من السور القصار التي نقرؤها مرارا وتكرارا : سورة العصر ،و هي قد حَوَتْ فِي طياتِهَا الكثير مِنَ المعانِي الإيمانيةِ، والفوائدِ التربويةِ والسلوكيةِ، يقول الله تعالى : (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (3) العصر ،
يقول الامام الشافعي رحمه الله: ” لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم”؛ وما ذلك إلا لما احتوته هذه السورة من بيان لأصول الدين وفروعه ، وبيان لسبيل المؤمنين المؤدي للربح والفوز بالجنة ، والنجاة من النار, وكان الرجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا التقيا لم يتفرقا حتى يتلو أحدهما على الآخر هذه السورة،
وقَدِ افتتحَ اللهُ عزَّ وجلَّ هذهِ السورةَ بِالقَسَمِ، فقالَ تعالى :﴿ وَالْعَصْرِ ﴾ وهوَ الزمنُ الذِي تقَعُ فيهِ أعمالُ بنِي آدمَ، وهذَا يدلُّ علَى عِظَمِ الوقتِ وأهميتِهِ، وشرفِ الزمانِ وعُلوِّ قيمتِهِ، فالوقتُ مِنْ أَنْفَسِ النِّعَمِ التِي أنْعَمَ اللهُ سبحانَهُ بِهَا علَى الناسِ؛ لأنَّهُ ميدانُ سعيِهِمْ، ومضمارُ سبْقِهِمْ، والرابحُ مَنِ اغتنمَ وقْتَهُ، وصانَ مِنَ الزللِ نفسَهُ، والخاسرُ مَنْ فرَّطَ فِي الزمنِ، فكُنْ أيها المسلم مِمَّنْ أحْسَنَ اغتنامَ وقتِهِ، وعُمرِهِ بالخيرِ والعملِ، ولا تُضَيِّعِ الوقتَ وإِنْ كانَ قليلاً، فهُوَ إمَّا لكَ، وإما عليكَ، وقيل : أن المقصود (بالعصر) هو وقت العصر من النهار، ولِمَكانةِ وقتِ العصرِ وشرفِهِ فضَّلَ اللهُ فيهِ بعضَ العباداتِ، فخَصَّ صلاةَ العصرِ مِنْ بينِ الصلواتِ، فأمرَنَا بالاهتمامِ بِهَا، والمحافظةِ عليهَا، قالَ تعالَى:﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾ [البقرة: 238] ، وقد حذَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ ترْكِهَا، أَوِ التهاوُنِ فيهَا، أَوِ التغافُلِ عَنْ أدائِهَا، فقَالَ صلى الله عليه وسلم :«مَنْ تَرَكَ صَلاَةَ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ» رواه البخاري .
كما بيَّنَتِ سورة العصر أنَّ الناسَ فريقانِ: فريقٌ يلحَقُهُ الخسرانُ،﴿ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ) ، والخسار مراتب متعددة ومتفاوتة: فقد يكون الانسان خسارًا مطلقًا، وذلك كحال من خسر الدنيا والآخرة، وفاته النعيم، واستحق الجحيم. وقد يكون الانسان خاسرًا من بعض الوجوه دون البعض، ولهذا عمم الله الخسار لكل إنسان، إلا من اتصف بالإيمان بما أمر الله به، والعمل الصالح،
وقد ورد في هذه الآيات الصفات المنجية من الخسران وهي:
(1) الإيمان بما أمر الله به، ولا يكون الإيمان بدون العلم؛ فهو فرع عنه ولا يتم إلا به.
(2) والعمل الصالح: وهذا شامل لأفعال الخير كلها الظاهرة والباطنة المتعلقة بحقوق الله وحقوق عباده الواجبة والمستحبة.
(3) والتواصي بالحق الذي هو الإيمان والعمل الصالح أي: يوصي بعضهم بعضاً بذلك، ويحثُّه عليه، ويرغِّبه فيه.
(4) التواصي بالصبر على طاعة الله، وعن معصية الله، وعلى أقدار الله المؤلمة.
