ومن أهم السمات التي يتميز بها المسلم : سمة الجدية ، فالمسلم جادّ في أقواله ، جاد في أفعاله ، جاد في تصرفاته ، جاد في مظهره ، جاد في مخبره ، جاد في علاقاته وتعاملاته مع الناس ، جاد في عبادته ومعاملته مع الله ، جاد حتى مع نفسه ، فلا يجاملها ولا يطريها ، وإنما يحاسبها ويؤذيها ويعاتبها ويأخذ عليه العهود والمواثيق .
إن جدية المسلم نابعة من تأثره بكتاب الله عزَّ وجلَّ ، فالقرآن الكريم كتاب الله الحق الذي لا لغو فيه ولا هزل قال تعالى : ?إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ?[ الطارق:13- 14] . فالمسلم الجاد متخلق بأخلاق القرآن متأدب بآدابه .
والمسلم يعلم أنه خلق لأمر عظيم ، وتحمل أمانة كبيرة ، وهو مسؤول عن ذلك يوم القيامة ، ولذلك فإنه لا وقت لديه للهزل وللعب والعبث : ?أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ?[ المؤمنون:115] .
وقال تعالى : ?إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً? [ الأحزاب:72] . إن للجدية سمات ومظاهر كثيرة ، لا يمكن للمسلم أن يكون متسماً بالجدية حتى يحقق تلك السمات ، وتكون واقعاً ملموساً في حياته ، فمن سمات الجدية ومظاهرها .
1- الإخلاص لله عزَّ وجلَّ :
إن الإخلاص لله عزَّ وجلَّ هو الفارق الأساس بين الجاد وغير الجاد ؛ لأن المخلص إما أن يكون منافقاً ، وإما أن يكون مرائيّاً ، والمسلم الجاد لا يمكن أن يكون منافقاً ولا مرائياً ؛ لأن هدفه في الحياة هو رضا الله عزَّ وجلَّ وإحراز ثوابه . قال تعالى : ?وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ? [البينة: من الآية5] .
أما المنافق والمرائي فإنه ذو شخصية متذبذبة لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، فخرج بذلك عن سمة الجدية إلى العبثية والاعوجاج نتيجة لغياب الإخلاص الذي هو أساس قبول الأعمال وروحها .
2- متابعة النبي صلى الله عليه وسلم :
وهذا هو الفارق الثاني بين الجاد وغير الجاد ؛ لأن المسلم الجاد يسعى ليكون عمله مقبولاً ، والعمل المقبول هو الذي يتوافر فيه شرطان :
الأول : الإخلاص .
الثاني : متابعة النبي صلى الله عليه وسلم .
3- الاعتدال والوسطية :
فالجدية لا تعني الغلو ، وإنما تعني الاعتدال والوسطية ، وقد نهى الله عزَّ وجلَّ عن الغلو فقال : ?يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ? [النساء:171].وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الغلو هو سبب الهلاك والدمار فقال عليه الصلاة والسلام : (( إياكم والغلو في الدين ، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين ))
4- الإقبال على الطاعات :
إن الإقبال على طاعة الله تعالى ، واغتنام الأوقات في عبادته وذكره وشكره ، والاستزادة من ذلك ليس من الغلو بشرط أن يكون في حدود المشروع ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل حتى تنفطر قدماه، فلما سئل في ذلك قال: ((أفلا أكون عبداً شكوراً)).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم : (( يا أيها الناس توبوا إلى ربكم ، فوالله إني لأتوب إلى الله عز وجل في اليوم مائة مرة ))
5- وضوح الهدف وتبني الغايات الحميدة :
لو سألت شريحة من غير المسلمين قوامها مائة رجل مثلاً عن أهدافهم في الحياة لوجدت اختلافاً كبيراً في إجاباتهم ، فهذا هدفه المال ، وهذا هدفه المنصب ، وهذا هدفه المكانة الاجتماعية ، وهذا هدفه الشهرة ، وهذا الاختراع والاكتشاف ، وهذا هدفه التأثير في الناس وغير ذلك .
أما المسلم الحق فمهما جمعت له من شرائح ، ومهما تعددت اجتهاداتهم ، فإن الهدف الأساس واضح عند كل مسلم وضوح الشمس وهو رضا الله تعالى وإحراز ثوابه ..
6- علو الهمة :
علو الهمة من أكبر سمات الجادين ، فإن صاحب الهمة العالية لا يرضى بالكيل ، ولا يركن إلى الراحة والفتور ، ولا تستهويه سفاسف الأمور وتوافه القضايا ، وإنما تقوده همته إلى معالي الأمور وعظائم القضايا ، فتراه يريد بلوغ الكمال في باب العلم ، وبلوغ الكمال في باب العبادة ..
7- صحبة الجادين :
من أهم عوامل تثبيت المسلم على سمة الجدية : صحبة الجادين ؛ لأن الإنسان يتأثر بمخالطة ، والصاحب ساحب ، فإذا صحب المسلم أهل اللغو واللعب والبطالة وتضييع الأوقات تأثر بأحوالهم وربما صار واحداً منهم مع مرور الوقت .
8- مواجهة المشكلات :
إن صاحب الجدية لا يهرب من مشكلاته ولا يتركه دون حلول ، ولا يجعلها حجر عثرة في طريقه ، وإنما يواجه مشكلاته بحكمة وتؤدة ، ويجعل من مشكلاته وأزماته نقاط انطلاق جديدة ، يكتشف من خلالها ما وهبه الله تعالى من قدرة على التفكير وإيجاد الحلول لكل ما يعتريه من محن وابتلاءات . وصاحب الجدية يختار الوقت المناسب لمعالجة مشكلاته ، وهي أوقات الراحة والتأمل وفراغ الذهن .
