8- رمضان والإخلاص:
الإخلاص كما عرَّفه الدكتور القرضاوي هو:
"إرادة وجْه الله تعالى بالعمل وتصفيته من كل شَوْبٍ ذاتي أو دنيوي، فلا يَنبعث للعمل إلا لله تعالى والدار الآخرة، ولا يمازج عملَه ما يشوبه من الرغبات العاجلة للنفس الظاهرة أو الخفيَّة من إرادة مَغنم أو شهوة، أو مَنْصِب أو مال، أو شُهرة أو منزلة في قلوب الخَلْق، أو طلب مَدْحهم، أو الهرب من ذَمِّهم، أو إرضاء لعامَّة أو مُجاملة لخاصة، أو شفاء لحِقْد كامنٍ، أو استجابة لحسد خَفِي، أو لكِبْر مُستكن، أو لغير ذلك من العِلل والأهواء والشوائب، التي عَقْدُ مُتفرِّقاتها هو إرادة ما سوى الله تعالى بالعمل كائنًا مَن كان، وكائنًا ما كان.
والإخلاص بهذا المعنى: ثمرة من ثمرات التوحيد الكامل لله - تبارك وتعالى - الذي هو إفراد الله - عزَّ وجلَّ - بالعبادة والاستعانة، والذي يعبِّر عنه قوله - سبحانه - في فاتحة الكتاب وأُمِّ القرآن: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5]، والذي يناجي به المسلم ربَّه في صلواته كلَّ يومٍ ما لا يقلُّ عن سبع عشرة مرة بهذا الإخلاص المتجرِّد، يتخلَّص من كلِّ رِقٍّ ويتحرَّر من كل عبوديَّة لغير الله، عبودية الدينار والدرهم، والمرأة والكأس، والزينة والمظهر، والجاه والمنصب، وسلطان الغريزة والعادة، وكل ألوان العبوديَّة للدنيا التي استسلَم لها الناس".
ما أجمل هذا التعريف وما أشْمَلَه! وصدَق والله العلاَّمة القرضاوي، فالعمل بغير نيَّة عناءٌ، والنيَّة بغير إخلاص رياءٌ، والإخلاص من غير تحقيق هباء، فيا ليْتَ شعري، كيف يَصْلُح عمل بغير نية؟ ولماذا يُتعب المرء نفسه في مشقَّة ليس له فيها إلا الجهد والتعب؟ وللصوم علاقة وثيقة بالإخلاص، وخيْرُ دليل على ذلك الحديث القدسي الذي يرويه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن ربِّ العزة والجلال أنه قال: "كلُّ عمل ابن آدمَ له إلاَّ الصوم؛ فإنه لي وأنا أجزي به" صحيح البخاري.
وتعليل اختصاص الصوم وجزائه بما ذُكِر في الحديث القدسي فيه كلام نفيس للعلماء، ومن ذلك:
1- أنَّ الصوم لا يقع فيه الرِّياء كما يقع في غيره.
2- أنَّ الصوم لا يظهر من ابن آدم بفعْله، إنما هو شيء في القلب، وذلك أنَّ الأعمال لا تكون إلا بالحركات إلا الصوم؛ فإنه بالنيَّة التي تَخفى عن الناس.
3- جميع العبادات تظهر بفعْلها، وقلَّ أن يسلمَ ما يظهر من شائبة بخلاف الصوم.
4- دخول الرِّياء في الصوم لا من جهة الإخبار بأن يقول للناس:إني صائم بخلاف بقيَّة الأعمال؛ فإن الرِّياء قد يدخلها بمجرَّد فعْلها.
فالصوم سِرٌّ بين العبد وربِّه، يفعله خالصًا ويُعامله به طالبًا لرضاه؛ فهو لربِّ العالمين من بين سائر الأعمال؛ فإنَّ الصائمَ لا يفعل شيئًا، وإنما يترك شهوته وطعامه وشرابه من أجْل معبوده، فهو ترَك محبوبات النفس وتلذُّذاتها؛ إيثارًا لمحبَّة الله ومَرضاته.
