الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أمَّا بعد: مِنْ سُنَنِ اللهِ تعالى في خَلْقِه الابْتِلاءُ؛ فمِنَ المُسْتحِيلِ أنْ يخلو المرءُ في هذه الدُّنيا من كَوارِثَ تُصِيبُه، وشدائِدَ تَحُلُّ بساحته؛ فكَمْ يُخْفِقُ له عَمَلٌ، أو يَخِيبُ له أَمَلٌ، أو يَموتُ له حَبِيبٌ، أو يَمْرَضُ له بَدَنٌ، أو يُفْقَدُ منه مالٌ، إلى آخِرِ ما يَفِيضُ به نَهْرُ الحياة.
2- إِخْلاصُ النُّفوسِ للهِ سبحانه، وخُلُوصُها مِنْ كُلِّ شَائِبَةٍ: فالابْتِلاء يُنقِّي النُّفوسَ مِنَ الشَّوائِبِ، والقلوبَ مِنَ الرِّياءِ، والعَمَلَ من الشِّرْكِ، ويُوَجِّهُهَا نَحْوَ الإخلاص، بحيثُ تَبْتَغِي - في قَوْلِها وعَمَلِها - رِضَا اللهِ وثَوَابَه؛ لأنَّ المُبْتَلَى إذا صَبَرَ لِوَجْهِ اللهِ، ورَفَعَ إليه الشِّكَايَةَ، وتَعَلَّقَ قلبُه به، وكَتَمَ بَلْواه عن النَّاسِ فَلَمَ يَعْلَموا بها، ولا بِصَبْرِه عليها؛ كان هذا هو عَيْنُ الإِخْلاصِ. حتى إنَّ بَقِيَّةَ أعمالِه تَتَأَثَّرُ بهذا الإخلاصِ الصَّادِقِ فتَصْطَبِغُ بها، فتكونُ كُلُّها لله وحدَه، وليس للبَشَرِ فيها حَظٌّ أبدًا.
3- الإِنابَةُ والرُّجوعُ إلى اللهِ، وتَصْحِيحُ المَسَارِ: لأنَّ سَبَبَ الابتلاءِ هي الذُّنوبُ والخطايا؛ فهذه فُرْصَةٌ للتَّذَكُّرِ والتَّفَكُّرِ والتَّوبَةِ؛ كما قال سبحانه: ﴿ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الأعراف: 168]. فالابتلاءُ يُذَكِّرُ باللهِ، ويُصَحِّحُ المَسَارَ، ويُعَدِّلُ الخَطَأَ، ويُلَقِّنُ الإنسانَ دروسًا لا يَنْسَاها، ويَكْسِرُ كِبْرِياءَ النَّفْسِ.
4- تَكْفِيرُ السَّيِّئاتِ، ورَفْعُ الدَّرَجاتِ: إذا ابتُلِيَ الإنسانُ بمصيبةٍ في أهلِه أو جسدِه أو مالِه، فصَبَرَ على هذا الابتلاء، واحْتَسَبَ فيه؛ فإنَّ اللهَ تعالى يُكَفِّرُ عنه سيئاتِه، ويُعْظِمُ له في الأجر، ويَرْفَعُ مكانَتَه عند الناس، وفي الجَنَّةِ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا يُصِيبُ المُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ، وَلاَ وَصَبٍ، وَلاَ هَمٍّ، وَلاَ حُزْنٍ، وَلاَ أَذًى، وَلاَ غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ» رواه البخاري. وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا؛ يُصِبْ مِنْهُ» رواه البخاري. وقال أيضًا: «إِنَّ عِظَمَ الجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ البَلاَءِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ» حسن – رواه الترمذي. فاللهُ تعالى هَيَّأَ لِعِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ مَنَازِلَ فِي الجَنَّةِ لَمْ تَبْلُغْهَا أَعْمَالُهُمْ، وَلَمْ يَكُونُوا بَالِغِيهَا إلَّا بِالبَلَاءِ وَالمِحْنَةِ.
