في هذه السورة أقسم الله عز وجل لنبيه بأمرين متعاكسين تماما:
الأول: هو الضحى وهو وقت اشتداد الحركة في النهار الثاني: هو الليل وقيده بوصف ( السجو ) وهو السكون والإطباق وهو يقابل الضحى من حيث انقلاب الأحوال فيه تماما من شدة الحركة في الضحى إلى السكون والهجوع في الليل.
وإذا جمعنا إلى هذا ما ورد في السنة من نصوص تبين سبب نزول السورة، ورد فيها ما يلي في صحيح البخاريّ : عن جندب بن عبد الله _رضي الله عنه_ قال: «احتبس جبريل _عليه السّلام _ على النّبيّ _صلّى الله عليه وسلّم_، فقالت امرأة من قريش: أبطأ عليه شيطانه، فنزلت: "والضّحى واللّيل إذا سجى، ما ودّعك ربّك وما قلى". وفي رواية عنه قال: «اشتكى رسول الله _صلّى الله عليه وسلّم _فلم يقم ليلتين - أو ثلاثاً -، فجاءت امرأة فقالت: يا محمّد، إنّي لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين - أو ثلاثة - فأنزل الله عز وجل: " والضّحى واللّيل إذا سجى، ما ودّعك ربّك وما قلى".
وفي رواية مسلم عنه أيضاً : (أبطأ جبريل على رسول الله _صلّى الله عليه وسلّم _ فقال المشركون: قد ودّع محمد، فأنزل الله عزّ وجلّ: " والضّحى واللّيل إذا سجى ما ودّعك ربك وما قلى". ومفاد جميع ما سبق :
1-أن الوحي قد فتر أياما عن النبي صلى الله عليه وسلم في أوائل الدعوة، أو أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتكى فلم يقم أياما، أو كلاهما. 2-أن هذه الفترة قد أثارت في نفسه حزنا وأزمة خوفا من أن يكون الله قد تخلى عنه بعد أن سار في الدعوة شوطا ما سواء كان من انقطاع الوحي أو من انقطاعه عن القيام صلى الله عليه وسلم. 3-وأن المشركين أو بالأحرى رؤوسهم استغلوا ذلك في سخرية وشماتة من النبي صلى الله عليه وسلم وأن ربه قد قلاه وودعه، وأن منهم من عيره بذلك مواجهة، وأن ذلك قد زاد من حزنه وأزمته. 4-وأن هذا كان في بداية الدعوة وخطواتها الأولى بخلاف ما تلا ذلك من فترة للوحي لم تؤثر في النبي صلى الله عليه وسلم ما أثرت به هذه الفترة في بداية الدعوة. إذا جمعنا الأمرين سوية تبين لنا أن الله عز وجل أنزل هذه السورة – فيما نرى فإن أصبنا فمن الله وإن أخطأنا فمن أنفسنا ولا نجزم بصواب ما نراه – تحمل رسالة للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته من بعده: أنه إذا تعسرت أحوالك وتبدلت، وأصابك الهم بعد الراحة أو المرض بعد الصحة أو الفقر بعد الغنى، أو الشغل بعد الفراغ، أو تأخر الرزق عنك في أمر ما، وأطبقت عليك هذه الشدة، وأحسست بأن الأحداث قد توقفت، وأنه لا مخرج منها، فاعلم أن ما أصابك إنما هو جزء من تركيبة الحياة وطبيعتها التي خلقها الله بها، وإياك أن تسيء الظن بربك فتظن أن ما أصابك من لأواء سببه كره الله لك أو تخليه عنك، لا أبدا، إنما هي طبيعة الحياة في تعاقب الشدة والرخاء على الإنسان، والدليل على ذلك ما تراه كل يوم كيف يبدل الله حال الأيام بين النهار المليء بالنشاط والحركة ثم الليل الساكن المطبق، وهكذا دواليك.
فكان الضحى في شدة حركته يشبه حال تتابع الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم، أو نزول رزق ما على الإنسان عموما سواء كان صحة أو فراغا أو مالا أو ولدا، وكان الليل الساكن المطبق يشبه وقت تباطؤ الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم أو انقطاعه عن القيام بمعنى الزوال المؤقت لرزق ما عن الإنسان عموما. وهنا وقفة هامة في شأن قيام الليل، وحزن النبي صلى الله عليه وسلم لانقطاعه عن القيام وشماتة المشركين به صلى الله عليه وسلم حين انقطع، وكأن هذه النعمة – نعمة القيام – من أعظم النعم وأهمها، وأن انقطاع الإنسان عنها مصيبة توجب منه حزنا وتشمت به أعداءه، وأين مثل هذا المعنى من حياتنا هذه الأيام؟
إذا تدبر الإنسان ما سبق من كلام، رسخ في قلبه هوان المصائب عليه، فهو يعلم أنها مؤقتة من جهة وأنها آتية وأنها جزء من سنة الله التي لا تتخلف في كونه، ورسخ في قلبه أيضا عدم التعلق بالنعم، إذ أنه يعلم أنها زائلة ولو بعد حين، ورسخ في قلبه أيضا عدم اليأس إن أصابه ضر، فإن الضر سرعان ما يزول كما يزول الليل الساجي ليتبعه الضحى الممتلئ حركة، ثم إنه إذا أصابه ضر صبر، وإذا أصابه خير شكر، فكان ذلك خيرا له في كل حال. وهذه العقائد التي ينطلق منها المؤمن المتدبر من أعظم المثبتات في الدنيا.
