إن الحديث عن الإيمان بالغيب كمحكم من محكمات الشريعة الإسلامية وركائزه الكبرى، تشتد الحاجة إليه، في ظل مأزق المادية التي أحاطت بأعناق المسلمين، فأصبح تفسير الكثيرين لقضايا الدين والفكر والواقع تفسيرا ماديا، وأصبح إيمان العبد مرهونا بالمادة والصورة، تلك الصورة التي تنقل للمشاهد ما وراء البحار، وما فوق السماء وما تحت الأرض، طوقت العقل البشري المعاصر، فأصبح أسيرا لتلك الصورة، لاهثا خلف المادة، يرجو ثوابا معجلا، ويغفل عن عقوبة آجلة.
ونحن في هذا المقام لسنا متهافتين إلى الحديث عن المادة، أو عن الصورة، وإنما حديثنا عن محكم الإيمان بالغيب، وما يتصل به.
فحقيقة الإيمان بالغيب هو كل ما أخبر به الرسول ﷺ بما لا تهتدي إليه العقول؛ من الإيمان باليوم الآخر والقضاء والقدر، فهو أمر لا يدركه الحس، ولا تقتضيه بديهة العقل (الإيمان بالغيب، بسام العموش، ص١٣، و: الحياة الآخرة د. غالب العواجي ١/١٣) ~ .
فقد جاءت الأدلة موفورة بالحديث عن غيبيات وقعت في حياة النبي ﷺ كحادثة الإسراء، أو غيبيات ستقع في آخر الزمان كخروج الدجال، أو غيبيات تحصل بعد الموت من حياة البرزخ، وحتى تفاصيل مشاهد يوم القيامة.
إن الحديث عن الغيب والإيمان به ينقي قلب المسلم من حطام الدنيا، ويجعل المؤمن عالي الهمة، يشعر بأن لحياته قيمة ومعنى. إن الذي لا يؤمن بالغيب تعظم في عينه الدنيا؛ لأنه بظنه وجهله أن حياته ستقف عند لحظة موته، وأن مآله رفاة تتحلل في عالم الأموات.
بينما المؤمن مبتهج القلب يسير في هذه الدنيا سير المسافر، الذي يعلم إلى أين يسير، قال -تعالى- عن عباده المتقين: (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون) ~ [سورة البقرة: ٣-٤].
وتأمل كيف ربط الله -تعالى- حقيقة التقوى بالغيب في سورة البقرة، وأبين من ذلك في سورة الأنبياء: (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين * الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون) ~ [الأنبياء: ٤٨-٤٩].
فتحصيل تقوى الله -عز وجل- إنما يكون نابعا من إيمان العبد بالغيب. وهذا الإيمان لا يكفي فيه إقرار معرفي من العبد، بل هو إيمان حقيقي يبعث العبد على العمل والتسليم والانقياد إلى الله -تعالى-، فالمؤمن بالغيب يزعه إيمانه عن ارتكاب الموبقات، ولو لم يكن ثمة رقيب ولا حسيب.
إن الإيمان بالغيب يقوي مبدأ الاحتساب وطلب الثواب، فالمؤمن بالغيب لا يرتجي من عمله منفعة دنيوية؛ لأنه يعلم يقينا أن الدنيا حطام زائل، وأن ما عند الله خير وأبقى.
إن الإيمان بالغيب يعطي المؤمن شعورا بالقوة والمهابة، فلا يخاف ولا يخشى إلا الله، فهو يحب ربه ويخاف منه ويرجوه ويخشاه؛ رغم أنه لم يره ولم يهتد إليه إلا بقول الصادق المصدوق؛ هذه الخشية تدفعه لأن يضحي بروحه في سبيل الله، هذه الخشية تجعله ينطق بالحق لا يخاف في الله لومة لائم.
الإيمان بالغيب ضرورة حتمية لاستقرار المجتمعات؛ فقيام الراعي بمسؤولية رعيته إنما هو خشية لله -تعالى-، وقيام الولد بحق والده طلبا لمرضاة ربه، وقيام الزوجة بطاعة زوجها طمعا بما عند الله -تعالى-.
عباد الله: إن الإيمان بالغيب من أعظم محكمات الشريعة التي يجب على العبد، أن يربي نفسه، ويربي أبناءه عليها.
إن من أسس تزكية النفس وسبل إصلاحها تعميق الإيمان بالغيب الذي يبدأ من وقوع اليقين بالله ربا، وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ورسولا.
إن استمكن الإيمان بالغيب من العبد؛ فإنه يبعثه إلى التوحيد، فيخلص العبادة لله، ويبعثه إيمانه بالغيب إلى الصلاة، وإخراج الزكاة، وصوم رمضان وحج البيت.
إن الإيمان بالغيب إذا تعاظم في نفوس الناس، تحقق الأمن والاستقرار؛ فالناس لا يحتاجون لأمنهم إلى من يضبطه، فهم مستغنون بخشيتهم ما عند الله.
عباد الله: ومن المحكمات المتعلقة بالغيب: أن الغيب من خصائص ربوبية الله؛ فلا يعلمه إلا الله، حتى الرسل -عليهم الصلاة والسلام- لا يعلمون الغيب؛ قال -تعالى-: (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون) ~ [النمل: ٦٥]. (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم) ~ [آل عمران: ١٧٩].
فهذه الآيات وغيرها الكثير دلت على أن الغيب لا يعلمه إلا الله، وأنه لا يقدر عليه إلا الله، فما بال أقوام من أمة الإسلام يصرفون هذا الإيمان لغير الله، فيظنون أن من سفهاء البشر من يعلم الغيب!!، فيأتي أهل الكهانة والسحر والشعوذة، يسألهم عما هو كائن وحادث، بل ويصدقهم على ذلك، إنما هذا سخف وجهل.
ولهذا جاءت الشريعة بتحريم الذهاب إلى الكهنة والسحرة والمشعوذين؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: " من أتى كاهنا، فصدقه بما يقول، فقد برئ مما أنزل على محمد"، وفي رواية: "من أتى عرافا فصدقه فيما يقول لم تقبل له صلاة أربعين ليلة".
أخيرا: إن مما يؤكد أن الإيمان بالغيب من محكمات الشريعة أن من كفر وكذب بالغيب؛ فقد كفر بالدين إجماعا، وخرج عن ربقة الإسلام، فمن أنكر شيئا من الغيب الذي حكاه الله -تعالى- أو أنكر علم الله بالغيب، أو ادعى علم أحد غير الله بالغيب؛ فقد كفر بما أنزل على محمد ﷺ.
فحري بنا أن نعيد إلى النفس توازنها بتعظيم الإيمان بالغيب، وأن نعيد تربية أبنائنا على الإيمان بالغيب.