إخواني في الله، ما أجمل الصيام حين نَجني من ثمراته الإخلاص، نعم إنه الإخلاص الذي نبحث عنه في كلِّ أعمالنا فلا نكاد نجده، الإخلاص الذي نعاني من فُقدانه في معظم عباداتنا، الإخلاص الذي هو سِرٌّ بين العبد وربه، لا يَطَّلِع عليه مَلَك، فيَكتبه، أو شيطان فيُفسده، الإخلاص ليس بالأمر الهَيِّن، بل يحتاج إلى مُجاهدة للنفس، ومراقبة دائمة لمداخل الشيطان إليها، وهذا ما توصَّل إليه سهْل التستري - رحمه الله - عندما سُئِل: أيُّ شيء أشدُّ على النفس، فقال: "الإخلاص؛ لأنه ليس لها فيه نصيبٌ".
الإخلاص الذي قال عنه الإمام ابن القيِّم - رحمه الله: "العمل بغير إخلاص كالمسافر يَملأ جَرابه رملاً يُثقله ولا يَنفعه".
الإخلاص إكسير الأعمال الذي إذا وُضِع على أيِّ عملٍ - ولو كان من المُباحات والعادات، حوَّله إلى عبادة وقُربة لله تعالى.
9- رمضان وضبْط الأخلاق:
إن مكارم الأخلاق في الإسلام تمثِّل - بعد الإيمان ومع الإيمان - أعظمَ الأركان التي يقوم عليها بناء الفرد المسلم والمجتمع الإسلامي، وفي ذلك يقول النبي- عليه الصلاة والسلام - (أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلقًا، وخياركم خياركم لنسائهم) أخرَجه أحمد والترمذي.
فالالتزام بمحاسن الأخلاق سبيلٌ لنَيْل الصلاح والسلامة، وطريق للفوز والنجاة؛ كما أخبَر النبي - عليه الصلاة والسلام -: (ما من شيء أثْقَل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حُسْن الخُلق، وإن الله يُبغض الفاحش البذيء) رواه الترمذى، وقال: "حديث حسنٌ صحيح".
وحُسْن الخُلق كما عرَّفه القاضي عياض - رحمه الله - هو:
"مخالطة الناس بالجميل والبِشْر، والتودُّد لهم، والإشفاق عليهم واحتمالهم، والحِلم عنهم، والصبر عليهم في المكاره، وترْك الكِبر والاستطالة عليهم، ومُجانبة الغَلَط والغضب والمؤاخذة".
وعلاقة الصيام بالأخلاق واضحة؛ حيث إنَّ الصيام على وجهه الصحيح ليس مجرَّد الامتناع عن المُفطرات الحسيَّة - الطعام والشراب والجِماع - ولكنَّه يَشمل الابتعاد عن مساوئ الأخلاق ورذائلها؛ كما دلَّ على ذلك قول النبي - عليه الصلاة والسلام -:
(الصيام جُنَّة؛ فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يَرفُث ولا يَصْخب، فإنْ سابَّه أحدٌ أو قاتَلَه، فليَقل: إنِّي امرؤ صائم) مُتفق عليه أي: عليه أن يَحفظ صيامه من الرَّفث وهو الفُحش ورَدِيء الكلام.
"ولا يَصْخب"؛ أي: لا يَصيح ولا يرفع صوته على الناس، وليَضبِط أعصابه، وليَملِك أمرَ نفسه، ولا يَجعل صومه شجارًا؛ فإنما جُعِل الصوم لتربية الإرادة وتهذيب الأنفس.
"فإن سابَّه أحد أو قاتَلَه، فليَقل: إني صائم إني صائم"؛ أي: لا ينبغي أن يقابِل السيئة بالسيئة، وإنما يُقابل السيئة بالحسنة؛ ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ [فصلت: 34].
فهم خاطئ:
إنَّ كثيرًا من الناس لا يفهمون حقيقة الصيام، ولا يتصوَّرون منه إلاَّ الإمساك عن المُفطرات المادية؛ لذلك لا تختلف أحوالهم في شهر الصيام عن أحوالهم في غيره؛ بل رُبَّما زادَهم الصوم ضيقًا في الصدر، وطيْشًا وسرعة غضب.
