الحمد لله العليم القدير اللطيف الخبير؛ يدبر خلقه كيف شاء، ويقضي في عباده بما أراد، لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه {يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد:2].
نحمده على ما أنعم وأعطى، ونشكره على ما دفع وكفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ عرفه العباد بآياته ومخلوقاته، ودعاه المؤمنون بأسمائه وصفاته {وَلله الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وتركنا على بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ حضروا التنزيل، وبلغوا لنا الدين، وترضى عنهم رب العالمين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعرفوا فضل الله تعالى عليكم، ورحمته بكم، وإحسانه إليكم، وقهره فوقكم؛ فلا قوة إلا بالله تعالى، ولا نجاة إلا في دينه، ولا فلاح إلا في مرضاته، ألا وإن الهلاك والعذاب في الاستكبار عن دينه، والاستنكاف من طاعته {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} {الأعراف:165} .
أيها الناس:
لله سبحانه وتعالى في خلقه سنن لا تتبدل ولا تتحول، جعلها عز وجل من دلائل قدرته، وآيات قهره، ودبَّر سبحانه بها خلقه، وبينَّها لعباده فيما أنزل من الكتاب، وما قص من الأخبار {سُنَّةَ الله فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلًا} [الأحزاب:62]وفي آية أخرى {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَحْوِيلًا} [فاطر:43] .
ومن السنن الربانية العظيمة في الخلق: تقلبُهم من حال إلى حال، ونقلُهم من طور إلى طور، ونجد هذه السنة الربانية في كل الأحياء على الأرض، وتجري على الأفراد والأمم والدول، بل وعلى النظريات والأفكار والصناعات والتطور، ونجدها في الزمان والأجواء والعمران.
فالإنسان خلق ولم يكن من قبل شيئا {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1] ثم لما كان شيئا مذكورا بخلق الله تعالى له تقلب في أطوار عدة {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا العِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ} [المؤمنون:12-14] وفي تمامه بشرا سويا ينتقل في حياته من الطفولة إلى الشباب إلى الكهولة فالهرم {اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ العَلِيمُ القَدِيرُ} [الرُّوم:54] وفي آية أخرى {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ} [يس:68] حتى يفقد التمييز كما كان في طفولته بلا تمييز {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ العُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [النحل:70]
لقد كان الله تعالى قادرا على أن يخلق البشر دون الحاجة إلى هذا التدرج، فلا يكونون في قوة بين ضعفين، ولا في قدرة بين عجزين، ولا في كمال بين نقصين، ولكن سنته سبحانه فيهم اقتضت هذا التدرج والانتقال من حال إلى حال، وله سبحانه الحكمة فيما قضى فينا. وكان خلق الحيوان والنبات كخلق الإنسان في التدرج، والانتقال من ضعف إلى قوة، ومن قوة إلى ضعف وشيخوخة وفناء.
هذا في الجانب الجسمي للإنسان، وفي الجانب العقلي القلبي الفكري هو متقلب أيضا من حال إلى حال {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [التِّين:6]
وهذا الاستثناء للمؤمنين لأنهم قبلوا هدى الله تعالى كما قال سبحانه {وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم:76] وفي آية أخرى {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17] كما أن الذين كانوا في أسفل سافلين إنما كان ذلك بسبب أعمالهم {نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67] وفي آية أخرى {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ} [الصَّف:5].
ولذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ:« يا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي على دِينِكَ قال أنس رضي الله عنه: فقلت: يا رَسُولَ الله، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قال: نعم، إِنَّ الْقُلُوبَ بين إصبعين من أَصَابِعِ الله يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ»رواه الترمذي.
والأفراد والدول والأمم تتقلب أحوالها، وتنتقل من طور إلى طور؛ قوة وضعفا، وصحة ومرضا، وغنى وفقرا، وعزا وذلا، بأسباب كونية قدرية، وبأسباب شرعية مَرْضِيَّة {قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[آل عمران:26] وما من أفراد إلا فرحوا وحزنوا، وضحكوا وبكوا، وطمعوا وأيسوا، واستبشروا وأبلسوا، وجرى ذلك على الدول والأمم.
وهذه السنة العظيمة في تقلب الأحوال بالأفراد والدول والأمم جاءت في كثير من قصص القرآن للتذكرة والاعتبار، فأمة بني إسرائيل كانت مستضعفة مستخدمة للفراعنة، فقلب الله تعالى حال الفراعنة إلى الذل والهوان بهلاك فرعون وجنده، وقلب حال بني إسرائيل إلى العز والتمكين {وَأَوْرَثْنَا القَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف:137] وفي آيات أخرى يقول الله تعالى عن آل فرعون {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:59].
فما أعجب سنن الله تعالى في عباده، وما أسرع تقلبهم من حال إلى حال!!
وفي قصة يوسف عليه السلام التي هي من أعاجيب قصص القرآن، ومن أبين الدلائل على تقلب الأحوال، قرأنا كيف ابتلي يوسف عليه السلام بالجب وكان مظنة الهلاك، ثم بالرِّق وهو مظنة دوام الأسر والذل، ثم بالسجن وهو مظنة البقاء والنسيان، ليبدل الله تعالى حاله في الابتلاء المتتابع، فيُمكِّن له في الأرض، ويجعله على خزائنها، فيعتز به أهله وإخوته الذين أرادوا ذله وهلاكه؛ ولذا ابتدأ الله تعالى هذه القصة العظيمة بقوله سبحانه {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ} [يوسف:3] وختمها بقوله عز وجل {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الأَلْبَابِ} [يوسف:111] وما ذاك إلا لما فيها من أنوع التنقلات من حال إلى حال، ومن محنة إلى محنة، ثم من محنة إلى منحة ومنة، ومن ذل إلى عز، ومن رق إلى ملك، ومن فرقة وشتات إلى اجتماع وائتلاف، ومن حزن إلى سرور، ومن رخاء إلى جدب، ومن جدب إلى رخاء، ومن ضيق إلى سعة، ومن إنكار إلى إقرار، فتبارك من قصها فأحسنها ووضحها وبينها.
وفي قصة بني النضير قلب الله تعالى حالهم من الاستقرار إلى التشرد، ومن السعة إلى الضيق، كانوا يعمرون بيوتهم وحصونهم لبقائها، وبقائهم هم فيها، فإذا حالهم ينقلب فيخربونها بأيديهم {فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2] فما أسرع النقمة التي حلت بهم بعد النعمة!
وصاحب الجنتين في سورة الكهف سار فيها معجبا مستكبرا، ثم ماذا؟! {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} [الكهف:42]
والتاريخ مملوء بحوادث تقلبت فيها أحوال أفراد ودول وأمم، فعز فيها من كانوا أذلة، وذل فيها من كانوا أعزة، وسادت دول ثم بادت؛ ليخلفها في السيادة غيرها. ورأينا ذلك رأي العين في أفراد افتقروا بعد الغنى، وآخرون اغتنوا بعد الفقر، ورأينا دولا ارتفعت ثم سقطت؛ ليخلفها غيرها {اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطَّلاق:12] قال أهل التفسير في قوله سبحانه {يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} [الطَّلاق:12] «بحياة بعض وموت بعض، وغنى قوم وفقر قوم، وما يدبر فيهن من عجيب تدبيره: فينزل المطر ويخرج النبات ويأتي بالليل والنهار والصيف والشتاء ويخلق الحيوانات على اختلاف أنواعها وهيئاتها فينقلهم من حال إلى حال». فلله الحمد على ما خلق ودبر وقضى، وله الشكر على ما منع وما أعطى.
أيها المسلمون:
هذه السنة الربانية العظيمة في تقلب الخلق على أحوال عدة قد طالت ما خلق الله تعالى من الزمان وعلاماته، فالليل والنهار متعاقبان لا يستقران، والشمس والقمر يجريان بحسبان، وفصول السنة تتعاقب من حَرٍّ إلى قَرٍّ، ومن ربيع إلى خريف {يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الأَبْصَارِ} [النور:44].
