نعرف أن {أَلَمْ تَرَ} ألم تعلم، إن كان المعلوم قد سبق الحديث عنه، أو إن كان المعلوم ظاهراً حادثاً بحيث تراه، ونعرف أن الحق عبّر ب {أَلَمْ تَرَ} في كثير من القضايا التي لم يدركها المخاطب وهو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليدلنا على أن ما يقوله الله- وإن كان خبراً عما مضى- يجب أن تؤمن به إيمانك بالمرئى لك الآن، لأن الله أوثق في الصدق من عينك؛ فعينك قد تخدعك، لكن حاشا أن يخدعنا الله.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} والمراد هم المنافقون وبعض من أهل الكتاب الذين زعموا الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم. (والزعم): مطية الكذب، فهم {يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} وهو القرآن؛ {وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ}، وهو التوراة والإنجيل و{يُرِيدُونَ} بعد ادعاء الإيمان؛ {أَن يتحاكموا إِلَى الطاغوت}، والتحاكم إلى شيء هو: الاستغاثة أو اللجوء إلى ذلك الشيء لينهي قضية الخلاف. فعندما نقول: (تحاكمنا إلى فلان)، فمعنى قولنا هذا: أننا سئمنا من آثار الخلاف من شحناء وبغضاء، ونريد أن نتفق إلى أن نتحاكم، ولا يتفق الخصمان أن يتحاكما إلى شيء إلا إذا كان الطرفان قد أجهدهما الخصام، فهما مختلفان على قضية، وأصاب التعب كُلاًّ منهما.
{يُرِيدُونَ أَن يتحاكموا إِلَى الطاغوت}. (الطاغوت)- كما عرفنا- هو الشخص الذي تزيده الطاعة طغياناً، فهناك طاغٍ أي ظالم، ولما رأى الناس تخافه استمرأ واستساغ الظلم مصداقاً لقول الحق: {فاستخف قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف: 54].
وهذا اسمه (طاغوت) مبالغة في الطغيان. والطاغوت يطلق على المعتدى الكثير الطغيان سواء أكان أناساً يُعبدون من دون الله ولهم، تشريعات ويأمرون وينهون، أم كان الشيطان الذي يُغري الناس، أم كان حاكماً جبّاراً يخاف الناس شرّه، وأي مظهر من تلك المظاهر يعتبر طاغوتاً. وقالوا: لفظ الطاغوت يستوي فيه الواحد والمثنى والجمع فتقول رجل طاغوت، ورحلان طاغوت، ورجال طاغوت، يأتي للجمع كقوله الحق: {الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور والذين كفروا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت} [البقرة: 257]. ويأتي للمفرد كقوله الحق: {وَقَدْ أمروا أَن يَكْفُرُواْ بِهِ} [النساء: 60].
إذن فمرة يأتي للجمع ومرة يأتي للمفرد، وفي كل حكم قرآني قد نجا سبباً مخصوصاً نزل من أجله الحكم، فلا يصح أن نقول: إن حكماً نزل لقضية معينة ولا يُعدَّى إلى غيرها، هو يُعدَّي إلى غيرها إذا اشترك معها في الأسباب والظروف، فالعبرة بعموم الموضوع لا بخصوص السبب.
لقد نزلت هذه الآية في قضية منافق اسمه (بشر).
حدث خلاف بينه وبين يهودي، وأراد اليهودي أن يتحاكم إلى رسول الله، وأراد المنافق أن يتحاكم إلى (كعب بن الأشرف)، وكان اليهودي واثقاً أن الحق له ولم يطلب التحاكم إلى النبي حباً فيه، بل حباُ في عدله، ولذلك آثر مَن يعدل، فطلب حكم رسول الله، أما المنافق الذي يعلن إسلامه ويبطن ويخفي كفره فهو الذي قال: نذهب إلى كعب بن الأشرف الطاغوت، وهذه تعطينا حيثية لصدق رسول الله في البلاغ عن الله في قوله: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل}. وكون اليهودي يريد أن يتحاكم إلى رسول الله، فهذه تدل على ثقته في أن رسول الله لن يضيع عنده الحق، ولم يطلب التحاكم إلى كبير من كبراء اليهود مثل (كعب بن الأشرف) لأنه يعرف أنه يرتشي.
