الثلاثاء، 01 محرم، 1432//هجري07/12/2010//ميلادي الأسرة والبيت المسلم يساوي الأمة القوية: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}الانبياء:92) {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}المؤمنون:52 الأمة تتألف من الأسرة, و الأسرة تتألف من الأفراد,فإذا كانت الأسرةُ قويةً كانت الأمة قوية,وإذا كانت الأسرةُ ضعيفة كانت الأمة ضعيفة, إذا صلح البيت صلح المجتمع وقويت الأمة, لو طُلب من أحدِنا أن يتمنّى في الدنيا، لكان مأمولُه وعظيم مطلوبه أن يعيش في كنف السعادة، وتغمرَ حقيقتُها أرجاءَ البيت.هذه السعادة في البيت المسلم لا تتحقق بتوفُّر المسكن الفاخر والأثاث الفاخر والملابس الفاخرة فقط، هذا فهمٌ خاطئ للسعادة. بل السعادة تتوفَّر بتحقيق تقوى الله عند كلٍّ من الزوجين، ومراقبتِه في السر وفي العلن وفي الغيب والشهادة، تتحقق السعادة بأن ينظر كلُّ من الزوجين إلى الزواج على أنه عبادة يتقرب كلٌّ منهما إلى الله بحسب أداء واجباته الزوجية بإخلاص وإتقان. في ظلِّ هذه المعاني يقوم البيت المسلم السعيد عامراً بالصلاة والقرآن، تظلِّله المحبة والوئام، وتنشأ الذرية الصالحة فتكون قرَّةَ عين للوالدين ومصدرَ خير لهما في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوٰةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} النحل:97. البيت نعمةٌ لا يعرف قيمتَه وفضله إلا من فقده، فعاش في ملجأ مُوحش، أو ظلماتِ سجن، أو تائهٍ في شارعٍ أو فلاةٍ، قال تعالى: وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا [النحل:80]، قال ابن كثير رحمه الله: "يذكر تبارك وتعالى تمام نعمته على عبده بما جعل لهم من البيوت التي هي سكن لهم يأوون إليها، ويستترون فيها، وينتفعون بها سائرَ وجوهِ الانتفاع". نبدأ : بتأسيس هذا البيت المسلم ، حيث يتأسس بالزواج ، والزواج كما هو معروفٌ فطرةٌ فطر الله الإنسان عليها ، خَلَقَ الله تعالى في نفسِ الرجل حاجةً إلى الزوجة ، وخلق في نفس المرأة حاجةً إلى الزوج ، فالرجل يرى نفسه ناقصا لا يتم إلا بالمرأة , المرأة ترى نفسها ناقصة لا تتم إلا بالرجل , فالزواج فطرةٌ فطر الله الناس عليها ، النبي عليه الصلاة والسلام يقول : ((إن الله أبدلنا بالرهبانية الحنفية السمحة)) .( من مجمع الزوائد : عن " عثمان بن مظعون " ) هذا الشرع الحنيف ، هذا الشرع المنطبق على الفطرة ، هذا الشرع الذي ينبع من الواقع ، هذا الشرع الذي يألَفه الإنسان ، ولا يرتاح إلا لـه ، الله سبحانه وتعالى يقول متُحَدِّثاً عن هؤلاء الذين ابتدعوا الرهبانية، قال : {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا }الحديد: من الآية27 هم حينما كتبوها على أنفسهم مبتدعين ما رعوها حق رعايتها . وهؤلاء النفر الذين قدموا إلى بيت النبي عليه الصلاة والسلام ، وسألوا عن عبادته ، فاستَقَلّوا عبادتهم إلى عبادته، فقال أحدهم : أنا أصلي الليل كله ، وقال آخر : أنا أصوم الدهر كله ، وقال ثالث : أنا أعتزل النساء . فلما بلغ النبي ذلك جمع أصحابه وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أشدكم لله خشيةً أنا ؛ أنام وأقـوم ، أصوم وأفطر ، أتزوج النساء هذه سنتي فمن رغب عنها فليس من أمتي)) .