وعن هذا الصِّنف من الناس يُحدثك الشيخ عبدالمنعم أبوسعيد، فيقول:
"ظنَّ كثير من الناس أنَّ الصوم إمساك عن الشراب والطعام، وليس إمساكًا عن الفواحش والآثام، فترَكوا ألسنتهم - وهم صائمون - تجول في أعراض الناس، تخوض في العورات، وتَنشر السَّوْءَات، يَفطمون أنفسهم عن الأكل والشرب، ويُغَذِّونها بأسوأ ما يتناوله إنسان من الفضائح والعيوب، وما جَدوى الصيام إذا لَم تتهذَّب به الألسنة، وتتطهَّر به النفوس، وتتعوَّد من الأدب الكريم والخُلق القويم؟ وما فائدة الحِرمان إذا لَم تكن من ورائه عِفَّة القول وسماحة الكلام، ولين الحديث؟
فهل يتدبَّر هذا أولئك الذين جعلوا الصيام إثارة للأعصاب، وتهييجًا للشرور، وأكلاً للحوم الناس، ووُلوغًا في أعراضهم، لا يكاد إنسان يتحدَّث إلى أحدهم حتى تثور ثائرتُه، ويَشتد غضبه وصَخَبه، ويَقذف لسانه بفُحش القول وهُجْر الكلام، ويقول الناس: "معذور؛ إنه صائم"! كلاَّ والله ما هو بصائم، ولو كان صائمًا، لكان مهذَّبَ الخُلق، رقيقَ العاطفة، يَملِك نفسه، ويُسيطر على أعصابه، يذكر دائمًا أنه صائم، وأنه قائم في عبادة ربِّه، فلا يَليق به أن يُفحش، ولا يَجمل به أن يُسلِّم نفسه للشيطان، ويُلطِّخها بالمآثم والعِصيان".
10 - رمضان ومحاسبة النفس:
إنَّ لحظات التأمُّل ومُكاشفة الذات، تُتيح للإنسان فرصة التعرُّف على أخطائه ونقاط ضَعْفه، وتدفعه لتطوير ذاته نحو الأفضل، فثمرة المحاسبة إصلاح النفس، وشهر رمضان ينبغي أن يشكِّل شهر مراجعة وتفكير، وتأمُّلٍ ومحاسبة للنفس؛ إذ حين يَمتنع الإنسان في هذا الشهر الكريم عن الطعام والشراب وبقيَّة الشهوات التي يلتصق بها يوميًّا؛ فإنه يكون قد تخلَّص من تلك الانجذابات الأرضية؛ مما يُعطيه فرصة للانتباه نحو ذاته ونفسه.
فشهر رمضان - كما يصوِّره الأستاذ محب الدين الخطيب -: "كعقرب الساعة الذي يصل إلى الموضع الذي يعقد الصائم جَرسها عليه، فيُنبِّهه إلى حلول الوقت الذي هو في انتظاره، فيخرج مما هو فيه؛ وكأنه كان نائمًا فاسْتَيْقظَ؛ فذلك مثل شهر رمضان مع غيره من أشهر السَّنة، يكون الناس قبله كالقافلة التي تَسري في جوف الليل لا تعرف من الوجود شيئًا غير أنها تسري، فيُطِل عليها القمر من وراء الجبال، فيبدو لها كلُّ أمر من أمورها كأنما هو جديد".
ورَحِم الله الإمام الفُضيل بن عِياض عندما قال:
"مَن حاسَب نفسه قبل أن يُحاسب، خَفَّ في القيامة حسابه، وحضَر عند السؤال جوابه، وحَسُن مُنقلبه ومآبُه، ومَن لَم يُحاسب نفسه، دامَت حَسراتُه، وطالَت في عَرَصات القيامة وقَفاته، وقادته إلى الخِزي والمَقْت سيِّئاته، وأكْيَسُ الناس مَن دان نفسه وحاسَبها وعاتَبها، وعَمِل لِمَا بعد الموت، واشتغلَ بعيوبه وإصلاحها".
ومجالات محاسبة النفس كثيرة وهي - كما ذكَرها د. مجدي الهلالي - تشمل:
- عبادة الجوارح: الصلوات الخمس في أوَّل وقْتها في المسجد، السُّنن الرواتب، أذكار الصلاة، صيام رمضان وصيام التطوُّع، مداومة الإنفاق في سبيل الله، أذكار الصباح والمساء، تحرِّي السُّنة في الأقوال والأفعال.
- معاصي الجوارح، مثل: الغيبة والنميمة، السخرية والاستهزاء بالآخرين، الجِدل والمِراء، الغَمز واللَّمز، الكذب واللغو والثَّرثرة، عدم غَضِّ البصر، الخوض في الباطل، سرعة الغضب، إخلاف الوعد.
- عبادات القلب: الخوف من الله واستشعار مراقبته، الرضا بقضاء الله وقدره، التوكُّل على الله، الصبر عند المصيبة، الشكر عند ورود النِّعم.
- معاصي القلوب: الإعجاب بالعمل والتسميع به، الضِّيق بالنقد، الحسد، الغرور والمُباهاة، المَنُّ بالعطايا، اتِّباع الهوى، احتقار الآخرين، وسوء الظنِّ بهم.
- الحقوق: حقوق الزوجة والأولاد الوالدين، الرَّحم، الجيران، حقُّ الطريق، الدعوة، الأُخوَّة.
- السلوكيَّات وفضائل الأعمال: السعي لقضاء حوائج الناس، لين الجانب، عيادة المريض واتِّباع الجنائز، الإحسان إلى الآخرين، وأداء الأمانات إلى أهلها.
وأودُّ أن أقِف معك أخي القارئ مع مجالين مهمَّين من مجالات محاسبة النفس:
1- اللسان والحصاد المُهلك:
إنَّ اللسان من أعظم الجوارح أثرًا وأشدها خطرًا؛ فإن استُعمِل فيما يُرضي الحقَّ، وينفع الخَلْق، كان من أكبر أسباب السعادة والتوفيق لصاحبه في الدنيا والآخرة، وإنِ استُعمِل فيما يُسخط الجبَّار، ويَضر بالعباد، ألْحَق بصحابه أكبر الأوزار وأعظم الأضرار.
فحِفْظ اللسان عن المآثم والحرام عنوانٌ على استقامة الدين وكمال الإيمان؛ كما أخبَر النبي - عليه الصلاة والسلام -: (لا يستقيم إيمان عبدٍ؛ حتى يستقيمَ قلبه، ولا يستقيم قلبه؛ حتى يستقيمَ لسانه) رواه أحمد.
إخواني في الله، اللسان حَبْل مُرخًى في يد الشيطان، يُصرِّف صاحبه كيف يشاء إنْ لَم يُلجمه بلجام التقوى، أمَّا حين يُطلق للسانه العِنان ليَنطق بكلِّ ما يخطر له ببالٍ، فإنه يُورده موارد العَطَب والهلاك، ويُوقِعه في كبائر الإثم وعظيم المُوبقات؛ من غيبة ونميمة، وكَذب وافتراء، وفُحش وبذاء، بل ورُبَّما أفْضَى بالبعض إلى أن يُجرِّد لسانه مقراضًا للأعراض بكلمات تَنضَح بالسوء والفحشاء، وألفاظ تَنهش نهشًا، فيُسرف في التجني على عباد الله بالسخرية والاستهزاء، والتنقُّص والازدراء، وتَعداد المعايب، وتلفيق التُّهم والأكاذيب، وإشاعة الأباطيل؛ لذا جاءت وصيَّة النبي - عليه الصلاة والسلام - لمعاذ بن جبل: (كُفَّ عليك هذا) وأشار إلى لسانه، فقال معاذ: يا رسول الله، وإنَّا لمؤاخذون بما نتكلَّم به؟! فقال: (ثَكَلتك أمُّك يا معاذ، وهل يكُبُّ الناس في النار على وجوههم إلاَّ حصائدُ ألسنتهم؟!) رواه الترمذي.
أخي في الله، مشكلتنا أننا قد لا نتصوَّر الثمن الباهظ الذي يمكن أن ندفعَه لقاء امتلاء صحائفنا بحصائد الألسن وأرصدة الكلام، ولتقريب الأمر لنتصوَّر أنَّ مكالماتنا ومُحادثاتنا خلال عام مثلاً جائتنا في فاتورة كفاتورة الهاتف، لكنَّ فيها عددَ المكالمات ووقْتَها، وما فيها من حقٍّ وباطل، وخير وشرٍّ، وكم احتوَت من ثواب واشْتمَلَت على إثم، فكم ستكون صفحات تلك الفاتورة؟! وكم سندفع مقابل كلِّ صفحة منها؟!
