كان ألفونسو السادس ملك ليون وقشتالة أقوى ملك نصراني صليبي في ذلك الوقت، ولم ينسَ ألفونسو يومًا عداوة آبائه وأجداده للمسلمين في الأندلس؛ لذلك ليس غريبًا أن يستأنف ألفونسو حرب الاسترداد الصليبية في إسبانيا الإسلامية، بل وتكون أشُدَّها ضراوة وقوَّة وحمية.
وقد اتَّسمت فترة الصراع الإسلامي الصليبي في عهد ألفونسو بالدينية، وكان ذلك بتأييد من البابوية الكنسية؛ لذلك اتَّسم الصراع بالحماسة الشديدة من أجل تحقيق أهداف الكنيسة في القضاء على الإسلام والمسلمين في الأندلس.
عندما اعتلى ألفونسو عرش قشتالة وليون سنة (466هـ=1072م) كان الصراع على أشدِّه بين إشبيلية وغرناطة، وقد سبق وفصلنا كيف استعانت كلتا المملكتين بألفونسو السادس على بعضهما، حتى أرهقهما بالجزية وبما أثاره من تقتيل وتخريب وإفساد باسم تحالفه مع المملكتين.
كانت العَلاقة بين ألفونسو ومملكة سرقسطة تسير من سيئ إلى أسوأ، وحدث أن تُوُفِّيَ يوسف المؤتمن بن هود في السنة نفسها التي سقطت فيها طليطلة بيد ألفونسو (478هـ=1085م)، فتوجه إلى سرقسطة، وضرب الحصار عليها، إلا أن حملته باءت بالفشل؛ إذ جاءت الأنباء إليه بقدوم المرابطين لنجدة إخوانهم بالأندلس، فعاد إلى قشتالة ليُعِدَّ عُدَّته.
ألفونسو وبلنسية
ممالك إسبانيا وملوك الطوائف في الأندلس سنة (478هـ/1085م)أما عن بلنسية فقد كانت تمرُّ بفوضى سياسية تحت حُكم القادر يحيى بن ذي النون، الذي دخلها تحت الحماية القشتالية في شوال (478هـ=1086م)، فقد تعرَّضت بلنسية لضغط المنذر بن هود صاحب طرطوشة ودانية والجزء الشرقي من مملكة سرقسطة، وكانت المدينة تشطر أملاكه، فالتمس المساعدة من كلٍّ مِنْ ألفونسو السادس وأحمد المستعين، الذي هرع إلى القمبيطور، غير أن المصالح تضاربت بين الحليفين، فاضطر المستعين أن يستعين برامون أمير برشلونة، كما استعان القمبيطور بألفونسو السادس، وحدث أن انتصر القمبيطور على رامون، واستولى بذلك على شرقي الأندلس وبلنسية منها، وفرض الجزية عليها، وتعهَّد يحيى بدفع مائة ألف دينار سنويًّا مقابل حمايته له، بيد أن العلاقة ساءت بين القمبيطور وألفونسو السادس، فقبض ألفونسو السادس على زوجة القمبيطور وأولاده، وهاجم بلنسية في الوقت الذي كان فيه القمبيطور في سرقسطة؛ لتنظيم الدفاع عنها تجاه خطر المرابطين![1]
وهكذا أضحت ملوك الطوائف كلها تحت نير[2] هجمات النصارى وممالكهم المختلفة في كل مكان، والتي أنهكت قوى ملوك الطوائف وأضعفت قواهم، ونتج عنها أن سقطت طليطلة على نحو ما سنُفَصِّله إن شاء الله.
ألفونسو وأخذ الجزية من المسلمين
إنَّ أشدَّ وأنكى ما كان من أمر ملوك الطوائف في هذه الفترة أنهم كانوا يدفعون الجزية للنصارى، فكانوا يدفعون الجزية لألفونسو السادس، وهم في ذِلَّة ومهانة؛ كانوا يدفعون الجزية حتى يحفظ لهم ألفونسو السادس أماكنهم وبقاءهم على الحُكم في بلادهم.
كانت سياسة ألفونسو السادس التي استعان بها في إنجاح خطته وسيطرته على ممالك الطوائف تعتمد على شقَّيْنِ، الأول: إرهاقهم بالغارات المتواصلة، والثاني: إرهاقهم بالجزية والإتاوات؛ وبذلك تضعف قوى ملوك الطوائف العسكرية والاقتصادية، فلا يقدرون على المدافعة.
