كان ضابط في الجيش الأسدي قد ترجل من سيارته وجرى نحو القتيلين على الأرض، تأكد جيدا أنهما قد فارقا الحياة، أطلق تنهيدة فيها نبرة السخرية ثم نادى بصوت أجش: أنت يا هذا، تعالى هنا، انقل هاتين الجثتين إلى السيارة.
انحنى الرجل بخوف، ترتعد يداه نظر إلى الوجهين عله يعرف أحدهما، لفت نظره وجه حذيفة وقد امتلأ نورا وضياء، وعجب لابتسامة رائعة على وجهه، وإصبعه الذي يوحد خالقه، قال بصوت خفيض: ما شاء الله، ياللفتى الشهيد. لعله يتنسم ريح الجنة الآن.
صرخ فيه الضابط بغضب: ماذا تقول؟
ارتبك الرجل وهو يبحث عن كلمات يفلت بها من الموقف: ظننته من رجالكم.
انقل الجثتين بسرعة ولا تنبس ببنت شفة.
حمل الرجل الجسد الأول للسيارة ثم عاد ليحمل حذيفة، وقد شغلته هذه الابتسامة والملامح التي بدت له غير شامية، ترى من هذا الفتى؟ ومن أين جاء؟
بعد أن انتهت مهمته، لكزه الضابط بكوعه ثم تركه إلى سيارته وانطلق بها، لكن الرجل أخذ يتلفت حوله في المكان ربما يستدل منه على هذا الفتى، من بعيد لمح مجموعة من الشباب يجرون إليه، هل أخذوهما؟
أجاب الرجل نعم، هل تعرفونهما؟
أجاب أحد الشباب وعيناه دامعتان: إنهما حذيفة عبد الباسط، شاب مصري ،والآخر أبو أحمد الليبي من إخواننا المجاهدين.
***
رحمة الله عليهما وعلى كل أمواتنا وجرحانا فى إدلب والحولة وحمص وسوريا كلها.
وصل إلى بيته بعد أن تعدت الساعة الثالثة صباحا بقليل، لم يكن من عادته السهر خارج البيت في يوم العطلة الأسبوعية مع أصدقائه إلى هذا الحد، لا بد أن والديه قد ناما منذ مدة، يعرف أنهما عادة يذهبان للنوم مبكرا بعد العشاء ليستيقظا لصلاة الفجر، يعرف أن صوت فتح باب المنزل مزعج، فكر في أنه يمكنه المبيت داخل سيارته كي لا يزعجهما أو يقطع نومهما.
أطفأ أنوار السيارة، لكنه لم يوقف المحرك فالجو بارد كعادة أيرلندا في أشهر الشتاء، وهو بحاجة لجهاز تدفئة السيارة.
عدل وضع مقعد السيارة للخلف وانزلق فيه، أتاح له هذا الوضع تأمل السماء، صاحبه القمر هذه الليلة، كانت السماء صافية والقمر باهي الضياء على غير العادة، أغمض عينيه محاولا النوم، حاول لدقائق لكنه لم يستطع، أخذ يتأمل القمر مليا وانتهزها فرصة للتفكير في الموضوع الذي يؤرقه منذ عدة أسابيع.
تأمل حياته هنا في أيرلندا، حياة سهلة لينة ميسورة، خالية من الهموم والمشكلات، لديه أسرته، والداه، أخته بكلية الطب وأخوه بالثانوي وأخوه الصغير لم يتعد بعد 4 سنوات، تأمل حياتهم جميعا.
كان دائما يشعر بالتقصير في حق ربه، في حق والديه، كان يقبل يد أمه كل يوم عندما يقلها إلى أي مكان تريده بالسيارة قبل أن يذهب للجامعة، كان يجلس إلى والده وينصت إليه، يفيد من علمه بالدين وخبرتة بالحياة، يسامر إخوته ويلاعبهم برفق، حبه لإخوته لم يقل أبدا عن حبه لأصدقائه في الجامعة وشباب المركز الإسلامي بمدينة دبلن، كثيرا ما كان يشارك هناك بإلقاء محاضرة أو إدارة أنشطة في المعسكرات الرياضية التي يقيمها المركز الإسلامي لأبناء الجالية المسلمة من حين لآخر، كل هذا وكان لا يزال يشعر بتقصيره في حق الله.
كان يفكر طويلا في قدراته وما الذي يمكن أن يحققه من تطلعات وكيفية تنظيم الوقت المتاح له لتحقيق ذلك. قرر أن يستزيد من العلم والمعرفة، كان يقضي الساعات في الاستذكار في مجال دراسته الهندسية وفي مجال الدين وعلوم أخرى.