وقد رأينا خلال الأيام الماضية تقلب الأجواء، وتبدل الأحوال، فتظل الناس عواصف ترابية يخافونها، ويحاذرون منها، فإذا هي تزول بأمر الله تعالى ليخلفها سحب مباركة تأتي بالخير، ورأينا سحبا تتلبد بها السماء حتى إذا طمع الناس فيها زالت وخلفها حاصب من الريح والتراب، وأثناء تقلبات الجو تقلبت قلوب العباد فكانت بين رجاء المطر، وخوف الحاصب، فأبلسوا حينا واستبشروا حينا آخر، فسبحان من قلَّب قلوبهم بين الرجاء والخوف، وسبحان من قلَّب أجواءهم بين التراب والغيث {اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ * فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ الله كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الرُّوم:48-50].
ومن سنن الله تعالى في عباده أن الاستقامة على أمره، وإقامة دينه، وتحكيم شريعته سبب للأمن والرزق والبركة، والعز والرفعة والتمكين {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} [النور:55] وفي آية أخرى {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96] وفي ثالثة {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجنّ:16].
وحين قلب الله تعالى نعم آل فرعون إلى نقم علل ذلك بقوله سبحانه {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:53] فاعرفوا عن الله تعالى سننه، واشكروه على نعمه،واحذروا إتيان ما يقلبها إلى نقم، فليس بين النعمة والنقمة إلا أمر الرب جل جلاله {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40] {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالبَصَرِ} [القمر:50].
من سنن الله تعالى في خلقه (2)
مدافعة بعضهم بعضا
الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل
الحمد لله العليم الحكيم؛ أتقن كل شيء صنعه، وأحكم خلقه وأبدعه، وجعل في خلقه وقدره من الحكمة ما نعلمه وما نجهله؛ نحمده حمدا يليق بجلاله وعظمته، ونشكره شكرا يوازي نعمه وفضله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ اقتضت حكمته سبحانه أن يخلق الناس مختلفين، ولو شاء لخلقهم متفقين بل متماثلين على قلب رجل واحد منهم ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ [المائدة:48] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أخبر بافتراق أمته كافتراق الأمم السابقة، وأمر بوحدة الكلمة، والتمسك بالسنة، ولزوم الجماعة، وحذر من الاختلاف والتفرق، ومن تفرقة الدين وتبديله، فكان المبلغ الأمين، والناصح الشفيق، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وتمسكوا بدينه، واصبروا على الأذى فيه؛ فإنه الحق من ربكم، وسوف تسألون عنه في قبوركم ويوم حشركم ﴿ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ﴾ [الزُّخرف:43-44].
أيها الناس: آيات الله تعالى في خلقه عجيبة، وسننه في عباده كثيرة، وهي سنن ثابتة لا تتبدل ولا تتغير.. لا يملك البشر لها دفعا ولا رفعا، ولا يجدون منها ملجأ ولا مفرا.. سنن حتمية تنزل بهم كما نزلت بمن قبلهم ﴿ سُنَّةَ الله فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب:62].
ومن سنن الله تعالى في البشر سنة التدافع؛ وهي سنة مذكورة في القرآن الكريم، فكل الآيات التي تدل على اختلاف البشر، والصراع بينهم، وحكاية أخبار حروبهم، ووقوف الرسل عليهم السلام في وجوه الملأ من أقوامهم فهي دالة على وقوع سنة التدافع فيهم ﴿ فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ [البقرة:253].
وجاء التصريح بسنة التدافع في موضعين من كتاب الله تعالى؛ فأما الموضع الأول فبعد قصة حرب طالوت ومن معه من المؤمنين لجالوت ومن معه من الكافرين؛ إذ بعد الإخبار عن هزيمتهم أخبر سبحانه عن سنته قائلا ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ ﴾ [البقرة:251].
وأما الموضع الثاني فعند الإذن بالجهاد وبيان مشروعيته؛ إذ إن الجهاد سبب لمدافعة الكفر وأهله ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ الله النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ الله كَثِيرًا ﴾ [الحج:40] أي لولا مدافعة المؤمنين من أهل كل ملة كفار أمتهم لهدمت دور العبادة التي شرعها الرسل، وأنشأها أتباعهم، ولمُنعوا من ذكر الله تعالى فيها.
إن آثار هذه السنة الربانية عجيبة لمن درسها وتأملها، وإن صور المدافعة الواقعة لا تحصى من كثرتها، وهي دليل على استدامة هذه السنة، وأنها قانون مستمر لإصلاح ما فسد من حياة البشر وعقائدهم وأفكارهم وعباداتهم وأخلاقهم، وهي دليل على جريان سنة الابتلاء فيهم واستمرارها إلى آخر الزمان.
بسنة التدافع يُسخر الله تعالى المؤمنين للدفاع عن دينه، والذود عن حياضه مسترخصين أرواحهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله تعالى.
وبسنة التدافع يُبتلى المؤمنون بالكفار والمنافقين الذين يقذفون شُبههم في الدين، فينبري لهم حملة العلم وأولو الفكر والرأي دحضا لباطلهم، وكسرا لحججهم، وإزالة لشبههم، وحفظا للعامة منهم، فتنشط العقول من كسلها، وتحسن الألسن فن الجدل والمناظرة ودفع الباطل، وتعرض أحكام الإسلام بأحسن صورة وأبهى حلة، فيعتز الإسلام وأهله، ويزداد يقين المسلمين بدينهم.
وبسنة التدافع ينبري المحتسبون لإزالة المنكرات والأخذ على أيدي أهلها، ومدافعة منشئيها ومروجيها في الناس.
وبسنة التدافع يسعى أهل الحق في إقامة شريعة الله تعالى في الناس، وتحكيمها فيهم، ومقاومة القوانين الوضعية البشرية.
وبسنة التدافع يرفع الله تعالى العذاب العام عن البشر، فلولا دفع الله تعالى بالمؤمنين والأبرار عن الكفار والفجار لهلكت الأرض بمن فيها ﴿ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ [الفتح:25].
إن من تأمل سنة التدافع في البشر أدرك شيئا من حكمة الله تعالى في تقديرها، وعلم أنها رحمة منه سبحانه بعباده؛ إذ لا سبيل للنمو في الأرض، وتناسل الأحياء، وتقدم العمران إلا بها.
إن الاجتماع البشري لا بد أن ينشأ عنه اختلاف في الأهواء والرغبات، وتعارض في المصالح، والنفوس البشرية فيها حب الأثرة، وحب الرياسة، وحب العلو في الأرض، ومن سنن الله في كونه أن يوجد فيه الشيء وضده، فيوجد الغني والفقير، والصحيح والمريض, والضعيف والقوي, والعالم والجاهل, وغير ذلك من الأضداد التي تقتضيها سنة التدافع البشري، ولا بد أن تنتج هذه المتضادات اختلافا في الآراء والمقاصد والغايات، وتتعدد وجهات النظر وتتصارع الأفكار، كل فريق يبحث عن مصلحته قبل الفريق الآخر، وهذا أمر واقع ومشاهد في جميع المجتمعات، وقد أشار الله تعالى إلى هذا التدافع باعتباره سنة من سننه سبحانه في الاجتماع البشري ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴾ [هود:118].
إن قضية التدافع بين الحق والباطل قديمة ومتجددة في كل عصر؛ لأنها سنة من سنن الله تعالى في كونه، وهذه القضية مرتبطة بالوجود الإنساني، ومن طلب نهاية لها فقد طلب المستحيل ما دام الإنسان حيا متحركا على ظهر الأرض.
ولذا فإن من الجهل الفاضح، والحماقة المطبقة تغييب المعاني الشرعية العظيمة التي تكرس تميز المسلم عن غيره أو تحريفها وتأويلها كإثبات الولاء والبراء، وحصر الإخاء في أهل الإسلام، واتخاذ الكافرين والمنافقين أعداء، واستبعاد مصطلحات الحروب الدينية، والغزو الفكري، والحملات الصليبية، ومحاولة محو ذاكرة الأمة التاريخية بحجج التعايش والسلام، وهو سراب وأحلام وأوهام يعيشها من لا يعرفون سنة التدافع، ولا يدركون حقائق الواقع، إن هم إلا بيادق يحركها الأعداء لإخضاع أمة الحق لباطل المحرفين للكتاب.