من العجائب أنَّ أحدنا إذا تسلَّم فاتورة الهاتف التي تسجِّل مكالماته في دقائق لا تُقاس بساعات وأيَّام عُمره، ثم وجَد تلك الفاتورة بدقائقها وثوانيها عالية التكلفة فعليًّا، تصبَّب عرقًا، وتأمَّل في مكالماته هذه التي جَلَبت عليه تلك التكلفة العالية، هل تستحقُّ أن تُدْفَعَ فيها هذه المبالغ؟ وهل كانت لها قيمة توازي التكاليف؟
بعض الناس يأخذ نفسه بحزم زائدٍ، فيَطلب أن يكون هاتفه للاستقبال فقط وليس للإرسال؛ حتى لا يضطر لدفْع تكاليف الإرسال، والحصيف يفعل هذا مع لسانه عندما يُحيل بعض مهامه إلى الأذن؛ حيث يسمع أكثر مما يتكلَّم، فهو يخشى ألا تكون له قُدرة على سَداد فواتير كلامه يوم الحساب.
إن فاتورة الحساب الأُخروي على حصيلة كلامك - أيها الصائم - بالغة التركيب والتعقيد، ومُخرجك الوحيد للتخفُّف من ثِقَلها هو العمل بوصيَّة نبيِّك - عليه الصلاة والسلام - الحريص عليك عندما قال: (أمْسِك عليك لسانَك) أخرجه الترمذي[11].
2- اغتنام الأوقات:
إنَّ الأيام والليالي لتمضي على المرء أسرعَ ما تكون، لا تقف ساعة، ولا تُمهل لحظة، تتقلَّب كغمضة العين وانتباهتها، كأنها تَعْجَل بصاحبها إلى اليوم الموعود، يوم أن تَقِف أنفاسه عن التردُّد في أجوائها؛ ليوسَّد باطن الأرض بعد أن كانتْ تَدبُّ خطاه أعلاها، وما أقرب العهد بين ساعة الميلاد التي يخرج فيها المرء من ظُلمات ثلاث في بطن أُمِّه، وبين ساعة الفِراق حين يوارَى التراب، وما بين الساعتين عمرٌ يطول ويقصر نسبيًّا من شخص لآخر، إلاَّ أنَّ حقيقته أنه قليل مَهْمَا امتدَّت بصاحبه الأيام؛ ولذا كان نبيُّنا - عليه الصلاة والسلام - يوصي باغتنام الأوقات: (اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هَرَمك، وصحَّتك قبل سَقَمك، وغِناك قبل فقرك، وفَرَاغك قبل شُغلك، وحياتك قبل موتك) أخرَجه الحاكم، وصحَّحه الألباني.
ولهذا فإنَّ للزمان في رمضان خصوصيَّة وقيمة، فمَن أضاع أوقاته، فقد قصَّر وظَلَم نفسه، ولَم يُنصفها في شهر من العام، وإضاعة أوقات رمضان يُقاس عليها - مع الفارق في الخسارة - ضياع أوقات العُمر، فمَن قصَّر في رمضان، فهو في بقيَّة عُمره أكثرُ تقصيرًا، وإذا غَفَل عن تصرُّف أوقاته وضياع ساعاته؛ فهو دليلٌ على ذهوله عن ملاحظة مراحل سفره بين انطلاقه أو وصوله، فراقِب مسيرة عُمرك، وقارِنه بمسيرة شهرك، وقضاء وقتك فيها؛ لتعلمَ أين أنت.
فيا مَن ضيَّع عُمره في غير الطاعة، يا مَن فرَّط في شهره، بل في دهْره وأضاعَه، يا مَن بضاعته التسويف والتفريط، وبِئست البضاعة.
يا مَن جعَل خَصمه القرآن وشهر رمضان، كيف ترجو ممن جعَلته خَصمك الشفاعة؟!
