نكبة بريشتر
نكبةٌ مدينة بربشتر Barbastro هي انتكاسة اهتزَّت لها الأندلس كافَّة، وقد وقعت أيَّام "يوسف المظفر" اعتُبِرت من أشد وأفظع ما حدث في الأندلس إلى تلك الفترة؛ وذلك لِمَا ارتُكِبَ فيها من أعمالٍ وحشيَّة.
هذه الحادثة هي مهاجمة «النورمانديِّين» للمدينة، وفتكهم بأهلها، فاتَّصفت هذه الحملة بطابعها الصليبي الهمجي الحاقد؛ وكان قائد هذه الحملة جيوم دي مونري (Guillaume de Montreuil) من أكابر فرسان عصره.
احتشدت القوَّات في ولاية نورماندي لهذا الغرض، مكوَّنة من النورمانديِّين وجموع كبيرة من الفرنسيِّين بقيادة جيوم، وقيل: روبرت كرسبن. وتسمِّي الرواية الإسلاميَّة قائدً الحملة بأسماء: "البيطبين" و"البيطين" و"البيطش" أو "قائد حملة رومة".
سارت الحملة إلى جنوبي فرنسا متجهة نحو الأندلس، وحاصروا أوَّلًا مدينة وَشقة، إحدى مدن مملكة سرقسطة، ولمـَّا فشلوا في اقتحامها تركوها متوجِّهين إلى مدينة «بربشتر»، وهي من الحصون الأندلسيَّة المنيعة، فحاصروها سنة (456هـ= 1063م).
ويُقدَّر عدد أفراد هذه الحملة بأربعين ألفًا أو يزيدون، واستمرَّ الحصار أربعين يومًا، وجرت معارك عديدة خارج المدينة، ولمـَّا قلَّت الأقوات واشتدَّ الضيق بالمدينة، استطاع النورمنديُّون -بعد قتالٍ عنيفٍ- اقتحام المدينة الخارجيَّة.
وقد جرت معارك أخرى، وتحصَّن المسلمون بالقصبة والمدينة الداخليَّة، مصمِّمين على الثبات حتى آخر رمق، لكن حدث أن تعرَّض المهاجمون إلى مكان مجرى الماء الأرضي -أو دلَّهم عليه خائنٌ- فقطعوه، واشتدَّ بالمدافعين العَطَش، فعرضوا على النورمانديِّين التسليم بشروط، فرفضوا.
ثم دخلوا المدينة عنوة، واستباحوا المدينة الباسلة بكلِّ ما فيها ومن فيها، وقُدِّر عدد القتلى والأسرى بين (40-100) أربعين ومائة ألف! ثم أعطى قائد الحملة الأمان، لكنَّه حين رأى كثرة أهل المدينة أمر جنده أن تُقلِّل أعدادهم، حصادًا بالسيف. فأُطيح أرضًا بستَّة ألاف من الرءوس!؟ ثم إنَّهم انتهبوا المدينة، واحتلُّوا دورها لأنفسهم، وارتكبوا أبشع الجرائم قتلًا وهتكًا للأعراض. وكان الخطب "أعظم من أن يُوصف أو يُتقصَّى" كما يقول ابن حيَّان.
انتفاضة بعد النكسة
كان لهذه النكبة أثر كبير وصدى عميق، في أنحاء الأندلس كافَّة، وقام تيَّار الدعوة إلى الجهاد في أنحاء البلاد الأندلسيَّة، واهتزَّ لها الأمراء، والمقتدر بن هود -الذي يتحمَّل الكثير من وزرها- في مقدِّمتهم.
وقد لبَّى دعوة الجهاد كثيرون، وسار المتطوِّعون من الجهات إلى الثغر جهادًا في سبيل الله تعالى، واستجابت جموع المسلمين بقوَّةٍ أرعبت النورمان المعتدين -على الرغم من كثرتهم- فردَّتهم على أعقابهم، يبحثون عن نجاتهم.
ويذكر ابن عَذاري أنَّ عدد المجاهدين بلغ ستَّة آلاف، حاصروا مدينة بربشتر، ونجحوا في اقتحامها، وجرت معركةٌ شديدةٌ مُزِّق فيها المعتدون. واستردَّت بربشتر في جمادى الأولى (سنة 457هـ= 1065م)، بعد أن دام احتلالها والعبث فيها وإنهاكها تسعة أشهر. وعلى أثر هذا الانتصار تَسمَّى أحمد بن هود "المقتدر بالله".