ويختم الحق الآية: {وَيُرِيدُ الشيطان أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً} فهما حين يتحاكمان إلى الطاغوت وهو (كعب بن الأشرف)؛ وبعد ذلك يقضي لمن ليس له حق، سيغري مثل هذا الحكم كل من له رغبة في الظلم أن يظلم، ويذهب له ليتحاكم إليه! فالضلال البعيد جاء هنا لأن الظلم سيتسلسل، فيكون على القاضي غير العادل وزر كل قضية يُحكم فيها بالباطل، هذا هو معنى {ضَلاَلاً بَعِيداً}، وليت الضلال يقتصر عليهم، ولكن الضلال سيكون ممتداً.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)} عندما نسمع قول الحق: {تَعَالَوْاْ}، فهذا يعني نداء بمعنى: اقبلوا، ولكن كلمة (أقبلوا) تعني الإقبال على المساوي لك، أما كلمة: (تعالوا) فهي تعني الإقبال على الأعلى. فكأن لقضايا البشر تشريعاً هابطاً؛ لأنه من صناعة العقل البشري، وصناعة العقل البشري في قوانين صيانة المجتمعات- على فرض أننا أثبتنا حسن نياتهم وإخلاصهم- تكون على قدر مستوياتهم في الاستنباط واستقراء الأحداث.
لكن التشريع حينما يأتي من الله يكون عالياً؛ لأنه سبحانه لا تغيب عنه جزئية مهما صغرت، لكن التقنين البشري يوضع لحالة راهنة وتأتي أحداث بعدها تستوجب تعديله، وتعديل القانون معناه أن الأحداث قد أثبتت قصور القانون وأنه قانون غير مستوعب للجديد، وهذا ناشيء من أن أحداثاً جدّت لم تكن في بال من قنّن لصيانة المجتمع، وكان ذهن مشرع القانون الوضعي قاصراً عنها، كما أن تعديل أي قانون لا يحدث إلا بعد أن يرى المشرع الآثار الضارة في المجتمع، تلك الآثار التي نشأت من قانونه الأول، وضغطت أحداث الحياة ضغطاً كبيراً ليعدّلوا في الأحكام والقوانين.
أما تشريع الله فهو يحمي المجتمع من أن تقع هذه الأحداث من البداية، هذا هو الفارق بين تشريع وضعي بشري جاء لينقذنا من الأحداث، وتشريع رباني إلهي يقينا من تلك الأحداث. فالتشريع البشري كمثل الطب العلاجي. أما التشريع السماوي فهو كالطب الوقائي، والوقاية خير من العلاج.
لذلك جاء الحق سبحانه وتعالى بالتشريعات التي تقينا وتحمينا من شرّ الأحداث، أي أنه يمنع عن الإنسان الضرر قبل أن يوجد؛ وبذلك تتحقق رحمته سبحانه لطائفة من البشر عن أن تعضّهم الأحداث، بينما نجد للقانون الوضعي ضحايا، فيرق قلب المشرعين بعد رؤية هؤلاء الضحايا ليضعوا التعديل لأحكام وضعوها من قبل، ففي القانون الوضعي نجد بشراً يقع عليهم عبء الظلم لأنه قانون لا يستوعب صيانة الإنسان صيانة شاملة، وبعد حين من الزمن يتدخل المشرعون لتعديل قوانينهم، وإلى أن يتم التقنين يقع البشر في دائرة الغبن وعدم الحصول على العدل. أما الخالق سبحانه فقد برأ وخلق صنعته وهو أعلم بها؛ لذلك لم يغبن أحداً على حساب أحد؛ فوضع تشريعاته السماوية، ولذلك يقول الحق: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82].
(شفاء) إذا وجد الداء من غفلة تطرأ علينا، (ورحمة) وذلك حتى لا يأتي الداء. الحق سبحانه وتعالى يقول: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى ما أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول رَأَيْتَ المنافقين يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً}. إنه سبحانه يضع من الأحداث ما يفضحهم فيتصرفون بما يكشف نفاقهم، وبعد ذلك يخطرهم الرسول ويعرف عنهم المجتمع أنهم منافقون.