وجد بعض غايته في مشروع للنهضة بالشباب قرر أن يبدأه، فكرة راودته طويلا من خلاصة قراءته وخبرته في التعليم، لكن الوقت دائما لا يكفي وكأنه كان يشعر بقصر العمر وأن النهاية آتية.
في أيرلندا النهار يقصر كثيرا في الشتاء، ويطول الليل، والفراش الدافئ اللين في الليل يغريه بالبقاء نائما مدة أطول، فكر في أن يجرب النوم على سجادة الغرفة كي لا يستغرقه النوم مدة طويلة، لديه الكثير مما يود عمله، كثير من القراءات تنتظره، هذا هو الحل الأمثل لتقليل ساعات نومه ومط ساعات اليوم التي تنتهي سريعا.
كان يقيم الليل، مصليا مسبحا، ويوقظ والديه للصلاة وإخوته، قرأ القرآن ودرسه جيدا وحفظه، كان يشعر بأن هناك المزيد ليفعله، قرأ السيرة النبوية وتاريخ الصحابة، شغلته أخبار الثورات العربية في تونس ومصر وسوريا واليمن، كان يتألم كثيرا وهو يرى الشعوب المكلومة والضحايا والأبرياء يتساقطون كل يوم.
إطمأن بعض الشيء لحال مصر بعدما بدأت الأمور في الاستقرار بعد انتخاب رئيس جديد وتشكيل حكومة جديدة، لكن سوريا وأحوالها شغلته أكثر، فالحال هناك لا يتحسن، بل يسوء يوما عن يوم، كان له بعض الأصدقاء من سوريا منهم من عاد لبلده، كان يتابع أخبارهم عبر الإنترنت، كانوا يقصون عليه بشاعة ما يحدث هناك، أخبروه أن هناك مجموعات من الشباب تتشكل لتكوين لواء عسكري للدفاع عن بعض مدن سوريا وأنهم سينضمون إليه.
كل هذا كان يشعره بالتقصير أكثر، فإذا كان للإنسان ميتة واحدة، فلماذا لا تكون في سبيل الله؟
لابد أن يفعل شيئا. اشترك في جمع تبرعات لأهل سوريا بالمركز الإسلامي ، كان يتابع الأخبار ويدعو لهم في صلاته، شعر أيضا بأن كل هذا لا يريحه، كان في ضميره يريد أن يفعل أكثر.
عكف على القراءة في مجال الجهاد، شروطه وأهدافه وجزاؤه عند الله، توقف كثيرا عند جزاء الشهداء، وعلم أن الشهيد يرى مقعده من الجنة عند وفاته، ويقر عينا بجزائه في الآخرة لدرجة أن يتمنى أن يعود للدنيا فيقتل عشرات المرات ليذوق طعم الشهادة في سبيل الله مرة أخرى.
قرر الانضمام إلى لواء المجاهدين في سوريا، عبر الانترنت عرف كل ما يجب عليه فعله، ترتيبات السفر إلى تركيا ثم وسيلة مواصلات أخرى إلى الحدود السورية التركية ومن هناك سيجد طريقه لمعسكرات لواء الشباب المجاهد.
أخيرا بدأ يشعر بالراحة، وأن هذا هو الذي يجب عليه فعله، وكأن صوتا بداخله يشجعه ويحدثه بأن هذا ما خلق من أجله.
المهمة الأصعب هي إقناع والديه بهذا الأمر، هو لا يستطيع أن يذهب إلى الجهاد دون إذنهما، لا بد أن يقنعهما بأن ما يريده حقا هو الجهاد في سبيل الله، أن يخرج لنصرة فئة مؤمنة مستضعفة من الناس يعذبون ويقتلون على أيدي حكام ظالمين، فأي جهاد أعظم من ذلك، وليوفقه الله في مسعاه في إقناع والديه.
غفا قليلا مما أعطاه فرصة ليستريح بعد عناء تفكيره، أفاق على جرس منبه ساعة يده تخبره بموعد صلاة الفجر، أوقف محرك السيارة وخرج منها متجها إلى منزله، فتح الباب فوجد والدته أمامه، وكانت قد استيقظت للوضوء، حياها وأخبرها أنه عاد منذ مدة وأنه فضل البقاء في السيارة لكيلا يزعجهما.
ابتسمت له وربتت على كفته قائلة إنه يقسو كثيرا على نفسه بتفكيره هذا.