ومن تأمل تاريخ الإسلام وجد فيه صورا من التدافع؛ ففي مكة كان الإسلام ضعيفا، وأتباعه قليل، ثم بالهجرة النبوية وغزوة بدر عز الإسلام وقوي، وبفتح مكة بدأت مرحلة مدافعة الكفر وأهله خارج جزيرة العرب، إلى أن توج ذلك بالقضاء على فارس والروم؛ لتكون السيادة للمسلمين، وانتشر الإسلام في الأرض، ثم سلط الصليبيون والتتر على المسلمين فاستباحوهم، وانتزعوا كثيرا من بلدانهم، فحفز ذلك المسلمين على مدافعتهم وردهم فكان لهم ذلك، ثم سقطت ممالك الأندلس في أيدي الصليبيين، وانحسر مد الإسلام؛ ليقوى مرة أخرى في دولة بني عثمان، التي سقطت بعد ذلك، فاقتسم المستعمرون بلاد المسلمين يحكمونها، فقاومهم المسلمون ودافعوهم، وبذلوا تضحيات جسيمة حتى اقتنع المستعمرون أنه لا بقاء لهم في بلاد المسلمين، فزرعوا عملاءهم بدلا عنهم، فكانوا أخلص للغرب من رعاياهم، وكانوا أشد على الإسلام وأهله من النصارى، وكانوا أشرس في محو الإسلام واجتثاثه، حتى إذا أمنوا وأمن الغرب من ورائهم أن شعائر الإسلام تمحى شعيرة شعيرة، وأن عراه تنقض عروة عروة، وأن بلدانه تنتقص بلدا بلدا، وتقسم دولهم وتفتت، وتعطى للأقليات غير المسلمة؛ انتفضت الشعوب المقهورة على دينها ودنياها؛ لتقوض عروش المستبدين والعملاء، وهذا من أظهر صور المدافعة؛ فالشعوب هي الشعوب، والحكومات هي الحكومات، والقبضة الأمنية هي القبضة الأمنية، ما الذي حدث؟ ما الذي تغير؟ لا شيء إلا أمراً ربانيا لم يتصوره أحد قلب الأمور رأسا على عقب. وبه بدأت حقبة جديدة من سنة التدافع ستغير مجريات الواقع.
والقوى الغربية المستكبرة أمام خيارين أحلاهما مرٌّ، فإما الرضا بعودة الإسلام من جديد، وهو ما لا يريدونه؛ لأنه سيقوض سيادتهم، ويقضي على ظلمهم وجبروتهم، وإما السعي لنشر الفوضى في بلاد المسلمين، فتتعطل مصالح الغرب فيها، ويتقهقر اقتصاده، وتفرز بؤر التوتر والفوضى كفاءات مدربة تغزو الغرب في عقر داره، وتبث الرعب فيها، ولن تكون الفوضى الخلاقة خلاقة للغرب بل ستكون عليه، وإذا أحسن المسلمون توظيف الأحداث لصالحهم، وفقهوا سنة التدافع التي تجري في أرضهم، فاجتمعت كلمتهم، وتراصت صفوفهم، ولم يجعلوا الشيطان ينزغ بينهم فلن يقدر الأعداء على شيء من أمرهم... ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران:103] ﴿ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال:46].
أيها المسلمون: من مقتضيات سنة التدافع الربانية أن الأرض لا ينفرد بحكمها قوة واحدة فتقضي على سواها من القوى، بل في أغلب فترات التاريخ البشري هناك قوتان وقطبان متدافعان يقتسمان غيرهما من الضعاف حتى يكون النصر لأحدهما، وفي الجاهلية وأول الإسلام كانت القوتان فارس والروم، وكان العرب قسمة بينهما، وفي التاريخ الحديث كان المعسكران الشرقي الشيوعي والغربي الليبرالي، ولا يكاد يخلو التاريخ البشري من قوتين متصارعتين، فتلك من ضروارت سنة المدافعة، حتى ذكر أحد من استقرؤوا التاريخ البشري كله أن الحرب هي أحد ثوابت التاريخ، وأنها ضرورة من ضرورات الإعمار في الأرض، ولا شك في أن الحرب هي الأسلوب الأقوى والأظهر لسنة التدافع.
ولذا كان من حماقة صاحب نظرية نهاية التاريخ ظنه بعد اندحار الشيوعية سيادة القيم الليبرالية الرأسمالية ، وأن العالم سينصهر كله فيها، وينتهي التاريخ البشري عندها، وأحمق منه من تبعه من الليبراليين العرب وهم يسمعون آيات الله تعالى تتلى في حتمية التدافع، وبقاء هذه السنة إلى نهاية التاريخ البشري.
ومن حماقة اللبراليين والتنويريين أنهم ظنوا أن الديمقراطية هي نهاية النظم السياسية في الأرض حتى لا يحكم بغيرها، لثبوت صلاحيتها، وأن الحرية بمفهومها الغربي حقيقة مطلقة لا يمكن مناقشتها فضلا عن التشكيك فيها أو ردها، ثم نجد أن الغرب عند الامتحان الحقيقي يتخلى عن أعلى قيمة يمتلكها وهي الحرية لما مسه شيء مما يسمى بالإرهاب فيصادر حرية الرأي المخالف، ويضع الإعلام والثقافة تحت المراقبة الصارمة، وينتهك خصوصية الأفراد بدعوى المحافظة على الأمن القومي.
ولما انتشر النقاب في أوربا، وكان فيه دعوة إلى الإسلام اهتدى بسببه كثير من النساء الغربيات، ضحى الغرب في بلاد الحرية والأنوار بأعلى أقسام الحرية وهي الحرية الشخصية، فمنع المسلمات من النقاب بحجج يضحك منها الصبيان، فهزم نقاب المسلمة الضعيفة أعلى قيمة لدى الغرب القوي، وهذا من التدافع الذي يعمى عنه كثير من الناس.
فإذا كانت ليبرالية الغرب قد هزمت في أغلى شيء قام فكرها عليه وهي الحرية الشخصية، وكان الليبراليون العرب وأذنابهم التنويريون قد هزموا شر هزيمة في الشارع الإسلامي، وانحازت الشعوب في صناديق الاقتراع لمن يمثل الإسلام حقيقة فإن ذلك سيكون بداية طي الصفحة الليبرالية من التاريخ البشري كما طويت قبلها الاشتراكية، ليخلفها فكر جديد ونظام جديد، نسأل الله تعالى أن يكون الإسلام. ولقد كانت مدافعة المسلمين للأفكار الليبرالية سببا لهذا الاندحار السريع، وكان البث الفضائي الذي سخره الغرب لتمرير قيمه في بلاد المسلمين هو السبب في بث الوعي الشرعي والسياسي والفكري في الشارع الإسلامي، وكانت وسائل الاتصال الحديثة سببا أكبر في نجاح التغيير لمصلحة الإسلام بأدوات الغرب وهم لا يشعرون.
وصدق الله العظيم حين قال ﴿ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ﴾ [الطًّارق:15-17].
من سنن الله تعالى في خلقه (3)
الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل
سـنة الابـتلاء
الحمد لله العليم الحكيم و﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ ﴾ [الملك:1-2] نحمده في العافية والبلاء، ونشكره على السراء والضراء، فلا يُقدر على عباده إلا ما تكون عاقبته خيرا لهم؛ فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فعليه السخط، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ جعل خلقه شاهدا على وجوده وقدرته، نصب الأدلة على ربوبيته وألوهيته، وابتلى عباده بدينه وطاعته ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [هود:7] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ بعثه الله تعالى بالحق، وجعله ابتلاء للخلق، وخاطبه سبحانه فقال: إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ، وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ، تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصي نفسي وإياكم – عباد الله - بتقوى الله تعالى؛ فإنها زينة في الرخاء، ونجاة في البلاء، وعدة للشدة، وذخر للكربة ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ﴾ [الطَّلاق:2].