وهم {يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} أي يُعرضون عنك يا رسول الله لأنهم منافقون، وكل منافق عنده قضيتان: قضية لسانية وقضية قلبية؛ فهو باللسان يعلن إيمانه بالله وبرسول الله، وفي القلب تتعارض ملكاته عكس المؤمن أو الكافر، فالمؤمن ملكاته متساندة؛ لأن قلبه انعقد على الإيمان ويقود انسجام الملكات إلى الهدى، والكافر أيضاً ملكاته متساندة؛ لأنه قال: إنه لم يؤمن ويقوده انسجام ملكاته إلى الضلال، لكن المنافق يبعثر ملكاته!! ملكة هنا وملكة هناك، ولذلك سيكونون في الدرك الأسفل من النار، الكافر منطقي مع نفسه، فلم يعلن الإيمان؛ لأن قلبه لم يقنع، وكان من الممكن أن يقول كلمة الإيمان لكن لسانه لا يرضي أن ينطق عكس ما في القلب، وعداوته للإسلام واضحة. أما المنافق فيقول: يا لساني.. أعلن كلمة الإيمان ظاهراً؛ كي أنفذ من هذا الإعلان إلى أغراضي وأن تطبّق عليّ أحكام الإسلام فانتفع بأحكام الإسلام، وأنا من صميم نفسي إن وجدت فرصة ضد الإسلام فسأنتهزها.
ولذلك يقول الحق: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62)}
والمنافقون يواجهون تساؤلاً: لماذا ذهبتم للطاغوت ليحكم بينكم وتركتم رسول الله؟. فقالوا: نحن أردنا إحساناً، وأن نرفق بك فلا تتعب نفسك بمشكلاتنا، ونريد أن نوفق توفيقاً بعيداً عنك كيلا تصلك المسائل فتشق عليك، ولم نرد مخالفة لك ولا تسخطاً على حكمك؛ وهم يقولون هذا بعد أن انفضحوا أمام الناس.
{فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ} والمصيبة هي الأمر يطرأ على الإنسان بما يضرّه في عُرفه؛ ولأنهم منافقون فهم يريدون أن يكون هذا النفاق مكتوماً، فإذا جاءت حادثة لتفضحهم صارت مصيبة. على الرغم من أنّ الحادثة في واقعها ليست مصيبة. فعندما نعرف المنافقين ونظهرهم أمام أنفسهم وأمام الناس فنحن نكفي أنفسنا شرّهم. وهم يريدون بالنفاق أموراً لأنفسهم.
وهكذا يكون الكشف لنفاقهم مصيبة بالنسبة لهم، هم يرون النفاق نفعاً لهم، فبه يستفيدون من أحكام الإسلام وإجرائها وتطبيقها عليهم، وعندما ينفضح نفاقهم يشعرون بالمصيبة، مثلهم كمثل الذي ذهب ليسرق، ثم فوجئ وهو داخل المكان ليسرق أن الشرطة موجودة لتقبض عليه، وهذا في الواقع نعمة لأنها تضرب على أيدي المجرم العابث، لكنها بالنسبة له مصيبة.
وعندما تحدث لهؤلاء المنافقين مصيبة فهم يحلفون بالله كذباً لأنهم يريدون استدامة نفاقهم.. ويحاولون أن يعتذروا عما حدث، يحلفون بالله إنهم بالذهاب إلى الطاغوت وأرادوا الإحسان والتوفيق بينهم وبين خصومهم. لكن الحق يعلم ما يخفون وما يعلنون.
ناهيك بعلم الله، ولذلك يقول ربنا: {وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول} [محمد: 30].
يعني: نحن لو شئنا أن نقول لك من هم لقلنا لك ودللناك عليهم حتى تعرفهم بأعيانهم، ولكن الله ستر عليهم إبقاء عليهم لعلهم يتوبون، ولتعرفنهم من فحوى كلامهم وأسلوبهم.
{أولئك الذين يَعْلَمُ الله مَا فِي قُلُوبِهِمْ} لقد ذهبوا ليتحاكموا إلى الطاغوت، وقد ذهبوا إلى هناك لعلمهم أنهم ليسوا على حق، ولأنهم إن ذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسيحكم بالحق، والحق يضارُّهم ويُضايقهم، فهل كانوا بالفعل يريدون إحساناً وتوفيقاً، أو كانوا لا يريدون الحق؟. لقد أرادوا الحكم المزور.
لذلك يأتي الأمر من الحق لرسوله: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ}؛ لأنك إن عاقبتهم فقد أخذت منهم حقك، والله يريد أن يبقي حقك ليقتص سبحانه لك منهم، وأعرض أيضاً عنهم لأننا نريد أن يُظهر منهم في كل فترة شيئاً لنعلم المجتمع الإيماني اليقظة إلى أن هناك أناساً مدسوسين بينهم، لذلك لابد من الحذر والتدبر. كما أنك إذا أعرضت عنهم أسقطتهم من حساب دعوتك.
