في تاريخنا الإسلامي العجيب أيامٌ خالدة منسيَّة، ورجالات ضاع ذِكرهم بين بطون الكتب وصفحات الأيام، وفي هذه السِّلسلة نحاول أن نُزيل الغبارَ عن بعض هذه الأيام، وبعضِ هؤلاء الرجال، من باب استحضار الماضي عسى أن يكون زادًا للحاضر.
معركة خالدة تعدُّ من أعظَم معارك القرن العاشر الهجري، والتي أدَّت لانهيار دولة البرتغال، التي كانت إمبراطوريَّةً عظمى قبل تِلك المعركة، وقامَت إسبانيا إِثر هذه المعركة باحتلال البرتغال لمدَّة 93 سنة، ودعَّمَ هذا الانتصار سلطانُ دولة "السعديين" على شمال إفريقيَّة، وحُفِظ المغرب الإسلامي من هجمات النصارى فترة طويلة خوفًا من تجرُّع مرارة تلك الهزيمة العظيمة مرَّة أخرى، هذه المعركة الفاصلة هي معركة "وادي المخازن" أو معركة "الملوك الثلاثة" كما يُطلَق عليها.
يصف "الفشتالي" في كتابه "مناهل الصفا" هذه المعركة فيقول: "وناهيك عن يومٍ أجلى عن ثلاثة ملوكٍ موتَى، وعن ثمانين ألفًا من المشركين ما بين قتيلٍ وأسير".
ونجد أنَّ بواكير المعركة كانت بداياتها مع حدوث نزاعٍ في البيت المالِك بدولة السعديين، التي تولَّت حكمَ المغرب بعد انهيار دَولة بني مرين في أواخر القرنِ التاسع الهجري؛ حيث تمرَّد "محمد المتوكل المخلوع" على عمِّه السلطان "عبدالملك بن محمد" رابع سلاطين الدَّولة السعدية بالمغرب الأقصى، وقرَّر الاستعانة بنصارى البرتغال وإسبانيا للعودة لعرشِ السعديِّين وإزاحة عمِّه، فشرطَ عليه ملكُ البرتغال "سبستيان" أن يتنازَل له عن موانئ وشواطئ المغرب إذا أعادَه لعرش السَّلطنة، فوافق المتوكِّل.
واستطاع سبستيان أن يحشد من النصارى عشرات الألوف، ذكر أبو القاضي في (المنتقى المقصور) أنَّ عدد الجيش البرتغالي كان مائة ألف وخمسة وعشرين ألفًا.
وقال أبو عبدالله محمد العربي الفاسي في (مرآة المحاسن): إنَّ مجموعهم كان مائة ألف وعشرين ألفًا، وأقلُّ ما قيل في عددهم ثمانون ألفَ مقاتل.
وكان مع الجيش البرتغالي: 20.000 إسباني، 3000 ألماني، 7000 إيطالي...، وغيرهم عدد كبير...، مع ألوف الخيل، وأكثر من أربعين مدفعًا، إلى جانب المتوكِّل بقوة ما بين 300 -600 فارس عربي.
وكان جيش المغاربة تعداده 40.000 مجاهد بقيادة السُّلطان عبدالملك بن محمد وأخيه أحمد.
وقد بعث المتوكِّل لعلماء المغرب في البداية يدعوهم إلى الدُّخول في طاعته، ويرغِّبهم في تَرْكهم في مناصبهم إن أَخذ عرش السَّلطنة، فردَّ عليه العلماء بكتابٍ قويِّ العبارة عابوا عليه فيه الاستعانة بمشركي النصارى على المسلمين وعيَّروه بذلك، واعتبروه مرتدًّا مواليًا للمشركين.
ووصلَت قوَّات النصارى إلى طنجة وأصيلا في عام 1578، ووقعَت المعركة في محلَّة القصر الكبير؛ حيث كان صباح الاثنين 30 جمادى الآخرة 986هـ/ 1578م يومًا مشهودًا في تاريخ المغرب، ويومًا خالدًا في تاريخ الإسلام.
يقول د. شوقي أبي خليل في كتابه "وادي المخازن": "لقد حنكَت التجارب عبدَالملك المعتصم بالله، فعزل عدوَّه عن أسطولِه بالشَّاطئ بمكيدةٍ عظيمة وخطَّةٍ مدروسة حكيمة، عندما استدرج سبستيان إلى مكانٍ حدَّده عبدالملك ميدانًا للمعركة، وكان عزله عن أسطوله محكمًا عندما أمر عبدالملك بالقنطرة أن تُهدم ووجَّه إليها كتيبة من الخيل بقيادة أخيه المنصور فهدمها".
حيث نجد أنَّه رغم مرض السلطان عبدالملك إِبان المعركة، فإنه بذل كافَّة مَكره في استدراج سبستيان لحَتْفه؛ بالطَّلب منه في رسالة أن يثبت مكانه حتى يأتيه ويلاقيه قائلاً له: "إنَّ سطوتك قد ظهرَت في خروجك من أرضك، وجوازك العدوة؛ فإن ثبتَّ إلى أن نقدم عليك، فأنت نصرانيٌّ حقيقي شجاع، وإلاَّ فأنت كلب ابن كلب".