أيها الناس: الابتلاء سنة لله تعالى ماضية، وحكمة من حكمه باهرة، ومحنة للعباد قاطعة، يُقطع بها صدق العباد أو كذبهم، ويُميز بها الخبيثَ من الطيب، وبها يعلم الشكور والكفور، والصبور والجزوع.
يدعي كثير من الناس قوة الإيمان والدين، ويظهرون تحليهم بالصبر واليقين، ويظنون من أنفسهم شكرا على نعم تسبغ عليهم، ورضا بمصائب تحل بهم؛ فإذا نزل البلاء تمايز الناس، وظهروا على حقيقتهم، وانكشف غطاء قلوبهم، فعُرف قدر ما فيها من صلابة الإيمان وقوة اليقين.
وفي القرآن قُرن ذكر الابتلاء بخلق الإنسان؛ ليعلم العبد أنه منذ وجد وهو في ابتلاء إلى أن يموت، وأن تكليفه بالدين ابتلاء، وأنه في سيره إلى ربه سبحانه يعيش مرحلة ابتلاء ﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾ [الإنسان:2-3].
إن هذه الدنيا ميدان البلاء؛ لتكون الآخرة جزاء على الابتلاء وذلك أن الله تعالى خلق الحياة للابتلاء، وخلق الموت للبعث والجزاء ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الكهف:7] ولولا ما في الدنيا من زينة الشهوات وما في النفوس من ميل لها لما كانت ابتلاء للعباد ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ ﴾ [آل عمران:14] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَكْثَرَ ما أَخَافُ عَلَيْكُمْ ما يُخْرِجُ الله لَكُمْ من بَرَكَاتِ الأرض، قِيلَ: وما بَرَكَاتُ الأرض؟ قال: زَهْرَةُ الدُّنْيَا رواه الشيخان.
وهذا ابتلاء السراء الذي قلَّ في الناس من يشكره ﴿ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ:13] وكان سليمان عليه السلام ممن بُلي به فعرف أنه ابتلاء فشكر وقال ﴿ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾ [النمل:40] وقال عبد الرحمن بن عَوْفٍ رضي الله عنه: ابْتُلِينَا مع رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالضَّرَّاءِ فَصَبَرْنَا ثُمَّ ابْتُلِينَا بِالسَّرَّاءِ بَعْدَهُ فلم نَصْبِرْ. وهذا من تواضعه رضي الله عنه، وإزرائه على نفسه، وإنما أراد مزيدا من الشكر، ولا نحسبه إلا من الشاكرين، وهو من العشرة المشهود لهم بالجنة.
ويبتلى العبد بثقل الطاعة ومشقتها؛ كما ابتلي الخليل عليه السلام بأثقل شيء على النفوس وهو ذبح ابنه على كبر فاستسلم لأمر الله تعالى واستجاب ﴿ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ البَلَاءُ المُبِينُ ﴾ [الصَّفات:104-106] فكانت حكمة التكليف مترددة بين الابتلاء والامتثال.
ويبتلى العبد بالمعصية لتستخرج منه التوبة؛ كما استخرجت من أبينا آدم عليه السلام بذنبه ﴿ وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ﴾ [طه:121-122] ولو لم تكن التوبة أحب الأشياء إلى الله سبحانه لما ابتلى بالذنب أكرم المخلوقات عليه؛ فالتوبة هي غاية كمال كل آدمي كما كان كمال آدم بها.
ويبتلى العبد بالضراء في نفسه أو ماله أو ولده ﴿ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ﴾ [آل عمران:186] فأرشد سبحانه إلى مقابلة ذلك بالصبر والتقوى؛ فبالصبر يتجرع ألم المصيبة، وبالتقوى يثبت على الإيمان ﴿ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ﴾ [آل عمران:186] وفي آية أخرى ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ وَالجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة:155]، وبهذا الابتلاء يُستخرج من قلب العبد الإيمان بالقضاء والقدر، فيزاد إيمانه بالرضا والتسليم؛ ويستخرج من صاحبه الدعاء والاستكانة والخشوع، ويكسر ما في قلبه من الكبر والعلو والغرور ﴿ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ﴾ [الأنعام:42] فيا له من ابتلاء ما أعظمه! وما أكثر أجره! ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ الله وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ﴾ [التغابن:11].
وقد يكون هذا الابتلاء عقوبة على ذنوب ﴿ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴾ [الأعراف:163] وبسبب هذا البلاء قد يرجع المذنبون إلى ربهم سبحانه وتعالى، فيمحو أثر ذنوبهم، ويزيل درنها من قلوبهم، إلا من جهل منهم حكمة الابتلاء، واستكبر عن عبادة مولاه، فلا يزيدهم الابتلاء إلا صدودا عن الحق، واستكبارا على الخلق ﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ﴾ [المؤمنون:76].
ولقد ذكر الله تعالى الابتلاء بالسراء والضراء على أنه من سننه في عباده، وجمع بينهما في قوله تعالى ﴿ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الأعراف:168] وقوله سبحانه ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [الأنبياء:35]
ويبتلى العبد بماله وأهله وولده ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ﴾ [الأنفال:28] وابتلاؤه بهم يكون فيما يجب عليه من الحق لهم، وقد يقصر فيه فيأثم، وفي حرصه الزائد عليهم، فيضيع حق الله تعالى من أجلهم، وهذا كثير في الناس، وصورته واضحة فيمن يجمعون المال من حله وحرامه؛ ليؤمنوا مستقبل أهلهم وأولادهم بهلاك أنفسهم وعذابهم، والواحد من هؤلاء يكون أهله وولده أعداء له على الحقيقة؛ كما في قول الله تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ﴾ [التغابن:14].
وأصحاب الولايات في ابتلاء عظيم بإقامة شرع الله تعالى في ولاياتهم، والحكم بالعدل في رعاياهم، كما أن رعاياهم مبتلون بالسمع والطاعة لمن أقام حكم الشريعة فيهم، وبرهان ذلك أن داود عليه السلام لما حكم بين الخصمين علم أنه قد ابتلي بذلك ﴿ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ ﴾ [ص:24-25].
والناس يُبتلى بعضهم ببعض، في تفاوت أرزاقهم، ورفعة درجاتهم، فمنهم من يرضى ويقنع، ومنهم من يسخط ويطمع ﴿ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ ﴾ [الأنعام:165] وهذا التفاوت بينهم اعتلى أعلى درجات الابتلاء حتى صار فتنة للناس، فأكثر ما يسفك من الدماء، ويستحل من الحرمات بسببه.
ويبتلى الناس بعضهم ببعض في أديانهم ومذاهبهم وأفكارهم ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ ﴾ [المائدة:48] فأهل الحق يدعون غيرهم لما عندهم من الحق، وأهل الباطل يفتنون الناس عن الحق بباطلهم، وهذا أعظم ابتلاء في الأرض؛ لما يسببه من فتنة القلوب وزيغها إلا من ثبته الله تعالى على الحق ﴿ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ﴾ [الأنعام:53] ﴿ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ﴾ [الفرقان:20].
وفتنة أهل الباطل لأهل الحق تصل إلى حد استحلال دمائهم وأموالهم، وانتهاك أعراضهم، وأذيتهم في دين الله تعالى بالقول والفعل ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت:2-3].
وهذا البلاء الذي يصيب أولياء الله تعالى بأيدي أعدائه مراد لله تعالى، وهو من مقتضيات حكمته سبحانه، وفيه برهان الإيمان واليقين، حين يجود الإنسان بنفسه وماله لله تعالى ﴿ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ﴾ [محمد:4] وهو ابتلاء تكفر به الذنوب، وترفع الدرجات، وتنال الجنة ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران:142].
