هذا الأسلوب يُسمَّى في البلاغة أسلوبَ قصر، بتقديم الجار والمجرور على المبتدأ، فالرزق في السماء فقط لا في غيرها، الرزق يأتيك من أعلى من الله، والرزق كل ما يُنتفع به، فالمال رزق، والصحة والعافية رزق، والعقل رزق، والأمن رزق.
ومعنى أن الرزق في السماء. أي: أنه أمر وتقدير أزليّ مكتوب في اللوح المحفوظ، فإنْ أردتَ الحياة المادية التي نعيشها، فهي أيضاً مصدرها الماء النازل من السماء، لأنه قوام الحياة ومصدر القوت.
{ وَمَا تُوعَدُونَ } [الذاريات: 22] أي في السماء أيضاً، فكل شيء مقدور ومكتوب في اللوح المحفوظ، كل صغير وكبيرة، وشاردة وواردة، يقول تعالى: { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَٰتِ ٱلأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَٰبٍ مُّبِينٍ } [الأنعام: 59].
إذن: ما دامت الأرزاق مُقسَّمة عند الله، وما دام كل شيء مكتوباً أزلاً، فأجملوا في الطلب، ولا تنشغلوا بمسألة الرزق، إلا أنْ تذهب إليه وأنْ تسعى في طلبه، فأنت لا تخلقه ولكن تذهب إليه كما قال سبحانه: { فَٱمْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ .. } [الملك: 15].
فالمشي والسعي سببٌ للرزق المقسوم لك أزلاً، وهذا الدرس تعلمناه من السيدة هاجر أم إسماعيل لما تركها سيدنا إبراهيم هي وولدها عند الكعبة وانصرف فقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذن لن يُضيِّعنا. فهي واثقة أن الرزق عند الله، وما كان سعيها سبعة أشواط بين الصفا والمروة إلا نموذجاً للسعي، فكأن الحق سبحانه أراد أنْ يجعلها شاهداً على صدق هذه الآية، فلما استنفدت السيدة هاجر أسبابها في السعي عادتْ إلى وليدها مطمئنة بقولها: إن الله لن يضيعنا.
وعندها ضرب الوليدُ الأرضَ برجله فتفجَّرت من تحتها زمزم، وبعد ذلك جعلها الله لنا مشعراً من مشاعر الحج والعمرة ليُذكِّرنا دائماً بهذه الحقيقة، وهي أن الرزق عند الله، لكن السعي إليه مطلوب، والحركة في اتجاهه سببٌ من أسبابه.
وجاء عن بعض السلف؛ أنه أتاه رجل يشتكي ارتفاع الأسعار والأثمان؛ فقال له، والله ما أبالي والله ما أبالي لو أن حبة الشعير بدينار؛ علي أن أعبده كما أمرني وعليه أن يرزقني كما وعدني". ومن أقوالهم: ما جاء في الأثر عن عبيد الله بن محمد ابن يزيد بن حبيش قال: "سمعت أبي يذكر: أنه بلغه عن أبي حازم: أنهم أتوه؛ فقالوا له: يا أبا حازم، أما ترى قد غلا السعر؟ فقال: وما يغمكم من ذلك؟ إن الذي يرزقنا في الرخص: هو الذي يرزقنا في الغلاء".
ومن أقوال السلف -أيضا-: قول شقيق البلخي لأهل مجلسه: "أرأيتم إن أماتكم الله اليوم، يطالبكم بصلاة غد؟ قالوا: لا، يوم لا نعيش فيه، كيف يطالبنا بصلاته؟ قال شقيق: فكما لا يطالبكم بصلاة غد، فأنتم لا تطلبوا منه رزق غد، عسى أن لا تصيرون إلى غد". عباد الله: مهما تفاقمت الأزمات وعظمت الفاقة في دروب الحياة؛ علينا أن نثق بما تكفله الله لنا من الرزق وضمنه لنا ونحن في بطون أمهاتنا؛ فوعده حق وقوله صدق، ورزقه خير ما نؤمل ونرجو؛ فهو القائل: (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [طـه:131]، والقائل لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) [طـه:132]، وَقَالَ -سبحانه-: (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُون) [ العنكبوت: 17].
تَوكلْتُ في رِزْقي عَلَى اللَّهِ خَالقي****وأيقنتُ أنَّ اللهَ لا شكٌ رازقي
وما يكُ من رزقي فليسَ يفوتني****وَلَو كَانَ في قَاع البَحَارِ العَوامِقِ سيأتي بهِ اللهُ العظيمُ بفضلهِ****ولو لم يكن مني اللسانُ بناطقِ ففي أي شيءٍ تذهبُ النفسُ حسرة ****وَقَدْ قَسَمَ الرَّحْمَنُ رِزْقَ الْخَلاَئِقِ