من أسس بناء النفس:
1- التقرب إلى الله بما يحب من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة: وخير ما تقرب به المتقرِّبون إلى الله الفرائض وعلى رأسها توحيد الله وإفراده بالعبادة وحده لا شريك له، ثم إن في النوافل لمجالًا عظيمًا لمن أراد أن يرتقي إلى مراتب عالية عند الله. يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ..." رواه البخاري .
ومن فضل الله علينا أن جاء هذا الدين بعبادات شتى تملأ حياة المسلم في كل الظروف والأحوال؛ فهناك السنن القولية، والسنن الفعلية والقلبية التي يعتبر أداؤها من أهم عوامل بناء النفس؛ من قيام ليل، وصيام تطوع، وصدقة، وقراءة قرآن، وذكر لله آناء الليل وأطراف النار. لاشك أن هذه العبادات تقوِّي الصلة بين العبد وبين ربه، وتوثِّق عُرى الإيمان في القلب؛ فتنبني النفس وتزكو بها، وتأخذ من كل نوع من العبادات المتعددة بنصيب؛ فلا تَكَلُّ ولا تَسْأَمُ.
لكن علينا أن ننتبه في هذه القضية إلى أمور:
أ- الحذر من تحول العبادة إلى عادة، فتصبح العبادة حركة آلية لا أثر لها في سَمْتٍ أو قول أو عمل أو بناء.
ب - عدم الاهتمام بالنوافل على حساب الفرائض؛ فيقوم الليل -مثلاً- ثم ينام عن صلاة الفجر.
ج - إذا تعارض واجب ومستحب؛ فالواجب مقدَّم ولا شك.
د - التركيز على أعمال القلوب، وتقديمها على أعمال الجوارح؛ فالقلوب هي محل الفكر ،والتدبُّر، والعلم، "أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ " رواه البخاري ومسلم .
2- المجاهدة:
فكل فكرة لا يصحبها مجاهدة فهي في طريقها إلى الزوال، يقول تعالىوَالذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) [العنكبوت:69] .
والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطمِ
فجاهد النفس والشيطان واعصهما وإن هما محَّضاك النصح فاتهمِ
إن استشعار المؤمن أن الجنة محفوفة بالمكاره يتطلب منه هِمَّة عالية تتناسب مع ذلك المطلب العالي؛ للتغلب على تلك المكاره، مع تنقية تلك الهمم من كل شائبة تدفع لوجه غير وجه الله، وإنما تفاوت الناس بالهِمَم لا بالصور والله لا ينظر إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.
فها هو ثابت البناني يقول:" تعذبت بالصلاة عشرين سنة، ثم تنعمت بها عشرين سنة أخرى ، والله إني لأدخل في الصلاة فأحمل همَّ خروجي منها".
ولا شك أن هذا نتيجة مجاهدة وصل بها إلى الهداية من الله.
ويقال للإمام أحمد: يا إمام متى الراحة؟ فيقول – وهو يدعو إلى المجاهدة -:" الراحة عند أول قدم تضعها في الجنة" . إِي والله إنها الراحة الأبدية التي يُستعذَب كل صعب في سبيل الوصول إليها.
وأعظم المجاهدة مجاهدة النيات فـ "إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى" رواه البخاري ومسلم. والعمل بغير نية عناء، والنية بغير إخلاص رياء، والإخلاص من غير صدق هباء (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً منثُورًا) [الفرقان:23] .
يأتي أناس يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة يجعلها الله هباءً منثورًا مع أنهم كانوا يصلون مع المصليين، ويصومون مع الصائمين، ولهم من الليل مثل ما للمصليين وما للمخلصين، لكنهم إذا خلَوْا بمحارم الله انتهكوها؛ أمام الناس عُبَّاد زُهَّاد نُسَّاك، لكن إذا خلَوْ ظنوا أن الله لا يعلم كثيرًا مما يعلمون؛ فالنيةَ النية.
وهاهو صلى الله عليه وسلم- يتجه إلى تبوك بجيش قوامه ثلاثون ألفًا في صحاري يبيد فيها البيد، وقت عسرة ووقت شدة، حرٌّ ودنوّ ثمار المدينة، ومشقة عظيمة في سفرهم بلغت فوق ما يتكلم المتكلمون، حتى إن عمر ليقول:" لقد أصابنا عطش شديد حتى ظننَّا أن رقابنا ستتقطع من شدة العطش، حتى إن الرجل لينزل عن بعيره، فينحره فيعتصر فرثه ثم يشربه". وعندما قفلوا راجعين منصورين، يقول النبي –صلى الله عليه وسلم- بعد هذا التعب العظيم قال: "إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟! قَالَ:" وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ" رواه البخاري .
فبحسن النية بلغوا ما بلغوا، ولذلك يقول الإمام أحمد موصيًا ابنه:" يا بني انوِ الخير؛ فإنك لا تزال بخير ما نويت الخير". فالنية النية، والإخلاص الإخلاص؛ فهي من أهم عوامل بناء النفس وتزكيتها، وكل ما لا يراد به وجه الله يضمحل.
ثم إن للإخلاص علامات، فاعرض أعمالك عليها، واختبر نفسك، وجاهدها وهي على سبيل المثال:
أ- استواء المدح والذم؛ فالمخلص لا يتأثر بمدح مادح، ولا ذم ذامٍّ؛ لأنه جعل الهمَّ همًّا واحدًا، وهو إرضاء الله وكفى.