(وعظهم) أي قل لهم: استحوا من أفعالكم. {وَقُل لَّهُمْ في أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} أي قل لهم قولاً يبلغ الغاية من النفس البشرية ويبلغ الغاية من الوعظ، أي يوعدهم الوعيد الذي يخيفهم كي يبلغ من أنفسهم مبلغاً، أو {وَقُل لَّهُمْ في أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} أي أفضح لهم ما يسترون؛ كي يعرفوا أن الله مطلعك على ما في أنفسهم فيستحوا من فعلهم ولا يفعلوه، قل لهم ذلك بدون أن تفضحهم أمام الناس؛ لأن عدم فضحهم أمام الناس يجعل فيهم شيئا من الحياء، وأيضاً لأن العظة تكون ذات أثر طيب إذا كان الواعظ في خلوة مع الموعوظ فيناجيه ولا يفضحه، ففضح الموعوظ أمام الناس ربما أثار فيه غريزة العناد، لكن عندما تعظه في السرّ يعرف أنك لا تزال به رحيماً، ولا تزال تعامله بالرفق والحسنى.
{وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ في أَنْفُسِهِمْ} وإنك لو فعلت ذلك علناً فستعطي الأسوة لغيرك أن يفعل. والله قد أطلعك على ما في قلوب هؤلاء من الكفر أما غيرك فلا يطلعه الله على غيب ولو رمى أحداً بذنب أو كفر فلعله لا يصادف الحق والواقع وتشريعنا يقول لنا: (ادرأوا الحدود بالشبهات). والتطبيق لهذا التشريع نجده عندما يتم القبض على سارق، لكن هناك شبهة في الاتهام، هذه الشبهة يجب أن تفسر في صالح المتهم، وندرأ الحد لوجود شبهة؛ فليس من مصلحة المسلمين أن نقول كل يوم: إننا قطعنا يد سارق أو رجمنا زانية. لكن إذا افتضحت الجرائم وليس في ارتكابها شبهة والمسألة واضحة فلابد أن نضرب على أيدي المجرمين.
فنحن ندرأ الحد بالشبهة حتى لا نلحق ضرراً أو ننال من بريء، ونطق الحد حتى يرتدع كل من تسول له نفسه أمراً محرّما حتى لا يرتكب الأمر المحرّم. وعندما يقام الحدّ في أي بيئة، فإنه لا يقام إلا لفترة قليلة وتتراجع بعدها الجرائم، ولا يرى أحد سارقاً أو زانياً.
إذن فقول الله: {وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ في أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} يعني: قل لهم ما يهددهم تهديداً يصل إلى أعماق نفوسهم، أو {وَقُل لَّهُمْ في أَنْفُسِهِمْ} بأن تكشف مستورات عيوبهم أو قل لهم في أنفسهم بينك وبينهم؛ لأن هذا أدعي إلى أن يتقبلوه منك ولا يوغر صدورهم ويثير فيهم غريزة العناد.
الغرض من إرسال الحق للرسول هو أن يعلم الناس شرع الله المتمثل في المنهج، وأن يهديهم إلى دين الحق. والمنهج يحمل قواعد هي: افعل، ولا تفعل، وما لا يرد فيه (افعل ولا تفعل) من أمور الحياة فالإنسان حرّ في اختيار ما يلائمة. وأي رسول لا يأتي بتكليفات من ذاته، بل إن التكليفات تجيء بإذن الله. وهو لا يطاع إلا بإذن من الله. فالرسول صلى الله عليه وسلم جاء بطاعة الله إلا إن يفوّض من الله في أمور أخرى، وقد فوّض الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله الحق: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7].
فالمؤمنون برسالة محمد صلى الله عليه وسلم- إذن-عليهم طاعة الرسول في إطار ما فوّضه الله والله أذن له أن يشرع.