كيف عرف المشركون بانقطاع الوحي؟
كان المشركون يجتمعون على النبي _صلّى الله عليه وسلّم _باللّيل يستمعون قراءته ولا يستطيعون منع أنفسهم من ذوق حلاوة القرآن والاستماع له: روى ابن إسحاق عن ابن شهاب الزهريّ أنّه حدّث أنّ أبا سفيان بن حرب وأبا جهل عمرو بن هشام والأخنس بن شريق بن وهب الثّقفيّ حليف بني زهرة خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله _صلّى الله تعالى عليه وسلّم_ وهو يصلّي من اللّيل في بيته، فأخذ كلّ رجل منهم مجلساً يستمع فيه، كلٌ لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتّى إذا طلع الفجر تفرّقوا فجمعهم الطّريق، فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً. ثمّ انصرفوا حتى إذا كانت اللّيلة الثّانية عاد كلّ رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له. حتى إذا طلع الفجر تفرّقوا فجمعهم الطّريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أولّ مرّة ثمّ انصرفوا، حتّى إذا كانت اللّيلة الثّالثة أخذ كلّ رجل مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتّى إذا كان الفجر تفرّقوا فجمعهم الطّريق، فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتىّ نتعاهد ألّا نعود. وقد تعاهدوا على ذلك، وقد قال الله فيهم: " وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ " أهـ. ولم تكن هذه عادة الكفّار مع النّبيّ _ صلّى الله عليه وسلّم _فحسب بل مع صاحبه أبي بكر _رضي الله عنه_: فقد روى ابن إسحاق: وقد كان أبو بكر الصّدّيق -رضي الله عنه-، كما حدثني محمَّد بن مسلم الزّهريّ، عن عروة عن عائشة -رضي الله عنها-، حين ضاقت عليه مكّة، وأصابه فيها الأذى، ورأى من تظاهر قريش على رسول الله_ صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم_ وأصحابه ما رأى، استأذن رسول الله _صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم_ في الهجرة، فأذن له، فخرج أبو بكر مهاجرًا، حتّى إذا سار من مكّة يومًا أو يومين لقيه ابن الدُّغُنَّة أخو بني الحارث بن بكر، وهو يومئذ سيّد الأحابيش، قالت: فقال ابن الدُّغُنَّة: أين يا أبا بكر؟ قال: أخرجني قومي، وآذوني وضيّقوا عليّ، قال: ولم؟ فوالله إنّك لتزين العشيرة، وتعين على النّوائب، وتفعل المعروف، وتكسب المعدوم، ارجع وأنت في جواري، فرجع معه، حتّى إذا دخل مكّة قام ابن الدُّغُنَّةِ فقال: يا معشر قريش، إني قد أجرت ابن أبي قحافة، فلا يعرضنَّ له أحد إلّا بخير، قالت: فكَفّوا عنه، قالت: وكان لأبي بكر مسجد عند باب داره في بني جمح، فكان يصلّي فيه، وكان رجلًا رقيقًا إذا قرأ القرآن استبكى، قالت: فيقف عليه الصّبيان والعبيد والنّساء يعجبون لما يرون من هيئته، قالت: فمشى رجال من قريش إلى ابن الدُّغُنَّة فقالوا: يا ابن الدُّغُنَّةِ، إنك لم تُجِرْ هذا ليؤذينا، إنّه رجل إذا صلّى وقرأ ما جاء به محمَّد يَرِقُّ ويبكي، وكانت له هيئة ونحو، فنحن نتخوّف على صبياننا ونسائنا وضَعَفَتِنا أن يفتنِهم، فأْتِه فمُرْهُ أن يدخل بيته فليصنع فيه ما شاء، قالت: فمشى ابن الدُّغُنَّة إليه، فقال له: يا أبا بكر، إنّي لم أُجِرْك لتؤذي قومك، إنّهم قد كرهوا مكانك الذي أنت به وتأذَّوا بذلك منك، فادخل بيتك فاصنع فيه ما أحببت، قال: أو أردُّ عليك جوارك وأرضى بجوار الله، قال: فاردد عليَّ جواري، قال: قد رددته عليك، قال: فقام ابن الدُّغُنَّةِ فقال: يا معشر قريش، إنّ ابن أبي قحافة قد ردّ عليَّ جواري أ هـ.