فاللهُ تعالى لا بدَّ أنْ يَبْتَلِيَ عبادَه بالمِحَنِ؛ لِيَتَبَيَّنَ الصَّادِقُ من الكاذِبِ، والجَازِعُ من الصَّابِرِ، فهذه فائِدَةُ المِحَن. فإذا وَقَعَتِ المِحَنُ انْقَسَمَ النَّاسُ قِسْمَين: جَازِعِينَ وصَابِرِينَ، فالجَازِعُ: حَصَلَتْ له المصيبتان؛ فَواتُ المَحْبوب، وفَواتُ ما هو أعْظَمُ منها، وهو الأَجْرُ بامتثالِ أمْرِ اللهِ بالصَّبر. والصَّابِرُ: حَبَسَ نفسَه عن التَّسَخُّطِ، قَوْلا ًوفِعْلاً، واحْتَسَبَ أجْرَها عند اللهِ، فامْتَثَلَ أمْرَ اللهِ، وفاز بالثَّوَاب.
6- المُكَافَأَةُ في الدُّنيا: فمِنْ كَرَمِ اللهِ على عِبادِه الذين يَبْتَلِيهم؛ أنه يُكافِئُهُمْ في الدُّنيا، ويُعَوِّضُهُمْ على ما فَقَدوه. ومِنْ هذا القَبِيل: ما حَدَثَ لأَيُّوبَ عليه السلام؛ فقَدْ أعادَ اللهُ تعالى له أهلَه ومِثْلَهم معهم، وكذا ما حَدَثَ لِأُمِّ سُلَيْمٍ زَوْجِ أبي طلحةَ رضي الله عنهما؛ حينما صَبَرَتْ على فَقْدِ ولدِها، واستقبلتْ زوجَها بالرِّضا والتَّسِلِيم، وحَدَثَ بينهما ما يَحْدُثُ بين الزَّوْجَين، فحَمَلَتْ، وأنْجَبَتْ وَلَدًا لأبي طلحةَ، سَمَّاه: "عبدَ اللهِ"، فكان له تِسْعَةٌ مِنَ الأبناءِ يَقْرَأُونَ القُرآنَ.
7- مَعْرِفَةُ قَدْرِ نِعْمَةِ العافِيَةِ، والتَّوَجُّهُ لِشُكْرِهَا: فلا يَعْرِفُ قَدْرَ النَّعْمَةِ إلاَّ مَنْ يَفْقِدُها، فإذا عَرَفَ قَدْرَهَا؛ شَكَرَ اللهَ عليها حَقَّ الشُّكْرِ عند حُصولِها. والشُّكْرُ مَدْعَاةٌ لِلمَزِيدِ مِنَ الخَيرِ، قال الله تعالى: ﴿ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ﴾ [إبراهيم: 7]. فيُصْبِحُ البَلاءُ مِفْتاحًا لِحُصولِ النِّعَمِ؛ نِعَمِ الدُّنيا والآخِرَةِ، وكَمْ للهِ مشنْ نِعْمَةٍ في طَيِّ البَلايا.
8- تَذَكُّرُ أحوالِ المسلمين، والدُّعاءُ لَهُمْ، ومُسَاعَدَتُهُمْ: فقد يكونُ بلاؤُهم أشد؛ فمنهم مَنْ يُقْتَلُ، ومَنْ يَجُوعُ، ومَنْ يَعْرَى، ومَنْ يُشَرَّدُ ويُطْرَدُ، ومَنْ يَفْقِدُ أهلَه وولدَه ومالَه، ومَنْ يَفْقِد بصرَه أو يدَه أو قدمَه، فإذا نَزَلَ بالمُسلِمِ بَلاءٌ تَذَكَّرَ أمثالَه في ذلك البلاء، وذاقَ ما ذاقوا، واكْتَوَى بالنَّارِ التي صُلُوا بها، فيَنْتُجُ له مِنْ ذلك الوقوفُ معهم، والدُّعاءُ لهم، ومُساعَدَتُهم بما يَسْتَطِيع.
9- صَلابَةُ عُودِ المُؤْمِنِ: النَّفْسُ تَصْهَرُها الشَّدائِدُ، فتَنْفِي عنها الخَبَثَ، وكُلَّما اشْتَدَّ البلاءُ قَوِيَ عُودُ المُؤمِنِ، واشْتَدَّتْ صلابَتُه، وحَسُنَتْ تربيتُه الإيمانيةُ وتَضْحِيَتُه؛ لِذلكَ ترى السَّابقين الأَوَّلِين من الصَّحابةِ كانَتْ تربيتُهم وبذلُهم، وجهادُهم يَخْتَلِفُ عن مَنْ بعدَهم من الصَّحابةِ والتَّابعينَ رضي الله عنهم أجمعين.