لقد كان الإسلام في سَيْره الطويل عُرْضةً لتحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، ودخلت فيه البِدعُ والأفكار المنحرِفة، وتسرَّب إليه الشركُ والجاهلية عن طريق الأمم التي كانت تُسلِم، وعن طريق التقليد والجهل، فكان من توفيق الله أن يسَّر للأمة الإسلامية في كل عهدٍ رجالاً فضَحوا المحرِّفين والمتآمرين، وأنكروا البدعَ والضلالات، ودافعوا عن السُّنة، وردوا العقائد الباطلة، ونفخوا في الإسلام رُوحًا جديدة، وأيقظوا في المسلمين ثقةً جديدة، وقد كان هؤلاء الأفراد، نوابغ عصورهم، عقلية وعِلمًا وأخلاقًا، وكانوا أصحاب شخصيَّة جذابة، وكانت عندهم لكل فتنة وظُلمة يدٌ بيضاء تُبدِّد الظلمات وتُنير السبيل[1].
"والأديان بحاجة إلى الرجال الأحياء - كما يقول أبو الحسن الندوي - لأنها لا تعيش ولا تَزدهِر، ولا تعود إلى نشاطها وشبابها بعد ضعْفها واضمحلالها، ولا تَنسجِم مع المجتمع المعاصر، ولا تتلاءم مع رُوح العصر، إلا عن طريق الرجال النوابغ الذين يظهرون حينًا بعد حين، يَملِكون الإيمان القوي الجديد، وسموًّا روحيًّا لا يُشارِكهم فيه عامة الناس، ونزاهة ممتازة عن الأغراض، وعزوفًا عن الشهوات، وتفانيًا في المبادئ والعقائد، ومستوى عقليًّا وعلميًّا أرقى من الكثير"[2].
ومن هؤلاء الرجال الأفذاذ الذين جدَّدوا الفكر الإسلامي، وأثاروا الحماس في نفوس المسلمين لإعادة مجد الإسلام ثانية: الشاعرُ والمفكِّر العظيم محمد إقبال، الذي كرَّس فكرَه وقلمه لإعادة بناء الفكر الديني في الإسلام، ولم يَقصِد بالتجديد (تجديد الإسلام)؛ لأن الإسلام دين كامل، مصدره القرآن والسنة، ولا يَقبَلان تغييرًا لحُكْم من أحكامه.
يقول الدكتور محمد البهي:
"لقد كان إقبال دقيقًا عندما عبَّر عن حركته الفكرية أو محاولته الإصلاحية بإعادة التفكير الديني في الإسلام، دون التعبير بالإصلاح الديني؛ لأن أي محاولة للتجديد أو الإصلاح الديني في نِطاق الإسلام، لا يُمكِن أن تُحمَل على معنى الإصلاح أو التجديد بدلالتهما الحقيقية، إن التجديد هنا أو الإصلاح إنما ينصرِفان للفكر الإسلامي نفسه، فيما يأخذ به من مفاهيم، وما يحاول أن يُوجِده من توافُق بين التطور الحضاري وبين المبادئ الإسلامية الثابتة"[3].
ويوضِّح إقبال ذلك فيقول: "ولقد حاولت في هذه المحاضرات بناء الفلسفة الدينية الإسلامية بناء جديدًا، آخذًا بعين الاعتبار المأثورَ من فلسفة الإسلام، إلى جانب ما جرى على المعرفة الإنسانيَّة من تَطوُّر في نواحيها المختلفة"[4].
وإقبال باعتباره إنسانًا لا يدَّعي لنفسه صحة آرائه وأفكاره بشكل مُطلَق، ويرى أن تَقدُّم المعرفة قد يُنتِج أفكارًا أكثر صحة من أفكاره مستقبلاً.