فبالأمرين الأوَّلين يكمِّل العبد نفسه، وبالأمرين الأخيرين يكمِّل غيره، وبتكميل الأمور الأربعة يكون العبد قد سلم من الخسار وفاز بالربح العظيم وأما الفريق الآخر فهو فريقٌ نَاجٍ وفائز برضا الرحمن،
( إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ فالإيمانُ هوَ الركنُ الذِي لاَ غِنَى عنْهُ للإنسانِ، وهوَ أساسُ الفرَحِ والأمانِ، وبابُ السرورِ والاطمئنانِ، ولاَ يقبلُ اللهُ تعالَى مِنْ إنسانٍ عملاً، ولا يُثبِتُ لهُ أجراً، مَا لَمْ يكُنْ عملُهُ نابعاً مِنَ الإيمانِ باللهِ تعالَى، وحقيقتُهُ التسليمُ والخضوعُ للهِ عزَّ وجلَّ، وامتثالُ أمرِهِ، والرضَا بقَسَمِهِ، وفي صحيح مسلم (عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِىَ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً ». ولا يكون الإيمان بالله إلا بمعرفته عز وجل بربوبيته، وأنه الخالق الرازق المدبر لهذا الكون، وبألوهيته وأنه المستحق للعبادة وحده دون سواه، وبأسمائه وصفاته، ومعرفة رسوله – صلى الله عليه وسلم – المعرفة التي تستلزم قبول ما جاء به من الهدى ودين الحق وتصديقه فيما أخبر وامتثال أمره فيما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر وتقديم حبه على النفس والمال والولد، ومعرفة دين الإسلام وذلك بتعلم أحكامه وتعاليمه ومن ثم العمل بها، فمن عرف ذلك فقد آمن وصدق، ومن خالف وأعرض فهو المتصف بالخسارة. ومِنَ الإيمانِ باللهِ استثمارُ الجوارحِ فِي عملِ الطاعاتِ والقُرُباتِ، ولذَا أردفَ اللهُ سبحانَهُ وتعالَى عملَ الصالحاتِ بعدَ ذِكْرِ الإيمانِ فقالَ تعالى :﴿ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ ،
ولأن الإيمان حقيقة إيجابية متحركة كان العمل الصالح هو الثمرة الطبيعية للإيمان، فما إن تستقر حقيقة الإيمان في ضمير المؤمن حتى تسعى بذاتها إلى تحقيق ذاتها، في صورة عمل صالح، فلا يمكن أن يظل الإيمان في نفس المؤمن خامداً لا يتحرك، كامناً لا يتبدى، فإن لم يتحرك الإيمان هذه الحركة الطبيعية؛ فهو مزيف، أو ميت، شأنه شأن الزهرة ينبعث أريجها منها، انبعاثاً طبيعياً، فإن لم ينبعث منها أريج، فهو غير موجود، والزهرة غير طبيعية ، والعمل الصلح ليس فلتةً عارضة، ولا نزوةً طارئة، ولا حادثةً منقطعة، إنما ينبعث عن دوافع، ويتجه إلى هدف، ويتعاون عليه المؤمنون. فالإيمان ليس انكماشاً، ولا سلبيةً، ولا انزواءً، ولا تقوقعاً بل هو حركةٌ خيرةٌ، نظيفة، وعمل إيجابي، هادف، وإعمار متوازنٌ للأرض، وبناء شامخ للأجيال، والايمان والعمل الصالح هو جوهر العبادة وأساسها، فالعمل الصالح شامل لأفعال الخير كلها الظاهرة والباطنة، المتعلقة بحق الله وحق عباده الواجبة والمستحبة. والعمل الصالح من لوازم الإيمان بالله، فكلما زاد عملك زاد إيمانك، وكلما قل عملك قل إيمانك، فالإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. وبعض الناس يظن أنه يكفي مجرد الإيمان في القلب ولا حاجة للعمل، وهذا باطل،فالإيمان مقترن بالعمل، والعمل دال على الإيمان، فمن صلح باطنه بالإيمان صلح ظاهره بالعمل الصالح، ومن فسد باطنه ونقص إيمانه فسد ظاهره وترك العمل، فلا تجد الإيمان في القرآن إلا وهو مقرون بالعمل الصالح، وهذا كثير لمن تأمل وتدبر القرآن .
والصبرُ خُلُقٌ رائعٌ نَفيسٌ، ويعنِي حملَ النفْسِ علَى لزومِ الطاعةِ وكفَّهَا عَنِ المعصيةِ واحتِمالَ المصائبِ وعدم التسخط عندها، ومَنْ رُزقَ الصبرُ أعطاهُ اللهُ خيراً كثيراً، وجعلَ العسيرَ عليهِ يسيراً، وفي صحيح البخاري يقول صلى الله عليه وسلم : (وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ ، وَمَا أُعْطِىَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ » ، والتواصي بالحق ضرورة؛ فالنهوض بالحق عسير ،والمعوقات عن الحق كثيرة، ومنها: (هوى النفس، ومنطق المصلحة، وتصورات البيئة، وطغيان الطغاة، وظلم الظلمة، وجور الجائرين …) .والتواصي تذكير وتشجيع وإشعار بالقربى في الهدف والغاية، والأخوة في العبء والأمانة؛ فهو مضاعفة لمجموع الاتجاهات الفردية؛ إذ تتفاعل معاً فتتضاعف؛ تتضاعف بإحساس كل حارس للحق أن معه غيره يوصيه ويشجعه ويقف معه ويحبه ولا يخذله، وهذا الدين وهو الحق لا يقوم إلا في حراسة جماعة متعاونة متواصية متكافلة متضامنة على هذا المثال. والتواصي بالصبر كذلك ضرورة؛ فالقيام على الإيمان والعمل الصالح وحراسة الحق والعدل من أعسر ما يواجهه الفرد والجماعة ولا بد من الصبر، لا بد من الصبر على جهاد النفس وجهاد الغير والصبر على الأذى والمشقة والصبر على تبجح الباطل وتنفُّج الشرّ،