اتجه للوضوء ثم لحق بوالديه لإقامة صلاة الفجر.
بعدها وجد نفسه يقول لأمه: ادعي لي يا حاجة.
قالت بابتسامة حانية: دائما أدعو لك يا حبيبي.
قال وهو يحاول قراءة عينيها: ادعي لي بالشهادة يا أمي.
اضطربت قليلا قائلة: الله يعطيك طولة العمر يا بني ويرزقك ثوابها.
لا، بل ادعي لي أن أموت شهيدا.
لماذا هذه الدعوة يا بني؟ أنا لا أفهمك هذه الأيام.
***
ظلت فكرة الجهاد والشهادة تراوده طويلا لأسابيع وهو يتابع تجهيزات اللواء العسكري لشباب المدافعين عن سوريا، قرر مفاتحة والديه في الأمر.
رفضا في البداية وقالا له إنهما يحتاجانه ولا يريدانه أن يبتعد عنهما ويخاطر بحياته، وأنه يمكنه المساعدة في جمع التبرعات والمساعدات الإنسانية والدعاء... إلخ.
سكت بضعة أيام وأعاد التفكير مرات ومرات حتى جفاه النوم، وتحت وطأة إلحاحه وإصراره وعزيمته القوية خارت قوى والديه ورضخا على مضض للفكرة.
سافر حذيفة، والتحق بمعسكر الشباب المجاهدين في سوريا، وتعرف على زملائه هناك، قضى وقتا في التدريب على حمل السلاح وبعض مهارات القتال، ثم كانت فرحته عندما قاموا رسميا بالإعلان عن تأسيس( لواء الأمة).
كان المعسكر قرب مدينة إدلب بسوريا وكانت مهمتهم هي الذود عن أهالي القرى المحيطة بإدلب ، وكلما خرجوا في مهمة وعادوا ظافرين كان يشعر ببعض الراحة.
كان زملاؤه في المعسكر يتعجبون من أنه ترك حياة الراحة والرفاهية وجاء إلى ميدان المعركة في سوريا.
كان قلبه يعتصرألما كلما سمع دوي انفجار قريب، كان يصرخ بصيحة "لا إله إلا الله والعزة لله"، كان يدعو ورفاقه أن يزلزل الله أعداءه ويفرق بين قلوبهم.
في عملية إزالة حاجز"بابيلا" قرب إحدى القرى السورية، خرج مع رفاقه ذات يوم في سيارة محملين بالسلاح والذخيرة والمتفجرات، كان يرفع إصبعه كل حين وهو يقول الشهادة بصوت مرتفع فيرددها من حوله وتمتلئ القلوب بالإيمان.
نزلوا من السيارة عند منتصف أحد الطرق الرئيسية القريبة من حاجز الجيش الأسدي، كانت المهمة أن يعترضوا طريق جيش بشار الأسد بالصخور والمتفجرات كي يمنعوهم من الدخول إلى مزيد من القرى السورية وتدمير أكبر عدد منها، بدأ ورفاقه في إطلاق بعض طلقات الرصاص لاستدراج جنود الجيش الأسدي، وبالفعل حضروا بدباباتهم ومروا بالطريق الرئيسي فانفجرت فيهم القنابل التي نجح حذيفة ورفاقه في تركيبها وتوصيل أسلاكها وإخفائها بغطاء من فروع الأشجار، كان للانفجار دوى هائل زلزل قلوب الظالمين، حينها امتلأت السماء بأدخنة كثيفة وبلغت القلوب الحناجر وكانت صيحات حذيفة ورفاقه تخرج من القلب، تهز الجبال : "الله أكبر والعزة لله، الله أكبر والعزة لله، يا الله زلزل قلوبهم وفرقهم".
بعد أن سكنت الأجواء وتأكد لهم الانتصار بقضاء جماعة الجيش الأسدي ،خرجوا من بين الصخور التي كانوا يختبؤن وراءها بأسلحتهم لجمع غنائم المعركة من أسلحة وذخيرة باقية وهم يشكرون الله.
***
لم يكن ينام جيدا بالمعسكر، كانت المهمة التي جعل نفسه لها تحمله على اليقظة والتنبه في أي لحظة.
يتراءى أمامه كل يوم مشاهد الجرحى والقتلى في مدن وقرى سوريا، بكى كثيرا على أطفال مدينة الحولة، تمنى لو كان يعرف وزملاءه نية الجيش الأسدي وشبيحته لضربها لذهبوا إلى هناك وقاتلوا أعداء الله.
