توينبي من المفكرين الإنكليز الذين سبروا أغوار التاريخ وتابعوا تشكل كياناته وانفراده بأدوات معرفية لم يصبها غيره. فلقد استخدم في تفسير التاريخ ونشوء الحضارات (كمادة خام جميع ما يتوفر من دراسات أنثربولوجية وميثولوجية وبيولوجية، ودراسات مقارنة للمجتمعات البدائية، بما في ذلك عقائد دورات الخصب الزراعي والطوطمية والطابو وطقوس الزواج والمحضورات التقليدية، بالإضافة إلى استخدام كل ما توصل إليه علماء التاريخ والحفائر والجغرافيا، والجغرافيا البشرية ومحاولات جميع المفكرين والفلاسفة لاستخلاص عوامل حركة التاريخ والكشف عن قوانينه) .
كما أن منهج توينبي الرئيسي في فكره هو أنه من غير الممكن دراسة كل حادثة أو واقعة بمعزل على سياق التاريخ كله، فلا بد من ربطه بالأحداث المتعاقبة في سياقه الزمني ولو من بعيد.
إن توينبي في نظريته الشهيرة (التحدي والاستجابة) (جاء من ناحيته بتفسير ضخم للحضارة يلعب فيه العامل الجغرافي دوراً أساسياً. غير أنه يدخل هذا العامل الجغرافي في ضمن مذهبه المتمثل فيما يدعوه (بالتحدي Lefi)، حيث أن الحضارة ونشوءها عند توينبي تكون من (ردٍّ) معين يقوم به شعب لمواجه تجدٍّ معين.. وهذا الرد أو الاستجابة التي تمثل الإرادة الإنسانية وقدرته الفكرية تمثل الأس الأساس لتكوين الحضارة وشكلها.
هذا التحدي يأخذ جبهتين:
الأول من الطبيعة، والثاني الجنس البشري.
ومع الجبهتين يلعب العامل الجغرافي دوره في فرض نوع من التحدي الطبيعي والبشري، ومع أن مالك بن نبي اعتبر العامل الجغرافي له أثر فقط مع التحديات الطبيعية مع أنه يمتد إلى الجنس البشري. فالتحديات التي تخرج على شكل الغزوات والاعتداء الخارجي على الكيانات الحضارية يجلبها الوضع الجغرافي، كما أن التتار بحكم متاخمتهم للدول الإسلامية.. والطرق التي تربطهم بها والوضع المناخي الذي سمح بخوض هذا الاتجاه غرباً، هو الذي كان عاملاً مهماً في توجههم إلى بغداد وترك أوربا بما يفصلها عنهم من سلاسل جبلية وطقس لا يسمح للجيش القديم بهذا إضافة إلى دواعي أخرى. وعلى أساس نظرية آرنولد توينبي يكون النشوء والانهيار يتوجه بأنه (حسب مستوى التحدي وفعالية (الرد) عليه من طرف الشعوب
المواجهة به، فإن حضارتها تكون بين احتمالات ثلاثة:
فهي إما أن تقوم بوثبة إلى الأمام، وإما أن تصاب بالتوقف والجمود، وإما أن يلفّها الفناء بردائه)، وأخذ على النظرية أنها غير مضطردة في البناء الحضاري، فإذا حاولنا استعمالها (لتفسير واقعة تاريخية محددة ـ ولتكن الحضارة الإسلامية على سبيل المثال ـ فإننا نجد أنها لا ترضينا تمام الرضى) .
يعتبر توينبي الصعاب والأزمات مصدراً لحث الإنسان على التكامل، والتحضر، والنهوض، كما أن الدعة والترف ورقة العيش تكون حائلاً دون انبثاق حضارة، وهذا يلتقي مع نظرية المترفين الإسلامية. وما شوهد في حركة التاريخ الإسلامي السياسي، وكذا هي عينها من وجهة ابن خلدون في الطور الثالث من دورة دولته، وكذا فيها انسجام مع كلمة السيد جمال الدين المعروف بالأفغاني: (الأزمة تلد الهمة)، وتتسق مع كثير من المفكرين سيما إسلامياً يطول الامتداد بهم. وبالرغم من ضرورة تعرض الحضارات للتحدي باعتباره شرطاً أساسياً لنهوضها وارتقاءها عند توينبي. إلا أنه من الضرورة الأخرى للنهوض ينبغي أن تكون التحديات بأنماط متوسطة العنف لتكون حافزاً على مضيها في الطريق الصاعد أي أن لا يعلوا طاقة الإنسان الحقيقية وقدراته التي لو استثمرها لارتقى. وصلب الفكر هنا.. في أن كثير من قدرات الإنسان تكون كامنة ولا يغور لها باذلاً جهداً في استثمارها.. لكن التحديات تمثل في هذا الإطار عاملاً قسرياً لاستخراج تلك القدرات من مكامنها، فتنتصب حضارة أمامه. فإذا (كان التحدي فإنه عندئذٍ لا يكون حافزاً ارتقائياً وكذلك إذا كان التحدث عنيفاً هائلاً في وطأته فإن الحضارة عندئذٍ قد تعجز عن تحقيق استجابة ملائمة له فيصيبها الانحلال ثم الدثور، هذا التحدث الوسط بين الطرفين: طرف الإفراط وطرف التفريط هو الوسط الذي يدعوه توينبي بالوسط الذهبي الذي يضمن دفع الحضارات المستجيبة في طريق الإرتقاء والإبداع والبقاء).