أيها المسلمون: سنة الابتلاء هي سلم التمكين، يشتد البلاء بمن أراد الله تعالى لهم التمكين حتى يبلغوه، فلا تمكين بلا ابتلاء. وأتباع موسى عليهم السلام ما مكن لهم في الأرض، وفضلوا على من قبلهم من الخلق، إلا لما ابتلوا ابتلاء شديدا، وعذبوا بيد فرعون وجنده عذابا أليما، فصبروا مع موسى على الحق، فمكن الله تعالى لهم في الأرض ﴿ وَأَوْرَثْنَا القَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ﴾ [الأعراف:137] وفي مقام آخر قال الله تعالى ﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ ﴾ [القصص:5-6].
وفي آية التمكين ﴿ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ﴾ [النور:55] فدلت الآية على أنهم قبل التمكين كانوا خائفين بسبب دينهم؛ لأنهم يضطهدون بسببه، وهذا هو الابتلاء.
وسئل الشافعي رحمه الله تعالى: أيما أفضل للرجل أن يمكن أو يبتلى؟ فقال: لا يمكن حتى يبتلى، والله تعالى ابتلى أولي العزم من الرسل فلما صبروا مكنهم.
ومن تأمل حال المسلمين في الأرض يجد أنهم منذ عقود قد ابتلوا في دينهم ابتلاء عظيما، وأوذوا بسببه أذى شديدا، فالكفار والمنافقون يؤذونهم بالسخرية من ربهم سبحانه وتعالى، وبنبيهم صلى الله عليه وسلم، ويهزءون بشعائر دينهم، ويمنعونهم من إقامة فرائضهم التي أوجبها الله تعالى عليهم، ويجرونهم إلى المحرمات، وينشرون فيهم المنكرات، ويؤذون من يحتسب لله تعالى فينكر المنكر، ويضطهدونه في دين الله تعالى، ويكافئون من يتفلت من دينه، ويبدل شريعة ربه، ويحل حرامها، ويسقط واجبها؛ ممن يشترون بعهد الله تعالى وأيمانهم ثمنا قليلا.
فمن النفوس نفوس ضعيفة خوارة في الحق، سريعة إلى الإثم، سباقة إلى لعاعة الدنيا وزينتها، تبتغي الجاه والمال بالإثم، وتبتاع الدنيا بالآخرة..فليس أهلها أهل تمكين؛ لأنهم ما جاوزا الابتلاء بحسن الاختيار.
ومن النفوس نفوس أبية، لا تذل إلا لله تعالى، ولا تخنع لسواه، ولا تتنازل عن الحق مهما كلفها الأمر، فتصبر وإن اشتد بها الابتلاء، وتتابع عليها الأذى؛ فعاقبة صبرها تمكين في الأرض، وفوز برضا الرب جل وعلا، وإن في أرض الشام المباركة لمشاهد للإيمان ومتانة الدين، ومقابلة شدة البلاء بالصبر واليقين، مشاهد تأخذ بالألباب، وتدعو للإكبار والإعجاب.
قوم عزل تسلط عليهم عبدة الجبت والطاغوت، ففتنوهم في دينهم، واستباحوا دماءهم، وآذوهم في أولادهم، وسطوا على أموالهم، وانتهكوا أعراضهم، وشردوهم من ديارهم، ونكلوا بهم أشد تنكيل، فقابلوا ذلك بالإيمان والتسليم، ورفعوا أصواتهم بالتوحيد والتكبير، يعلنون أنهم لن يذلوا إلا لله وحده لا شريك له، وتاالله لن يضيع الله تعالى أجرهم، ولن تذهب دماء الصالحين منهم، وسيمكن لهم في الأرض كما مكن للمستضعفين من قبلهم.. إنه ابتلاء لهم لكم، ولكل المسلمين من دونهم، وللعالم بأجمعه، ابتلاء يؤجر فيه من يؤجر، ويأثم فيه من يأثم؛ فمن أنكر جرائم النصيريين والبعثيين، ونصر المستضعفين فقد سلم، ومن رضي وتابع أثم، فالدعاء الدعاء لإخوانكم؛ فإنهم مبتلون بكم، كما أنكم مبتلون بهم، فجاوزا الابتلاء بما يرضي الله تعالى، ولا تلتفتوا لرضا البشر، فإن مَنِ الْتَمَسَ رِضَى اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ رَضِيَ الِلَّهِ عَنْهُ وَأَرْضَى النَّاسَ عَنْهُ، وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ سَخَطَ الِلَّهِ عَلَيْهِ وَأَسْخَطَ عَلَيْهِ النَّاسَ.
من سنن الله تعالى في خلقه (4)
الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل
﴿ إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا ﴾
﴿ الحَمْدُ لله الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الحَمْدُ فِي الآَخِرَةِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ ﴾ [سبأ:1] نحمده حمدا كثيرا، ونشكره شكرا مزيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ لا يقضي للمؤمنين قضاء إلا كان خيرا لهم؛ فإن أصابتهم سراء شكروا فكان خيرا لهم، وإن أصابتهم ضراء صبروا فكان خيرا لهم، وليس ذلك لأحد غيرهم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ كان عظيم اليقين بالله تعالى، شديد الرجاء له سبحانه، كثير التفكر في خلقه عز وجل، دائم التعلق به تبارك وتعالى؛ فشرح صدره، ووضع وزره، ورفع ذكره، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعبدوه في الرخاء، واشكروه على النعماء، واصبروا على الضراء، واعلموا أنه سبحانه حكيم في قدره وقضائه، لطيف بعباده، عليم بأحوالهم، خبير بمصالحهم، لا يخفى عليه شيء من أمرهم، وما علينا إلا الرضا به وعنه، والتسليم لأمره، وجمع القلب والأركان على عبادته ﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة:216].
أيها الناس: من دلائل ربوبية الله تعالى، وقدرته سبحانه على خلقه، وحكمته عز وجل في تدبيره؛ تقلب أحوال الناس من شدة إلى رخاء، ومن رخاء إلى شدة، ومن ضعف إلى قوة، ومن قوة إلى ضعف، وله سبحانه ألطاف لا يدركها خلقه، وحكم يجهلونها؛ ولذا يكثر فيهم اللوم والسخط، ويقل فيهم الرضا والشكر ﴿ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ:13].
ومن سنن الله تعالى الدالة على ربوبيته نظم اليسر بالعسر، وجعل الفرج مع الكرب، وإخراج المنح من أرحام المحن، وهي سنة تربي الخلق على القرب من الله تعالى، فإذا أيسروا فبطروا جاءهم العسر ليكسر سورة النفس، ويطامنها عن العلو والاستكبار، ويمنعها من البغي والطغيان، ويردها إلى الله تعالى، فإذا تهذبت أخلاقهم، وصفت قلوبهم، واستقامت أحوالهم، وأظهروا الذل والافتقار لله تعالى، ولهجوا له سبحانه بالضراعة؛ جاءهم اليسر فزال عسرهم؛ لئلا يستبد بهم اليأس والقنوط، المؤدي إلى الكفر والجحود.
وهذه السنة الربانية مذكورة في القرآن، مكرورة في آياته، واقعة في خلقه، يراها الإنسان في نفسه قبل غيره، ويشاهد وقوعها في جماعة أو أمة، ولو حاول الإنسان أن يجمع ما مر به في حياته من مشاهدها لما أحصى ذلك من كثرته.
وجاءت هذه السنة في القرآن بصيغة الوعد، والله تعالى لا يخلف الميعاد، يقول الله تبارك وتعالى ﴿ سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ﴾ [الطَّلاق:7] وهذه الصيغة تفيد الاستمرار، أي: أنه في كل عسر سيجعل الله تعالى للعبد منه يسرا، فلماذا إذن يجزع الناس وييأسوا، وهذا وعد الله تعالى لهم، لولا قلة قراءة القرآن فيهم، وضعف تدبره واستحضار آياته.
