلمة ﴿ كُلَّمَا ﴾، وهي لفظ معروف يدل على استمرار حدوث الفعل، وتَكرار المعنى في دورات متجددة، ولا انتهاءَ لها، وتدل أيضًا على عدم توقُّف الحدث عند حدٍّ معيَّن، بمعنى أن فِعلَ الصِّلَى بالنار والاحتراق بها، مستمرٌّ دائم، وتأثير مصدر الحرارة في الأجساد هنا - وهو النار - لا ينقطع عن الجلد، والعقوبة مستمرة، والنَّكال لا يَنفكُّ.



ويحتاج لفظ ﴿ كُلما ﴾ - كما يقول أهل اللغة - إلى جملتين، تترتَّب إحداهما على الأخرى، وفي مثالنا هنا في هذه الآية الكريمة، نرى جليًّا أنه كلما نضِج جلد أهل النار السابق، بُدِّل جلدًا آخر غير مُحترق، فتَرَتَّب تبديلُ الجلود إذًا على نُضْجها.



وهكذا يستمر شريط طويل وحلقات متعاقبة، من عملية الاحتراق المتواصلة التي يتلوها نُضْجٌ للجلود وتبديلٌ، فنُضجٌ وتبديلٌ آخَران، دون أن يقفَ مسرح الأحداث هذا عند مرحلة معيَّنة، أو زمنٍ ما، فتغدو العملية إذًا ذات بداية لا نهاية لها إلى أن يشاء الله، وعن ذلك يقول الحسن: "تأكل النارُ جلودَهم كلَّ يوم سبعين ألف مرة، كلما أكَلتهم، قيل لهم: عودوا، فعادوا كما كانوا".



ثم تأتي أيها الإخوة والأخوات، الكلمة التالية في سياق الآية الكريمة، وهي ﴿ نَضِجت ﴾، ويورد ابنُ منظور في لسان العرب مادةَ (نَضِج)، وعنها يقول: نَضِج اللحمُ شـِواءً، إذا أُدرِك شيُّه، وقال صاحب المفردات: نَضِجَ اللحم نُضجًا ونَضْجًا إذا أُدرِك شَيُّه.



وعلى كل حال، فالمعنى ظاهر بيِّن، لا غُبار عليه، واللفظ جاء عنيفًا مُفزِعًا، فهو صورة وانعكاس للحالة التي يكون عليها الجلد المحروق، بعد فترة من بداية احتراقه إلى أن يبلغ نهاية عملية الشَّيِّ بالنار، فمن المعروف أنَّ عملية النُّضج لا تَحدث بسرعة؛ أي: إنه يَسبقها مرور وقتٍ ليس بالقصير، من التعرُّض المستمر والمباشر إلى ألْسِنة اللَّهَب.



بالطبع فإنَّ عذابًا كهذا الذي يُصيب أهل النار، لا يقف بُرهة خلال عملية الشِّواء، بل إنَّ الألَم يبدأ من لحظة تلامُس النار مع الجلد، ويستمر دون كَللٍ أو مَللٍ، ويزيد هذا الألَم تدريجيًّا؛ ليتدرَّج الحرق كما عرَفنا قبل قليلٍ، بَدءًا من الدرجة الأولى، ومرورًا بالثانية، فالثالثة، فالرابعة، وهي كما علِمنا أعمقُ درجات الحرق.



وهكذا يَستمر مسلسل عملية الاحتراق، وشريطه الذي لا يعرف الكَلل أو المَلل، وتتخرَّب خلايا الجلد وأنْسِجته تدريجيًّا؛ مما يُفقد الجلد قِوامه وتماسُكه، ويزول عنه بريقُه ولَمعانه، وتضيع معالمه التشريحية شيئًا فشيئًا، إلى أن يصل الأمر بالجلد إلى مرحلة الشِّواء التام والنُّضج، وهنا يكون الجلد قد تساقطتْ عنه خلاياه، وأخذتْ أنسِجته تتآكلُ تحت تأثير ألسِنة النار المُحرقة حتى تذوبَ تمامًا، ولا يَبقى في الجلد بعد الآن رَمقٌ من حياة، أو طاقة من إحساسٍ.