-ما هو وجه الترابط في الثّلاثيات الّتي تتلو القسم ؟ يمكن تقسيم السّورة إلى ثلاثة أقسام : الأول: القسم الثاني: المقسم عليه وهي نعم موعودة. الثالث : ثلاثيّة المنّة وهي تعتبر نعماً موجودة الرابع: ثلاثيّة الواجبات وهي حقوق مطلوبة فصار عندنا: ثلاثيّة الوعد ثمّ ثلاثيّة المنّة ثمّ ثلاثيّة الحقوق الواجبة. التّناسب الرأسيّ: وهذا ليس بدْعاً من القول بل هو ما يسمّى اللّف والنّشر، وهو مذكور كثيراً في القرآن، وهو علم موجود في اللّغة هو(علم البديع) الثلاثيّة الأولى: التّوديع والقلى، يحصل كثيرا في الضّعيف الّذي لا يجد من ينصره لذلك ذكر معه منّة الإيواء من الله _عزّ وجلّ _ على نبيّه يوم كان يتيماً، ولو كان ليودّعه لودّعه في ذلك الحين يوم كان ضعيفاً يتيماً، فرتّب عليها حقّاً تجاه اليتيم وهو تجنّب قهره. الثّلاثيّة الثّانية: ذكر في أوّلها تفضيل الآخرة على الأولى، ثم ذكر بعدها منّة الهداية منه _جلّ وعلا_ بعد الضّلال، وتفضيل الآخرة على الأولى من أعظم الهدايات، ثمّ ذكر بعدها عدم نهر السّائل- سائل العلم- على أحد الوجهين. الثّلاثيّة الثّالثة: ذكر عطاءه للنّبيّ_ صلّى الله عليه وسلّم _ثمّ ذكر بعدها أيضاً عدم نهر السّائل- سائل المال- على الوجه الثّاني، وبحمل السّائل هنا على سائل العلم والمال ودمجهما في آية واحدة دلالات مهمّة سنتحدّث عنها في القسم الأخير من السّورة
-ما هو وجه الترابط في الثّلاثيات الّتي تتلو القسم ؟
أما الثلاثية الأولى: فكانت بيانا من الله عز وجل للحال الحاضر ( ما ودعك ربك وما قلى )، وتأصيلا لمفهوم مهم وهو الفرق بين الأولى والآخرة ( وللآخرة خير لك من الأولى)، ومن ثم وعدا منه جل وعلا بالعطاء الذي لا ينتهي إلا بالرضى ( ولسوف يعطيك ربك فترضى)، ففيها نفي ثم إثبات ثم وعد. وأما الثلاثية الثانية: فكانت دليلا على الأولى من أحوال مضت على النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الشك قد يتسلل إلى الإنسان من هذه الوعود خاصة مع ما يراه من الشدة والضعف الذي يكتنفه، فأتت هذه الثلاثية لتقدم أدلة حصلت على الثلاثة الأولى من وعد الله وحفظه وعنايته، فذكرت النبي صلى الله عليه وسلم بما كان عليه من اليتم والفقر والضلال، وكيف استنقذه الله من كل هذا، فتطمئن نفسه لوعده جل وعلا في الثلاثية الأولى. وأما الثالثة: فلم تكن الآيات لتطوي هذه الصفحة دون أن تبين واجب الإنسان تجاه هؤلاء الذي يمرون بليلهم من ضعف أو فقر أو ضلال، فنهت عن قهر يتيم، أو زجر سائل أي سائل، سواء كان سائل علم أو سائل مال، وأمرت بالتحديث بنعمة الله على العباد وسيأتي مزيد بيان في الحديث عن هذه الثلاثية.
الكلام على الثلاثية الأولى: ثلاثية النصرة
1- ما وجه تقديم الضّحى على السجوّ في القسم؟ ذكروا فيها أمرين: الأوّل: أنّ النّبيّ _صلّى الله عليه وسلّم_ لم يسبق منه كفر ولا عبادة أصنام. الثّاني: أنّ هذا التّرتيب ناسب ترتيب النّزول والانقطاع بالنسبة للوحي، فالوحي كان مستمرّاً ثم سكن، فناسب ذلك الإقسام بوقت الحركة ثمّ السّكون. 2-ما وجه تقديم التّوديع على القلى ؟ قدّم التّوديع لأنّه أقلّ من القلى، فالتّوديع هو المفارقة ولا يستلزم كرهاً، بعكس القلى الذي يتضمن مفارقة مع كره وبغض، فنفي الأدنى يستلزم من باب أولى نفي الأعلى. 3-ما وجه ذكر وقت الضّحى مع وقت السّجو؟ الرّابط بينهما هو البركة، فالضّحى أكثر أوقات النّهار بركة، وكذلك آخر الليل وقت سكونه وسجوّه ، وكذلك فإنّ الضّحى هو أكثر أوقات النّهار حركة وسعياً، ووقت سجوّ الّليل هو أكثر أوقاته هدوءاً وسكينة. 4-لماذا ذكر الّليل ثمّ خصّ وقتاً معيناً هو السجوّ؟ ذكْرُ شيءٍ معينٍ ثمّ تخصيص شيء منه، القصد منه هو تعميم الحكم على كامل الشّيء مع الترّكيز على جزء خاص منه، وهذه هي الطّريقة التي عبّر بها القرآن، حيث ذكر الّليل كلّه ثمّ خصّ جزءاً منه بالذّكر لزيادة المعنى في هذا الجزء المراد. 5-ما وجه استخدام (ما) في النفي؟ النّفي بما أقوى وأكثر سعة وامتداداّ لما في هذا الحرف من مد بالألف. 6-ما وجه حذف كاف المخاطبة مع القلى في حين ذكرت مع التّوديع؟ التّوديع لا يستلزم كرهاّ بل يدلّ على مجرّد المفارقة، وقد يكون بين متحابّين كما قال الشّاعر: ودّعْ هريرة إنّ الرّكب مرتحل وهل تطيق وداعاً أيّها الرّجل فترك ذكر أداة الخطاب مع القلى زيادة في التّكريم، حيث لم يربط الخطاب بلفظ سيّء ينبئ عن الكراهية وهذا غاية التّكريم للنّبيّ _صلّى الله عليه وسلّم_. وهذا من الأمور الّتي يجب الانتباه لمثلها، فلا نربط بين ألفاظ سيّئة وبين ضمير المخاطب الكاف فلا يقال: أنا لم أشتمك مثلاً وإنمّا يقال: أنا لم أشتم، وهذا أفضل في الصّيانة والتّكريم. ليس هذا فحسب بل ترك الله ذكرَ كلمة الرّب مع القلى وذكرها مع التّوديع، زيادة في التّكريم ونفي البعد وإشارة لطيفة إلى محبته جلّ وعلا لنبيّه _صلّى الله عليه وسلّم_. والخلاصة أنّه ذكر اسم الرّب مضافاً لضمير الخطاب، وذكر الضّمير مضافاً للفعل في موضع المحبة والتّكريم، وأعرض عنهما في موضع الكراهية والبغض. 7-ما وجه استخدام (ربّك) بدلاً من لفظ الجلالة؟ لفظ الرّبّ هنا أنسب للمعنى، حيث إنّه يدلّ على معانٍ ثلاثة وهي: السّيّد والمصلح والمربّي، وكلّها تناسب موضوع السّورة وما جاء فيها من يُتمٍ وضلال ٍوعَيْلةٍ، وكثيراً ما ارتبطت هذه المعاني في القرآن بكلمة الرّبّ: " ربُّنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثمّ هدى " " الحمد لله ربّ العالمين" " يهديهم ربهّم بإيمانهم " وغيره كثير. بخلاف لفظ الجلالة الّذي يدلّ على الألوهيّة والعبادة. 8-هل المقصود بالآخرة ما تبقّى من عمُر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أم المقصود يوم الجزاء؟ في الحقيقة إنّ الإتيان بهذه العبارات مختصرة بهذا الشّكل يفتح لها مجالاً واسعاً من المعاني المحتملة، وهذا من أبواب الإعجاز في القرآن وعليه فلا مانع أن يدلّ الّلفظ على كلا الأمرين، وهنا تظهر بشكل واضح قضيّة الدّلالة على معان كثيرة بألفاظ وجيزة. 9-ما وجه التّعقيب بذكر كون الآخرة خير من الأولى ؟ في الآية الأولى ذكر الرّدّ على دعاوى المشركين، أمّا هذه الآية ففيها دليل زيادة التّكريم، وسواء كانت الآخرة هي ما يستقبل من عمره أو هي الآخرة بعد الموت، فإنّ هذا لا ينسف دعوى الإبعاد فحسب بل يزيد من تكريم النّبيّ _صلّى الله عليه وسلّم_. فنفي التّوديع يخشى معه أن يبقى في نفسه شيء، فأتبعها بهذه الآية تبشيراّ له بالزّيادة، وهو كون المستقبل أعظم من الماضي. وهذه المسألة جاءت مع بعض الأنبياء قبل النّبيّ _صلّى الله عليه وسلّم_ في إشارة إلى أنهّم سيبلُغون ما أراد الله أن يبلغوا من التّمكين. فمثلاً قيل في حقّ عيسى عليه السّلام " ويكلّم النّاس في المهد وكهلاً ومن الصّالحين " وما من عجب هنا من ذكر كلامه كهلاً لكنّه يدلّ على كونه سيحيا وتمتدّ به الحياة ليكون كهلاً عليه الصّلاة والسّلام. وكذلك جاء مثلها في حقّ موسى في قوله تعالى: "وجاعلوه من المرسلين" فأتاها بزيادة عن "إناّ رادّوه إليك" لتطمئنّ نفسها، ومن المعلوم وجود فرق زمنيّ بين ردّه إلى أمّه وكونه من المرسلين وهذا من عجائب الأمور. كلّ هذا ليُعلم أنّ الأمر لله من قبل ومن بعد. وفي الآية إشارة إلى كون المستقبل لهذا الدّين. 10-ما وجه اختلاف الصّياغة في هذه الآية عن الآية في سورة الطّلاق ؟ نلاحظ أوّلاً أنّ الجملة جاءت اسميّة، وفي هذا إشارة إلى استمرار ودوام وثبوت هذه المسألة من كون الآخرة خير له من الأولى. نلاحظ أنّ الآية جاءت عامّة ومؤكّدة بلام القسم، وهي مؤكّدة أيضاً بصورة من صور التّأكيد العامّة وهو التّفضيل (خير) ثمّ بلام الاختصاص مع ضمير المخاطبة وفي هذا تأكيد زائد على المعنى المطروح في الآية الأخرى. 11-ما وجه ذكرى (الأولى) بدلا من الدّنيا؟ لفظ الدّنيا مشعر بالدّنوّ والانخفاض، فتركه الله تعالى كونه لا يتناسب مع البشارة والعطاء وذكر الأوليّة. كما أنّ ذكر المقابلة بهذا يوسّع في المعنى ليشمل الدّنيا بشكل عام والجزء الماضي من حياته _صلّى الله عليه وسلّم_ فيحمل الّلفظ عندها معاني أوسع، ولو قال الدّنيا لما احتمل لفظ الآخرة سوى معنىً واحداً وهو القيامة. 12-ما وجه ذكر (سوف) في قوله تعالى "ولسوف يعطيك ربّك فترضى" واللام قبلها؟ ذكر (سوف) يشعر بأنّ العطاء سيستمرّ مدىً طويلاً، بخلاف (السّين) الّتي تدلّ على قصر المدّة، وجاء باللام لتدلّ على التّوكيد. 13-ما وجه الإتيان بالفعل هنا بصيغة المضارع؟ جاء بصيغة المضارع هنا للتّدليل على أنّ عطاء الله ليس عطاءً منقطعاً، ولكنّه عطاء متجدّد،كما تدلّ عليه صيغة المضارعة. 14-ما وجه ذكر كلمة الّربّ هنا؟ جاء بذكر الرّبّ، لأنّ الرّبّ كلمة تدلّ على الإحاطة والحماية والدّفاع، ومنه سمّي ربّ الأسرة ربّاً، لأنّه يقوم على شؤونها رعاية وحماية، فالمواطن التي يذكر فيها الرّبّ غالباً مواطن تقتضيها معاني هذه اللفظة التي تحوي ثلاثة معاني ( الرّبّ والسّيّد والمصلح) أمّا كلمة الله كما قال(أبو السّعود) في تفسيره، فتذكر في مواطن الجلالة ( وذكر لفظ الجلالة في هذا الموطن لتربية المهابة في النّفوس). 15-ما وجه استخدام الفعل (يعطيك) دون سواه؟ الفعل (أعطى) يستخدم في الأشياء الخاصّة به _صلّى الله عليه وسلّم_ بعكس فعل (آتى) لذلك قال المولى جل وعلا " آتيناك سبعاً " وهذا له وللأمّة من بعده وقال " أعطيناك الكوثر" وهذا خاصّ به _صلّى الله عليه وسلّم_. 16-ما وجه كثرة ذكر ضمير المخاطبة الكاف؟ استعمال صيغة المخاطبة في مواطن النّعم والخير يدلّ على زيادة التّكريم، وقد قال (الزركشي) أنه بالتّتبّع وفي الغالب يكون ذكر المؤمنين بصيغة الخطاب المباشر ويكون خطاب الكفّار بضمير الغيبة وكأنّهم غير موجودين وغير ذوي قيمة. 17- ما وجه تكرار كلمة (ربّك) هنا مرّة أخرى؟ ذكرت الكلمة هنا مرّة أخرى للإشارة إلى حجم العطاء الذي سيكون، فالمعطي هو الله ولك أن تتخيّل عطاء الرّبّ، فكلّما كان المعطي أغنى وأقدر كلّما كان العطاء أكبر وأكثر، وكانت ثقتك به أعظم. 18-لمَ لم يذكر نوعاً معيّناً من العطاء؟ حذف مثل هذا أيضا ليشمل العطاء جميع أنواع العطايا، وهذا من شمول اللفظ القرآنيّ للمعاني الكثيرة بألفاظ وجيزة، كما ذكر متعلّق العطاء وهو الرّضا بشكل عامّ أيضاً ليكون أوسع وأشمل. 19-ما وجه ذكر الرّضى بعد العطاء؟ ذكر الرّضى دون غيره هنا في غاية الأهمّيّة وله دلالتان: الأولى: أنّ الرّضى حالة تحصل عند الاقتناع تماماً بالعطاء، والغالب أنّ الإنسان في الدّنيا لا يرضى مهما أعطي، فمهما أعطي يرغب بالمزيد لذلك ذكر الرّضى بعد العطاء إشارة إلى عظم هذا العطاء حتّى تكتفي منه النّفس تماماً. الثّانية: أنّ الرضى نعمة مستقلّة بنفسها، فكم من غنيّ يملك ما لو بقي ينفق منه حياته كله لما نفد، لكنّه لا يشعر بالرّضا، فذكرها الله هنا في إشارة لطيفة إلى أنّ نعمة الرّضى الّتي ستكون من ضمن العطايا الّتي سيعطيها الله للنّبيّ _صلّى الله عليه وسلّم_ وهي أساس كلّ عطاء. 20- ما وجه استخدام لفظ يعطيك بدلا من يؤتيك؟ هناك ثلاث فروق بين العطاء والإيتاء: الأوّل: أنّ العطاء خاصّ بالأمور الماديّة، وهذا مناسب كما سبق لموضوع العيلة، وأمّا الإيتاء فيكون للأمور الماديّة والمعنويّة مثل الملْك والحكمة. الثّاني: أنّ الإيتاء قد يتلوه نزع وأمّا العطاء فلا. الثّالث: أنّ الإيتاء لايستوجب أن يتصرّف الشّخص بما أوتي، أمّا العطاء فلصاحبه التّصرّف كما يشاء بما أعطي،كما قال الله لسليمان _عليه السّلام_ "هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب". 21-ما وجه حذف المفعول في الأفعال (آوى) و(أغنى) و(هدى) ؟
الحذف هنا جاء للإطلاق والدّلالة على سعة الكرم، فذكر كلمة ( آوى ) دون ضمير تدلّ على أنّه آواك وآوى بك وآوى لك، وكذلك أغناك وأغنى بك وأغنى لك، وكذلك هداك وهدى لك وهدى بك. فلو أنّه قال أغناك لكان الغنى محصوراً بالنّبيّ _صلّى الله عليه وسلّم_ فقط، لكن عندما عمّم أفاد الإطلاق ودلّ على أنّه سبحانه أغنى رسوله وأغنى به وبتعليماته، فيما خصّ الإنفاق خلقاّ كثيراّ وأغنى له خلقاً كثيراً، وكذلك آواه وآوى به خلقاً كثيراً بسنّته في اليتامى والمحتاجين، وآوى لأجله الكثير من النّاس، لأنّ من النّاس من يؤوي اليتامى حبّاً بالنّبيّ _صلّى الله عليه وسلّم_ وطمعاً بصحبته وهكذا. ومن الخطأ قول من قال أنّ الحذف جاء لمراعاة فواصل الآيات، ومراعاة الفواصل لا يكون على حساب المعنى أبداً.
