تعتبر العاصمة الإسبانية "مدريد" هي العاصمة الأوربية الوحيدة التي أسسها العرب المسلمون، إبان حقبة الحكم الأندلسي لتصبح منارة للعلم والحضارة، ودليلا على تأثير العرب المسلمين في القارة الأوروبية، وشاهدا على تاريخهم وإسهاماتهم في شبه الجزيرة الإيبيرية، والتي جعلت من عاصمة الدولة الإسبانية اليوم مركزا من مراكز العلم والاقتصاد والحضارة العالمية.
تأسست مدينة مدريد "Madrid" في عهد الأمير محمد الأول بن عبد الرحمن الثاني في عام 855 وأطلق عليها اسم «مجريط»، وهو اسم أصله عربي يتألف من مقطعين هما: «مجرى» و«يط»، فالمقطع الأول هو عربي الأصل والمقطع الثاني، وجد بالحث أنه لاتيني الأصل ويعني «الكثرة»، ومن ثم فإنها تعني المدينة التي تكثر فيها مجاري المياه، وبقي هذا الاسم مستخدما حتى بداية القرن الثالث عشر، حيث ظهر لفظ "مدريد".
وتوجد مدريد في وسط إسبانيا على ضفاف نهر مانثاناريس في منطقة قشتالة التاريخية، حيث تقع سلسلة جبال سييرا دي غواداراما في شمال غرب المدينة، ومن الشرق وادى إيناريس، الذي تمر به طرق برية وسكك حديد تربط مدريد بسرقسطة وبرشلونة، وعلى بعد 50 كم تقريباً جنوب مدريد توجد العاصمة القديمة لمملكة قشتالة والمدينة الأم لمدريد، وهي مدينة طليطلة.
وتبلغ مساحة المدينة حوالي 607 كيلومترات مربعة، ويصل تعداد سكانها إلى أكثر من خمسة ملايين نسمة، وقد نقل إليها برلمان الدولة الإسبانية في عام 1561، ولاحقا مقر إقامة الملك في عام 1588 من مدينة طليطلة والتي كانت مركز الحكم في المملكة الإسبانية، وذلك في عهد الملك فيليب الثاني، ومنذ ذلك التاريخ اعتبرت "مدريد" العاصمة الرسمية لإسبانيا وبدأت بالنمو والصعود لتأخذ مكانتها كأهم مدينة في البلاد، وبين عامي 1701 – 1713 نشبت حروب الصراع على حكم إسبانيا، التي تنازعت فيها عدة أطراف أوروبية على أحقية حكم إسبانيا بعد موت الملك تشارلز الثاني، حيث سيطر الإنجليز والبرتغاليون على المدينة في عام 1706، كما سيطر الفرنسيون على مدريد بين عامي 1808 و1813، حين أعلن وقتها "جوزيف" أخو نابليون بونابرت ملكا على إسبانيا.
ومن أبرز معالم المدينة حاليا متحف "ديل رادو" ونادي "ريال مدريد" لكرة القدم الشهيرين، بالإضافة إلى أنها المقر الرسمي لإقامة ملوك إسبانيا، كما أنها تضم مقر الحكومة الإسبانية، والبرلمان، والوزارات، والمؤسسات، أيضاً يوجد بالمدينة المتحف الوطني للآثار، والذي يحتوي على مجاميع كبيرة من الآثار الأندلسية، يعود معظمها إلى القرنين التاسع والعاشر، وتتألف من أوان فخارية متنوعة الأشكال والاستعمال ومزينة بزخارف وخطوط عربية، كما توجد مجموعة من الصناديق المصنوعة من العاج، ويبدو أنها كانت تستخدم لخزن وحفظ الحلي والأدوات النسائية، وتبدو عليها زخارف لأشكال آدمية وحيوانية، كذلك يضم المتحف آثارا فرعونية ورومانية ويونانية وإسلامية.