تتوالى أحداث قصتنا الرهيبة هذه أيها الإخوة تِباعًا، ويَعقُب ذلك مرحلة جديدة، وهي خطوة عجيبة خارقة للطبيعة المألوفة، وتحدُث بقدرة الله - تعالى - وإرادته، التي لا يقف أمامها شيء، إنما أمْره - تعالى - إذا أراد شيئًا أن يقول له: كن، فيكون، فيأتي الأمر الإلهي هنا بتبديل جلود أهل النار، وهنا يتبادَر إلى الأذهان سؤال: لماذا ورَد اللفظ القرآني هنا ﴿ بدَّلناهم ﴾، ولم يقل (أبْدَلناهم)؟! وهل ثمَّة فارقٌ في المعنى والمضمون بين هذين اللفظين؟!



في الحقيقة، إنَّ هناك بونًا شاسعًا بين الكلمتين (بدَّلناهم، وأبدَلناهم)، وأفاض أهل اللغة في تعليقهم على هذا الموضوع، وهذا يضيف إلى قائمتنا لونًا بيانيًّا وضربًا إعجازيًّا جديدَين، ومما ورَد في كتب اللغة من تعريف التبديل، (وهو مصدر بدَّلناهم الواردة في الآية): جعْلُ نفس الشيء مكانَ شيءٍ آخر، ومنه أيضًا: تغيير الصورة إلى صورة أخرى، مع بقاء الجوهرة بعينها.



أما الإبدال، فهو مصدر للفعل (أبدلناهم)، ولم يَرِد في آيتنا الكريمة تلك، فهو يعني تَنحية للجوهرة، واستئنافَ جوهرة أخرى مختلفة تمامًا؛ أي: وضْع شيءٍ مغاير تمامًا مكانَ شيءٍ آخر.



قال ثعلب مُعلِّقًا على هذه الآية فيما نقَله صاحبُ التاج: فهذه هي الجوهرة نفسُها، وتبديل الجلود تغييرُ صورتها إلى غيرها؛ لأنها كانت ناعمة، فاسْوَدَّت من العذاب، فرُدَّتْ صورة جلودهم الأولى لَمَّا نضِجت تلك الصورة، فالجوهرة إذًا واحدة، والصورة هي المختلفة.



وما يخصُّنا هنا هو العملية الحيوية العجيبة، التي تعتري جسم الإنسان، ويحدُث فيها أن تتكاثرَ خلايا الجلد وأنسِجته المحروقة من جديد؛ مما يؤدي إلى ظهور جلدٍ آخرَ، غير الذي سبَق له أن احترق حتى نضِج، إلا أن الجلد الجديد هذا شبيه بسابقه تمامًا، مثيلٌ له، مكتملُ التركيب، تامُّ المعالم والوظيفة، ويضمُّ بين دَفَّتيه كلَّ مكونات الجلد السليم، لا يَنقصه منها شيءٌ، في حين أنَّ لفظة (أبدلناهم) تعني: الإتيان بشيءٍ جديد وعنصر آخرَ، قد يكون مختلفًا عن الجلد، والله - تعالى - إنما يريد الجِلدَ نفسَه بجميع عناصره ومكوِّناته وأنسِجته، وخصائصه السابقة التي كان الخَلق الأول عليها.



ومرة أخرى سيخضع هذا الجلد الجديد - في نار جهنَّمَ - لعملية تعذيبٍ أخرى بالنار في دورة جديدة، وهكذا تحدُث عملية تسلسل متكرِّرة، بدايتها في احتراق الجلد تدريجيَّا، إلى أن يصِل إلى مرحلة الشِّواء، فالنُّضج التام، الذي سيتلوه تساقُط للجلد المحروق، وهذا بدوره سيَليه تبديلٌ جذري لهذا الجلد المصاب، بظهور جلدٍ آخرَ يَحِلُّ محله.