الكلام على الثلاثية الثانية: ثلاثية المنة
1-ما هو وجه الربط بين المقطع الثّاني والأوّل؟ لمّا ساق المولى _عزّ وجلّ _ وعودات كبيرةً ردّاً على اتّهامات الكفّار، ساقَ الله بعدها تدليلات على ذلك، فاستدلّ على الوعود القادمة بالحياطة والرّعاية والعطاء بما سبق من سيرته _صلّى الله عليه وسلّم_ ورعاية الله له. 2-ما هو وجه ترتيب هذه الأمور على هذه الشّاكلة؟ جاءت هذه الأمور مرتّبة على هذا النّحو، لتناسب الأطوار التي مرّ بها النّبيّ _صلّى الله عليه وسلّم_ في حياته، فقد نشأ هو في بداية أمره يتيماً، ثمّ لمّا بدأ يكبر _صلّى الله عليه وسلّم_ بدأ يبحث عن الهدى فهداه الله، ثمّ كبر أكثر فاحتاج إلى المعاش والكسب فأغناه الله، وهذا هو ترتيب احتياجات الإنسان عادة في حياته. 3-ما وجه التّعبير عن الفعل بصيغة المضارعة في ذكر اليتم، وبصيغة الماضي في ذكر الضلال والعيلة؟ السّبب في ذلك أنّ اليتم لا ينقطع، إذ يبقى الإنسان يتيماً حتى يبلغ، لا مجال لفكّ هذه الصّفة عنه، أمّا الهدى والغنى فقد يحوزهما، ولذلك عبّر عنها بصيغة المضارع، واليتم ليس أمراً معيباً حتّى يراد منه أن ينتهي، بعكس الضلّال والعّيْلة كما قال (أحمد شوقي) : نعم اليتيم بدت مخابر يتمه واليتم خير بعضه ونقاء فاليتم قد يكون صفة جيدة في الإنسان العاقل يدفعه إلى الاعتماد – بعد الله تعالى – على نفسه. 4-ما وجه استخدام لفظة (يجدك) ؟ لفظة (وجد) تستخدم في حال كون الشيء غريباً لطيفاً، فلا تستخدم إلا لشيء كنت مغرماً بالبحث عنه ومهتمّاُ به وتريده، بعكس فعل (ألفيت) فيعبّر عنه لما تجده صدفة أو تفاجأ بوجوده. 5-ما هو المقصود بالضّلالة هنا ؟ المقصود بالضّلالة هنا الحيرة وانعدام المعرفة بعلم الشريعة كما قال تعالى:" ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان"، فقبل أن ييسّر الله له الهدى لم يعرف إلى أين يتّجه ويذهب، ثمّ منّ الله عليه وهداه، ولهذا يقول (ابن القيّم): إذا كان الأمر كذلك مع خير الخلق لم يجعل هدايته بعقله بل كانت بالوحي فكيف بمن دونه يتعرّفون إلى ربّهم والهدى بعقولهم.
الكلام على الثلاثية الثالثة: ثلاثية الواجبات
1-النّهي عن قهر اليتيم قد يشعر بأنّه _صلّى الله عليه وسلّم_ قد قهر يتيماً قبل، فهل حصل مثل هذا وهل هناك دلالة عليه؟ النّهي هنا لا يعني البتّة أنّه قد قهر يتيماً قبل هذا، فهذه العبارة مذكورة على سبيل التّشريع وهي وإن كانت خطاباً مباشراً للنّبيّ _صلّى الله عليه وسلّم_ إلا أنهّا للأمّة من بعده من باب أولى. 2-ما هو وجه ذكر القهر مع اليتيم والنّهر مع السّائل؟ القهر والنّهر فيه اختلاف في اللفظ، فالقاف في لفظة القهر حرف قوي مجهور مستعلٍ، والنون فيه رنين ولطف، وكأنّ القهر أعلى من النّهر، والقاف أقرب للحلق ولنفس الإنسان، فيكون تأثير القهر نفسيّ أكثر، أمّا النّون فتظهر من اللّسان لذلك كان النّهر يظهر من اللّسان أكثر. اليتيم قد لا يكون فقيراً لكنّ مشكلته انعدام النّصير والمؤوي، والقهر ظلم الإنسان إلى درجة لا يستطيع أن يأخذ معها حقّه فتحصل معه مثل هذه الحالة، وهذا واضح في حالة اليتيم إذ لا يجد من ينصره. وأمّا السّائل فعلى القول الأقوى أنّه سائل علم فالنّهر معه أنسب، فيجب استقباله وإجابته مهما كان سؤاله سخيفاً وبدهيّاً، وحتّى الصّغار يجب إجابتهم ولا يجوز تعنيفهم، وبعض النّاس وصلوا إلى الإلحاد لأنّهم لم يجدوا من يجيبهم على أسئلتهم، وأمّا إن كان سائل مال فنعطيه ولو شيئاً يسيراً. 3-ما وجه ذكر النّعمة في آخر السورة؟ ذكر النّعمة في آخر السّورة وكأنّ كلّ ما ذكر سابقاً نعم يجب الانتباه لها. 4- ما وجه ذكر الحقوق الثّلاثة في ثلاثيّة الحقوق على ما هي عليه؟ ذكر في هذه الثّلاثيّة ثلاثة حقوق : حقّ لليتيم وحقّ لسائل المال وحقّ لسائل العلم وحقّ لله، فقدّم اليتيم لأنّه أضعف ما يكون، وذكر ثلاثة حقوق للعباد وحقّاً واحداً لله تعالى وقدّم حقوق الضّعيفين على حقّه، وهذا من أعظم الإشارات إلى الاعتناء بحقوق الضّعفاء وأهمّيتها. كما أنّه ذكر ثلاثة أمور من باب الشّكر العمليّ وأمراً واحداً من باب الشّكر القوليّ، وهذا دليل على أهمّية الشّكر العمليّ وتقديمه، حيث ذكره الله مقدّماً ،كما ذكره أكثر عدداً من الشّكر القوليّ المجرّد. كما أنّ فيها توجيهاً للدّعاة بأن يكونوا هيّنين ليّنين قبل أن يتصدّروا للدّعوة، وأن يهتمّوا بتزويد أنفسهم بالرّحمة بقدر ما يهتمّوا بتزويدها بالعلم بل ربمّا أكثر "ولو كنت فظّاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك". 