على هذا يعتبر توينبي التاريخ سلسلة من التحديات والاستجابة، أما عملية التشكل من الاستجابة. فالمفروض أن لا تقتصر على مظهر واحد من مظاهر الحضارة، وإنما لا بد أن تملك صفة الخصوبة والتنوع من الدين والعلم والفن والفلسفة والأدب وغيرها مما يفرض الواقع كحاجة مطروقة. ويميز توينبي بين تحديين، إحداهما خارجي والآخر داخلي، فيرى أن الاستجابة البرانية لا تسهم إلا بشيء ضئيل من الصعود، أما الاستجابة الجوانية فهي التي تملك الدور الأساس، وهو ما يفرضه الواقع الاجتماعي وطلباته من استفزاز وحث لمكامن العقل البشري، وهذا ما يتسامى بالطاقة الروحية والفكرية للمجتمع بأعلى مستوى ممكن تبعاً لنوع التحدي ومستواه.. ومستوى الاستجابة وكفاءتها.
رفض المفكر الإسلامي الجزائري مالك بن نبي العامل الجغرافي كعلّة تامة في نظرية التحدي لنشوء الحضارات، واعتبر الفكرة الدينية هي العمود الأساس للمجتمعات وقيامها أو حسبما يطلق عليه (مركب الحضارة)، ويبدأ خطوته في تشكيل نظريته باقتباس خطوة كيميائية (ومن عادة مالك، بل من إبداعاته أنه سخر كثير من العلوم في رؤاه) فعادة الكيميائي تقوم بتحليل المنتجات التي يريد أن يجري عليها عملية تركيب، فهو وجد أن كل ناتج حضاري ينتهي في تكوينه
إلى (تراب وإنسان ووقت) فكان:
ناتج حضاري = إنسان + تراب + وقت
ويقرب ذلك (ففي المصباح مثلاً يوجد إنسان خلف العملية العلمية والصناعية التي يعد المصباح ثمرتها؟ والتراب في عناصره من موصل وعازل، وهو يتدخل بعنصره في نشأة الإنسان العضوية، والوقت (مناط) يبرز في جميع العمليات البيولوجية والتكنولوجية، وهو ينتج المصباح بمساعدة العنصرين الأولين: الإنسان والتراب) .
وبهذا يجد مالك بن نبي أن المجتمعات إذا ما استطاعت أن تحل الإشكاليات التي تواجه الوقت، والإنسان، والتراب، فقد حلت مشكلة الحضارة.. لا مع الركن الأساس الذي نوهنا عليه في قيام نظرية مالك في نشوء الحضارات، وذلك نجده ينطلق من إثارة سؤال يفرضه بن نبي على بحثه لتثبيت خطاه علمياً وفي نفس الإتكاء كيميائياً على أمر مقطوع به في مقرره الكيميائي، وهو أنه إذا كانت الحضارة ناتجاً لمجموع هذه الأشياء الثلاثة؛ فلما لا تظهر حضارات تلقائياً لمجرد توفير تكلم الحدود الثلاثة: فيكون إتكاءه على نتاج الماء كيميائياً من الهيدروجين والأوكسجين، وذلك لا يكون تلقائياً، وإنما يخضع لقانون كيميائي بمشاركة مركب معين من هنا يضع بن نبي مركب الحضارة، فلا بد من وجود مركب يؤثر في المزج والإثمار. وهو الفكرة الدينية أو المركب الديني الذي رافق تركيب كل الحضارات خلال التاريخ فلقد (ولدت المجتمعات التي ما تنفك تسلط حتى هذا الحين انعكاسات حضارتها على الخارطة الجغرافية، وأعني بها: الهندوسية، والبوذية والموسوية والمسيحية والإسلامية، من هذه الإنطلاقة الروحية التي أقامت هياكل (براهما) و(بهوة) ومعابد البوذية والكنائس القوطية والمساجد الإسلامية فلكل هذه الحضارات ـ المعاصرة لنا ـ قد شكلت تركيبها المتألف، في مهد فكرة دينية) .
بل امتدت الرؤية حتى مع المجتمعات التي تخلو من الفكرة الدينية، ليفسر نشوء ونمو المجتمع الماركسي بصورة غير مباشرة على أساس الفكر الديني وذلك من خلال بديلاتها أي ما تعطي عوضها وروحها في الدفع الاجتماعي، لذلك يقول: (إذا اقتضى الأمر أن نصدر حكماً بشأن المجتمع الذي هو بصدد التشييد حالياً باتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، باعتباره شكلاً من الحضارة، نجد أن تكوينه ونموه يفسران بنفس الطريقة (أي الفكرة الدينية)، ومن وجهة النظر التاريخية، يتعين علينا ملاحظة أن الأفكار (الماركسية) قد استخدمت لنموها واكتمالها على (البنية التحتية) النفسانية والمفاهيمية المسيحية للإنـــساني الذي حول (إنـــجيل) (يسوع المسيح) إلى (إنجيل) (لماركــــس) وجميع المـــطامح التواقة إلى (ملكــــوت الرب الإله) إلى مـــطامح متشبثة بالفردوس الأرضي).
لا يتفق بن نبي مع ابن خلدون في حتمية وامتناع القيام لدولة ولّت دورتها لأن نهضة الحضارة من كبوتها واستيقاظها من سباتها وسيرها قدماً هو رهينٌ بشروط نفسية، زمنية معينة إذا ما توفرت وتكاملت انطلقت الحضارة من جديد.
فالحضارة الإسلامية بما تملكه من مركب (الفكرة الدينية) ذي الأسس العقيدية والإيمانية، قادرة على تجديد حركتها وانتفاضها من جديد، واستعادة كيانها، رغم كل عوامل التحدي، ورغم ما يتعرض وتعرض له العالم الإسلامي من غزوٍ فكري وسياسي واقتصادي.
عرفنا أن (بن بني) جعل الفكرة الدينية هي أساس نشوء الحضارة؛ أما دورها في معادلة الحضارة ـ سيما وانه غير ظاهر فيها ـ أنه المركب الذي ببركته يمكن اجتماع العناصر الثلاثة (الإنسان والتراب والوقت) لكن حلوله الأول في المعادلة هو الإنسان، فمع تقبله الفكرة الدينية وحلولها فيه، تبدي تأثيرها في تشكيل هذا الإنسان في إطار روحي آخر يمكن أن نجعله لوناً من ألوان الإرادة، يمكنه معه أن يرتبط مع التراب والوقت في وحدة وانسجام تمثل قمتها في وجود المركب الديني، لذلك فالكيانات التي تكونت بنحو ما كانت في تشكلها وعرضتها للانهيار تتناسب وقدر الفكرة الدينية وبالتالي مقدار الانسجام الذي كونته. فكأنه يملك تناسباً طردياً بين قوة الكيان وحضارته وبين الانسجام المتولد.. أي بين مقدار حلول الفكرة الدينية وما أخذ منها.
إذن بن نبي يعتبر الإنسان محور الفاعلية في حركة الحضارة، فله الدور الأول في المعادلة لأن (الإنسان هو الذي يحدد في النهاية، القيمة الاجتماعية لهذه المعادلة، لأن التراب والوقت لا يقومان ـ إذا اقتصر عليهما فحسب ـ بأي تحويل اجتماعي)
كذلك نراه يقول: (إن الإنسان هو الشرط الأساسي لكل حضارة، وإن الحضارة تؤكد دائماً الشرط الإنساني).
إن نشوء الحضارة منوط بإرادة الإنسان الحضارية وهذا لا يشكلها ويولدها أو يهبها إلا إيمان الإنسان بعقيدة تطلب منه خدمة الإنسان في حضارته، وهذا ما تعطيه الفكرة الدينية بأرقى مستوى.
القضية إذن في معادلة بن نبي ليست قضية أدوات ولا إمكانيات، بل القضية في أنفسنا، فعلينا أولاً دراسة الجهاز الاجتماعي الأول أي الإنسان، فإذا تحرك الإنسان تحرك المجتمع والتاريخ، إذا سكن سكن المجتمع والتاريخ، وهذا هو ما أشارته النظرة في تاريخ الإنسان منذ أن بدأ التاريخ، فنرى المجتمع حيناً يزخر بوجود النشاط، وتزدهر فيه الحضارة، وأحياناً نراه ساكناً لا يتحرك يسوده الكساد وتغمره الظلمات، وما هذه المظاهر الاجتماعية غير تعبير عن حركة الإنسان وركوده، ومن هنا تظهر أزمة العالم الإسلامي، فهي مشكلة الإنسان الذي عزف عن الحركة، لذلك فالمسألة هي أنه يجب أولاً أن يصنع رجالاً يمشون في التاريخ، مستخدمين التراب الوقت والمواهب في بناء أهدافهم الكبرى، وبما أن الإنسان كما يرى مالك في القرن العشرين يؤثر بثلاثة:
أولاً: بفكره. ثانياً: بعمله. ثالثا: بماله.