ب - نسيان العمل بعد عمله، ويبقى الهم: هل تُقُّبِل هذا العمل أم لم يتقبل؟ و(إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة:27].
ج - الحب في الله، حبًا يزيد بالبر لكنه لا ينقص بالجفاء، وإنها لكبيرة إلا على الذين هدى الله.
د - إخفاء ما يمكن إخفاؤه من الطاعات؛ خوفًا من دواعي السُّمْعَة والرياء؛ فمن استطاع منكم أن يكون له خبيئة من عمل صالح فليفعل.
لقد كان الرجل من أسلافنا يجمع القرآن ويحفظه وما يشعر به جاره، ويفقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس حتى يُسأل ويصلي الصلاة الطويلة والضيف في بيته ولا يشعرون؛ بل إن أحدهم ليدخل مع زوجته في فراشها ثم يخادعها كما تخادع المرأة صبيها، فإذا نامت سلَّ نفسه، ثم قام ليله كله.
يقول أحد السلف: لقد أدركنا أقوامًا ما كان على ظهر الأرض من عمل يقدرون على أن يعملوه في السر؛ فيكون علانية أبدًا، يجلس الرجل منهم في المجلس المعمور بذكر الله، فتأخذه الخشية، فتأتيه العَبَرة لتخرج فيردها؛ فإذا خشي خروجها خرج من مجلسه خوفًا من السمعة والرياء.
3- محاسبة النفس محاسبة دقيقة: فالأعمال محصاة في سجلات محكمة لا تغادر صغيرة ولا كبيرة (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْس شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ منْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء:47].
وما دمنا نعلم ذلك، فمن العقل أن نحاسب أنفسنا في الرخاء قبل الشدة؛ ليعود أمرنا إلى الرضا والغبطة؛ لأن من حاسب نفسه علم عيوبها وزلاَّتها، ومواطن الضعف فيها، فبدأ بعلاجها ووصف الدواء لها، فينمي ذلك في النفس الشعور بالمسئولية ووزن الأعمال والتصرفات بميزان دقيق، ألا وهو ميزان الشرع.
والمحاسبة على أقسام:
أ- محاسبة قبل العمل: قف عند إرادتك العمل، فأسأل نفسك: هل العمل مشروع؟ فأخلص وسارع إن كان كذلك، وإن لم يكن فـ "مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ " كما قال صلى الله عليه وسلم . رواه مسلم.
ب- ومحاسبة أثناء العمل: هل أنت مخلص أم مراءٍ ؟ وأنت أعلم بنفسك؛ لأن العمل قد يبدأ وهو خالص لله ثم يشوبه شيء من الرياء أثناء أدائه؛ فليُنتبَه للنية فيه.
ج-ومحاسبة بعد العمل وهي على أنواع:
أحدها: محاسبة النفس على طاعة قصرت فيها في حق لله؛ فلم توقعها على الوجه الذي ينبغي أن توقع .
أما الثانية: فمحاسبتها على كل عمل كان تركه خيرًا له من فعله.
وأما الثالثة: فمحاسبتها على الأمور المباحة أو المعتادة لِمَ فعلها؟
ومما يعين على محاسبة النفس معرفة عيوبها، ومن عرف عيبه كان أحرى بإصلاحه. ومما يعين على معرفة عيوب النفس ملازمة العلماء الصادقين المخلصين العاملين الناصحين، وكذلك ملازمة الأخوة الصالحين الذين يذكرونك الله ويخوِّفونك حتى تلقى الله آمنًا.
4- طلب العلم المقرب إلى الله: والعمل به، والدعوة إليه، والصبر على الأذى في تبليغه، وهذا لسببيْن:
أ- لأن العبادة بلا علم توقع في البدع، وما وقع المبتدعة فيما وقعوا فيه إلا عن جهل غالبًا.
ب- ولأن العلم مادة الدعوة إلى الله، ودعوة إلى الله بلا علم تضر ولا تنفع، وقد يصاحبها الانحراف والضلال. وكم من مريد للخير يجهل العلم لا يدركه، فيا طالب العلم، العلم هام لهاتيْن النقطتيْن.
ثم إن لكل شيء ثمرة، وثمرة العلم العمل والتبليغ، وعلم بلا عمل كشجر بلا ثمر، وإن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم، لا تأخذ العلم من صاحب هوى أو من غافل (وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف:28].
ولابد للطلب والدعوة من صبر عظيم كصبر الجماد، وليكن معزيك ما يجده الصابر عند ربه يوم يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب. إن المريض ليتجرع الدواء المرَّ لا يكاد يسيغه؛ أملاً في حلاوة العافية ولو بعد حين .
صبرت ومن يصبر يجد غبِّ صبره ألذ وأحلى من جنى النحل في الفم
5- المداومة على العمل وإن قلّ:
لأن المداومة على الأعمال الصالحة تثبيت للنفس البشرية لمواجهة أعباء الطريق وتكاليفه، وصرفٌ لمكايد الشيطان ونوازعه، ولذا لمَّا سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ:" أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ" رواه البخاري ومسلم.
فإذا عود المرء نفسه على الفضائل انقادت له، وإذا تهاون فأقدم مرة وأحجم مرة كان إلى النكوص أقرب، وإن الله من فضله أنه إذا جاء ما يصرفك عن أداء الطاعات من عجز ومرض، فإن الأجر يجريه الله لك كما كنت صحيحًا كما قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا" رواه البخاري.