وهكذا تستمر هذه العملية من العذاب الدائم الذي لا انقطاع له، ويبقى الكافر في دوَّامة من العذاب لا تنتهي، فما أن يخرجَ من دورة احتراقٍ، حتى يدخل في أخرى، وتكتمل فيهم حلقات الشقاء والبؤس، حين ينادي المنادي: يا أهل النار، خلود فلا موت؛ كما جاء في الحديث الشريف، ويظهر حينها الندم على ما كان من صدِّ الآذان عن سماع الحق الذي جاءَت به رُسل الله، ولاتَ ساعة مَندم.



ويتمنَّى حينها أهلُ النار الموتَ، وينادون مالكًا يرجونه أن يقضيَ عليهم ربُّه، فيُخلصهم مما هم فيه من ذلٍّ وعذابٍ مُهين، فيأتيهم الرد مُقبِّحًا لهم وزاجرًا: إنكم ماكثون، فلا خروج عن المكان ولا نزوحَ، وينادي الكافر - وقد أكَلت الحسرة كبده، ومزَّقت قلبه وفؤاده -: يا ليتني كنت ترابًا.



ويختم الله - تعالى - قوله الكريم، مصوِّرًا ذلك المشهد الرهيب بجملةٍ شرطية واحدة: ﴿ لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ﴾، وهي تعليل لقوله - تعالى -: ﴿ بَدَّلْنَاهُمْ ﴾، وهنا يظهر إعجاز بياني جديد، فقد ثبتَ علميًّا أن جلدَ الإنسان الطبيعي يضمُّ في سطحه الفسيح، الكثيرَ من نهايات الأعصاب الحسيَّة، وهي نقاط الحسِّ التي يبدأ منها صدور الشعور، فتُترجِم شعور الجسم بالألم والحرارة؛ لأن تعرُّض هذه الأعصاب الجلدية إلى مصدر الألم أو الحرارة، يؤدي إلى إرسال إشارات سريعة خاصة إلى الألياف العصبية، وصولاً إلى الدماغ والجهاز العصبي في جسم الإنسان، وهناك يتم إدراكها واستبانة دَلائلها؛ مما يعطي شعور النفس بالألَم والإحساس به، وذلك بحسب عادة خلْق الله تعالى، وفِطرته التي فطَر الناس عليها.



ومن عجائب خلْق الله في هذا المجال: الدقة المتناهية والسرعة الفائقة، التي تمتاز بها نواقلُ الإشارات من الألياف العصبية؛ إذ يبلغ قطرها 1 / 4000 من البوصة، وتبلغ سرعة نقْلها للرسائل 200 ميل في الساعة.



وفي حال إصابة الأعصاب بمرضٍ ما أو اضطراب وظيفي، والمثال الذي يهمنا هنا هو احتراق أعصاب الجلد، فإن هذه الوظيفة تتعطَّل، فيتوقَّف ساعي البريد الذي يحمل الرسائل، وتنقطع وسيلة الاتصال بين الجلد والجهاز العصبي، ويُفقَد حينها الشعورُ بالألم تدريجيًّا إلى أن يختفيَ تمامًا.



إذًا فلولا عملية تبديل الجلد التي سيَخضع لها المعذَّبون من أهل النار، ولولا الأعصاب الجديدة التي ستظهر في جلودهم الجديدة - لفقَد أهل النار الشعورَ بالألم حينما تَنضَج جلودُهم أول مرة، ولغدَت عملية التعذيب قصيرة، وذات نهاية ستأتي حتمًا وإن طال انتظارها، إلا أنَّ قدرة الله - تعالى - وإرادته، أبَت إلا أن يتبدَّل الجلد بجلد غيره يرجع كنظيره السابق؛ بُغية أن يدومَ على أهل النار تذوُّقُهم للمزيد من الأذى والعذاب اللذين لا يَقفان لحظة واحدة ولا ينقطعان؛ جرَّاء ما اقترَفته أيديهم من التفريط في جَنب الله.