9- الشمولية :
إن المسلم الجاد هو الذي يأخذ الدين كله كما جاء من عند الله تعالى. قال تعالى:?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ? [البقرة:208].
وليس من الجدية أن يفعل الإنسان ما سهل عليه ويترك ما يراه صعباً من الفرائض والواجبات ، فالدين كله يسر وقد رفع الله عن عباده الحرج ..
10- ترك التسويف :
إن صاحب الجدية لا يعرف التسويف ولا يعتمد على الأماني الكاذبة ، وإنما يبادر إلى الطاعات وإشغال الوقت بالعبادات ، والانتظام في سلم المؤمنين الصادقين . فيتوب كل يوم وكل ساعة وبعد العمل وقلبه .. ؛ همة ونشاطاً وإقبالاً على الله تعالى بلا تردد ولا تسويف .
11- إدامة النظر في السيرة النبوية وسير الصحابة :
من أعظم الأمور التي تدفع إلى الجدية النظر في سير أهل الجد والاجتهاد من الأنبياء والصحابة رضوان الله عليهم، قال تعالى: ?لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ? [يوسف:111]
وتعد سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أعظم معين للجدية ، فقد واجه النبي صلى الله عليه وسلم الكفر بمفرده ، وتحمل في سبيل نشر الإسلام كل صنوف الأذى والاضطهاد ، فلم تلن له قناة ، ولم تفتر له عزيمة ، وإنما أعلنها صريحة قوية في وجوه أهل الكفر جميعاً (( والله لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه )) . إنها جدية صاحب الدعوة الذي آمن بدعوته ونذر لها نفسه ووقته وجهده وجاهه وكل شيء من أمره .
12- البعد عن الترف :
الترف من سمات أهل البطالة والكسل ؛ لأنه مورث الخمول والدعة . وأجمع كل عاقل على أنه لا يدرك نعيم بنعيم ، والمكارم لا يتوصل إليها إلا بالمكاره . فمنافاة الترف ، وهجر فضول التنعم من مقومات الهمة العالية "
1. قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب وهو ما زال في مكة ضعيفا: "والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه"، وهذا أعلى معدل للجدية نراه في قول وفعل الرسول صلى الله عليه وسلم.
2. قال الله تعالى لسيدنا يحيى بن زكريا: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّة} (أي: بجدية واجتهاد، وقال الله عنه: {وَآتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِيَّا}، أي أن يحيى وقتها كان صبيا.
3. أما سيدنا إبراهيم حين كسر الأصنام وعلق فأسه على كتف صنم كبير لهم وحاور أهله الكفار، كم كان عمره؟ كان فتى قال الله عنه في كتابه العزيز: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمْ}.
وما دام أن سيدنا يحيى كان صبيا وسيدنا إبراهيم كان فتى، وأصحاب الكهف كانوا فتية فمعنى هذا أن الجدية تحتاج أن تبدأ من السن المبكر.
4. انظروا كذلك إلى بني إسرائيل حين لم يكن لديهم جدية قال الله على لسانهم في القرآن: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}، فبِمَ عاقبهم الله على ذلك؟: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ}، لماذا 40 سنة؟ لأنها فترة كافية لتغيير الجيل التافه الذي لا يستطيع ولا يريد قتالا.
5. يوم أحد ينادي الرسول في الصحابة: "من يدفعهم عني وله الجنة؟" فتقدمت مجموعة من الشباب بين 19 - 20 سنة تقاتل فتقتل، وكان آخرهم يزيد بن السكن استبسل استبسالا يعجز عنه الكثير ظلوا يضربونه حتى هلك وسقط وجهه إلى التراب... فجاء النبي صلى الله عليه وسلم طالبا أن يرفعوا وجهه عن التراب ووضع صلى الله عليه وسلم رأس "يزيد" على فخذه ويمسح التراب عن وجهه الطاهر ويقول: "اللهم إني أشهدك أنه وفَّى وإني راضٍ عنه".
6. سيدنا أنس بن النضر تخلف عن يوم بدر فقال: والله لئن أشهدني الله معركة أخرى ليريَنَّ الله ما أصنع.. فلما جاءت أحد وكان الجميع يتقهقرون في اتجاه ويسير أنس في اتجاه معاكس فاستوقفه سعد بن معاذ قائلا: إلى أين يا أنس؟ فرد قائلا: إنه وعد الأمس، واستشهد سيدنا أنس ونزلت فيه الآية: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ}.
7. ذهب سيدنا أبو أيوب الأنصاري ليفتح القسطنطينية مع المسلمين وله من العمر 80 سنة وكلما حاولوا أن يثنوه قال: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً}... أرأيتم الجدية.
8. محمد الفاتح تمكن من فتح القسطنطينية وهي مدينة ظلت مستعصية على الفتح وله من العمر 23 عاما.
9. التزمت مرجريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا في أثناء حرب بلادها مع الأرجنتين بارتداء ألوان ملابس داكنة... هل هذا مهم في الحرب؟ نعم.. لكي يشعر شعبها أنها جادة في هذه المعركة ولا تهتم بما كانت تهتم به من قبل.
فهل لدينا مثل هذه الجدية؛ جدية الرسول عليه الصلاة والسلام، وجدية الصحابة، وجدية الفاتحين وحتى المسئولة الإنجليزية؟!.