ويتابع الحق: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظلموا أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ فاستغفروا الله واستغفر لَهُمُ الرسول لَوَجَدُواْ الله تَوَّاباً رَّحِيماً}. وظلم النفس: أن تحقق لها شهوة عاجلة لتورثها شقاء دائماً. وظلم النفس أشقى أنواع الظلم، فمن المعقول أن يظلم الإنسان غيره، أما أن يظلم نفسه فليس معقولاً. وأي عاصٍ يترك واجباً تكليفياً ويقبل على أمرٍ منهي عنه، قد يظن في ظاهر الأمر أنه يحقق لنفسه متعة، بينما هو يظلم نفسه ظلماً قاسياً؛ فالذي يترك الصلاة ويتكاسل أو يشرب الخمر أو يرتكب أي معصية نقول له: أنت ظلمت نفسك؛ لأنك ظننت أنك تحقق لنفسك متعة بينما أورثتها شقاءً أعنف وأبقى وأخلد، ولست أميناً على نفسك.
والنفس- كما نعلم- تطلق على اجتماع الروح بالمادة، وهذا الاجتماع هو ما يعطي النفس الإنسانية صفة الاطمئنان أو صفة الأمارة بالسوء، أو صفة النفس اللوامة. وساعة تأتي الروح مع المادة تنشأ النفس البشرية. والروح قبلما تتصل بالمادة هي خيّرة بطبيعتها، والمادة قبلما تتصل بالروح خيرة بطبيعتها؛ فالمادة مقهورة لإرادة قاهرها وتفعل كل ما يطلبه منها. فإياك أن تقول: الحياة المادية والحياة الروحية، وهذه كذا وكذا. لا.
إن المادة على إطلاقها خيّرة، طائعة، مُسَخَّرة، عابدة، مُسبِّحة. والروح على إطلاقها كذلك، فمتى يأتي الفساد.. ساعة تلتقي الروح بالمادة ويوجد هذا التفاعل نقول: أنت يا مكلف ستطمئن إلى حكم الله وتنتهي المسألة أم ستبقى نفسك لوّامة أم ستستمرئ المعصية وتكون نفسك أمارة بالسوء؟
فمَن يظلم مَن إذن؟. إنه هواك في المخالفة الذي يظلم مجموع النفس من روحها ومادتها. فأنت في ظاهر الأمر تحقق شهوة لنفسك بالمخالفة، لكن في واقع الأمر أنك تتعب نفسك، {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظلموا أَنْفُسَهُمْ}. ولنعلم أن هناك فرقاً بين أن يأتي الفاحشة إنسانَ ليحقق لنفسه شهوة. وأن يظلم نفسه، فالحق يقول: {والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله} [آل عمران: 135].
إذن فارتكاب الفاحشة شيء وظلم النفس شيء آخر، (فعل فاحشة) قد متع إنسان نفسَه قليلاً، لكن من ظلم نفسه لم يفعل ذلك. فهو لم يمتعها ولم يتركها على حالها، إذن فقد ظلم نفسه؛ لا أعطاها شهوة في الدنيا؛ ولم يرحمها من عذاب الآخرة، فمثلاً شاهد الزور الذي يشهد ليأخذ واحدٌ حقَّ آخر، هذا ظلم قاسٍ للنفس، ولذلك قال الرسول: (بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بِعرضٍ من الدنيا).
{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظلموا أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ فاستغفروا الله}. وظلم النفس أيضاً بأن يرفع الإنسان أمره إلى الطاغوت مثلاً، لكن عندما يرفع الإنسان أمره للحاكم، لا نعرف أيحكم لنا أم لا؛ وقد يهديه الله ساعة الحكم.
إن قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظلموا أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ} فالمسألة أنهم امتنعوا من المجيء إليك يا رسول الله؛ فأول مرتبة أن يرجعوا عما فعلوه، وبعد ذلك يستغفرون الله؛ لأن الذنب بالنسبة لعدم مجيئهم للرسول قبل أن يتعلق بالرسول تعلق بمن بعث الرسول، ولذلك يقولون: إهانة الرسول تكون إهانة للمرسِل؛ فصحيح أن عدم ذهابهم للرسول هو أمر متعلق بالرسول ولكن إذا صعدته تجده متعلقاً بمن بعث الرسول وهو الله، لأن الرسول لم يأت بشيء من عنده، وبعد أن تطيب نفس الرسول فيستغفر الله لهم، إذن فأولاً: يجيئون، وثانياً: يستغفرون الله وثالثاً: يستغفر لهم الرسول.
