لحديث عن رجلٍ من أهل البيان، سرَتِ الحكمة فيه، واتَّسم بالخَطَابة، فكان خطيبَ العَشيرة؛ بل وخطيب العرب.
مِن صفاته الجسَديَّة جَسامةٌ وطُولٌ فارع.
إلى "إيادٍ" يَنتهي نسَبُه، وفي "نَجْران" مسْكَنُه، كان أُسْقُفَّها وخطيبَها وشاعِرَها، خالَطَ العامَّة والخاصَّة، ووفد على المُلُوك وناظَرَهم، وعَمِل في الطِّب وبَرَع.
أمَّا ما مَيَّز هذا الرَّجُل، فهي حِكْمةٌ لاَزَمتْه، وخَطابةٌ شَهرته، وعَقلٌ ولِسانٌ رفَعاه، شاعرٌ أديب، قال الشِّعرَ وأجَاد، ناظَر مَلِك الرُّوم في الحِكمة والطِّب.
رجلٌ عاش في الجاهليَّة قُبيل الإسلام، كان يَدْعو إلى التَّوحيد، ونَبْذِ الشِّرك، ونبْذ عبادة الأوثان، بليغٌ مِن البُلغاء، وشاعر مِن الشُّعراء، وحكيمٌ من الحكماء، وطبيب من الأطِبَّاء، مفوَّهٌ، حين يَخطب كأنه يَملِك العقول، ويَسحر القلوب، وصلَتْ شُهرته إلى العَرَب جميعًا، بل وتعدَّتْها إلى العالَميَّة في ذلك الزَّمن؛ الملوك، والقياصرة.
يُقال: إنه أول مَن عَلا على شَرَفٍ وخطَب عليه، وأوَّلُ من قال في كلامه: "أما بعْدُ"، وأوَّل من اتَّكأ عند خطبته على سيف أو عصا".
وزاد صاحب "جواهر الأدب" (1/270):
"هو خطيب العرب قاطبةً، والمضروب به المثَل في البلاغة والحكمة، كان يَدِين بالتوحيد، ويُؤمن بالبَعث، ويَدعو العربَ إلى نَبْذ العُكوف على الأوثان، ويُرشدهم إلى عبادة الخالق، وكان الناس يتحاكمون إليه، ويَذْكرون أنه هو القائل: "البيِّنة على مَن ادَّعى، واليَمِين على مَن أَنكر".
ومن خطبه ما جاء ذكره في "الأغاني" للأصفهاني:
"أيُّها الناس، اسمعوا وعُوا، مَن عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هُو آتٍ آت.
ما لي أَرى الناسَ يَذهبون ولا يَرجعون؟ أرَضُوا بالمُقَام فأَقاموا؟ أم تُرِكوا فناموا؟ وإِلَهِ قُسِّ بن ساعدة، ما على وجْهِ الأرضِ دِينٌ أفْضلَ مِن دِينٍ قد أظلَّكم زمانُه، وأدركَكم أوانُه، فطُوبَى لِمَن أدركه فاتَّبعه، وويْلٌ لمن خالَفه.
لاَ يَرْجِعُ الْمَاضِي إِلَيْ
يَ وَلاَ مِنَ الْبَاقِينَ غَابِرْ
أَيْقَنْتُ أَنِّي لاَ مَحَا
لَةَ حَيْثُ صَارَ الْقَوْمُ صَائِرْ
ونحن إلى الله مَاضُون، كادِحُون إليه فَمُلاقوه، فهل يُنكِر ذلك عاقل؟!".
وجاءت بعض الزيادة في "التذكرة الحمدونية" (2 / 229):
"أيها الناس، اجتَمِعوا، واسمعوا وعُوا: إنَّه مَن عاش مات، ومن مات فات، وكلُّ ما هو آتٍ آت، أَقْسَم قُسٌّ قسَمًا لا كَذِب فيه ولا إثم: إنَّ في السماء لَخبرًا، وإنَّ في الأرض لَعِبَرًا؛ سَقف مرفوعٌ، ومِهادٌ موضوعٌ، وبحرٌ مسجورٌ، ونجومٌ تسير ولا تغور.
