الإنفاق والعطاء، والبذل والسخاء خلة من خلال المسلمين، وصفة تميز بها هذا الدين، فالمرء يجمع المال وينصب في تحصيله، وربما قاتل لأجله، لكنه حين يرى المحتاج تنطلق يده بالإنفاق لمن لم يتعب على المال، ليس رخصا بالمال، بل طمعا فيما هو أغلى؛ وهو رضا الرب المتعال.
وقضية الإنفاق قضية أولاها الإسلام العناية حثا وترغيبا، وتوجيها وإرشادا، وهي في رمضان يرغب بها؛ لأن الرسول -عليه السلام- في رمضان أكثر منها.
والناظر -يا كرام- لسورة البقرة يجد أنها أفاضت في الحديث عن الإنفاق، عن فضله وآدابه ومكدراته، ورمضان شهر القرآن فرصة لأن نتأملها ونعيش معها، فدعونا نقلب صفحات السورة حين تتحدث عن الإنفاق.. ولمزيد تحري هنا: فضل سورة البقرة.
وأول ما يقابلك في آيات الإنفاق الحث عليه بأروع عبارة وألطف ترغيب؛ (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة) ~ [البقرة: ٢٤٥]، ثم ذكر أن القبض والبسط من عنده، وأن المال ماله فقال: (والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون) ~ [البقرة:٢٤٥]، وكم ترى من إنسان يصبح غنيا ويمسي فقيرا، ومن بلد يعيش على الخيرات الرغيدة ولربما حلت به بعد ذلك المجاعة الشديدة، لتوقن حينها أن الله يقبض ويبسط، فهنيئا لمن بسط يده حين يبسط الله عليه، ومن صبر نفسه حين يضيق عليه رزقه.
ثم بين أنه -سبحانه- يضاعف النفقة ويربيها حتى تكون مثل الجبال، وضرب لذلك مثالا، وفيه قرر أن الصدقة يضاعف أجرها إلى سبعمائة ضعف فقال: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم) ~ [البقرة: ٢٦١].
وتأمل كيف شبه الله المنفق بمن بذر بذرا فأنبتت كل حبة سبع سنابل، اشتملت كل سنبلة على مائة حبة، وكذا المنفق يضاعف أجر صدقته، والله يضاعف الثواب أكثر، بحسب حال المنفق، وحاجة المنفق عليه، وزمان النفقة ومكانها.
ثم بين أن الأجر يكتب للمنفق إذا سلم من آفتين: المن بما أنفق والأذى لمن أنفق، وأهل العرفان ينفقون ثم ينسون معروفهم ولا يذكرونه، ولا ينالون من أعطوه بأذى يحبط ما سلف من الإحسان؛ (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم) ~ [البقرة: ٢٦٢].
ولأن لا ينفق الإنسان ويتكلم بالكلام الطيب ويعتذر للفقير بعدم قدرته ويقوي قلبه خير من أن يعطيه ثم يؤذيه فيعيره بفقره، أو يذكره بمعروفه والتصدق عليه؛ (قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم) ~ [البقرة: ٢٦٣].
ثم أعاد وأكد وقرر أعظم مكدرين للإنفاق والبذل؛ وهما المن والرياء، وهما مبطلان للنفقة (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا) ~ [البقرة: ٢٦٤].
ولم يمن المرء على الفقير حين يعطيه، والمال لله؟! والذي وفق العبد للإنفاق هو الله، بل الله يمن على عبده أن وفقه، وقد كان الصالحون يعدون الفقراء نعمة من الله عليهم، وطريقا للجنة، فلهم المعروف على الأغنياء، وفي الصحيح: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المنان بما أعطى...".
وأما المرائي بما ينفق، والطالب لمدحهم فذاك أخسر الناس صفقة، وماذا بيد الناس إن أثنوا، والله مطلع على القلب والعمل لغيره، فسيمضي الناس اليوم أو غدا، وتبقى مع الله الذي يجازيك على ما في قلبك وسريرتك.
وإنما مثل المرائي بنفقته كمثل حجر أملس عليه تراب فجاءه مطر شديد فزال التراب، وعاد الحجر كما كان، وكذا أعمال المرائي تزول عندما يلقى الله، وفي الصحيح حين ذكر الرسول ﷺ أول من تسجر بهم النار قال: "رجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد. فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار".
وعلى النقيض من المرائي من ينفق ولا يطلب الأجر إلا من الله، يعطي ويطعم لا يريد من الناس جزاء ولا شكورا، بل يخاف من ربه يوما عبوسا قمطريرا، فذاك كمثل بستان في مكان مرتفع مستو، جاءه المطر الشديد فآتت زروعه الثمار ضعفين، فإن لم يصبها المطر نالها الطل؛ وهو الرذاذ اليسير، فانتفعت وما تضررت، لأنها بذرة طيبة في أرض طيبة، فكفاها الطل لتنبت وتثمر، وكذا عمل المؤمن لا يبور أبدا بل ينميه الله وإن قل؛ (ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير) ~ [البقرة: ٢٦٥].