( من الدر المنثور : عن " السيدة عائشة " ) الزواج فطرةٌ إنسانية ، هكذا فطر الله الناس عليها .و الزواج مصلحةٌ اجتماعية ، فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ}النحل:72) (سورة النحل : من آية " 72 " ) أنت إذا تناولت الطعام والشراب تحفظ بقـاء جسمك ، وإذا تزوَّجت تحفظ بقاء نوعك ، وإذا عمِلت الصالحات تحفظ بقاء ذِكْرِك ، فالإنسان مفطورٌ على حب البقاء جسماً ونوعاً وذِكْراً ، تأكل لتعيش ، لتبقى الحياة مستمرة ، وتتزوج ليبقى النوعُ البشريِ مستمراً ، وتعمل الصالحات ليبقى ذِكْرُك مستمراً .. دقات قـلب المرء قائلةٌ لـه إن الحيـاة دقـائقٌ وثـوان فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها فـالذكر لـلإنسان عمرٌ ثان {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}النساء:1) علماء السُكَّان ـ في علم الجُغرافيا ـ اكتشفوا أن نِسَبَ الذكور إلى النساء أعلى بقليل ، لأن الرجال مُعَرَّضون للقتل في الحروب ، وللحوادث في الأعمال ، بينما نِسَب النساء تكون أقل من ذلك بقليل ، لذلك الله سبحانه وتعالى يقول : { وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً } فجاءت كلمة كثيراً مُضافةً إلى الرجال ، على كلٍ الزواج مصلحةٌ اجتماعية ، حفظاً لبقاء النوع ، والزواج يحافظ على الأنساب ، الإنسان إذا خالف قواعد الصحة في الطعام والشراب يؤذي نفسه فقط ، أما إذا خالف شرع الله في علاقته بالنساء يفسد المجتمع كلَّه ، يَنْحَطُّ المجتمع ، ينحلّ المجتمع ، لذلك الزواج يحفظ الأنساب. والزواج يؤكد الذات ، والزواج يهيِّئ الاستقرار النفسي لكلا الزوجين ، ويحقق الكرامة الإنسانية . هذا من فوائده المعنوية . والزواج الذي جاء به الإسلام يُطَهِّر المجتمع من أكبر آفةٍ تعاني منها المجتمعات اليوم ؛ ألا وهي الانحلال الخلقي ، الإباحية ، اختلاط الأنساب ، انحطاط الإنسان ، قذارة الإنسان، إن الزواج قناةٌ نظيفة تُفَرَّغ فيها تلك الشهوة التي أودعها الله في الإنسان، إن الزواج هو الطريق الصحيح لإرواء هذه الرغبة ، إن الزواج قوةٌ محرِّكة فإذا ابتعدنا عن النكاح ، واتجه المجتمع إلى السفاح ، كان السفاح قوةً مدمرة ، بعد أن شرعه الله عزَّ وجل ليكون قوةً محرِّكة . يقول عليه الصلاة والسلام مؤكداً هذا المعنى (( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء))أي وقاية . متفق عليه( من الدر المنثور : عن " ابن مسعود " ) والزواج أيضاً يُطَهِّر المجتمع من الأمراض الوبيلة التي نسمع عنها في الأخبار ، والتي نقرؤها في الصُحُف ، هذا المرض الخطير الذي دمَّر الحياة الإنسانية ، والذي يزداد الذين يصابون به يوماً بعد يوم بسبب الانحلال الخلقي ،و بسبب ترك الزواج والاتجاه إلى السفاح . والزواج فضلاً عن كل ذلك يهيِّئ للزوج سكناً تَسْكُن نفسه إليها ، وتسكن نفسها إليه ، قال تعالى : {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}الروم:21) هذه لام التعليل ، هكذا فُطِرَ الإنسان . والزواج ضمانٌ لسلامة الصغار الذين هم رجال الغَد ، هؤلاء الأطفال الصغار الذين هم مَعْقِدُ أمل الأمة، هؤلاء الأطفال الصغار مَن يربيهم ؟ لن ينجح في تربيتهم إلا الأم والأب ، ولا شيء يعوِّض عن الأم والأب، ، ولِحُسن تربيتهم ، وحسن توجيههم , يقول بعض الشعراء : الأم مدرسـةٌ إذا أعدتها أعددت شعباً طَيِّبَ الأعراقِ والله سبحانه وتعالى أودع في قلوب الرجال عاطفة الأبوة ، وأودع في قلوب النساء عاطفة الأمومة ، وهاتان العاطفتان من أقدس العواطف في النَوْعِ البَشَري ، بل من أشدها تأثيراً ، هناك دوافع كثيرة؛ دافع الأمومة ، دافع الطعام والشراب ، ودافع الجنس ، ودافع الأمومة ، كان دافع الأمومة أقوى هذه الدوافع ، عن طريق الزواج تتفجَّر هذه الدوافع ، تتفجر هذه العواطف المُقدسة ، لا يحس الإنسان بهذه العاطفة المُقدسة إلا إذا تزوج ، وعرف معنى الأبوة ، وعرفت الأم معنى الأمومة ، تُصبح امرأة أخرى ، ويُصبح الشاب بعد الزواج إنساناً آخر ، انتقل من ذاتيَّته إلى الغَيْرِيَّة ، كان مهتماً بنفسه فأصبح مهتماً بأولاده، كانت مهتمةً بزينتها فأصبحت مهتمةً ببناتها . يؤكد هذا المعنى النبي عليه الصلاة والسلام حيث يقول : ((ما استفاد المؤمن من فائدة بعد تقوى الله خيرا له من زوجة صالحة إن أمرها أطاعته وإن نظر إليها سرته وإن أقسم عليها أبرته وإن غاب عنها نصحته فى نفسها وماله )) (رواه ابن ماجه ، والطبرانى ، وابن عساكر عن أبى أمامة) وأخرجه ابن ماجه ، وهو ضعيف . والطبرانى (8/222 ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله عزَّ وجل خيراً من زوجةٍ صالحة)) . ما معنى صالحة ؟ قال : ((إن أمرها أطاعته...)) ( من الدر المنثور : عن " ابن عمرو " ) ...((وإن نظر إليها سرَّته ، وإن أقسم عليها أبرَّته ، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله)) .( من الجامع لأحكام القرآن : عن " أبي أمامة " ) هذه المرأة الصالحة ، ((والدنيا كلها متاع ...)) ،ة كما قال عليه الصلاة والسلام : ((وخير متاعها المرأة الصالحة)) . هذا الزواج الذي هو فطرة فطر الله تعالى الخلق عليها قال الله تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}الذريات:49) {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}الرعد:3 من هذا الزواج يتألف البيت المسلم الذي هوأمانةٌ يحمِلها الزوجان، وهما أساسُ بنيانِهِ ودِعامةُ أركانِهِ ، وبـهما يُحدِّدُ البيتُ مسارَه، فإذا استقاما على منهج الله قولاً وعملاً وتزيَّنا بتقوى الله ظاهراً وباطناً وتجمَّلا بِحُسنِ الخُلُقِ والسيرةِ الطيبةِ غدا البيتُ مأوى النورِ وإشعاعَ الفضيلةِ، وسَطع في دنيا الناسِ، ليصبحَ منطلَق بناءِ جيلٍ صالحٍ وصناعةِ مجتمعٍ كريمٍ وأمَّةٍ عظيمةٍ وحضارةٍ راقيةٍ. أيها الزوجان، بيتُكما قلعةٌ من قلاعِ هذا الدين، وكلٌّ منكما يقِفُ على ثغرة حتى لا يبرزَ إليها الأعداءُ. كلاكما حارسٌ للقلعة، صاحبُ القوامةِ في هذا البيتِ هو الزوجُ، وطاعتُهُ واجبةً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته))، وقال عليه الصلاة والسلام: ((والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها)) أخرجه البخاري. إن البيت النبوي ومن فيه من أمهات المؤمنين هو أسوة البيوت كلها