وبعد ذلك يقول سبحانه: {لَوَجَدُواْ الله تَوَّاباً رَّحِيماً} إذن فوجدان الله تواباً رحيماً مشروط بعودتهم للرسول بدلاً من الإعراض عنه ثم أن يَستغفروا الله؛ لأن الله ما أرسل من رسول إلا ليطاع بإذنه، فعندما تختلف معه لا تقل: إنني اختلفت مع الرسول؛ لا. إنك إن اختلفت معه تكون قد اختلفت مع من أرسله وعليك أن تستغفر الله.
ولو أنك استغفرت الله دون ترضية الرسول فلن يقبل الله ذلك منك. فلا يقدر أحد أبداً أن يصلح ما بينه وبين الله من وراء محمد عليه الصلاة والسلام.
وحين يفعلون ذلك من المجيء إلى الرسول واستغفارهم الله واستغفار الرسول لهم سيجدون الله تواباً رحيماً، وكلمة (توّاب) مبالغة في التوبة فتشير إلى أن ذنبهم كبير.
إن الحق سبحانه وتعالى خلق خلقه ويعلم أن الأغيار تأتي في خواطرهم وفي نفوسهم وأن شهواتهم قد تستيقظ في بعض الأوقات فتنفلت إلى بعض الذنوب، ولأنه رب رحيم بين لنا ما يمحص كل هذه الغفلة، فإذا أذنب العبد ذنباً أَرَبُّهُ الرحيم يتركه هكذا للذنب؟ لا. إنه سبحانه شرع له العودة إليه؛ لأن الله يحب أن يئوب عبده ويرجع إليه وإن غفل بمعصيته.
إن الحق سبحانه وتعالى يعلمنا كيف نزيل عنا آثار المعاصي، فقال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظلموا أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ} فالعلاج من هذه أن يجيئوك لأنهم غفلوا عن أنك تنطق وتبلغ من قِبَل الحق في التشريع وفي الحكم، وبعد المجيء يستغفرون الله ويستغفر لهم الرسول، تأييداً لاستغفارهم لله، حينئذ يجدون الله تواباً رحيماً.
إذن لابد أن نستقبل الإيمان بالإقبال على كل ما جاء به رسول الله، فساعة حكّم المنافقون غيره برغم إعلانهم للإسلام جاء الحكم بخروجهم من دائرة الإيمان، وعلى المؤمنين أن يتعظوا بذلك.
ونلحظ في قول الحق: {فَلاَ وَرَبِّكَ} وجود (لا) نافية، وأنه سبحانه أقسم بقوله: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ}، ونعلم أن المنافقين قد ذهبوا فحكَّموا غير رسول الله، مع أنهم شاهدون بأنه رسول الله فكيف يشهدون أنه رسول الله، ثم يحكمون غيره ولا يرضون بقضائه؟ وتلك قضية يحكم الحق فيها فيقول: لا. هذه لا تكون أبداً. إذن ف (لا) النافية جاءت هنا لتنفي إيمانهم وشهادتهم أنه رسول الله؛ لأنهم حكَّموا غيره. فإذا ثبت أنهم شهدوا أنه رسول الله ثم ذهبوا لغيره ليقضي بينهم إذا حدث هذا. فحكمنا في القضية هو: لا يكون لهم أبداً شرف شهادة أنه رسول الله.
وبعد ذلك أقسم الحق فقال: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} ونحن الخلق لا نقسم إلا بالله، لكنه سبحانه له أن يقسم بما شاء على ما يشاء، يقسم بالمادة الجبلية: {والطور} [الطور: 1].
ويقسم بالذاريات: {والذاريات ذَرْواً} [الذاريات: 1].
والذاريات هي الرياح، ويقسم بالنبات: {والتين والزيتون} [التين: 1].
ويقسم بالملائكة: {والصافات صَفَّا} [الصافات: 1].
ولكنك إن نظرت إلى الإنس فلن تجده أقسم بأحد من سيد هذا الكون وهو الإنسان إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقسم بحياته فقال: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72].
و(لعمرك) يعني: وحياتك يا محمد إنهم في سكرتهم يعمهون، أي هم في غوايتهم وضلالهم يتحيرون فلا يهتدون إلى الحق، وأقسم الله بعد ذلك بنفسه، فقال: {فَوَرَبِّ السمآء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ} [الذاريات: 23].
وساعة يقول: (فورب السماء والأرض). فلابد أن يأتي بربويته لخلق عظيم نراه نحن، ولذلك قال: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} [غافر: 57].