وبعد ذلك -أيها الصائمون- ذكر الله حال من ينفق ويبذل ويجمع الحسنات، ثم هو يضيعها بالسيئات، فقال: (أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون) ~ [البقرة: ٢٦٦].
إن المرء أحوج ما يكون لبستانه إذا كبر سنه، وضعف جسمه، واحتاج ولده، ولو تلف بستانه في زمن الحاجة والكبر أثر ذلك فيه أيما أثر، وربما هلك من عنده من الجوع، ومن يعمل الحسنات، ثم يتلفها بالسيئات يلقى الله أفقر ما يكون، وليس له البستان ليعمل به، وقد ورد في الصحيح أن عمر -رضي الله عنه- جمع الصحابة فسألهم عن هذه الآية فأجاب ابن عباس: بأنها "ضربت مثلا لرجل غني يعمل بالحسنات، ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أحرق أعماله كلها"، وقال الحسن: "هذا مثل قل -والله أعلم- من يعقله من الناس؛ شيخ ضعف جسمه وكثر صبيانه، أفقر ما كان إلى جنته، وإن أحدكم -والله- أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا".
ثم قرر الله قضية في النفقة مهمة؛ وهي أن الله طيب لا يقبل إلا الطيب، فإذا أردت النفقة فتحر المال الحلال؛ (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم) ~ [البقرة: ٢٦٧].
وحين يكسب المرء حراما ويريد التوبة منه فإنه يخرجه في وجوه الإنفاق تخلصا منه، ومن عجب أن ترى من يخوض في المكاسب المحرمة ثم يقول: أنفق منه لأطهره، وينسى أن الله طيب لا يقبل إلا الطيب.
اقتباس:
ومنفقة الأيتام من كد فرجها *** لك الويل لا تزني ولا تتصدقي
أيها المبارك: وأنت راء من الناس من ينفق بأسوأ ما يجد، وخبيث ما يملك، والله جعل نيل البر مقرونا بالنفقة مما تحب؛ (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) ~ [آل عمران: ٩٢]، فإن أردت التصدق بما استغنيت عنه فلا يكون ذلك مما لا ينتفع منه أحد، والله يقول هنا: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد) ~ [البقرة: ٢٦٧].
قال البراء: نزلت فينا هذه الآية، كنا أصحاب نخل، وكان الرجل يأتي من نخله بقدر كثرته وقلته، فيأتي الرجل بالقنو فيعلقه في المسجد، وكان أهل الصفة ليس لهم طعام، فكان أحدهم إذا جاع جاء فضربه بعصاه، فيسقط منه البسر والتمر، فيأكل، وكان أناس ممن لا يرغبون في الخير يأتي بالقنو فيه الحشف والشيص، ويأتي بالقنو قد انكسر فيعلقه، فنزلت: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه) ~ [البقرة: ٢٦٧]، قال: لو أن أحدكم أهدي له مثل ما أعطى ما أخذه إلا على إغماض وحياء، فكنا بعد ذلك يجيء الرجل منا بصالح ما عنده.
عباد الله: وحين يطلب الله من عباده أن ينفقوا فليس لحاجته، بل هو الغني وما في السماء والأرض فهو له، لكنما يأمرنا أن ننفق لننفع أنفسنا، ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه، والله الغني وأنتم الفقراء؛ (واعلموا أن الله غني حميد) ~ [البقرة: ٢٦٧].
معشر المسلمين: والمرء قد يرغب في الإنفاق لكن الشيطان يصده قدر جهده، يخوفه الفقر والعيلة، ويقطع عليه طريق النفقة، لعلمه أن المرء في ظل صدقته يوم القيامة، وكم من امرئ يريد النفقة فيخوفه الشيطان تارة أنه قد يحتاج المال، وتارة يشكك في السائل، وتارة يمنيه بأحوج منه، وهكذا فيمضي وما تصدق؛ (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم) ~ [البقرة: ٢٦٨]، وليس أمام المرء إلا طريق الرحمن، أو طريق الشيطان، فليختر امرؤ لنفسه ما شاء.
عباد الله: وما من نفقة ينفقها في أي مكان أو زمان إلا والله يعلمها، ولئن أخفاها عن الناس فإنها لا تخفى عن إله الناس؛ (وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه) ~ [البقرة: ٢٧٠]، وكم يطيب العمل حين تعمله وأنت تتخايل الله ينظر إليك، وتوقن أنه مطلع عليك.
أيها الكرام: ويحتار البعض حين يريد الإنفاق أيسر بها أم يجهر، والله يقول هنا: (إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير) ~ [البقرة: ٢٧١]، فالجهر بها حسن إن سلم من الرياء، والإسرار أحسن وأقرب لإخلاص النيات، ومكفر للسيئات، ومن السبعة الذين يستظلون بظل العرش: "رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه".