عن عبدالله بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ؛ الْإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ فِي مَالِ أَبِيهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ))؛ رواه البخاري ومسلم، فهذا الحديث الأول بيَّن فيه النبي صلى الله عليه وسلم المسؤولية على هؤلاء الأصناف، ومَن كان مثلهم.
وحديث مجمل في بيان المسؤولية على كل مسلم، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن اللَّهَ تعالى سائِلٌ كلَّ راعٍ عَمَّا اسْتَرْعاهُ، أحَفِظَ ذلِكَ أمْ ضَيَّعَهُ، حَتى يَسأَلَ الرَّجُلَ عنْ أهْلِ بَيْتِهِ))؛ رواه النسائي، وابن حبان.
فَرِعَايَة الْإِمَام الْأَعْظَم حِيَاطَة الشَّرِيعَة، والحفاظ على الدين، وإِقَامَةِ الْحُدُود؛ ليأمن الناس على دينهم، وعقولهم، وأموالهم، وأعراضهم، وأنفسهم، وهكذا يقيم الْعَدْل فيهم، ويقسم بالسوية بينهم، وينصف المظلوم، هذه كلها حقوق وواجبات على الإمام لرعيته، وسوف يسأل عنها.
ويدخل تحت هذا مَنْ كَانَ تَحْت نَظَره رعية يرعاهم، فَهُوَ مُطَالَب بِالْعَدْلِ فِيهِم، وَالْقِيَام بِمَصَالِحِهِم وحقوقهم فِي دِينهم وَدُنْيَاهُم، فالعلماء رعاياهم الناس، يبلغوهم دين الله في صفائه ونقائه، والخطيب على منبره كذلك، والإمام في محرابه رعاياه المأمومون خلفه يحسن بهم الصلاة، ويعلمهم الدين، والمؤذن في مسجده مؤتمن في الأذان.
الضابط في القسم رعاياه الناس الذين تصل إليه خصومتهم وقضاياهم مسؤول عنهم، يفصل فيهم لا يحابي، لا يُجامل، ولا يُماطل، وهكذا القاضي في محكمته، يتقي الله في رعيته من المتحاكمين إليه، فالقضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحدٌ في الجنة، المحاكم تئن من الظلم الحاصل فيها، ألا فكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ.
وهكذا الطبيب رعاياه المرضى، مسؤول عن أرواح الناس، لا يكلفهم فوق طاقتهم، ولا يصف لهم من الدواء إلا ما يناسبهم، وما يحتاجون إليه، والمدير والمدرس رعاياهما الطلاب من أبناء وبنات المسلمين، لا يعلمانهم إلا ما ينفعهم من أمور دنياهم، لا يفسدان عقائدهم وفطرهم، والتاجر والبقَّال رعاياهما الزبائن، لا يغشانهم، ولا يبيعان بثمن باهظ يكلفهم فوق طاقتهم، ولا يحتكران سلعًا يحتاجون إليها للإضرار بهم، ألا فكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ.
وَرِعَايَة الرَّجُل أَهْله، سِيَاسَته لِأَمْرِهِمْ، وَإِيصَالهمْ حُقُوقهمْ من تعليمهم الدين بأمرهم بالصلاة، وصبره على ذلك؛ قال الله تعالى: ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ﴾ [طه: 132]، وقال الله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﴾ [التحريم: 6]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((مُرُوا أَوْلادَكُمْ بِالصَّلاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ في الْمَضَاجِعِ))؛ رواه أبو داود عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما، وهو كذلك مطالب بالعدل بينهم كما يعدل الإمام بين رعاياه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فَاتَّقُوا اللهَ، وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ))؛ رواه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير، وهو مسؤول عن توفير ما يحتاجون إليه بحسب استطاعته؛ من مطعم، ومأكل، وملبس، فهم رعاياه، وهو مسؤول عن رعيته، وإن كان له أكثر من زوجة، فهن يدخلن في رعاياه، عليه أن يعلمهن أمر دينهن، ويعدل فيهن.
وَرِعَايَة الْمَرْأَة تَدْبِير أَمْر الْبَيْت، وَالْأَوْلَاد، وَالْخَدَم، وَالنَّصِيحَة لِلزَّوْجِ فِي كُلّ ذَلِكَ، وحفظ أولاده وتربيتهم، وحفظ مال زوجها، وحفظه في غيبته، وهكذا كل ما وُكل إليها من حقوق وواجبات.
وَرِعَايَة الْخَادِم حِفْظ مَا تَحْتَ يَده، وَالْقِيَام بِمَا يَجِب عَلَيْهِ مِنْ خِدْمَته، ومنها الموظف أو المحاسب في مؤسسة أو شركة فعليه حفظ ما تحت يديه.
((كُلُّكُمْ رَاعٍ))؛ ومما يدخل في هَذَا الْعُمُوم الْمُنْفَرِد الَّذِي لَا زَوْج لَهُ، وَلَا خَادِم، وَلَا وَلَد، فَإِنَّهُ يَصْدُق عَلَيْهِ أَنَّهُ رَاعٍ عَلَى جَوَارِحه حَتَّى يَعْمَل الْمَأْمُورَات، وَيَجْتَنِب الْمَنْهِيَّات فِعْلًا وَنُطْقًا وَاعْتِقَادًا، فَجَوَارِحه وَقُوَاهُ وَحَوَاسه رَعِيَّته؛ أي: إن جوارح الإنسان هي بمنزلة الرعية، وهو المسؤول عنها، وسوف يُسأل عن ذلك كله، والقرآن الكريم، والسنة المطهرة قد أوضحا ذلك؛ قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾ [الإسراء: 36]، وقال الله تعالى: ﴿ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النور: 24]، وقال الله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [يس: 65]، وقال تعالى: ﴿ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ* وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [فصلت: 19: 21].
ومن الرعية التي العبد مسؤول عنها النعم التي خوَّله الله إيَّاها، فالنعم التي يُنعم الله بها على العبد، وهي لا تُعَدُّ ولا تُحصـى، أسبغ الله علينا نعمًا ظاهرة وباطنة، هذه النعم هي بمنزلة الرعية عند العبد، وهو مسؤول عنها، هل قام بشكر المنعم المتفضل بها وهو الله، وهل استعملها في مرضاة المنعم سبحانه وتعالى، هل عبده حق عبادته سبحانه وتعالى، ومن هذه النعم نعمة المال، والولد، والزوجة، والمسكن، والصحة (العافية) والأمن، ونعمة الجوارح السمع والبصـر وغيرها، فوجودها نعمة، وسلامتها نعمة أخرى، وهكذا نعمة المأكل، والمشـرب، والماء البارد، وغيرها، من أصغر نعمة إلى أكبر نعمة، نعم دينية ودنيوية، والقرآن الكريم، والسنة المطهرة قد أوضحا ذلك، في أن العبد سوف يسأل عنها: ﴿ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾ [التكاثر: 8].
ومن النعم التي سوف نسأل عنها نعمة الشباب -وهي رعيةٌ استرعاها الله عندنا- وغيرها من النعم مما في حديث مُعَاذ بن جَبَل رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((لا تَزُولُ قَدمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ: عَنْ عُمُرهِ فِيمَا أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلاهُ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ؟ وَعَنْ عَلِمهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ؟))؛ رواه الطبراني.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الْجُوعُ، ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ))؛ رواه مسلم، وفي رواية عند الترمذي: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ: ظِلٌّ بَارِدٌ، وَرُطَبٌ طَيِّبٌ، وَمَاءٌ بَارِدٌ)).
وعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ –يَعْنِي: العَبْد مِنَ النَّعِيمِ- أَنْ يُقَالَ لَهُ: أَلَمْ نُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ، وَنُرْوِيَكَ مِنَ الْمَاءِ البَارِدِ))؛ رواه الترمذي.
ومن النعم التي سوف نسأل عنها، ما جاء عند الترمذي عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مِحْصَنٍ الخَطْمِيِّ، وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ؛ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا)).
((وَكُلُّكُمْ مسئول)) من قِبَل من؟ من قِبَل الله جل وعلا، الذي سوف يسأل كل راعٍ عما استرعاه من رعية صغرت أم كبرت؛ قال الله تعالى: ﴿ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ﴾ [الأعراف: 6-7]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِين ﴾ [الحجر: 92]، وقال جل وعلا: ﴿ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ ﴾ [الصافات: 24].
معاشر المؤمنين، كل مسلم وُكلت إليه مسؤولية؛ فعليه بالقيام بها تجاه من تحت نظره، ويوم القيامة إما أن يرفعه عدله وقيامه بالمسؤولية، أو يُخزيه ويهلكه جوره وظلمه إن هو فرَّط في المسؤولية، فيوم القيامة يعظم الأجر والثواب لمن قام بالمسؤولية، عَنْ عبدالله بْنِ عَمْرو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ في حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا))؛ رواه مسلم.
وعن أَبِي هُرَيْرَةَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ))؛ رواه البخاري.
وفي المقابل تكون العقوبة الشديدة لمن فرط في المسؤولية في الدنيا تحصل له المتاعب والمشقة في حياته، ويُشتت شمله وفكره، بسبب تفريطه في المسؤولية، وبمشقته على الناس، فيُجازى بما كسبت يداه أن يشق الله عليه، وإن قام بما أوجب الله عليه من مسؤولية؛ يكون قد سهل على الناس أمورهم، ورفق بهم، فيُكرم بالمثل أن يرفق الله به، عن عائشة رضي الله عنها قالت: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللَّهُمَّ مَنْ وَلي مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِي مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ))؛ رواه مسلم.
وأما في الآخرة من لم يرع لرعيته حقهم فالأمر خطير، نسأل الله أن يعاملنا بلطفه، عن مَعْقِلَ بْن يَسَارٍ الْمُزنِيِّ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ))؛ رواه مسلم.
فنسأل جل وعلا بمَنِّه وفضله وإحسانه وجوده أن يُكرمنا وإياكم من فضله، وأن يعاملنا بلُطْفه.