5-لمَ دمج سؤال العلم والمال في آية واحدة ولم يفردهما في آيتين منفصلتين؟ في هذا دلالات خلص لي منها أوجه: الأوّل: التّشديد على أهمّيّة الهداية وكون عديمها يشبه حاله حال المسكين الّذي لا يجد قوت يومه فيضطرّ للسّؤال، فمهما بلغ الضّالّ من الغنى فإنّه لا زال محتاجاً، فحاجة النّفس للهدى لا تقلّ بحال عن حاجة الجسد لما يقيمه، فقوام الإنسان بكليهما ولذلك جمعهما الله في آية واحدة. الثّاني: تشابه الحال من حيث الحاجة بين هذا وذاك. الثّالث: الحفاظ على شكل نظم السّورة في ثلاثيّات والله أعلم. 6-ما هو وجه ذكر التّحديث بدلاً من الإخبار أو الكلام مثلاً ؟ الإخبار لا يقتضي التّكرار يكفي أن تقول الخبر مرّة واحدة ليكون إخباراً، أمّا التّحديث فيحمل معنى التّكرار والإشاعة والتّجديد مرّة بعد مرّة، ففي هذا اللّفظ إشارة إلى ضرورة تكرار الإخبار والمداومة على التّبليغ. 7- ما المقصود بالنعمة في قوله تعالى ( وأما بنعمة ربك فحدث)؟ قد يتبادر للذهن لأول وهلة أن المراد بالتحديث بنعمة الله هنا: أن يخبر الإنسان من حوله بما رزقه الله من نعم مادية فيقول مثلا: عندي من المال كذا ومن الأولاد كذا ومن النساء كذا وعملي فيه كذا. وهذا غير مراد البتة بهذا الشكل، بل إن مثل هذا مظنة إيغار صدور الناس عليه وربما أصيب بعين أو حسد حاسد. وللمفسرين في هذا الأمر مذهبين: الأول: أن النعمة هنا هي مطلق النعمة، سواء كانت مادية أو معنوية كنعمة الهداية الواردة في السورة، ولو قلنا بهذا يكون التحديث هنا على سبيل الاستشهاد على تعاقب الأحوال بالعموم لا بالخصوص. والثاني: أن المقصود بالنعمة هنا ما امتن الله به على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة من الوحي المباشر، وعلى أمته من بعده بما بلغها به من الوحي وهو قول مجاهد، وهو رأي وجيه، وهذا ما ترتاح إليه النفس وتطمئن، أن المراد بالنعمة هنا تبليغ الوحي وما يحمله من خير على الإنسان خاصة ما جاء في هذه السورة من السلوى والتثبيت والربط على القلوب، ومعرفة حقيقة الدنيا والاستعداد لما فيها من اللأواء والأذى، والصبر حين الشدة والشكر حين البسطة، والترغيب بالعواقب سواء كانت في الدنيا أو في الآخرة، والثقة بالله ووعده وسعة عطاءه ووفور رحمته واستمرار حفظه ورعايته وحياطته، مادام الإنسان مقبلا عليه، وهذا كله مقصد السورة ومحورها الذي تدور حوله. ويكون التحديث هنا على النحو التالي: يكون على سبيل الاستشهاد على معنى السورة ومقصدها وهو ( تعاقب الأحوال ) وليس بالضرورة أن يكون المتحدث يتحدث عن نفسه دائما، بل يمكن أن يستشهد على هذا المعنى بما حصل مع النبي صلى الله عليه وسلم كما استشهدت الآية، أو بما حصل مع إخوانه من الأنبياء عليهم السلام كما جاء هذا منثورا على طول الكتاب، أو بحوادث يعرفها المستمع لتكون دليلا على الفكرة، فيكون التحديث هنا على سبيل الاستشهاد على تعاقب الأحوال من غنى بعد فقر وجاه بعد قهر وهدى بعد ضلال. 7-ما هي أوجه تكريمالنّبيّ _صلّى الله عليه وسلّم- في هذه السّورة ؟
يمكن تقسيم أوجه التّكريم إلى عشرين وجهاً:
1-إقسام الله فيما يخصّ شأنه بآيتين تتميّزان بالوضوح من ناحية وبالتداول والحركة والتّجدد من ناحية أخرى، والشّيء الّذي يلفت النّظر هو المتجدّد لا السّاكن، وكأنّنا في كلّ ضحى وكلّ مجيء ليل نذكره صلّى الله عليه وسلّم، خصوصاً ما أتبعها في سورة الشّرح من علوّ ذكره. 2-دفع دعاوى المشركين بألفاظها، وفيه ملمحان: الأوّل أنّ الله هو من تولّى الدّفاع عنه، والثّاني أنّه تولّى دفع التّهم بألفاظها وبمادّتها. 3-التّعبير بالنّفي مع الماضي بـ (ما) لأنّ الحديث يشعر بأنّ انقطاع الوحي يشعر بأنّ الله ودّع النّبيّ، ومظهر الوداع سيكون في الحاضر والمستقبل فكأنّ المعنى : لم يودّعك الله يا محمّد في ما مضى من الزمن وكنت يتيماً وعائلاً فكيف بعد أن يرسلك ويقرّبك يبعدك ؟ 4-الّنفي بـ (ما) دون غيرها بما فيها من الامتداد، وكلّما كانت الكلمة فيها طول كلّما كان المعنى فيها أقوى وأطول وأشمل. 