6- مجالسة من رؤيتهم تذكر بالله:
فمجالستهم تريك ما في نفسك من قصور وعيوب؛ فتصلحها وتهذبها؛ فهم زينة الرخاء وعدة البلاء يذكرونك إن نسيت، ويرشدونك إن جهلت، يأخذون بيدك إن ضعفت، من جالسهم وأحبهم أذاقه الله حلاوة الإيمان التي فقدها الكثير، وأحلوا بدلاً منها حبَّ المصلحة التي تنتهي بنهاية المصلحة.
فالثمرة اليانعة لمجالسة من يذكرونك بالله يقصر العبد عن إحصائها، ويكفي أنها تجعلك تذوق حلاوة الإيمان، وتدخلك في السبعة الذين يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [ الكهف:28].
7- طلب الوصية من الصالحين:
فيوم يُقيِّض الله للمرء رجلا صالحًا يعظه، يثبته الله وينفعه بتلك الكلمات، فتنبني نفسه، وتُسدَّد خطاه يوم يتعرض لفتنة أو بلاء من ربه ليمحصه به.
وها هو الإمام أحمد - يساق إلى المأمون مقيدًا بالأغلال، وقد توعده وعيدًا شديدًا قبل أن يصل إليه- يقول: ما سمعت كلمة مذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابي كلمني بها قال : يا أحمد إن يقتلك الحق مت شهيدًا، وإن عشت عشت حميداً فقوَّى بها قلبي.
8- الخلوة للتفرغ للعبادة:
والتفكر في ملكوت الله والاستئناس بمناجاة الله عن مناجاة الخلق في قيام ليل والناس نيام، في صلاة في بيتٍ عدا المكتوبة، في ذكر الله، في خلوة، عامل مهم في بناء النفس؛ فإن في ذلك صفاء للذهن وسلامة من آفات الرياء والتصنع للناس والمداهنة وفيه بعد عما يتعرض له الإنسان غالبًا بالمخالطة من غيبة ونميمة ولهو وضياع وقت ومداهنة، ولعل المرء في خلوة يذكر الله فتفيض عيناه من خشية الله؛ فيكون من السبعة الذي يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله، ومع هذا فإن مخالطة الناس والصبر على أذاهم خير -كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم- ولكن اخلُ وخالط، وكلٌ له وقته.
9- الدعاء : إذ هو العبادة
–كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم- ففيه الذل والخشوع والانكسار بين يديْ رب الأرباب ومسبب الأسباب، هو الذي يجعل من الداعي رجلاً يمشي مرفوع الهامة والقامة، لا يخضع لأحد دون الله –الذي لا إله إلا هو- وهو من صفات عباد الله المتقين الذين يعلمون أن القلوب بين إصبعيْن من أصابع الرحمن يقلِّبها كيف يشاء؛ فكان لسان الحال والمقال: "يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ" . فهلاَّ تلمسنا مواطن وأسباب إجابة الدعاء؛ لعلنا نحظى بنفحة ربانية تكون بها سعادة الدنيا والآخرة، في ثلث ليل آخر، والناس هاجعون، والناس نائمون.
فقد روى الثقات عن خير الملا بأنه عز وجل وعلا
في ثلث الليل الأخير ينزل يقول هل من تائب فيُقبِل
هل من مسيء طالب للمغفرة يجد كريمًا قابلاً للمعذرة
يَمُنُّ بالخيرات والفضائل ويستر العيب ويعطي السائل.
10- تدبر كتاب الله والوقوف عند أسمائه الحسنى وصفاته العلا: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد:24] .
كلنا يقرأ القرآن، وكثير منا يحفظ القرآن؛ لكن هل من متدبر ربط حياته بالقرآن؛ أقبل عليه تلاوة وتفسيرًا وعلمًا وعملاً وتدبرًا، منه ينطلق، وإليه يفيء؟ أولئك البانون أنفسهم، أولئك الثابتون إذا ادلهمَّت الخُطُوب، أولئك المسدَّدون المهديون إذا أطلت الفتن برأسها؛ فأصبح الحليم حيرانًا، وإن وقفة واحدة مع أسماء الله الحسنى وصفاته العلا الواردة في كتاب الله، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- لتبني النفس بناءً لا يتزلزل ولا يحيد، إنه السميع البصير ليس كمثله شيء، إنه العليم الخبير ليس كمثله شيء، لو تفاعل المؤمن مع اسم الله السميع العليم، فربَّى نفسه عليها، فعلم أن الله يسمعه في أي كلمة ينطقها، في أي مكان يقولها وحده، مثنى، أمام الناس، عند من يثق به، عند من لا يثق به؛ فالله يسمعه سمعًا يليق بجلاله؛ بل إنه ليسمع ويرى دبيب النملة السوداء على الصفاة السوداء في الليلة الظلماء؛ إذن لَصَلُح الحال.
إن النفس يوم تتفاعل مع هذه الصفات تتعلق في كل أمورها بالله، فتراقبه، وتنسى رؤية الخلق مقابل ذلك. فيا أيها العبد المؤمن إذا لقيت عنتًا وظلمًا ومشقة وسخرية واستهزاءً فلا تحزن يا طالب العلم، يا أيها الداعية إذا جُعلت الأصابع في الآذان، واستُغشيت الثياب، وحصل الإصرار والاستكبار، فلا تحزن؛ إن الله يسمع ما تقول، ويسمع ما يقال لك: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى:11].
يا أيها الشاب الملتزم الذي وضع قدمه على أول طريق الهداية، فسمع زميلاً يسخر منه، ويهزأ به لا تأسَ، ولا تحزن، واثبت، واعلم علم يقين أنك بين يديْ الله يسمع ما تقول وما يقال لك. وسيجزي فاعلاً ما قد فعل.
إن النفوس يوم تتربى على تدبر كتاب الله والوقوف على معاني أسماء الله الحسنى وصفاته العلا، والتملي في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم تتخذه قدوة مطلقة، وتقتدي بما يقتدي به صلى الله عليه وسلم؛ تبنى بناءً لا يزعزعه أي عارض في أي شبهة أو شهوة أو ترغيب أو ترهيب أو إغراء أو تحذير؛ بل تعلق باللطيف الخبير السميع البصير الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
أخيرًا: أسئ الظن بنفسك يا عبد الله؛ لأن حسن الظن بالنفس يمنع عن كمال الإصلاح ويرى المساوئ محاسن والعيوب كمالاً، ولا يسيء الظن بنفسه إلا من عارضها، ومن أحسن ظنه بنفسه فهو من أجهل الناس بنفسه، وكم من نفس مستدرجة بالنعم، وهي لا تشعر مفتونة بثناء الجُهَّال عليها، مغرورة بقضاء الله حوائجها وستره عليها.
ألا فابنوا على التقوى قواعدكم فما يُبْنَى على غير التقى متداعٍ
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.