وفي موضع آخر يؤكد الله تعالى جريان هذه السنة بمؤكدات عدة. وفائدة هذا التأكيد تحقيق اطراد هذا الوعد وتعميمه، وأنه سنة ماضية لله تعالى في عباده، ﴿ فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا ﴾ [الشرح:5-6]. أي: مع العسر العارض تيسيرا عظيما يغلب العسر. وبلغ من قرب اليسر أنه قرن مع العسر وهو مضاد له. حتى جاء في الأثر عن ابن مسعود رضي الله عنه:«لو كان العسر في جحر لتبعه اليسر حتى يدخل فيه فيخرجه، ولن يغلب عسر يسرين».
وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله:«وإن الْفَرَجَ مع الْكَرْبِ وإن مع الْعُسْرِ يُسْراً»رواه أحمد.
فكل كرب ينزل بالمؤمن فإن معه فرجا لا محالة، وكل عسر يصيبه فإن معه يسرا، ومن علم ذلك وأيقن به فلن يسلم قلبه لليأس والقنوط، ولن ينسى الخالق سبحانه ويركن للمخلوق، ولن يعلق قلبه بغير الله تعالى.
والعسر العام في الناس أكثر ما يكون في النوازل والمعارك، حتى إذا اشتد البأس بالناس، وأحاط بهم العدو، وظنوا الهلاك أسعفهم الله تعالى باليسر، ودفع عنهم البلاء، ورفع المحنة، وتلك سنة الله تعالى مع رسله وأوليائه المؤمنين، كما قال تعالى في السابقين منهم ﴿ مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ الله أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ ﴾ [البقرة:214].
وفي مقام آخر قال سبحانه ﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا ﴾ [يوسف:110]، وهذه الآية العظيمة جاءت في ختام سورة يوسف عليه السلام، ويوسف قد ابتلي بعسر شديد، ومحن متتابعة، حين حسده إخوته، وألقوه في الجب، ثم بيع عبدا، ثم اتهم في عرضه وسجن ظلما، فكان في رحم هذه الشدائد المتتابعة فرج كبير، وتمكين عظيم، حتى ولي خزائن الأرض، يقسم للناس أرزاقهم، وجاءه اليسر من داخل العسر في خبر السجينين حين عبر لهما الرؤى، فلما رأى الملك رؤياه دله السجين على يوسف فكان ذلك سبب الفرج والتمكين عند الملك؛ ولذا قال يوسف عليه السلام ﴿ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ ﴾ [يوسف:100].
وكم مر بجدّه الخليل عليه السلام من عسر أعقبه يسر، وكم من كرب تبعه فرج. وما أعظم العسر، وأشد الكرب حين تشعل النار؛ ليلقى الخليل عليه السلام فيها حيا، فيكون اليسر في لحظات إلقائه ﴿ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الأنبياء:68-69] فمن أصابه كرب واستبطأ الفرج فليستحضر هاتين الآيتين، وليتأمل قصة إلقاء الخليل عليه السلام في النار؛ ليعلم قدرة الله تعالى على كشف الكرب مهما كان، وسرعة اليسر لرفع العسر.
وما أشد الأمر الرباني للخليل عليه السلام بذبح ابنه الوحيد، الذي ما وهب له إلا على كبر، وما أعظمه من عسر لولا إيمان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فلما أضجعه للذبح جاء اليسر ليزيل العسر، وحل الفرج ليذهب الكرب ﴿ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾ [الصَّفات:106-107].
وموسى من ذرية يوسف عليهما السلام، وله مواقف كثيرة تجلى فيها اليسر مع العسر، وظهر الفرج مع الكرب، منذ ولادة موسى حين ولد في السنة التي يذبح فرعون فيها الصبيان، وهو عسر شديد على أم موسى؛ ليكون العسر بما لا يتصوره إنسان، وهو أن يتربى الصبي في بيت ذابح الصبيان، ثم لما بلغ أشده واستوى ابتلي بمتآمرين على قتله مما اضطره إلى التخفي والهجرة من بلده؛ ليعقب ذلك يسر عظيم بكلام الله تعالى له، واصطفائه رسولا، وكم مر به مع فرعون من كروب ومحن كشفها الله تعالى بفرج من عنده، حتى كانت اللحظة الحاسمة التي كان فرعون وجنده يحيطون بموسى ومن معه لقتلهم، والبحر أمامهم، فكان فرج الله تعالى ويسره أسرع من كيد فرعون ومكره؛ ﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ البَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ العَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآَخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآَخَرِينَ ﴾ [الشعراء:63-66].
ومن أعجب أخبار الفرج بعد الكرب خبر يونس عليه السلام حين ابتلعه الحوت، فمن يتصور أن الحوت يلفظه بأمر الله تعالى بعد أن التقمه لولا أن الله تعالى أخبرنا بذلك ﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغَمِّ ﴾ [الأنبياء:88]. ومكث أيوب عليه السلام في المرض سنين حتى جفاه القريب، ونفر منه البعيد، واشتد كربه، وعظم عسره، فجاءه يسر الله تعالى متتابعا بعافية وأهل ومال ﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء:84].
وتتبع حوادث اليسر بعد العسر في الأمم السالفة يطول، والقرآن مملوء بقصصها وأخبارها، فمن يقرأ بتمهل وتدبر؟!
وكما مضت هذه السنة الربانية في السابقين من المؤمنين، فإنها وقعت لهذه الأمة المباركة كثيرا، في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد مماته، ولا تزال تقع إلى يومنا هذا؛ ففي الخندق حوصر المسلمون وروعوا، حتى قال الله تعالى في وصف عسرهم ﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِالله الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ﴾ [الأحزاب:11].
يا له من وصف ما أبلغه! ويا له من موقف ما أشده، ويا لها من أيام ما أعسرها. ولكن كان اليسر مع العسر، وجاء الفرج ليزيل الكرب ﴿ وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ المُؤْمِنِينَ القِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ﴾ [الأحزاب:25].
وتكرر ذلك يوم حنين فوصف الله تعالى عسرهم فيها بقوله سبحانه ﴿ وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ﴾ [التوبة:25] ثم كان الفرج واليسر ﴿ ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الكَافِرِينَ ﴾ [التوبة:26].
أيها المسلمون: ما أحوجنا إلى فقه سنن الله تعالى في عباده، واليقين بأن وعده حق، وأن مع الكرب فرجا، وأن مع العسر يسرا، ولا سيما في هذا الزمن الذي تكالب فيه أهل الكفر والنفاق على أهل الإسلام.
فالمنافقون يريدون تبديل كلام الله تعالى، وتحريف شريعته، ونشر الفساد في المسلمين بتوسيع دائرة الاختلاط، وتحجيم الاحتساب، ومساواة النساء بالرجال؛ لمحو أخلاق الإسلام، وقد نجحوا في كثير من الميادين، وهذا عسر شديد قد يصيب بعض القلوب المؤمنة باليأس والإحباط.
والكفار يكيدون بالمسلمين، ويسعون لتفتيت دولهم، وزرع الشقاق فيهم، ونشر الفوضى في أوساطهم، والحيلولة دون الحكم بالإسلام في بلدانهم. وقد بان لكل أحد حجم المؤامرة التي تحاك ضد أهل السنة في الشام كما قد حيكت من قبل في العراق، وظهر للناس أن العداء الغربي الصفوي في الظاهر يخفي وراءه اتفاقا في الباطن على محو أهل السنة، واقتسام دولهم وثرواتهم، وهاهم يفعلون ذلك بأهل الشام كما فعلوه من قبل بأهل العراق، والغرب يخدر أهل السنة بوعوده ومبادراته.. وفي هذه الظروف العصيبة قد يصيب بعض القلوب يأس بأنه لا فرج مع هذه الكروب، ولا يسر بعد هذا العسر، ولكن من فقه سنن الله تعالى، واحتمى به، وتوكل عليه، وأفرغ قلبه من سواه؛ أيقن أن الفرج قريب، وأن لله تعالى تدابير ولطائف على غير تصورات البشر وظنونهم، وأن ما يقع من علو المنافقين ونجاحهم، واستكبار الكفار وعتوهم مقدمات لفرج الله تعالى ونصره للمؤمنين، وإن استبطأ الناس ذلك، وظنوا بالله تعالى الظنونا.