لذلك تحلّل مشكلة الإنسان في معادلة الحضارة إلى مشكلة: الثقافة، والعمل ورأس المال.
يعتبر مالك قيمة التراب في المجتمع مستمدة من قيمة مالكيه في إطار قدرتهم على تسخيره فكلما كانت الأمة تملك وعياً وفكراً ناضجاً يعرض لها آفاقاً إبداعية لاستكشاف الطبيعة وإنتاج حاجاتها الاجتماعية في كل قنوات المجتمع بكيانه، يكون حينها التراب ذا قيمة لأنه يؤول إلى شيء ذي قيمة. فكل تراب الخليج العربي قبل قرن من الزمان، لم يكن يملك أدنى قيمة سوى أنه ذرات من الرمال تنتهي به الصحراء.
. وهذا يتسق مع الجيل آنذاك وثقافته وقيمته، التي لم تستطع أن تصل إلى ما وصل إليه بعد ذاك حينما جاءه من يعي قيمته فإذا التراب ذهباً أسوداً (النفط)، فالأمر مربوط بالإنسان في فضاءه الثقافي على أن يكتشف قيمة الأشياء التي جعلها الله ـ تعالى ـ فيها، وهنا يتأكد دور الإنسان الرئيسي في معادلة الحضارة (لابن بني)، ودور الدين من علٍ عليه ويوجهه إلى السيطرة على الطبيعة، فالقرآن والسنة يدعوانه في أكثر من موضع لأن يتحرك من أجل اعتماد هذه العلاقة في تنفيذ متطلبات استخلافه العمراني (أو الحضاري) على الأرض، وهذا لن يتأتى إلا بالنظر العميق في ملكوت السماوات والأرض، والدراسة المتأنية لنواميسه وقوانينه واسراره، والسعي الدائم وفق الأساليب العلمية، للكشف عن هذه النواميس والقوانين، لتحقيق فهم اكثر لقدرات الله الخلاقة وإيمان أعمق به، ومن اجل استخدام هذه القوانين لتطوير الحياة على الأرض، ومواصلة العمران، وتحقيق مفهوم استخلاف على كل المستويات.
أما العنصر الثالث من معادلة مالك وهو الوقت فيبتدأ قبل الدخول في بحثه بحديث شريف في الزمن وهو قول الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) : (ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي: يا بن آدم أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد فاغتنم مني فإني لا أعود.. إلى يوم القيامة) فالزمن يتدفق على السواء في أرض كل شعب، ومجال كل فرد، وهو في مجال ما يصير (ثروة) وفي مجال آخر يتحول عدماً. فهو يجري في الحياة ويرافق تلك الأحداث، ويصب في التاريخ تلك القيم التي منحتها له الأعمال التي أتمت فيه ولكنه على حد تعبيره نهر صامت، حتى أننا ننساه أحياناً في ساعة الغفلة أو نشوة الحظ قيمته التي لا تعوض، ومع ذلك ففي ساعة الخطر في التأريخ تمتزج قيمة الزمن بغريزة المحافظة على البقاء، ففي هذه الساعات كانتفاضات الشعوب، لا يقوم الوقت بمال، كما ينتفي عنه معنى العدم، إنه يصبح جوهر الحياة الذي لا يقدر، فلا يسمع الإنسان صوت الساعات الهاربة، ويدرك قيمتها، إلا في اللحظات الحرجة التي تتناول البقاء والانتصار والخلود والفناء .
ومع هذا فمالك يحذر من الاستغراق في العمل والجهد من أجل الإنتاج حتى ننسى الجوانب المعنوية والنفسية من حياتنا كما حدث في الغرب الصناعي، وكذلك يحذر من الاستغراق في السلبية تجاه عنصر الزمن بحيث يغدو بغير ذي جدوى، وهو ما يحدث في العالم الإسلامي.
فالوقت هو الإطار غير المشهود لاستثمار التراب. في حل إشكاليات المجتمع وهو أمام تحدي يؤول به إلى انهيار فاللحظات تحكم وتكتب تـــاريخاً، وهذا الحل رهين أعمال الإنسان وإرادته قبل أن تذهب الثواني والدقائق، وتذهب معها حضارة ضياعها نتج عن إفساد ذلك الوقت وإهماله.