يعني إذا فكرت أيها الإنسان في خلق السماوات والأرض لوجدته أكبر من خلق الناس.
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} وهذا تكريم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ودليل على أن محمداً عليه الصلاة والسلام ذو منزلة عالية، إياكم أن تظنوا أنه حين قال: (لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس) أن محمداً قد دخل في الناس، إنّه سبحانه يوضح: لا، سأقسم به كما أقسمت بالسماء والأرض، {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ}، ولماذا يقسم برب السماء والأرض؛ لأن الربّ له قدرة عظيمة هائلة، فهو يخلق ويربي، ويتعهد ويؤدب.
إن خلق السماوات والأرض يكفي فيها الخلق وناموس الكون والتسخير.
لكن عندما يخلق محمداً فلا يريد الخلق والإيجاد فقط، بل يريد تربية فيها ارتقاءات النبوة مكتملة فيقول له: فوربك الذي خلقك، والذي سواك، والذي رباك، والذي أهَّلَكَ لأن تكون خير خلق الله وأن تكون خاتم الرسل، ولأن تكون رحمة الله للعالمين، يقسم بهذا كله فيقول: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} أبعد ما يدخل سبحانه فينا هذه المهابة بالقسم برب رسول الله نقول: لا نحكم محمداً ومنهجَه في حياتنا؟.
إذن فقوله: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} وحَكَّم كل مادتها مثل (الحُكْم) و(التحكيم) و(الحكمة) و(التحكم) وكل هذا مأخوذ من الحَكَمَة وهي حديدة اللجام الذي يوضع في فم الفرس يمنعه به صاحبه أن يشرد، ويتحكم فيه يميناً ويساراً، فكذلك (الحِكْمَة) تعوق كل واحد عن شروده في أخذ حق غيره، فالتحكيم والحكم، والحكمة، كلها توحي بأن تضع الشيء في موضعه الصحيح.
وكلمة (شجر) مأخوذة من مادة (الشين والجيم والراء) وإذا رأيتها فافهم أنها مأخوذة من الشجر الذي تعرفه. وهناك نباتات تكبر فيلتصق بعضه ببعض فتتشابك، كما نرى مثلاً شجراً متشابكاً في بعضه، وتداخلت الأفرع مع بعضها بحيث لا تستطيع أيها الناظر أن تقول: إن هذه ورقة هذه الشجرة أو ورقة تلك الشجرة. وإذا ما أثمرتا وكانتا من نوع واحد لا تقدر أن تقول: إن هذه الثمرة من هذه الشجرة، ولا هذه الثمرة من تلك الشجرة، أي أن الأمر قد اختلط.
(وشجر بينهم) أي قام نزاع واختلاط في أمر، فأنت تذهب لتفصل هذه الشجرة عن تلك، وهذه الثمرة عن تلك الثمرة، وساعة ترى أشجاراً من نوع واحد، وتداخلت مع بعضها واختلطت، لا يعينك إن كنت جاني الثمرة أن تكون هذه الثمرة التي قطفتها من هنا أو من هناك، فأنت تأخذ الثمرة حيث وجدت، لا يعنيك أن تكون من هذه أو من تلك، وإن كنت تستظل تحت شجر لا يعنيك أن تعرف هل جاء هذا الظل من ورق هذه الشجرة أو من تلك الشجرة، فهذه فائدة اختلاط المتساوي، لكن إذا أردت ورقة شجرة من نوع معين فأنتقيها لأنني أريدها لأمر خاص.
والخلق كلهم متساوون فكان يجب إن اختلطوا أن تكون المسألة مشاعاً بينهم، لكن طبيعة النفس الشُحّ، فتنازعوا، ولذلك فالقاضي الذكي يقول للمتخاصِمَيْن: أتريدان أن أحكم بينكما بالعدل أم بما هو خير من العدل؟ فيفزعان ويقولان: أهناك خير من العدل؟. يقول: نعم إنه الفضل، فما دامت المسألة أخوة واحدة، والخير عندك كالخير عندي فلا نزاع، أمَّا إذا حدث الشجار فلابد من الفصل.
ومن الذي يفصل؟.
إنه سيدنا رسول الله بحكم قول الحق: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}.