وفي خلافة عمر رضي الله عنه غزا أبو عبيدة الشام فأصابهم جهد شديد فكتب بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر: سلام عليك، أما بعد: فإنها لم تكن شدة إلا جعل الله بعدها مخرجا ولن يغلب عسر يسرين، وكتب إليه ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران:200]
فماذا كانت عاقبة هذا العسر والكرب؟!
قال أبو واقد الليثي رضي الله عنه: رأيت الرجل يوم اليرموك من العدو يسقط فيموت فقلت في نفسي: لو أني أضرب أحدهم بطرف ردائي ظننت أنه يموت، وجعل الله للمسلمين من الغم الشديد الذي كان نزل بهم فرجا ومخرجا كما قال عمر رضي الله عنه.
فما كيد الكافرين والمنافقين ومكرهم أمام قدرة الله تعالى؟!
لا شيء. إي وربي لا شيء، ﴿ ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الكَافِرِينَ ﴾ [الأنفال:18].
وإن الله تعالى كما فرج كرب المسلمين في الشام أيام الصحابة رضي الله عنهم فإنه سبحانه سيكشف كرب أهل الشام اليوم، وسيزيل عسرهم بيسر ونصر مبين، وما ذلك على الله بعزيز.
وإن ما تعيشه الأمة المسلمة في هذه الفترة الحرجة من عسر وكرب يحيط بها من كل جانب، سيعقبه بإذن الله تعالى يسر وفرج لا يخطر على البال، ولكن بشرط نبذ اليأس من القلوب، كما قال يعقوب عليه السلام في عسره وشدته ﴿ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ الله إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا القَوْمُ الكَافِرُونَ ﴾ [يوسف:87].والاستعانة بالله تعالى على هذه الشدائد مع التحلي بالصبر كما قال موسى لقومه ﴿ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا ﴾ [الأعراف:128] وملازمة التقوى ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ﴾ [الطَّلاق:2] وفي الآية الأخرى ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ﴾ [الطَّلاق:4] .
من سنن الله تعالى في خلقه (5)
الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل
سنة الزيادة
﴿ الحَمْدُ للهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ المَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [فاطر: 1] نحمده على ما هدانا، ونشكره على ما أعطانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ هدى الخلق إليه، ودلهم عليه؛ فغرس في فطرهم الإيمان به، وملأ الوجود ببراهين ربوبيته ﴿ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا ﴾ [فاطر: 39] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أتقى الخلق لله تعالى، وأكثرهم حبا له، وتعلقا به، ورغبة إليه، وأشدهم خشية منه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، ولا تغتروا بأعراض الدنيا الفانية، وتقربوا إليه بالأعمال الصالحة؛ حتى يقال لكم ﴿ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الخَالِيَةِ ﴾ [الحاقَّة: 24].
أيها الناس: لله تعالى سنن في عباده، بثها في كتابه؛ ليعلم قراء القرآن أن سننه سبحانه لا تتغير بتغير الزمان، ولا تتخلف باختلاف المكان، بل هي سنن مضطردة في كل زمان ومكان وحال، فلا يغتر قوي بقوته، ولا يبطر غني بماله، ولا تظن أمة أنها لا تقهر، فالقوي يضعف، والموارد تنقص، ودوام الحال من المحال ﴿ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا ﴾ [فاطر: 43].
ومن سنن الله تعالى في عباده: زيادتهم على ما هم عليه من إيمان وكفر، وطاعة ومعصية، وفقر وغنى، واضطراب واستقرار، وعافية وابتلاء، وخير وشر.
وهذه السنة الربانية دلت عليها آيات القرآن وأحاديث السنة سواء فيما يتعلق بأمور الدنيا أو فيما يتعلق بأمور الدين:
فالمؤمن المحقق لإيمانه، الساعي لزيادته ونمائه، الصادق في انتمائه، يزيده الله تعالى إيمانا إلى إيمانه، ويقينا إلى يقينه، وهدى إلى هداه، وتقوى إلى تقواه ﴿ وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى ﴾ [مريم: 76] ﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ﴾ [محمد: 17] فكل من سلك طريقا في العلم والإيمان والعمل الصالح زاده الله تعالى منه، وسهله عليه، ويسره له، ووهب له أمورا أخر، لا تدخل تحت كسبه.
ولما صدق فتية الكهف في إيمانهم، وهاجروا فرارا بدينهم؛ زادهم الله تعالى إيمانا ﴿ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ﴾ [الكهف: 13].
والتوكل على الله تعالى شعبة من شعب الإيمان، تدل على كمال التسليم والتفويض لله تعالى، تخلق به الصحابة رضي الله عنهم لما اجتمع المشركون عليهم؛ فزادهم الله تعالى بتوكلهم إيمانا ويقينا ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ ﴾ [آل عمران: 173].
وفي الأحزاب تجمع الكفار على أهل الإيمان لاستئصالهم، فأعلن أهل الإيمان تصديقهم بوعد الله تعالى ووعد رسوله عليه الصلاة والسلام في تلك الساعة الحرجة؛ إيمانا منهم ويقينا بالله تعالى؛ وتوكلا عليه سبحانه، فزادهم الله تعالى إيمانا ويقينا وتوكلا ﴿ وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 22].
وفي الحديبية كره الصحابة رضي الله عنهم بنود الصلح، حتى قال عمر رضي الله عنه «فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا» ولكنهم ما لبثوا أن علموا أن ذلك حكم الله تعالى، فقهروا ما في نفوسهم من الغضب والحمية؛ طاعة لله ورسوله، فزادهم الله تعالى بهذا الانقياد والاستسلام إيمانا ويقينا ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ ﴾ [الفتح: 4].
ففي كل هذه النماذج الإيمانية ما جاءت الزيادة من الله تعالى إلا بعد أن أثبتت هذه الطوائف المؤمنة إيمانها، ودللت على صدقه، في ساعات حرجة يتلاشى فيها التصنع والكذب والرياء، فجزاهم ربهم سبحانه ما جزاهم من زيادة الإيمان واليقين به تعالى، وتصديق وعده سبحانه، والتسليم لأمره عز وجل.
وحين يرى المؤمن تقهقر المسلمين، واضطراب أحوالهم، وافتراق كلمتهم، وعلو أعدائهم عليهم؛ فيجب أن لا يضعضع هذا الحال البائس إيمانه ويقينه، فيتخلى عن شيء من دينه، أو يستبدل به غيره، بل الواجب أن يزيده ذلك تمسكا به، وعملا له، ودعوة إليه، وتفانيا فيه، ويقينا بوعد الله تعالى للمؤمنين، كما فعل الصحابة يوم أحد والخندق والحديبية، وهي أعسر المواقف عليهم. فإنه إن ظهر ثبات المؤمنين ويقينهم، وتصديقهم بوعد الله تعالى، واستسلامهم لأمره سبحانه؛ زادهم الله تعالى إيمانا وثباتا ويقينا، وجعل عاقبة ذلك نصرا وفتحا مبينا. وتلك سنة ثابتة لا تتخلف أبدا.
ومن فروع هذه السنة الربانية أن من عزم على عمل صالح، واجتهد في تحقيقه أعانه الله تعالى عليه، ويسره له؛ كما قد حج أناس ما ظنوا أنهم يحجون عامهم ذاك. وبرهان ذلك في قول الله تعالى: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ﴾ [الشُّورى: 20] أَيْ: نُقَوِّيهِ وَنُعِينُهُ عَلَى مَا هُوَ بِصَدَدِهِ، وَنُكْثِرُ نَمَاءَهُ، وَنَجْزِيهِ بِالْحَسَنَةِ عَشْرَ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، إِلَى مَا يَشَاءُ اللَّهُ تعالى، وفي آية أخرى ﴿ وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا ﴾ [الشُّورى: 23] وذلك بأن يشرح الله تعالى صدره، وييسر أمره، وتكون سببا للتوفيق لعمل آخر، ويزداد بها عمل المؤمن، ويرتفع عند الله تعالى وعند خلقه، ويحصل له الثواب العاجل والآجل.