5-تولّي الدّفاع عن النّبيّ بنفسه جلّ وعلا، وهذه منقبة كبيرة، فالإنسان يشعر بفخر إن تولّى الدّفاع عنه كبير أو عالم فما بالك بربّ العالمين. 6-تقديم نفي التّوديع على نفي القلى، مع أنّ التّوديع ليس مكروهاً، فربّما يريد الإنسان مفارقة شخص دون أن يبغضه، ولكن نفى هذا الأمر للدّلالة على أنّ ما فوقه من باب أولى. 7-ذكر ضميره مع التّوديع ولم يذكره مع القلى، لأنّ التّوديع ليس فيه كراهية فلا بأس من ارتباط ضميرها مع الفعل، بعكس القلى ففيه كراهية ( أنا ما أهنتك ولا أسأت لك ) ( أنا ما أهنت ولا أسأت ) فالترّك ألطف وأحسن وقليل من ينتبه لهذا. 8-لم يوجد الضّمير مع القلى، ولا يقال أنّ ذلك لأجل تناسب نهايات السّور، فـالتّعليل المعنويّ أهمّ من الدّعاية الصّوتيّة. 9-تكرار كلمة ربّ مضافة إلى ضميره ثلاث مرّات، وهي تأتي في مواقع الحماية والحياطة والنصرة والعطاء، وموضوع السّورة يتناسب تماماً مع هذه السّورة. 10-تكرار كاف الخطاب في هذه السّورة دليل على حضور مخاطبته تسع مرّات وسبق ذكر كلمة الزّركشيّ. 11-تأكيد الخيريّة له بلام القسم للحكم بخيريّة الحكم المستقبل له من الحال الّذي هو فيه. 12-دلالة اللام في قوله خير لك وكأنّها خيريّة خاصّة له. 13-ذكر وصف الأولى دون الدّنيا. 14-ذكر الخيريّة عموماُ في قوله (خير) وهي من أحسن الألفاظ وأجملها، والذي يبحث عنه النّاس دائماُ وهذا اللّفظ موجود دائماً. 15-التّأكيد باللّام ولسوف. 16-دلالة سوف دون السين للدّلالة على امتداد العطاء حتى يتجاوز الحياة إلى الآخرة لأنّنا لا نستطيع تحديد حدّ له. 17-ذكر مادّة الإعطاء دون الإيتاء، والإعطاء يدلّ على تملّك المعطى ما يعطى، دون الإيتاء حيث يشركك غيرك فيها. 18-مجيء الفعل مضارعاً في قوله يعطيك للدّلالة على تجدّد العطاء، وأيضا الرّضى دليل على أنّ رضاك يتجدّد مع كلّ عطاء. 19-فترضى : هو عطاء يوصل إلى الرّضى، والإنسان بطبعه يصعب أن يرضى، لكنّه دليل على أنّه عظيم عطاء الله له صلّى الله عليه وسلّم. 20-ذكر الحالات الّتي كان عليها سابقاً وما يضادّها من عطاء الله، فذكر له اليتم ثمّ ما أعطاه ثمّ الضّلال ثمّ الفقر وما يضادّهما، وذكر عائل دون فقير لأنّ العائل هو الفقير صاحب العيال، لأنّ وضع العائل أشدّ من وضع الفقير، وليس الفقر ماديّاً دائماً من ناحية المعين الموجّه النّصير، فأغناه الله عن ذلك كلّه. يحسن هنا التّنبيه إلى أمرين: الأول: قراءة السّيرة من خلال القرآن لها طعم خاصّ، مثلاً غزوة تبوك : تركيز على نفوس النّاس قبل الغزو وأشياء لا يعلمها إلا الله ثمّ اعتذر المنافقون ولا نجد هنا الأحداث التّفصيليّة وكذلك في السّيرة نحاول تلمّس بعض ما في سور القرآن من الهدايات، وكذلك سورة النّجم فيها ثناء كثير على عقله ولسانه. الثّاني: مظاهر التّكريم المنتشرة في كلّ صفحات المصحف: - فمثلاً في سورة النّجم : نجد صوراً عظيمة من حفظ الله لنبّيه في صور متعدّدة: **ثناؤه على عقله: (ما ضلّ وما غوى)، **وعلى لسانه: (وما ينطق عن الهوى) وهذه الاوصاف ليست عاديّة فهي تشير أنه لا يقول أية كلمة إلا وحياً.. لذلك إن اختلف قوله وفعله نأخذ بقوله للآية، لكنّه قد يمارس بطبيعته البشريّة أشياء من فعل النّاس. **وأثنى على جليسه ومعلّمه: (علّمه شديد القوى) **وعلى بصره: (ما زاغ البصر وما طغى) وهذه الأشياء هي مصادر دخول الخطأ على الإنسان. **وأثنى على صدره: (ألم نشرح لك صدرك) **وأثنى على أخلاقه: (وإنّك لعلى خلق عظيم) - ومن صور الثّناء عليه : **العذاب يرفع عن الأمّة من أجل وجوده فيهم فقط وحتّى عن الكفّار: (وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم)، وذكر الضّمير فيه من اللّطف وجاء بكلّ أساليب النّفي العظمى : لام الجحود فشطر الآية الأوّل في الكفّار والثّاني في المؤمنين فيبقى الضمان الثّاني من أساليب التّكريم . **لم يخاطبه باسمه بينما نادى يا موسى يا إبراهيم، ولم يذكر اسمه إلا في مرّات قليلة وهذا من أساليب التكريم لذلك ناداه كثيراً بالألقاب يا أيّها النّبيّ ومن الصّور اللّطيفة الغائبة كون الجواب ينزل عن طريقه فقوله "وإذا سألك عبادي" فقصد إظهار السؤال ليكون الطّريق الذي يصل الخير به إلى الأمّة هو عن طريق النّبيّ _صلّى الله عليه وسلّم_ وكذلك أن يكون القول من خلاله" قل ".