فالإيمان ليس قوله تقال فحسب وإنما هو قولة لها وظيفة، فأن تقول لا إله إلا الله وتشهد أن محمداً رسول الله فلابد أن لهذا القول وظيفة، وأن تُحكِم حركة حياتك على ضوء هذا القول، فلا معبود إلا الله، ولا آمر إلا الله، ولا نافع إلا الله، ولا ضار إلا الله، ولا مشرع إلا الله، فهي ليست كلمة تقولها فقط! وينتهي الأمر، ثم عندما يأتيك أمر يحتاج إلى تطبيقها تفرّ منه. {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} بمنهج الإسلام {حتى يُحَكِّمُوكَ} فهذا هو التطبيق {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} ولا يصح أن يحكموك صورياً، بل لابد أن يحكموك برضا في التحكيم، {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً} أي ضيقاً {مِّمَّا قَضَيْتَ}. فعندما يحكم رسول الله لا تتوانوا عن حكمه ولا تضيقوا به {وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} أي يُذْعِنُوا إذعاناً.
إذن فالإيمان لا يتمثل في قول يقال وإنما في توظيف ذلك القول. بأن تلجأ إليه في العمليات الحركية في الحياة، {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} حتى يترجم الإيمان إلى قضية واقعية اختار الحق لها أعنف ساعات الحرج في النفس البشرية وهي ساعة الخصومة التي تولد اللدد والميل عن الحق، {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً} لأنه قد يجد حرجاً ولا يتكلم.
وانظروا إلى الثلاثة:
الأولى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظلموا أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ}، هذه واحدة،
{فاستغفروا الله} هذه هي الثانية،
{واستغفر لَهُمُ الرسول} هذه هي الثالثة،
هذه ممحصات الذنوب،
والذي يدخلك في حظيرة الإيمان ثلاثة أيضاً:
{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} هذه هي الأولى، {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ} هذه هي الثانية، و{وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} هذه هي الثالثة.
إذن فالقولان في رسول الله صلى الله عليه وسلم: دخول حظيرة إيمان، وخروج من غلّ ذنب.
وهنا وقفة لا أبالغ إذا قلت: إنها شغلتني أكثر من عشر سنين، هذه الوقفة حول قول الله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظلموا أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ فاستغفروا الله واستغفر لَهُمُ الرسول لَوَجَدُواْ الله تَوَّاباً رَّحِيماً} ذلك يا رب تمحيص من عاصر رسولك صلى الله عليه وسلم، فما بال الذين لم يعاصروه؟ فأين الممحص الذي يقابل هذا لمن لم يعاصر حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، والرسول إنما جاء للناس جميعاً، فكيف يوجد ممحص لقوم عاصروا رسول الله ثم يحرم من جاءوا بعد رسول الله من هذا التمحيص؟
هذه مسألة ظلت في ذهني ولا أجد لها جواباً، إلا أني قلت: لقد ثبت عندي وعند بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مطمئنا المؤمنين في كافة العصور: «حياتي خير لكم تُحْدِثون ويُحْدَثُ لكم فإذا أنا مت كانت وفاتي خيرا لكم تُعْرض عليَّ أعمالكم فإن رأيت خيرا حمدت الله وإن رأيت شرا استغفرتُ لكم».
انظر إلى التطمين في قوله صلى الله عليه وسلم: «تعرض عليّ أعمالكم فإن رأيت خيراً حمدت الله، وإن رأيت غير ذلك استغفرت لكم».
فاستغفار الرسول لنا موجود. إذن فما بقي منها إلا أن نستغفر الله، وما بقي إلا (جاءوك) أي يجيئون لسنتك ولما تركت منها ف صلى الله عليه وسلم هو القائل: «تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض».
فكما كان الأحياء يجيئونه، فنحن نجيء إلى حكمه وسنته وتشريعه، وهو يستغفر لنا جميعا، إذن فهذه منتهية، فبقي أن نستغفر الله قائلين: نستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحيّ القيوم ونتوب إليه.. نفعل ذلك إن شاء الله.
وقوله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} أي لا يجدوا حرجاً عندما يذعنون لأي حكم تكليفي أو حكم قضائي، والحكم التكليفي نعرفه في: افعل ولا تفعل، أما الحكم القضائي فهو عندما يتنازع اثنان في شيء وهذا يقتضي أن نقبل الحكم في النزاع إذا ما صدر عن رسول الله أو عن منهجه. إذن فلابد أن نسلم تسليماً في الاثنين: في الحكم التكليفي، وفي الحكم القضائي.