اقتضت حكمة الله تعالى أن يكون التغيير والاختلاف سنة ماضية في الحياة حتى إنه ليمكن القول أن عقول الناس ومرئياتهم تختلف على نحو قريب من اختلاف ملامح وجوههم
يقول تعالى:
(ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم)
(ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم)
والعلاقات الإنسانية السوية والثرية لا تقوم أبداً على التطابق التام كما لا تقوم على النزاع والشقاق وإنما تبنى على التنوع في إطار الوحدة ,حيث يكون علينا أن نبلور من المفاهيم الكبرى ما يمكننا من العمل المشترك والتعاون المخلص مع تمكين كل المشاركين من الاحتفاظ بخصوصياتهم ورؤاهم تجاه العديد من المسائل على المستويين النظري والعملي.
فالتطابق ليس مطلباً ذلك أنه من غير الممكن استمراره لمدة طويلة كما أن فرضه يعني إفقار الحياة الفكرية وتحويل من يمكن أن يشكلوا إضافة غنية إلى إمّعات يرددون كلام الآخرين دون أن يتحسسوا ما لديهم من إمكانات العطاء المتنوع وإمكانيات التجديد والإصلاح..
والمتأمل في التاريخ يرى أن الاتفاق المصطنع يخفي وراءه مشكلات كثيرة ويؤدي إلى انحباس حركة الفكر,ولا يمر زمن طويل حتى يحدث الانتقام وينفجر ذلك التوافق الظاهري ليأتي على كل شيء ويصير الناس إلى الفراغ والشقاق وكأنهم ما اتفقوا على شيء يوماً وحينئذٍ يكون تدارك الأمور غاية في الصعوبة ويحتاج عقوداً لرأب الصدع إن كان بالإمكان فعل ذلك أصلاً!!...
إن التنوع مطلوب واختلاف الرؤى والآراء سيبقى دوماً شيئاً إيجابياً,لكن ينبغي أن يتم على أرضية مشتركة محاطة بإطار من الثوابت العقدية والفكرية وقطعيات الشريعة ومبادئها العامة وإلا تحولت التعددية إلى مصدر للتطاحن والحروب وأدت لتفتت اللحمة الأهلية والوطنية واستهلاك الطاقات في حياكة المكائد أو شن حملات التشهير ضد بعضنا البعض.
l] hg[s,v
التعديل الأخير تم بواسطة صيدلانية مسلمة ; 21-07-2008 الساعة 04:58 AM
ولعل من المفيد إلقاء الضوء على النقاط التالية:
إن إعمال العقول يؤدي دائماً إلى إنتاج أفكار ورؤى متعددة وذلك لتنوع الخلفية الثقافية وتعدد زوايا النظر وطرائق الفهم,ولنا أن نتأمل في تفاسير القرآن الكريم وشروح السنة حيث عملت عقول كثيرة على توضيح النصوص والاستنباط منها وحصلنا على التنوع الذي نعرفه والذي يبقى قابلاً لاتساع والتشعب.
كما أن تعاقب الأيام وتغير كثير من الظروف والمعطيات يحدث مفارقات وتنوعات في رؤانا ومفاهيمنا وأحكامنا وتقديراتنا للأمور وبالتالي سنجد دوماً هوة تفصل بين زمان وزمان ومكان ومكان واتجاه وآخر...ومسؤوليتنا أن ندرك بعمق حجم تلك الهوات ونحاول مد الجسور فوقها
والقرآن الكريم يعلمنا في مواضع عديدة كيفية التواصل عن طريق بلورة الأرضيات المشتركة واستكشاف الأصول التي يمكن اتخاذها منطلقات للتفاهم في أمور كثيرة .
وعلينا أن نعرف أن الهوات كثيرة ومنوعة وكلما اتسعت كلما تطلب هذا جهداً أكبر للبحث عن المساحات المشتركة ولعل نقاط التقارب تكون قليلة جداً في بعض الظروف لكن من المهم عدم اليأس من إيجادها مهما بدت بسيطة وصغيرة .
إن على كل واحد منا على المستوى الفردي ألا يستهين بحجم الخطأ والقصور الذي يمكن أن يكون لديه ولا يقلل أيضا ًمما يمكن أن يكون لدى مخالفيه من أفكار نيّرة ومفاهيم جديدة
فالثقة الزائدة فيما يملكه الفرد من فكر تعد باباً من أبواب الشر وكم عدلنا عن أفكار كنا لا نرى الحق إلا فيها وكم قبلنا من أخرى كنا نراها خطأ ,وقد كان أئمتنا على وعي عميق حين قالوا (مذهبنا صواب يحتمل الخطأ ومذهب غيرنا خطأ يحتمل الصواب)
وعادة ما يكون مجال الاختلاف والتنوع أكثر رحابة عند التطرق للأمور الإصلاحية والتنموية فلا ينحصر الأمر في رأيين بل قد يتعدد إلى أربعة وخمسة وأكثر ربما ومن الصعوبة بمكان القول الفصل بصحة أحدها .