يقول إقبال
"على أنه ينبغي ألا يغيب عن أذهاننا أن التفكير الفلسفي ليس له حدٌّ يقف عنده؛ فكلما تقدَّمت المعرفة، فتحت مسالكَ للفكرة جديدةً، وقد تكون أصحَّ منها، وعلى هذا فواجبنا يقضي أن نرقُب في يقظة وعناية تقدُّمَ الفكر الإنساني، وأن نقف منه موقف النقد والتمحيص"[5].
ب- دوافع إقبال وأهدافه إلى تجديد التفكير الديني في الإسلام:
رأينا آنفًا كيف أن إقبالاً نظر إلى واقع المسلمين في الهند خاصَّة، وفي العالم عامة، فوجد الأمراض تكتنِفه من جميع الجهات
• وجد فسادًا في العقيدة؛ إذ تحوَّل التوحيد في الإسلام إلى عبادة للأوثان؛ مثل تقديس الأولياء والأضرحة، وانتشار الشعوذة والسحر.
• ووجد فسادًا في السلوك، وتغييرًا في معاني القيم الإسلامية؛ فانقلب التوكل إلى تواكل، والجهادُ والعمل إلى استسلام للأقدار؛ فسَهُل على المستبدين قيادهم كالقطيع من الأغنام.
• ووجد الجهل بأمور الحياة وأساليبها الناجحة في رفْع المستوى الاجتماعي والاقتصادي.
• ورأى شباب المسلمين قد انخدعوا بمظاهر المدنيَّة الغربية البراقة، فهم يهتمون بمظهرهم وزينتهم، ويُهمِلون قلوبهم ورُوحهم.
• ومما زاد هذه الأمراضَ: وجودُ الاستعمار الغربي الغاشم، وسيطرته على البلاد العربية والإسلامية.
هذه هي صورة من واقع المسلمين كما رآها إقبال، وتَحرَّق ألمًا لها، وجاهَد طول حياته لتحسين هذه الصورة، وعلاجِ أمراض المسلمين، ورأى أن من أُسسِ العلاج تجديدَ التفكير الديني على ضوء معطيات المعرفة الحديثة، ولكن.. لماذا يكون التجديد للتفكير الديني هو الطريق للإصلاح؟
نجد جواب هذا السؤال لدى إقبال إذ يقول:
"ظلَّ التفكير الديني في الإسلام راكدًا خلال القرون الخمسة الأخيرة، وقد أتى على التفكير الأوربي زمنٌ تلقَّى فيه وحي النهضة عن العالم الإسلامي، ومع هذا فإن أبرز ظاهرة في التاريخ الحديث هي السرعة الكبيرة التي يَنزِع بها المسلمون في حياتهم الروحية نحو الغرب، ولا غبار على هذا المنزع، فإن الثقافة الأوروبية في جانبها العقلي ليست إلا ازدهارًا لبعض الجوانب المهمة في ثقافة الإسلام، وكل الذي نخشاه هو أن المظهر الخارجي البراق للثقافة الأوروبية، قد يشلُّ فنعجز عن بلوغ كُنْهها وحقيقتها، وكانت أوروبا خلال جميع القرون التي أُصِبنا فيها بجمود الحركة الفكرية تدأب في بحث المشكلات الكبرى التي عُني بها فلاسفة الإسلام وعلماؤه عناية عظمى، ومنذ العصور الوسطى وعندما كانت مدارس المتكلمين في الإسلام قد اكتملت، حدث تَقدُّم لا حد له في مجال الفكر والتجرِبة، وكان من نتائج امتداد سلطان الإنسان على الطبيعة أن بعث فيه ذلك إيمانًا وإحساسًا جديدين بتفوقه على القوى التي تتألَّف منها بيئته، فظهرت وجهات نظر جديدة، وحُرِّرت مرة ثانية المشكلات القديمة في ضوء التجرِبة الحديثة، وظهرت مشكلات من نوع جديد، ويبدو أن عقل الإنسان أخذ يَشِب عن طوق ما يحيط به من زمان ومكان وعِلِّيَّة، وهي أخص مقولاته[6] الجوهرية، إن تصوُّرنا للعقل نفسه بسبيل التغير نتيجة التفكير العلمي"[7].