لكن يظهر لدينا الآن سؤال: لماذا قال - تعالى -: ﴿ لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ﴾؟ وعلى مَن يعود الضمير هنا؟

نجيب عن ذلك فنقول: إن الهدف المقصود هنا من عملية التعذيب بالنار، هو تعذيبُ النفس والبدن، وإيلامُ رُوح صاحب الجسد المعذَّب، وليس المطلب هو تعذيب الجلد نفسه، ولو أُريد تعذيب الجلود ذاتها، لقيل في الآية: (لِيَذُقْنَ الْعَذَابَ) بدلاً عن ﴿ لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ﴾.



وفي ذلك ورَد عن الزمخشري في الكشاف:

فإنْ قيل كيف تُعَذَّب مكانَ الجلود جلودٌ لم تَعصِ الله؟ قلتُ: العذاب موجَّه للجملة الحسَّاسة، وهي التي عصَت لا الجلد، وهذا يعني أنَّ طاقة العذاب ومَطارقه التي لا تَرحَم موجَّهة نحو صاحب الجلد ونفسِه التي يَحملها بين جنبَيْهِ.



وثمة سؤال آخر يُثيره هنا أهل اللغة: لماذا جاء النص ﴿ لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ﴾، وليس (لِيَتَذَوَّقُوا الْعَذَابَ)؟ وهل مِن فارقٍ بين عملية الذَّوق وعملية التذوُّق؟

نعم، هناك فرق كبيرٌ بين اللفظين، واختيار الذوق بدلاً عن التذوُّق، جاء في مكانه الدقيق في الآية الكريمة، مُصوِّرًا للحالة التي سيكون عليها العذاب في النار، وعن ذلك يفصِّل أهل اللغة الكلام، فذاق الطعام؛ أي: خَبر طَعمه، بينما تذوَّق الطعام تعني: شعَر بطعمه شيئًا بعد شيءٍ.



وإن أردنا قياس ذلك على موضوعنا في ظل الآية الكريمة، نرى أن أهل النار سيذوقون عذابها، وهذا يعني أن شعورهم بمذاق العذاب لا يقف بُرهة ولا يَنفك، فطعمه إذًا دائم مستمر متواصل، أما إن قيل: إنهم سيتذوقون العذاب - لكان حينها طعمُ ذاك العذاب متدرِّجًا، وقد تتخلَّله فترات من الراحة والهدوء، أو فواصلُ من عدم التعرض للعذابِ، وهذا ما نفَته الآية الكريمة نفيًا قاطعًا، حين اختارت أسلوب ذوق العذاب لا تذوُّقه.



أيها الإخوة:

وفي مقابل هذا المشهد المكروب من العذاب الشديد والسعيرِ المتأجج، والنار التي لا تَخبو، والألَم المستمر، والجلود المُنهكة التي كلَّما نضِجت بُدِّلت - نجد السعداءَ من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، الذين أجابوا داعيَ الحق، فاستجابوا لله والرسول، على الجانب الآخر المقابل، في ظروفٍ جدُّ مغايرة، وفي أوضاع جدُّ مختلفة، لا تَمُتُّ إلى واقع أهل النار بصِلة أو شَبَهٍ، أو رابطٍ.



ونرى ذلك واضحًا جليًّا في الآية التي تلتْ آيتنا تلك: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا ﴾ [النساء: 57].