على ظهر الأرض، فهو بيت نبويٌّ ترفّع على الرفاهية والترَف، وداوم الذكرَ والتلاوة، ورسم لحياتِهِ معالمَ واضحةً، وضرَب لنفسِهِ أروعَ الأمثلةِ في حياةِ الزهدِ والقناعةِ والرضا. خيَّرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءَهُ دُونَ إكراهٍ بعدما أعدّهنَّ إعداداً يُؤهِّلُهنَّ لحياةِ الـمُثُلِ العليا والميادينِ الخالدةِ. نزلت آية التخيير تُخيِّر زوجاتِ النبي صلى الله عليه وسلم بين الحياة الدنيا وزينتِها وبين الله ورسوله والدار الآخرة: {يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل لأَزْوٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنَّ وَأُسَرّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَـٰتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً [الأحزاب:28، 29]، قالت عائشة وكل زوجاته رضي الله عنهن كلهن: نختار الله ورسوله والدار الآخرة. أخرجه البخاري في التفسير (4786)، ومسلم في الطلاق (1475) من حديث عائشة رضي الله عنها. إن البيت المسلم الذي أقامه الرعيلُ الأولُ جَعَلَ مَنهجَهُ الإسلامَ قولاً وعملاً، صَبَغَ حياتَهُ بنورِ الإيمانِ، ونَـهَلَ من أخلاقِ القرآن الكريم ومن هدي النبي الأمين عليه الصلاة والسلام ، فَتَخَرَجَ من أكنافِهِ نماذجُ إسلاميةٍ فريدةٍ، كَتَبَتْ أروعَ صفحاتِ التاريخ وأشدَّها سطوعاً. خرّج البيت المسلم آنذاك للحياة الأبطالَ الشجعان، والعلماءَ الأفذاذ، والعبَّادَ الزهاد، والقادة المخلصين، والأولاد البررة، والنساءَ العابدات. هكذا هي البيوت المسلمة لما بُنِيت على أساس الإيمان والهداية، واستنارت بنور القرآن. إن البيت المسلم التقيّ النقي حصانةٌ للفطرة من الانحراف، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه)) أخرجه البخاري في الجنائز (1358) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو أيضا عند مسلم في القدر (2658). وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم وترك تعليمهم فرائضَ الدين وسننه، فأضاعوهم صغاراً، فلم ينتفعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءهم كباراً". ما أجمل أن يجمع سيدُ البيت أولادَه فيقرأُ عليهم من القرآن الكريم، ويسرُدُ عليهم من قصص الأنبياء والمرسلين عليهم صلوات الله أجمعين، ويغرسُ في سلوكِهِمُ الآدابَ العليةَ والأخلاقَ الفاضلة. من أولى أولويات البيت المسلم وأسمى رسالة يقدمها للمجتمع تربية الأولاد، وتكوين جيل صالح قوي. ولا قيمة للتربية ولا أثر للنصيحة إلا بتحقيق القدوة الحسنة في الوالدين؛ القدوة في العبادة والأخلاق، القدوة في الأقوال والأعمال، القدوة في المخبر والمظهر، قال تعالى:{ وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوٰجِنَا وَذُرّيَّـٰتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَٱجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً}الفرقان:74، وتدبَّر دعوةَ إبراهيم عليه السلام:{ رَبّ ٱجْعَلْنِى مُقِيمَ ٱلصَّلوٰةِ وَمِن ذُرّيَتِى رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء}إبراهيم:40، وقال