إن جمود التفكير الديني في الإسلام، وتَقدُّم التفكير الغربي في القرن الأخير، ونزوع المسلمين إلى تقليد الغرب في قشور مدنيَّته لا رُوحها - هو الدافع لإقبال لتجديد التفكير الديني، وإعادة النظر فيه، وبنائه من جديد؛ وإلا ترَك المسلمون دينَهم، ولحِقوا بالغرب في تفكيرهم وحياتهم الاجتماعية والدينيَّة، وهذا التجديد في ضوء نتائج الفكر الغربي ضرورة مُلحَّة للصحوة الإسلامية الحاضرة، يقول إقبال:
"فلا عجب إذًا أن نجد شباب المسلمين في آسيا وإفريقية يتطلَّبون توجيهًا جديدًا بعقيدتهم؛ ولهذا لا بد من أن يُصاحِب يقظةَ الإسلام تمحيصٌ بروح مستقلة لنتائج الفكر الأوروبي، وكشف المدى الذي تستطيع به النتائج التي وصلت إليها أوروبا أن تُعيننا في إعادة النظر في التفكير الديني في الإسلام، وعلى بنائه من جديد إن لزِم الأمر"[8].
وهنا واقع آخر دفع بإقبال لتجديد التفكير الديني، وهو الدعوات العلمانية اللادينية من أولئك الذين يُنادون بالتحرر من الدين عامة والإسلام خاصة، الذين يدَّعون أنه يُعيق حركة التقدم، وكانوا سندًا قويًّا لأتاتورك[9] وغيره من الحكام، الذين خُدِعوا بمظاهر المدنية الغربية، ولم يستفيدوا من لُبابِها، فلا بد من الردِّ على هذه الدعوات، وتِبيان أن الإسلام هو أصل الحضارة والتقدم والحرية.
يقول إقبال: "أضِف إلى هذا أنه لا سبيل إلى تَجاهُل الدعوة القائمة في أواسط آسيا ضد الدين على وجه عام، وضد الإسلام على وجه خاص، تلك الدعوة التي عبَرتْ حدود الهند بالفعل، وبعضُ دعاة هذه الدعوة من أبناء المسلمين، وأحدهم هو الشاعر التركي توفيق فكرت"[10].
وقد ذهب إلى تحقيق أغراض حركتِه إلى حدِّ أنه استخدم في ذلك قصائد شاعرنا المفكِّر العظيم ميرزا عبدالقادر بيدل الأكبر آبادي[11].
حقًّا لقد آن الأوان للنظر في مبادئ الإسلام وأصوله، وحتى تتَّضِح صورة التجديد الذي يُريده إقبال، وأنه لا يريد به مبادئ الإسلام وعقائده، وإنما هدفه فَهْم الإسلام فهمًا صحيحًا وسليمًا؛ نُورِد قولَه في مستهلِّ محاضراته التي كان الهدف من إلقائها تجديد التفكير الديني، فهو يقول:
"وإني لأعتزم في هذه المحاضرات أن أُناقِش مناقشة فلسفيَّة بعض الأفكار الأساسية في الإسلام؛ على أمل أن يُتيح لنا ذلك - على أقل تقدير - فَهْم معنى الإسلام فهمًا صحيحًا بوصفه رسالة للإنسانية كافة"[12].
ج- صياغة جديد للعقيدة الإسلامية[13]:
يؤكِّد إقبال بداية: أن الإيمان أكثر من مجرَّد الشعور، فهو في حقيقته يُشبِه رضا النفس عن عِلم ومعرفة، وأن الفكر عنصر جوهري من عناصره، وأن الدين نظرًا لوظيفته التي هي تكييف الإنسان وهدايته في تدبير نفسه، وفي صِلاته بغيره - أشد حاجة إلى أساس عقلي لمبادئه الأساسيَّة.