فهم في جنات عدن التي تجري فيها الأنهار في جميع فِجاجها وأرجائها، وهم فيها مقيمون خالدون، في نعيم دائمٍ لا يَنقطع، لا يَحولون ولا يَزولون، ولهم فيها أزواج تَطهَّرنَ من دَرَن الدنيا وأذاها ومآثمها، وهم مع ذلك كله مُدخَلون في ظلٍّ ممدود، واسع الأرجاء، كثيرٍ، طيِّب وأنيق، وقد دخلوا الجنة، ونسُوا ما علِق في أبدانهم من كبَدِ الدنيا وضِيق عيشها، وتَكتمل لهم نعمة الله وفضله وإحسانه، حين ينادي المنادي: يا أهل الجنة، خلودٌ فلا موت.



وفي وصْف أهل الجنة المَرضيِّ عنهم، تقابلٌ كامل عن المغضوب عليهم السابقين، واختلافٌ جذري في الجزاء، وفي المشاهد، وفي الصور، وفي الإيقاع، على طريقة القرآن الفريدة الخاصة، في تصوير مشاهد القيامة ذات الأحداث المثيرة والإيحاء القوي العميق.



وهكذا أيها الإخوة، وقَفنا مع آية كريمة، ورَدت في كتاب الله في حقِّ حال أهل النار، وما يُصيبهم فيها وينتظرهم من العذاب، ورأينا ما في الآية من فصاحة وبيان لغوي، واختيار دقيقٍ للألفاظ التي أُحْكِمت في وصْف حالة الجلد المعذَّب، وما يَعتريه من تغيُّرات وتبدُّلٍ من حالٍ إلى أخرى؛ ليَذوق أهل النار الخزي والعذاب، وقانا الله من ذلك!



ختامًا:

فإن الآيات التي تناقش مثلَ هذه الحقائق العلمية المثبَتة كثيرةٌ، ولم يَحدث أن أثبتَ العلم خلافَ ما أقرَّه القرآن الكريم في خبرٍ من تِلْكُم الأخبار، بل على العكس تمامًا، فقد جاء العلم الحديث شاهدًا على صدق الرواية القرآنية، وليرشد كل ذي عقلٍ وحكمة إلى أن هذا الكلام إنما هو من عند الله، ولو أنه كان من عند غير الله، لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا.



إن كتابنا الكريم هذا، لا تزيده العلوم والمكتشَفات الحديثة إلا قوة وثباتًا، ويومًا بعد يوم تَسطَع شمسُه على رؤوس الأشهاد، وتُصليهم قوارع التحدي أن يأتوا بمثله، وأن يَحشِدوا لذلك كلَّ مواهبهم، وليَستنصروا بمن شاؤوا في ذلك، جنًّا كانوا أم إنسًا، ويبقى التحدي للإنسان قائمًا إلى يوم القيامة، ويبقى عجْزُه عن محاكاته واضحًا لا غبارَ عليه.



أيها الإخوة والأخوات:

حرِيٌّ بنا وجديرٌ أن نُضيف الإعجاز العلمي المُثبَت - الذي كشف العلم الحديث عن نقابه - إلى قائمة أساليب الدعوة إلى الله، فتوظيفُه هنا عينُ الصواب، فمَن غيره - سبحانه وتعالى - علَّم هذا النبي الأمي تِلْكُم الآيات الباهرات، وأوحى إليه بها في وقتٍ كان ضباب الجهل يَعصِف بأُمة العرب، وتَقودها الجاهلية فيه من ظلامٍ إلى ظلام؟!
مَن غيرُ رسالة الله أوحَ بتلك الإشارات التي لم يَعرف الإنسان شيئًا من أسرارها إلا في القرون المتأخرة؟!

مَن غيرُ دعوة الحق قادرة على تفسير الحقائق، وشرْح خفايا الأمور ودقائقها في أسلوب مُحك
كلها أسئلة - وكثير غيرُها - تؤكِّد أنَّ كلام الله ما هو بنُطقٍ عن الهوى، إن هو إلا وحي يُوح

والحمد لله ربِّ العالمين.


الساعة الآن 07:01 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Content Relevant URLs by vBSEO 3.3.0 , Designed & TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة لمنتدى قصة الإسلام