( رحلت إلى دار أبي حذرا محاولا التركيز و الانتباه حتى لا أنزلق فأقع مرة أخرى ، من أين ستأتي نبوية بجلباب آخر ؟ أخذت أتحسس الخطى بأطراف أقدامي ، كلما تقدمت خطوة بقدم ثبتها جيدا بالأرض حتى أتقدم بالأخرى متأنيا ، و إذا بي أمام دار خالتي ( ليلى ) ، آآآآآآه ، ما العمل الآن ؟ لو رأتني لن تتركني أرحل ، دعوت الله ألا تكون جالسة في شرفتها كعادتها ، وقفت مستترا بشجرة ( الجميز ) التي أمام دارها ، ألتمس النظر من وراء الغصون و الأوراق ، لاااااااا، كما توقعت ، ها هي تجلس على أريكتها الخشبية ، ما العمل الآن ؟ هل أذهب إليها ؟ لا لا مستحيل ، سأتأخر عن الذهاب لوالدي ، لن تتركني أرحل مهما اختلقت لها من أعذار ، على الأقل ستتمسك بمصاحبتها في تناول فنجال من القهوة ، لا ، الوقت لا يتسع لها و لحديثها الآن ، الحل الوحيد هو الدوران من خلف دارها ، نعم نعم ، و في المساء سأستأذن أبي و أذهب إليها ، تراجعت حذرا حتى اختفت شرفتها ، أسرعت أدور من خلف الدار ، تسللت بين أعواد الذرة هناك ، فجأة وجدت كلبا يقف في مواجهتي ، ما إن أحس باقترابي حتى اعترض طريقي مزمجرا ، لا حول و لا قوة إلا بالله ، حاولت الثبات و التراجع ببطء أمامه ، وقف الكلب متحفزا ، ليس من الحكمة الهرب الآن ، كلما تراجعت خطوة علا صوت زمجرته و اقترب مني أكثر ، ظهرت أنيابه و بدأ اللعاب يسيل منها ، سال العرق على جبهتي ، قلبي يكاد يقفز هربا من قفصه الصدري ، حاولت التماسك ، أخذت شهيقا عميقا و نفخته بتوتر ، لابد من شراء وده ، أخذت أمصمص بشفتاي ، لا فائدة ، يبدو أنه ليس من النوع الذي يتراجع بالمصمصة ، ما العمل الآن ؟ أصبحت في وضع لا أحسد عليه ، بدأ يتأهب للنباح ، لا ، إلا النباح أرجوك ، زمجر كيفما تشاء ، و لكن إلا النباح ، ستخرج خالتي و تراني على هذه الحالة ، استغفر الله العظيم ، ما العمل الآن ؟ فجأة ، تخلى عن زمجرته و بدأ يهز ذيله و يتراجع ، وجدت كفا تضرب على كتفي ) ـ إيه ؟ مين ؟ ( التفت مذعورا ، فإذا بابن خالتي يضحك ) ـ ههههه ، ما فيش فايدة ؟ لسه قلبك رهيف ؟ ( تنفست الصعداء ) ـ حودة ؟ ( تعانقنا ) ـ إيه ياعم الوحش اللي مربيه ده ؟ مش تقوله إن أنا ابن خالتك ؟ هههههه .... ـ تعالى تعالى ، إنت كنت مزوغ كده و رايح فين ؟ ـ أصلي لسه واصل دلوقتي حالا ، و الصراحة كده يعني خفت لأمك تشوفني و تمسك فيا ، ما أنت عارفها ، قلت أروح أشوف أبويا الأول ، بس و اللي قابلنا من غير ميعاد كنت هأرجع لها بالليل على رواقة .... ـ آآآآآه ، قول كده بقى ، هي دي برضه صفة الرحم يا متعلم يا بتاع المدارس ؟ بقى تغيب السنين دي كلها و آخرة المتمة ما تعديش تسلم عليها ؟ يا أخي دي برضه خالتك و في مقامك أمك الله يرحمها ...... ـ أنت ها تركبني الغلط و إلا إيه ؟ مش باقولك كنت هارجع لها بالليل ؟؟؟؟ ـ طب بس اسكت لتسمعنا ، دي بتسمع دبة النملة ، تعالى تعالى .... ( رجعنا إلى بيت خالتي و إذا به يتوقف خلف الدار و يلتقط بعض الحصى من الأرض و أخذ يقذف بها نافذة الدور العلوي )
ـ ثواني بس لما أطلع الحاجات دي و ألف معاك . ـ أنت بتعمل إيه ؟ ـ هشششششش ، بس ما تفضحناش .... ( نظرت زوجته من النافذة ، ألقت بحبل يتدلى منه حقيبة بلاستيكية ، وضع فيها الأكياس الورقية التي يحملها ، قال لزوجته هامسا ) ـ الحاجات اللي طلبتيها أهي ، على الله بس تيجي بفايدة ، و شوية كده و طالع لك .. ( أخذت زوجته تجذب الحبل لترفع الحقيبة ) ـ يلا بينا . ـ إيه اللي أنا شفته ده بقى إن شاء الله ؟ ـ أصل مراتي حامل يا سيدي ، و قال إيه بتتوحم على التفاح ، فجايب لها تفاحتين أمريكاني كده على ما قسم ، تصدق بإيه ؟ ـ لا إله إلا الله . ـ و اللي خلق الخلق ، قاعد م الصبح أدور عليه و ما لقيته غير في بورسعيد ... ـ طب مش المفروض ، لا مؤاخذة يعني تعدي على أمك الأول ؟ ـ أيوة أيوة ، عشان التفاح يحلى في عينيها ، و ما ينوبش مراتي حاجة منهم ؟ دول يا دوب تفاحتين ، ها يكفوا مين و إلا مين ؟ ـ لأ إزاي ؟ ما يصحش طبعا ، مراتك أولى ، هههه ، هي دي بقى صلة الرحم اللي بتقول عليها ؟ ـ و النبي لا تعايرني و لا أعايرك ، طب ما أنت كمان كنت عاوز تروح لأبوك من غير ما تسلم عليها ؟ ها تسكت أحسن لك و إلا أقول لها ؟؟؟؟ ـ لأ و على إيه ؟ اتكتم أحسن . ـ طب يلا بينا ، و ما تخافش ، ها أقول لها يا سيدي إني قابلتك ع المحطة . ( لفننا حول البيت ، أمسك بيدي يثبتني مكاني و غمز بعينه ) ـ خليك هنا لما أعملها لها مفاجأة .... ( صعد درجات السلم المؤدية إلى الشرفة ) ـ سلام عليكم ، إزيك يا أمه ؟ ـ و عليكم السلام و رحمة الله و بركاته ، إنت كنت فين م الصبح ؟ ـ ها أكون فين يعني ؟ تخيلي بقى جايب لك مين معايا ؟ ـ أكيد محمد ابن خالتك ...... ـ ده أنت ولية ناصحة ، عرفتني منين ؟ ـ إياكش تكون فاكرني قاعدة نايمة على وداني ؟ تعالى يا د يا محمد ادخل . ( عندها جريت أصعد السلم ، فتحت ذراعيها فارتميت بين أحضانها ) ـ كده برضه يا محمد ؟ تغيب المدة دي كلها ؟ و لا كأن ليك أهل ....... ـ معلش يا أمه سامحيني ، و الله ما منعني عنكم إلا الشديد القوي . ـ الشديد القوي ؟ يلا معلش ما كلكم طينة واحدة ، اقعد يا با اقعد .... ( وجهت حديثها لابنها ) ـ اطلع يا وله شوف مراتك عشان تعبانة م الصبح و ابقى طمني عليها . ـ حاضر يا أمه ، محمد ، ثواني و راجع لك ... ـ لأ ، راجع لمين ؟ أنا ها اسلم على خالتي و أمشي على طول .... ( هممت بالوقوف فأمسكت يدي ) ـ تمشي فين ؟ تلاتة بالله العظيم ما تمشي إلا لما اطمن عليك و أعملك لقمة تاكلها . ـ لسه واكل عند نبوية دلوقتي حالا .... ـ خلاص اقعد اشرب معايا القهوة ، و اطلع أنت يا وله اطمن على مراتك . ـ حاضر ( جلست بجوارها ، مدت يدها إلى ( السبرتاية ) ترفع غطاءها و تشعلها لتعد القهوة ) ـ أخبارك إيه يا أمه ؟ ـ الحمد لله بخير و نعمة و الحمد لله ، ناولني القهوة و السكر اللي جنبك . ـ خدي ، الواد ده عامل إيه معاك ؟ ( تنهدت تنهيدة طويلة ) ـ عاوزني أقولك إيه يا محمد ؟ ما هو أنتم جيل ما يعلم بيه إلا ربنا ، فاكر إني ها أقولك إني شايفاك و أنت بتلف تهرب من ورا الدار عشان ما تسلمش عليا ؟ و إلا يعني ها أقولك إني شايفاك و أنت واقف مبلول قدام الكلب في الدرة ؟ و إلا أقول لك إنه نادى لمراته عشان تحدف له ( السبت ) يحط فيه الأكل ؟ و إلا أقول لك إنه بيجي آخر الليل و بيسحب زي الحرامية على فوق عشان ما اصحاش و اشوف اللي جايبه لمراته ؟ طب إيه رأيك مش ها أقول لك ، إنتم فاكرين إننا مختومين على قفانا ؟ و إلا مش عارفين أنتم بتعملوا إيه ؟ و هو احنا عاوزين إيه يعني ؟ بس هي الواحدة مننا يهمها إيه غير إن ولادها يبقوا متهنيين و آخر انبساط ؟ طب تصدق بإيه ؟ ـ لا إله إلا الله . ـ و اللي خلقك ما ها تحسوا بينا إلا لما تخلفوا و يبقى لكم عيال و تشوف ابنك كده بيتنطط قدام عينيك ، و تبقى ها تتشحطط عليه و عاوز تشيله من ع الأرض شيل و نفسك تحطه في قلبك عشان خايف عليه ، و تبقى لو طايل تجيب له الدنيا دي بحالها و تحطها تحت رجليه ، بس المهم يبقى مبسوط و راضي ....... ( ترقرقت الدموع في عينيها و حاولت التماسك حتى نجحت فأكملت ) إوعى تفتكر إني زعلانة منك و إلا منه ، لأ و الله العظيم ، و لا على بالي خالص ، قوم يا با قوم عشان تروح لأبوك ، زمانه يا حبة قلبي مستنيك على نار ، بس لو قدرت ابقى عدي عليا في أي وقت هتلاقيني مستنياك ..... ( ذابت الكلمات فوق لساني ، ترقرقت صورتها بعيني ، تناثرت الحروف بين شفتاي ، حاولت لملمتها فلم استطع ، دارت الدنيا من حولي ، انحنيت على يدها أقبلها ، بللت دموعي كفيها ، حاولت التماسك ، و رحلت في طريقي إلى بيت أبي يغلفني الصمت ......... )