تعالى:{ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِٱلصَّلوٰةِ وَٱصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَٱلْعَـٰقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ}طه:132. في غياب البيت المسلم الهادئ الهانئ ينمو الانحراف، وتفشو الجريمة، وترتفع نسبة المخدرات، بل ونسمع بارتفاع في نسبة الانتحار. إن البيت الذي لا يغرس الإيمان ولا يستقيم على نهج القرآن ولا يعيش في ألفةٍ ووئام ينجب عناصرَ تعيش التمزُّقَ النفسي، والضياعَ الفكري، والفسادَ الأخلاق، هذا العقوق الذي نجده من بعض الأولاد والعلاقات الخاسرة بين الشباب والتخلي عن المسؤولية والإعراض عن الله والتمرُّد على القيم والمبادئ الذي يعصِف بفريق من أبناء أمتنا اليوم، ذلك نتيجة حتمية لبيت غفل عن التزكية، وأهمل التربية، وفقد القدوة، وتشتَّت شمله. البيت الذي يجعل شرائع الإسلام عِضين، يأخذ ما يشتهي، ويذر ما لا يريد، إلى شرقٍ أو غرب، يُنشئ نماذجَ بشرية هزيلة، ونفوسا مهزوزة، لن تفلح في النهوض بالأمة إلى مواقع عزها وسُؤددها. البيت المسلم من سماته الأصيلة أنه يردُّ أمرَه إلى الله ورسوله عند كل خلاف، وفي أي أمرٍ مهما كان صغيراً، وكل من فيه يرضى ويسلِّم بحكم الله،قال الله تعالى:{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـٰلاً مُّبِيناً} الأحزاب:36. حياةُ البيتِ المسلمِ وسعادتُهُ وأنسُهُ ولذتُهُ في ذكر الله، فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((مثل البيت الذي يُذكر الله فيه والذي لا يذكر الله فيه مثلُ الحي والميت)) أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (779)، وهو عند البخاري في الدعوات (6407) بنحوه. ، و قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً)) أخرجه البخاري في الصلاة (432)، ومسلم في صلاة المسافرين (777) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة)) أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (780) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.، وقال صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بالصلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)) أخرجه البخاري في الأدب (6113)، ومسلم في صلاة المسافرين (781) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه.
هذه الأحاديث وغيرُها تدلّ على مشروعية إحياء بيوت المسلمين، وتنويرِها بذكر الله من التهليل والتسبيح والتكبير. إحياؤها بالإكثار من صلاة النافلة، وإذا خلت البيوت من الصلاة والذكر صارت قبورا موحشة وأطلالا خربة ولو كانت قصوراً مشيدة. بدون ذكر الله والقرآن تغدو البيوت خاملة ومرتعا للشياطين، سُكَّانها موتى القلوب وإن كانوا أحياءَ الأجساد.
من سمات البيت المسلم تعاون أفراده على الطاعة والعبادة، فضعْفُ إيمان الزوج تقوِّيه الزوجة، واعوجاج سلوك الزوجة يقوِّمه الزوج، تكاملٌ وتعاضُد، ونصيحة وتناصر، قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله يصلي من الليل، فإذا أوتر قال صلى الله عليه وسلم: ((قومي فأوتري يا عائشة)) أخرجه البخاري في الصلاة (512)، ومسلم في صلاة المسافرين (744).