هلاَّ جلسْتَ مع نفسك في لحظة صدقٍ، وقلتَ لها: وَيْحك يا نفس، أتعلمين أن كلَّ مَن يَلتفت إلى ملاذ الدنيا ويأْنَس بها، فمصيره الموت؟
يا نفس، أوَمَا تنظرين إلى الذين مَضَوْا كيف بنوا وعَلوا ثم ذهبوا؟ أمَا ترينَهم كيف يَجمعون ما لا يأكلون، ويبنون ما لا يسكنون، ويؤمِّلون ما لا يُدركون؟! يَبني كلُّ واحد قصرًا مرفوعًا إلى جهة السماء، ومَقرُّه قبر محفور تحت الأرض، وَيْحك يا نفس، أما تَستحين من الله؟! تُزيِّنين ظاهرك للخَلْق، وتُبارزين الله في السرِّ بالعظائم، وَيْحك: أهو أهونُ الناظرين إليك؟! أتأمُرين الناس بالخير وأنت مُلطَّخة بالرذائل؟! فانظري يا نفس بأيِّ بدنٍ تقفين بين يدي الله؟! وبأي لسان تُجيبين؟! فأعدِّي للسؤال جوابًا وللجواب صوابًا.
11- رمضان وتقوية الإرادة:
إن مدرسة الصيام تربِّي على الإرادة الجازمة والعزيمة الصادقة، التي تستطيع في ساعات الشِّدة أن تصبر على شهواتها، وتَنتصر على هواجسها، وتستعلي على أهوائها، فتسمو النفوس عن الولوج في الملذات، وتترفَّع عن الدنايا والأمور التافهات، ومن ثَمَّ يَملِك زمام نفسه، ويقف صامدًا أمام تيَّار المُغريات، فيَسهل عليه الائتمار بما أمَر الله - وإن كان شاقًّا على النفس والانتهاء عمَّا نَهَى عنه - وإن كان محبَّبًا إليها.
والسر في ذلك أنَّ الصائم الذي يَفطم نفسه عن المآكل والمشارب، والشهوات الجسدية والنفسية، وهي على قيْد ذراع منه مدَّة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ثم يستمر على ذلك شهرًا كاملاً، لا بد أن يخرجَ من صومه وهو ذُو إرادة قويَّة حازمة.
فإذا كان الله تعالى في هذا الشهر الكريم منَعَك من الحلال، مَنَعك مما هو مُباح لك خارج الصيام، فأنت - خضوعًا لله وتنفيذًا لأمره، واستجابة له - تَدَع الطعام والشراب، وسائر المحظورات، فهل يُعقَل أن تدَعَ الطعام الحلال ثم تكذب؟!
هل يُعقَل أن تَدَعَ الطعام الحلال ثم تَغتاب مسلمًا؟! هل يعقل أن تَدَع الطعام الحلال ثم توقِع بين اثنين؟!
هل يعقل أن تضَعَ الطعام الحلال، ثم تغشَّ المسلمين في البيع أو الشراء، أو ترتكب الحرامَ وأنت صائم؟!
أخي في الله، "إنَّ الله لَم يحرِّم عليك الزاد والماء لتتعذَّب، ولكن لتتهذَّب، فإذا تمرَّنْت على ترْك ما هو ضروري لوجودك، سَهُل عليك ترْكُ الشهوات والمعاصي، وهي ليستْ من ضروريات وجودك، بل إنها العكس جناية على حياتك وخَطَرٌ على وجودك، وإذا كنتَ قد صبَرت على هجْر الطعام بمجرَّد العزم والتصيم على الصيام، فأنت بهذه الإرادة نفسها تكون أشدَّ اصطبارًا على مقاطعة القبيح، ومجانبة الحرام، وتلك حكمة من حِكم الله في تشريع الصوم"[12].
ولهذا يقول النبي - عليه الصلاة والسلام - فيما يَرويه عنه أبو هريرة - رضي الله عنه -: ((مَن لَم يَدَع قولَ الزور والعملَ به، ليس لله حاجة في أن يَدَع طعامه وشرابه))؛ رواه البخاري.
لذلك فإنَّ الذي لا يَدَع المعاصي والآثام في شهر الصيام وهو صائم، فصومه لا يرتقي إلى مستوى صوم الإنسان، فهو صوم ما دون الإنسان وحِرمان فقط، وجوع وعطش. [11] رُوح الصيام ومعانيه؛ د. عبدالعزيز كامل. [12] مقال رمضان والصيام؛ للشيخ محمد عبدالعظيم الزرقاني.