وبالفعل تريَّث سبستيان ولم يبادِر لمهاجمة تطوان والعرايش والقصر كما ألحَّ عليه قادة جيشه، وفقدَ بذلك المبادرة بالهجوم.
وسارع السلطان عبدالملك بالسَّير إليه وملاقاته داعيًا من معه إلى الاستبسال في القتال، مذكِّرًا لهم بأنهم إن هُزموا في هذه المعركة فلن تقوم للإسلام قائمةٌ بالمغرب؛ حيث جعل عبدالملك المدفعيَّة في المقدمة، ثمَّ صفوف للرُّماة المشاة، وجعل قيادته في القلب، وعلى المجنبتين رُماة فرسان مع القوى الإسلاميَّة المتطوعة، وجعل مجموعة من الفرسان كقوَّة احتياطيَّة لتنقضَّ في الوقت المناسب وهي في غاية الراحة لمطاردة فلول البرتغاليِّين، واستثمار النصر.
وعلى الجانب الآخر لم يَأْلُ الرُّهبان والقسيسون جهدًا في إثارة حماس جند أوروبا الذين يقودهم سبستيان، مذكِّرين إيَّاهم أنَّ البابا أحلَّ من الأوزار والخطايا أرواحَ من يلقون حتفهم في هذه الحرب، التي اتَّسمَت بطابع الحروب الصليبية.
وبدأَت المعركة، لكن سرعان ما اشتدَّ المرض على السلطان عبدالملك، وحمله جنودُه إلى خيمته، وأوصى خاصَّته بكتمان خبر مرضِه عن الجند؛ حتى لا يختلَّ سير المعركة، آمرًا أخاه أحمد بمواصلة قيادة المعركة وتضيِيق الخناق على البرتغاليين بهَدْم قنطرة وادي المخازن التي يَعبرون عليها، وقد أيقن السلطان عبدالملك بالموت وخافَ من فوات مطلوبه، فمات وهو واضعٌ سبَّابته على فمه مشيرًا على الحضور أن يبالِغوا في كتمان أَمْر موته حتى يتمَّ النَّصر، وقد كان.
فما انجلى غبارُ المعركة إلاَّ وقد وقع سبستيان قتيلاً ومعه المتوكِّل ابن أخ السلطان عبدالملك، وقام المسلمون بمقتلةٍ عظيمة في جيشِ البرتغاليين وحلفائهم؛ حتى لم ينج منهم إلاَّ القليل، حتى إنَّه كان ممَّن قُتل أغلب حاشية الملك وكبار قادَة جيشه، والصفُّ الثاني من الفرسان وخيرة الرُّماة.
وبعد نهاية المعركة وإذاعة خبر موت السلطان عبدالملك، سارع الجندُ بمبايعة السلطان أحمد خلفًا لأخيه، ولُقِّب بالذهبي.
وكانت نتائج تلك المعركة عظيمةً على المستوى الأوروبِّي؛ إذ سرعان ما انهارَت البرتغال عسكريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا بعد موت سبستيان ملك البرتغال وجلِّ النُّبلاء البرتغاليين وقادتهم في المعركة، ومن ثمَّ ضم الإسبان البرتغالَ لبلادِهم بعد خلوِّ بيت الملك من وريث، وبالقضاء على الدولة البرتغالية - بانضمامها إلى العرش الإسبانِي، بعدما كانت دولةً عالمية - أدَّى ذلك إلى إفشال المخطَّط الصليبي الجهنَّمي الهادف إلى القضاء نهائيًّا على الإسلام في المغرب الإسلامي، شرقِه وغربه.
يقول لويس مارية - المؤرِّخ البرتغالي - واصفًا نتائج المعركة: "وقد كان مخبوءًا لنا في مستقبل الأعصار العصر الذي لو وصفتُه - كما وصفه غيره من المؤرِّخين - لقلت: هو العصر النَّحس البالغ في النحوسة، الذي انتهَت فيه مدَّة الصولة والظَّفر والنجاح، وانقضَت فيه أيام العناية من البرتغال، وانطفأ مصباحهم بين الأجناس، وزال رَونقهم، وذهبَت النخوة والقوَّةُ منهم، وخلفها الفشل، وانقطع الرجاءُ، واضمحلَّ إبان الغنى والربح، وذلك هو العصر الذي هلك فيه سبستيان في القصر الكبير في بلادِ المغرب".
وقد أدَّت نتائج هذه المعركة لتقوية نفوذِ السعديين وامتدادِ دولتهم، وتقدير الدَّولة العثمانية حينذاك لجهودهم في ردِّ غائلة النصارى، ومن ثمَّ آثر العثمانيُّون الهدنةَ معهم وتركهم في مناصبهم ما داموا يحمون بلادَ الإسلام من ناحية الغرب، ونجد أنَّه لما وصلَت أنباء الانتصار إلى مقرِّ السلطنة العثمانية في زمن السلطان "مراد خان" الثالث، وإلى سائر ممالك الإسلام المجاورة للمغرب، حلَّ السرورُ بالمسلمين، وعمَّ السَّعد في ديارهم، ووردَت الرُّسل من السلطان العثماني بالهدايا مهنِّئة ومباركة بهذا الانتصار العظيم التاريخي.
معركة عظيمة حاسمة، أضاعت البرتغال في عهدها الذهبي