وقال صلى الله عليه وسلم : ((رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى، وأيقظ امرأتَه فصلت، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأةً قامت من الليل فصلت، وأيقظت زوجها فصلى، فإن أبى نضحت في وجهه الماء)) أخرجه أحمد (2/250) واللفظ له، وأبو داود ، والنسائي وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة ، وابن حبان وهو في صحيح أبي داود (1287). يدلُّ الحديثان على أن لكلٍّ من الرجل والمرأة دوراً في إصلاح صاحبه، وحثِّه على طاعة الله، ذلك لأن العلاقة بينهما في الأصل علاقةٌ إيمانية، تتشابك فيها الأيدي سعياً لطاعة الله تعالى، فإذا كلّت يدٌ ساعدتها الأخرى. يُؤسَّسُ البيتُ المسلمُ على عِلمٍ وعملٍ، علمٍ يدُلُهُ على الصراط المستقيم، ويُبصِّره بسبل الجحيم، علمٍ بآدابِ الطهارة وأحكامِ الصلاةِ وآدابِ الاستئذانِ والحلالِ والحرامِ، لا يجهلُ أهلُ البيتِ أحكامَ الدين، فهم ينهلون من علم الشريعة في حلقةِ علم بينَ الفينةِ والأخرى. من سمات البيت المسلم الحياء، وبه يُحصِّن البيت كيانَه من سهام الفتك ووسائل الشر التي تدع الديار بلاقع، لا يليق ببيت أسِّس على التقوى أن يُهتَك ستره، ويُنقض حياؤه، ويلوَّث هواؤه بما يخدش الحياءَ من أفلام خليعة وأغانٍ ماجنة، أو نبذٍ للحجاب وتشبه بأعداء الدين، كل ذلك ينخر كالسوس في كيان البيت المسلم، وبؤراً تفتح مغالق الشر وتدع العامر خرابا. من سمات البيت المسلم أن أسراره محفوظة، وخلافاته مستورة، لا تُفشى ولا تستقصى، قال صلى الله عليه وسلم: ((إن من شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثم ينشر سرّها)) أخرجه مسلم في النكاح (1437) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. البيت المسلم يقيم علاقاتِه مع المجتمع على أساس الإيمان، إنه يزداد نوراً بزيارة أهل الصلاح، فالمؤمن كحامل المسك؛ إما أن يعطيَك، وإما أن تشتريَ منه، وإما أن تجدَ منه ريحا طيبة،{ رَّبّ ٱغْفِرْ لِى وَلِوٰلِدَىَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ وَلاَ تَزِدِ ٱلظَّـٰلِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً} نوح:28. لا يدخل البيتَ المسلم من لا يُرضَى دينُهُ، فدخولُ المفسدِ فسَادٌ، وولوجُ المشبوهِ خطرٌ على فلذاتِ الأكباد، بهؤلاءِ المفسدين والمشبوهين فَسَدَت الأخلاقُ في البيوت، وفشا السحر، وحدثت السرقاتُ، وانقلبت الأفراحُ أتراحا، بل إنـهم معاولُ هدمٍ للبيتِ السعيدِ. البيت المسلم تتعمّق صلاتُه وتزداد رسوخاً بإحياء معاني التعاون في مهمات البيت وأعماله، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوةٌ حسنة، لما سئلت عائشة رضي الله عنها: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل في بيته؟ فأجابت: كان بشراً من البشر؛ يفلي ثوبَه، ويحلب شاتَه، ويخدم نفسَه. أخرجه أحمد أخرجه أحمد (6/256)، والبخاري في الأدب المفرد (541)، والترمذي في الشمائل (343)، وأبو يعلى (4873)، وأبو نعيم في الحلية (8/331)، وصححه ابن حبان (5675)، وقال الذهبي في السير (7/158): "هذا حديث صالح الإسناد"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (671).. وفي رواية: كان يكون في مهنة أهله أي: خدمة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة. أخرجه البخاري. فالولد الصالح امتداد لأبيه إنَّ الإنسانَ إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث : "فعن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ( إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثَةٍ, إِلا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ, أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ, أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ. ))
(من صحيح البخاري)
فالولد الصالح الذي يدعُو لأبيه هذا صدقةٌ جارية ، إذاً حق الأب عظيم أي أن الإنسان إذا ربى ابناً صالحاً ودعا له من بعده فإن كلَّ أعماله الصالحة من بعده تسجَّل في صحيفة الأب ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام : ((أفضلُ كَسبِ الرَجُلِ ولَدُهُ وكلُ بيعٍ مبرورٍ)) أخرجه الطبرانى (22/197 ، رقم 520) . السيوطي الشهير مصنف الأحاديث له أبيات يعدد فيها الصدقات الجارية أخذاً عن السنة النبوية المطهرة يقول :
إذا مات ابن آدم جاء يجري عليه الأجر عـند ثـلاث عشرٍ
علومٌ بثـها ودعـاء نجـلٍ وغرس النخل والصدقات تجري
ووارثة مصحفٍ ورباط ثغرٍ وحفر الـبئر أو إجـراء نـهر