ومن المؤسف حقاً أن العقل البشري يرى عادة السلبيات أكثر من الإيجابيات وبالتالي نركز اهتمامنا في نقاط الاختلاف بيننا رغم أنها قد لا تتجاوز 10% مثلاً وننسى أننا متفقون في 90% من رؤانا وطروحاتنا!! فتكون النتيجة تفرقاً في الكلمة وتصدعاً في الصفوف..
لقد كان من مهام وإنجازات ذوي العقول الكبيرة من إصلاحيين ومجددين العمل على تجسير العلاقة بين الماضي والحاضر واتخاذ هذا أساساً لبناء المستقبل,فلا يكون الواقع استهزاءً بالماضي ولا مجرد اجترار له وإنما تطويراً لخير فيه واستفادة من إنجازات السلف المتوهجة فيما يضيء لنا الطريق نحو مستقبل أفضل .
إن حياتنا في حالة من الاتساع الدائم ولضبطه وتنظيمه لا بد من الاجتهاد كما اجتهد السلف حينما وجدوا أن ما ورثوه عن سلفهم لم يكن كافياً لحاضرهم ,وإلى جانب الاجتهاد نقتبس من الماضي ومن الآخر مع اعتقادنا أنه ليس لديهم الحلول الجاهزة لمشكلاتنا وأزماتنا فالتجارب الكبرى لا تنقل بحرفيتها من مكان أو زمان لآخر إلا أن أولي البصائر والخبرات المرموقة يظلون قادرين على الاستفادة منها في أكثر من مجال ومستوى.
ومن الأخطاء الشائعة فعلاً أن نرسم صورة مثالية لما يجب أن يكون من الحق والخير أو نستوحي من الماضي السحيق نموذجاً للإنسان أو المجتمع المثالي ثم نحاول نحت الواقع ليتشكل على مثالها غير آبهين باستحالة هذا غالباً وبالأخطاء المنهجية التي نقع فيها أثناء تلك المحاولة.
وكلنا يعرف أنه في ثقافتنا السائدة ميل شديد إلى أن يظهر الناس بمستوى من الثقة بالنفس والنجاح أعلى مما هم عليه في الواقع ,وإلى التكتم بشدة على العيوب والأخطاء سواء على مستوى الشخصيات أو الجماعات وتكاد ثقافة الاعتراف بالخطأ تكون لدينا شبه معدومة!!
فليس لدينا إلا الأبطال وأصحاب الانتصارات الفذة الباهرة !! ومن أندر النوادر أن يتحدث عالم عن مشكلات لم يستطع حلها أو يصدر عن حزب أو جماعة كتاب مثلاً يذكر الأخطاء التي وقعت فيها في مسيرتها..هذا كله يسم حياتنا بالغموض فيكثر تداول الشائعات والاتهامات والظنون ويعد عاملاً سلبياً في سبيل مد الجسور بيننا.
وأخيراً سيكون من المهم أن نعي أنه ليس من المطلوب أن نشعر أننا اتفقنا (سواء فيما بيننا أو مع الآخر وأعني به الحضارات والثقافات الأخرى) وتبادلنا عبارات الثناء والإعجاب فهذه أمور غالباً ما تكون شكلية لا تقيم بناء وجسوراً متينة,فالمطلوب ليس تحقيق الإجماع بأي شكل كان وإنما التحقق من صواب ما نجمع ونتفاهم عليه ولذا فإن جسور التفاهم مع الآخرين لا ينبغي أن تكون على حساب الوضوح والثبات على المبادئ والقيم والتمسك بها ذلك أن بناء اتفاق على أساس من التنازل عن تلك الثوابت سيفرغه من مضمونه ويجعله هشاً غير ذي فائدة ,فلا مجال للمساومة في ثوابتنا ولا محل للي أعناق النصوص وتسويغ الأخطاء والسكوت عنها وعقد أي اتفاقات على أساس التنازلات.
إن المساحات المشتركة بيننا والتي تسمح لنا بالعمل معاً كبيرة ومتسعة ولم تستنفذ أو تستثمر بعد بشكل كامل لكن أسبابا كثيرة منها ارتباك الوعي وضعف المعرفة بسنن الله تعالى وقلة الخبرات ربما بمتطلبات الحركة الاجتماعية تؤدي بنا في أحايين كثيرة إلى أن نجاهد في غير عدو ونسبح في غير ماء........