وكأنَّ قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة: 51- 52]. قد نزل في أهل الأندلس في ذلك الوقت؛ حيث يَتَعَلَّلون ويتأَوَّلُون في مودَّة وموالاة النصارى بالخوف من دائرة تدور عليهم من قِبَلِ إخوانهم، وهنا يُعَلِّق U بقوله: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة: 52]، وهو بعينه الذي سيحدث في نهاية هذا العهد كما سنرى، حين يكون النصر فيُسِرُّ هؤلاء في أنفسهم ما كان منهم من موالاة النصارى في الظاهر والباطن، ويندمون حين يفضحهم الله ويُظهر أمرهم في الدنيا لعباده المؤمنين، وذلك بعد أن كانوا مستورين لا يدري أحدٌ كيف حالهم.
غير أن الصورة لاح فيها نور من العزَّة والإباء قادم من بطليوس، التي أرهقتها غارات ألفونسو، فمع أن كل الممالك وأمراء الطوائف كانوا يدفعون الجزية إلى ألفونسو السادس إلا المتوكل بن الأفطس أمير مملكة بَطَلْيُوس.
وبعد أن أسقط ألفونسو طليطلة سنة (487هـ=1085م)، وجد نفسه قادرًا على تحدِّي ملوك الطوائف جميعًا، وهنا أرسل ألفونسو السادس للمتوكل بن الأفطس رسالة شديدة اللهجة يطلب فيها منه أن يدفع الجزية، كما كان يدفعها إخوانه من المسلمين في الممالك الإسلامية المجاورة، فرد عليه المتوكل برسالة قوية تثبت ما كان عليه من علم وعزة وإرادة، قال:
«وصل إلينا من عظيم الروم كتاب مُدَّعٍ في المقادير، وأحكام العزيز القدير، يرعد ويبرق، ويجمع تارة ثم يُفَرِّق، ويُهَدِّد بجنوده الوافرة، وأحواله المتضافرة، ولو علم أن لله جنودًا أعزَّ بهم ملَّة الإسلام، وأظهر بهم دين نبينا محمد u، {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ} [المائدة: 54]، بالتقوى يُعرفون وبالتوبة يتضرَّعون، ولئن لمعت من خلف الروم بارقة {فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 166]، و{لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الأنفال: 37]، {وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [العنكبوت: 11].
وأمَّا تعييرك للمسلمين فيما وهن من أحوالهم، وظهر من اختلالهم؛ فبالذنوب المركوبة... ولو اتَّفقت كلمتنا مع سائرنا من الأملاك؛ لعلمتَ أيَّ مصاب أذقناك، كما كانت آباؤك مع آبائنا تتجرَّعه... وبالأمس كانت قطيعة[3] المنصور[4] على سلفك، إهداء ابنته إليه[5]، مع الذخائر التي كانت تَفِدُ في كل عام عليه... وأما نحن؛ وإن قلَّت أعدادنا، وعُدِم من المخلوقين استمدادنا، فما بيننا وبينك بحر نخوضه، ولا صعب نروضه، إلاَّ سيوفًا تشهد بحدِّتها رقاب قومك، وجلادًا تبصره في نهارك وليلك، وبالله تعالى وملائكته المسوَّمين، نتقوَّى عليك ونستعين، ليس لنا سوى الله مطلب، ولا لنا إلى غيره مهرب، وما {تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة: 52]: نصر عليكم فيا لها من نعمة ومِنَّة، أو شهادة في سبيل الله فيا لها من جنة، وفي الله العوض مما به هَدِّدْتَ، وفرج يبتر ما مددت، ويقطع بك فيما أعددت»[6].
فما كان من ألفونسو السادس إلاَّ أن وجم ولم يُفَكِّر، ولم يستطع أن يُرسل له جيشًا؛ فقد غزا كل بلاد المسلمين في الأندلس خلا بطليوس، لم يتجرَّأ على أن يغزوها، فكان يعلم أن هؤلاء الرجال لا يقدر أهلُ الأرض جميعُهم على مقاومتهم، فأعزَّ الإسلامُ ورفع من شأن المتوكل بن الأفطس ومَنْ معه من الجنود القليلين حين رجعوا إليه، وبمجرَّد أن لوَّحوا بجهاد لا يرضون فيه إلاَّ بإحدى الحسنيين، نصر أو شهادة.
إلاَّ أن المتوكل صاحب هذه الرسالة، وصاحب العلم والفضل، ختم حياته على أسوأ وأخزى ما يكون الختام؛ إذ هو لما أتى فرجُ الله وتوحَّدت الأندلس استولت عليه شهوة الملك؛ حتى تحالف مع ألفونسو عدوِّه القديم ضد المسلمين، وما أغنى عنه ذلك شيئًا! إذ لقي جزاء خيانته قتلاً في خاتمةٍ ما كان أحسن به أن يتجنبها!