بيد أن هذه الزيادة لا تكون إلا بعد إثبات صدق الإيمان بالمجاهدة، قال ابن المنكدر رحمه الله تعالى: جاهدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت، وقال أحد السلف: "جاهدت نفسي على قيام الليل عشرين سنة وتلذذت به عشرين سنة أخرى". وقال ابْنِ أَبِي زَكَرِيَّا: عَالَجْتُ لِسَانِي عِشْرِينَ سَنَةً قَبْلَ أَنْ يَسْتَقِيمَ لِي.
فالقوم عالجوا أنفسهم على الطاعات، وجاهدوها في مرضاة الله تعالى، ثم حصلوا جزاء ذلك أنسا بالله تعالى، وفرحا بطاعته، واستغناء به عن غيره.
وفي المقابل فإن من سنة الله تعالى أنه يملي للكفار والمنافقين، ويمدهم في طغيانهم، ويزيدهم شرا إلى شرهم، وظلما إلى ظلمهم؛ عقوبة منه سبحانه على ما اقترفوا من الكفر والنفاق والظلم والطغيان، فيزيدوا أسباب العذاب عليهم في الدنيا والآخرة؛ لتكون نهايتهم أليمة، وعاقبتهم وخيمة ﴿ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ [آل عمران: 178] فهم يظنون أن الله تعالى ما مكّن لهم، ولا أعطاهم ما أعطاهم إلا وهو راض عنهم وعن أفعالهم، حتى يصلوا إلى درك العمه، وهو حالة من الضياع والتردد والتحير، تذهب فيها البصيرة حتى كأنما يعمى البصر، فلا يبصر صاحبها الواضحات، ولا يتبين البينات، وعمى البصيرة أشد وأنكى من عمى البصر. ﴿ مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [الأعراف: 186] ويُزين للمصاب بالعمه سوء عمله فيظنه حسنا ﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [النمل: 4] ويا لها من حالة ضياع وتحير وتردد توبق صاحبها ولو كان يملك ذكاء حادا، ويحمل مؤهلا عاليا، ويتسنم منصبا كبيرا.
والمنافقون مرضت قلوبهم بالنفاق، فعوقبوا بزيادته فيها، وتمكنه منها، حتى فتك بها، وأورثها ذلا في الدنيا بالتخفي والاستتار، ومن أشد الناس بؤسا وانحطاطا من يسير بوجهين، ويعيش بشخصيتين. وأما عذاب الآخرة على المنافق فأشد وأنكى ﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ [البقرة: 10] فعوقبوا على ما في قلوبهم من النفاق بزيادته وتمكنه، وتلك سنة الله تعالى فيهم؛ حتى إن ما يتلونه أو يسمعونه من القرآن لا ينفعهم، بل يزيدهم كفرا ونفاقا وشكا وارتيابا وإعراضا، بينما يزيد المؤمنين إيمانا وإقبالا واستبشارا ﴿ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ [التوبة: 124-125].
فالقرآن هو القرآن، والآيات هي الآيات، فتتسع بها قلوب وتضيق بها قلوب أخرى، تتسع بها قلوب المؤمنين، وتطرب لها، وتنتفع بها؛ ثوابا من الله تعالى على تصديقهم وإذعانهم، وتضيق بها قلوب المنافقين؛ عقوبة من الله تعالى على تكذيبهم واستكبارهم.
والشريعة هي الشريعة، فيفرح بها أهل الإيمان فيُعانون على أوامرها ونواهيها، ويستثقلها مرضى القلوب فيُعاقبون بتركها، وربما عوقبوا بالصد عنها؛ ليضعَّف لهم العذاب ﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ ﴾ [النحل: 88].
ويُزاد الجزاء لأهل الطاعات في الدنيا غير جزاء الآخرة؛ فجزاء معنوي: من سعادة القلب، وراحة النفس، والتوفيق لطاعات أخرى، وجزاء حسي بسعة الرزق، وطول العمر، واستقامة الزوجة والولد، وغير ذلك.
ويزاد العقاب لأهل العصيان في الدنيا غير عقاب الآخرة، فعقوبات معنوية من شقاء القلب، وضيق الصدر، والاستهانة بفعل المعاصي، وترك الطاعات، والمجاهرة بذلك. وعقوبات حسية من شقاء الجسد باللهاث وراء متع الدنيا ليجد السعادة فيها فلا يجدها، ولا يرتوي منها، وتنزع بركة وقته وماله، إلى غير ذلك من أنواع الشؤم الذي يحيط به.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل الإيمان الاستقامة، وأن يعيننا على البر والطاعة، وأن ينظمنا في سلك أهل الفوز والسعادة، إنه سميع مجيب.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ﴿ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 197].
أيها المسلمون: من فوائد معرفة سنة الله تعالى في الزيادة: أن يقبل المؤمن على الطاعة، ويرتقي في سلمها؛ حتى يكون حاضره خيرا من ماضيه، ومستقبله خيرا من حاضره؛ لعلمه أنه كلما زاد زاده الله تعالى. ويحذر الاستهانة بفعل المعاصي، وترك الطاعات، ويبادر بالتوبة بعد الذنب؛ خوفا أن تدركه سنة الزيادة في معصيته، فينتقل من معصية إلى أعظم منها، حتى ينحط إلى درك الكفر أو النفاق.
إننا حين نرى بعض الصالحين الذين استغرقوا أوقاتهم، وقضوا أعمارهم في طاعة الله تعالى نظن أنهم يجدون رهقا وشدة في جهادهم لأنفسهم، وهم قد جاوزوا هذه المرحلة، فمع طول مجاهدتهم جزاهم الله تعالى أنسا بالطاعة، فلا يجدون لذتهم وراحتهم إلا فيها، وهي شاقة على غيرهم، كما جعلت قرة عين النبي عليه الصلاة والسلام في الصلاة، وقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ مَهْدِيٍّ: لَوْ قِيْلَ لِحَمَّادِ بنِ سَلَمَةَ: إِنَّكَ تَمُوْتُ غَداً، مَا قَدِرَ أَنَّ يَزِيْدَ فِي العَمَلِ شَيْئاً.
وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى: لَوْ عَلِمَ الْمُلُوكُ وَأَبْنَاءُ الْمُلُوكِ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ وَالسُّرُورِ لَجَالَدُونَا بِالسُّيُوفِ.
إنك لا تسرع إلى الله تعالى بطاعة إلا كان سبحانه أسرع إليك بالثواب، ولا تزيد عملا صالحا إلا كانت زيادة الله تعالى لك أعظم مما كنت تظن، وكلما زاد إقبالك عليه عز وجل؛ كان إقباله سبحانه عليك أضعاف زيادتك، ومصداق ذلك قوله سبحانه في الحديث القدسي «إِذَا تَقَرَّبَ العَبْدُ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِذَا أَتَانِي مَشْيًا أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» رواه الشيخان.
ولما بين النبي صلى الله عليه وسلم فضل الإقبال على الله تعالى بالدعاء قَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: إِذًا نُكْثِرُ، قَالَ: «اللَّهُ أَكْثَرُ».
إن مَنْ فقه السنة الربانية في الزيادة زادت طاعته ولم تنقص، وزاد قربا من الله تعالى ولم يبتعد، وزاد تعلقا به سبحانه وترك التعلق بسواه؛ لعلمه أن كل زيادة يحدثها مع الله تعالى فإن الله تعالى يزيده عليها أضعافا مضاعفة في الدنيا وفي الآخرة.
وأما أهل البطالة والمعصية الذين تقربهم أعمارهم من قبورهم فلا يزدادون إلا عتوا ونفورا واستكبارا، فأولئك قوم ﴿ كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ القَاعِدِينَ ﴾ [التوبة: 46] ﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [المؤمنون: 55-56] نعوذ بالله تعالى من حالهم ومآلهم.