ويشير د. راغب السرجاني ، المفكر الإسلامي والباحث في تاريخ الأندلس، إلى أن مدريد تعتبر بالمقارنة مع العواصم الأوربية الأخرى مدينة حديثة العهد، إذ يرجع تاريخ تأسيسها إلى ما بين عامي 852 – 886 إبان الحقبة الأندلسية، والتي كان يحكم فيها المسلمون شبه الجزيرة الإيبيرية، حين أمر محمد الأول أمير قرطبة ببناء قصر صغير يقع في مكان القصر الملكي الحالي في مدريد، وهذا هو أول تسجيل تاريخي عن وجود استقرار في مدينة مدريد، يعود إلى الفترة العربية الإسلامية، لافتا إلى أن محمد الأول كان قد أسس هذا القصر لغرض جعلها نقطة انطلاق لشن غارات ضد الممالك الصليبية في شمال الأندلس، موضحا أنها بعد إنشاء قصر الأمير محمد، أطلق على المنطقة المحيطة به اسم "مجريط" أي مجاري المياه أو منبع المياه.
وتابع د. راغب السرجاني : "مجريط" تعني المدينة التي تكثر فيها مجاري المياه، حيث يرى العديد من المستشرقين الإسبان أن السبب في إطلاق هذا الاسم عليها يرجع إلى استخدام العرب الأندلسيين لنظام "الأفلاج" المطبق في الجزيرة العربية وإيران لجلب المياه من المنطقة الجبلية إلى وسط مدينة مدريد ، ويبرهنون على هذه النظرية بالأنفاق الأرضية التي تم اكتشافها أسفل مدينة مدريد لنقل هذه المياه بالطريق التي يتبعها العرب في تلك الفترة.
وأضاف السرجاني قائلا: إنه كان غالبية سكان تلك المنطقة التي تحيط بقصر محمد الأول من المسلمين، مع وجود قلة من السكان اليهود والمسيحيين، لافتا إلى أن الكثير من علماء المسلمين ولدوا ونشأوا في مدريد، ومن أبرزهم: أبو القاسم مسلمة بن أحمد المجريطي، مؤسس علم الفلك والرياضيات في مدرسة قرطبة، وولد في القرن العاشر، ولقب بـ "إقليدس الأندلسي".
ويؤكد د. راغب السرجاني أن مدينة مدريد عربية في نشأتها وتكوينها، وليست إغريقية الأصل كما كان يعتقد بعض المؤرخين الغربيين في القرنين التاسع عشر والثامن عشر، وهو ما أثبتته الاكتشافات من الحفريات التي قام بها علماء الآثار باستخدام التنقيبات الحديثة، ودلت على أن المدينة أصلها العربي بما لا يدعو إلى الشك، مشيرا إلى أن مساكن المدينة الأندلسية وأزقتها وساحاتها، تتمركز في القسم الجنوبي منها وهي محاطة بسور متين مازالت بعض الأجزاء منه ظاهرة ومرممة كما هي الحال في منطقة «كوستا دي لافيغا»، ويمتد هذا الجزء لمسافة 120 مترا، ويدخل ضمن التراث والآثار القديمة، وقد أطلق على المساحة المقابلة له اسم «ساحة الأمير محمد الأول» مؤسس مدينة مدريد.
وقد أشار إلى ذلك أيضا المستشرق الفرنسي ليفي بروفنسال عام 1938، الذي نشر نصا للمؤرخ والجغرافي الأندلسي "الحميري" يشير فيه إلى وصف مدينة مدريد وإلى مؤسسها الأمير القرطبي محمد الأول بن عبدالرحمن.
وبسبب قوة المدينة الاستراتيجية وناتجها الاقتصادي ومستواها الثقافي والمعيشي، تعتبر مدريد حاليا مركزا حضاريا كبيرا في شبه الجزيرة الإيبيرية، كما تعد مدريد من أهم مدن أوربا استراتيجيا وثقافيا واقتصاديا، فهي رابع أكبر مدن الاتحاد الأوربي بعد باريس ولندن وبرلين.