أصعب شيء على نفسه كان عندما يهاتف أبويه ويسمع نبرة القلق في صوتيهما، كان يشعر بتقصيره في حقهما بسفره هذا، ولكنه قلبه الذي ارتبط بفكرة الجهاد، وحلم الشهادة الذي بات يحلم به وتملكه منذ مدة خاصة عندما كان يرى الشهداء يسقطون يوما بعد يوم أمام عينيه، فيزداد إصرارا على أن يمضي في مهمته ويدعو الله أن يمن عليه ويجتبيه لهذه المنزلة.
ذات يوم كتب والده إليه عبر الهاتف رسالة يشجعه فيها على ما أقدم عليه، ويوصيه على نفسه وعلى من معه من زملائه، ويدعوه للعودة في إجازة قصيرة ثم يعود، فقد أدى لشهور طويلة دورا رائعا في الجهاد، فقد مضى على سفره حينذاك نحو ثمانية أشهر، وذكر له أن المعركة في سوريا ربما تطول لشهور أخرى فلا بأس ببعض الراحة.
وكان رد حذيفة عليه:
"معك حق فيما قلت. إني رغم ذلك أخشى أن تصب هذه المعركة في المعركة الحاسمة بلا إنذار وأود وأرجو من الله أن يكون لي حظ وفير في الفتح المبين وأبغي أن أكون من الأوئل في هذا الصف راجيا من الله أن يختارني ويجتبيني وأن يدخلني برحمته في عباده الصالحين.
وأما مشروع النهضة الذي كنت أود أن أكون من قادته وصناعه، فإن كان خيرا وقد قدره الله للعالم فهو جار لا محالة، سواء بي أو بغيري، فإما أن أعود سالما غانما لأكمله وأوفيه حقه بعد النصر وإذن فالمكسب مكسبان، وأكون قد اكتسبت من الخبرة والتجربة ما يعينني على تحقيقه؛ وإما فيسخِّر الله غيري ليكمله وأنال الشهادة وإذن فقد نلت بغيتي من كل ذلك السعي أصلا. أتمنى وأرجو منك فقط أن تسامحني على جهلي وزلاتي في معاملتي معك وعلى تقصيري في حسن صحبتي وأن ترضى عني".
***
أراحه كثيرا رد والده على رسالته أنه راض عنه تمام الرضى، وآلمه بعده عنه وأمه وإخوته لكنه أصبح في موقف لا يمكن التراجع عنه، فإما العودة منتصرا بتحرير سوريا، وإما ظافرا بالشهادة.
لم يكن يعرف حذيفة أن هذه هي آخر رسالة منه لوالده وأن الوقت قد حان.
في أحد الأيام خرج في مهمة لإزالة أحد الحواجز الأمنية التي يقيمها عادة جنود الجيش الأسدي، على باب قرية قرب مدينة إدلب، حاولوا إلقاء بعض القذائف على الحاجز الأمني ووقعت معركة بينهم وبين جند بشار الأسد، أصيب أحد رفاقه،أحمد الليبي، سقط على الفور فاقدا الوعي، جثا حذيفة على ركبتيه جواره، وهو يهزه وينادي عليه أن يفيق في حين استمر الرفاق في رمي القذائف على جنود الأسد، الذين رأوهم وعرفوا مكانهم وبدأ يتجهون ناحيتهم، وكانت الأوامر هي الانسحاب بسرعة في حالة الانكشاف، فرجع الرفاق وهم يرجون حذيفة أن يسرع وراءهم لكنه رفض كيف يترك رفيقه أبو أحمد، لقد ظلا معا شهورا في المعسكر يقتسمون اللقمة ويتشاركون الخيمة.
انهض يا أبا أحمد، ستكون بخير.. لم يرد أبو أحمد وتأكد حذيفة من النبض الذي توقف أنه فارق الحياة، اشتد غضبه وهو لم يغضب من قبل إلا لله، وأخذ يلقي بقنابل يدوية على جنود الشيطان وهو يصرخ: الله أكبر، لا إله إلا الله، لعله يستطيع أن يسحب جثة زميله أبي أحمد معه، لن يتركه أبدا، حتى لو قضى جواره، لكن أيدي الظالمين طالته بعد أن نفدت ذخيرته فلقي ربه.
حذيفة عبد الباسط الفارس الشهيد
p`dtm uf] hgfhs' hgthvs hgaid] çgèçQ~ çgôidï çgçRQ p`dtm Xèï