ما لي أرى الإنْسَ يَذهبون ولا يرجعون؟ أرَضُوا بالمُقام فأقاموا، أم تُركوا فناموا؟ أُقسِم بالله قسمًا: إنَّ لله دِينًا هو أَرضى مِن دينٍ نَحن عليه؛ وأَراكم قد تفرَّقتم بآلهةٍ شتَّى، وإنْ كان الله رب هذه الآلهة، إنَّه لَيجب أن يُعبد وحْدَه، كلا، إنَّه الله الواحد الصَّمَد، ليس بمولودٍ ولا وَالد، أعَاد وأبْدَى، وإليه المعَاد غدًا.
مناظرته لملك الروم:
وكان قَد سأله في الطِّب عن الأشربة، ثُمَّ أَتْبَع ذلك ببعض الأسئلة، جاء في "المحاسن والمساوئ" - (1 / 148):
"قال له: عمَّن حَمَلتَ الحكمة؟ قال: عن عدَّة من الفلاسفة، قال: فما أفضل الحكمة؟ قال: معرفة المرء بقدره، قال: فما تقول في الحِلْم؟ قال: حلم الإنسان ماء وجهه، قال: فما تقول في المال وفضله؟ قال: أفضل المال ما أُعْطِي منه الحق، قال: فما أفضل العطية؟ قال: أن يُعْطَى قبل السؤال، قال: فأخبرني عما بَلَوت من الزمان وتصرُّفه، ورأيتَ مِن أخلاق أهله، قال: بَلونا الزمان فوجدناه صاحبًا، ولا يُعْتِب مَن عاتبه، ووجدْنا الإنسان صورةً من صور الحيوان يتفاضلون بالعقول، ووجدنا الأحساب ليست بالآباء والأمهات، ولكنها هي أخلاق محمودة، وفي ذلك يقول - أو قال: أقول -:
"ممَّا جاء من ذلك ما بلَغَنا أنَّ قُسَّ بن ساعدةَ وأَكْثمَ بنَ صَيْفي اجتمَعا، فقال أحدُهما لصاحبه: كم وَجدتَ في ابن آدم من العيوب؟ فقال: هي أكثر مِن أن تُحصر، وقد وَجدْتُ خصلةً إن استعملها الإنسان ستَرَت العيوب كلَّها، قال: وما هي؟ قال: حفظ اللسان".
"المَصون في الأدب" - (1 / 29):
"قال: جَمَع قُسُّ بن ساعدة ولَدَه، فقال: إنَّ المِعَى تَكفيه البَقْلة، وتَرْويه المَذْقة، ومَن عيَّرَك شيئًا ففيه مثله، ومَن ظلَمَك وجد مَن يَظلمه، ومتى عدلْتَ على نفسك عَدَلَ عليك مَن فوقك، وإذا نَهيتَ عن شيء فإنه نَفْسك، ولا تَجمع ما لا تأكل، ولا تأكل ما لا تَحتاجُ إليه، وإذا ادَّخرْتَ فلا يكوننَّ كَنْزك إلاَّ فِعْلَك، وكن عَفَّ العَيْلة، مشترك الغِنَى؛ تَسُدْ قومَك.
ولا تشاورنَّ مشغولاً وإن كان حازمًا، ولا جائعًا وإن كان فَهِمًا، ولا مذعورًا وإن كان ناصحًا.
ولا تضعنَّ في عُنُقِك طوقًا لا يمكنك نزعه إلا بشِقِّ نفْسك، وإذا خاصمْتَ فاعدل، وإذا قلتَ فاقتصد.
ولا تَستودعنَّ أحدًا دينَك وإِنْ قَربتْ قرابتُه؛ فإنَّك إذا فعلْتَ ذلك لم تزَل وجِلاً، وكان المستودَع بالخيار في الوفاء والغَدْر، وكنتَ له عبدًا ما بقيت، وإنْ جنَى عليك كنتَ أولَى بذلك، وإنْ وفَى كان الممدوحُ دُونك".
"ثمار القلوب" - (1 / 232):
"أسقُفُّ نَجران: هو قسُّ بن ساعدة، أحَدُ - بل أوحَدُ - حكماء العرب وبلغائهم، وقد تقدَّم ذِكْره، وضُرِب المثَل بخَطابته وبلاغته، وهو القائل:
"قال قس بن ساعِدةَ الإيادي لابنه: لا تشاور مشغولاً وإن كان حازمًا، ولا جائعًا وإن كان فَهِمًا، ولا مذعورًا وإن كان ناصحًا، ولا مهمومًا وإن كان عاقلاً؛ فالهَمُّ يَعْقل العقل، فلا يتولَّد منه رأيٌ، ولا تَصْدق به رَوِيَّة".