هو ثاني أخوين، عاشا في الله، و أعطيا رسول الله صلى الله عليه وسلم عهداً نما وأزهر مع الأيام. أما أولهما فهو أنس بن مالك خادم رسول الله عليه السلام.
وأما الثاني فهو البراء بن مالك…
عاش حياته العظيمة المقدامة، وشعاره: "الله - الجنة"
ومن كان يراه وهو يقاتل في سبيل الله، كان يرى عجباً يفوق العجب...
فلم يكن البراء حين يجاهد المشركين بسيفه ممن يبحثون عن النصر، وإن يكن النصر آنئذٍ أجلَّ غاية... إنما كان يبحث عن الشهادة...
كانت كل أمانيه أن يموت شهيداً، ويقضى نحبه فوق أرض معركة مجيدة من معارك الحق والإسلام... من أجل هذا... لم يتخلف عن مشهد ولا غزوة...
وذات يوم ذهب إخوانه يعودونه.. فقرأ وجوههم ثم قال:
"لعلكم ترهبون أن أموت على فراشي... لا والله، لن يحرمني ربي الشهادة"...!
ولقد صدق الله ظنه فيه، فلم يمت البراء على فراشه، بل مات شهيداً في معركة من أروع معارك الإسلام!!!
ولقد كانت بطولة "البراء" يوم اليمامة خليقةً به... خلقيةً بالبطل الذي كان عمر بن الخطاب يوصي ألا يكون قائداً قط !!! لأن جرأته وإقدامه وبحثه عن الموت كل هذا يجعل قيادته لغيره من المقاتلين مخاطرةً تشبه الهلاك...!!
وقف البراء "يوم اليمامة" وجيوش الإسلام تحت إمرة "خالــد" تتهيأ للنزال.
وقف يتلمظ مستبطئاً تلك اللحظات التي تمر كأنها السنون، قبل أن يُصدر القائد أوامره بالزحف.
نادى خالد: "الله أكبر"، فانطلقت الصفوف المرصوصة إلى مقاديرها، وانطلق معها عاشق الموت: "البراء بن مالك"، وراح يجندل أتباع الكذاب مسيلمة بسيفه، وهم يتساقطون كأوراق الخريف تحت وميض بأسه، لم يكن جيش مسيلمة هزيلاً ولا قليلاً... بل كان أخطر جيوش الردة جميعاً...
وكان بأعداده، وبعتاده، وباستماتة مقاتليه، خطراً يفوق كل خطر…
ولقد أجابوا على هجوم المسلمين بمقاومة تناهت في العنف حتى كادوا يأخذون زمام المبادرة وتتحول مقاومتهم إلى هجوم…، وكان البراء بن مالك جميل الصوت وعاليه.. وناداه القائد خالد: تكلم يا براء.
فصاح البراء بكلمات تناهت في الجزالة والدلالة والقوة، تلك هي: "يا أهل المدينة لا مدينة لكم اليوم... إنما هو الله والجنة"، كلماتٌ تدل على روح قائلها وتنبئ عن خصاله، أجل... "إنما هو الله والجنة"...!!
وفى هذا الموطن، لا ينبغي أن تدور الخواطر حول شيء آخر... حتى المدينة عاصمة الإسلام، والبلد الذي خلفوا فيها ديارهم ونسائهم وأولادهم، لا ينبغي أن يفكروا فيها لأنهم إذا هزموا اليوم فلن تكون هناك مدينة، ومضى وقتٌ وعادت بعده المعركة إلى نهجها الأول... المسلمون يتقدمون، يسبقهم نصر مؤزر... والمشركون يتساقطون في حضيض هزيمة منكره، والبراء بن مالك هناك مع إخوانه يسيرون براية محمد صلى الله عليه وسلم إلى موعدها العظيم... واندفع المشركون إلى الوراء هاربين، واحتموا بحديقة كبيرة دخلوها وأغلقوا أبوابها... وهنا علا صوت البراء: "يا معشر المسلمين: احملوني وألقوني عليهم في الحديقة"...!!! ولم ينتظر البراء أن يحمله قومه ويقذفوا به، اعتلى هو الجدار وألقى بنفسه داخل الحديقة وفتح الباب للمسلمين!! واقتحمته جيوش المسلمين…
ولكن حلم البراء لم يتحقق، فلا سيوف المشركين اغتالته، ولا هو لقي المصرع الذي كان يمني نفسه به...!!!
وصدق أبو بكر رضي الله عنه: "احرص عل الموت توهب لك الحياة" صحيحٌ أن جسد البطل تلقى يومئذ من سيوف المشركين بضعاً وثمانين ضربة، أثخنته ببضع وثمانين جراحة، لقد ظل بعد المعركة شهراً كاملاً يُشرف خالد بن الوليد بنفسه على تمريضه…
ويبرأ البراء من جراحات يوم اليمامة… وفى إحدى حروب العراق لجأ الفرس في قتالهم المسلمين إلى كل وحشيه دنيئة يستطيعونها... فاستعملوا كلاليب مثبته في أطراف سلاسل محماة بالنار، يلقونها من حصونهم فتخطف من تناله من المسلمين الذين لا يستطيعون منها فكاكاً...
وكان البراء وأخوه العظيم أنس بن مالك قد وُكل إليهما مع جماعة من المسلمين أمر واحد من تلك الحصون... ولكن أحد هذه الكلاليب سقط فجأة فتعلق بأنس... ولم يستطع أنس أن يمس السلسلة ليخلص نفسه، إذ كانت تتوهج لهباً وناراً…
وأبصر البراء المشهد... فأسرع نحو أخيه الذي كانت السلسلة المحماة تصعد به على سطح جدار الحصن... وقبض على السلسلة بيده وراح يعالجها في بأس شديد حتى قصمها وقطعها...!! ونجا أنس و ألقى البراء ومن معه نظرة على كفيه فلم يجدوهما مكانهما...!!
لقد ذهب كل ما فيهما من لحم، وبقى هيكلهما مُسْمَرّاً محترقاً...!! وقضى البطل فترة علاج أخرى في علاج بطئ حتى برئ… أما آن لعاشق الموت أن يبلغ غايته...؟؟
وها هي موقعة: "تستر" تجيء ليلاقي المسلمون فيها جيوش فارس، وتبدأ الحرب بالمبارزة فيَصرعُ البراء وحده مائة مبارز من الفرس... ثم تلتحم الجيوش ويتساقط القتلى سريعاً من الفريقين كليهما في كثره كاثره... ووسط شهداء المعركة، كان هناك البراء تعلوا وجهه ابتسامة هادئة كضوء الفجر... وتقبض يمناه على حثيثة تراب مضمخة بدمه الطهور وسيفه مدد إلى جواره... قوياً غير مثلوم... سوياً غير ملكوم... لقد بلغ المسافر داره… وأنهى مع إخوانه الشهداء رحلة عمر جليل وعظيم.
{وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون)