ثالثاً القطائع:
"العاصمة الثالثة لمصر الإسلامية":
ارتبطت الدولة الطولونية بإنشاء العاصمة الثالثة لمصر الإسلامية ، وهي مدينة القطائع التي أنشأها أحمد بن طولون إلي الشمال الشرقي من العسكر سنة "256هـ" ، بدأ أحمد بن طولون في إنشاء مدينة جديدة يتخذها عاصمة لدولته ومقراً لجنده خاصة وأن العسكر أصبحت مزدحمة ولا تتحمل سكان جدد ، واختار موقع مدينته الجديدة إلي الشمال من الفسطاط والعسكر في منطقة كانت تشغلها المقابر فأمر بحرثها وتسويتها وبني عليها القطائع ، وبلغت مساحتها ميل مربع واحد ، وكانت تمتد من قبة الهواء التي بنيت علي أنقاضها فيما بعد قلعة الجبل ، وحتى الجامع الطولوني بحي السيدة زينب الحالي ، ومن الرملية أسفل القلعة وحتى مسجد زين العابدين الحالي.
واتخذت القطائع اسمها نسبة إلي تقسيمها إلي قطائع كانت كل قطيعة منها مخصصة لسكن فئة معينة من الجند ، كما خصص بعضها لأرباب الحرف والصناعات فعرفت قطيعة للبزازين "صناع الحرير" والجزارين وغيرهما ، وكانت هناك قطيعة لأهل النوبة وأخري للروم وغيرهما ، وكانت القطائع تضم معالم كثيرة اندثرت ولم يبق منها إلا الجامع فقد بني ابن طولون قصره وميدانه في وسط القطائع ، وكانت تحف بالقصر والميدان قصور الأمراء والغلمان ، وضم القصر عدة أبواب لكل منها اسم يميزه ، كباب الخاص لدخول الخصوص ، وباب الميدان لدخول الجند ، وباب الصلاة وكان يؤدي من القصر إلي الجامع ، وباب الحريم ، وباب الساج لصنعه من خشب الساج ،وباب الجبل حيث كان يطل علي تلال المقطم ، وباب السباع لوجود تمثالين لسبعين علي جانبيه ، وازدحمت المدينة بالأسواق العديدة التي تخصص كل سوق منها في صنع أو بيع سلعة بعينها كسوق البزازين ، وسوق العيارين ، وسوق العطارين وغيرها .
كما ازدحمت المدينة بالسكك والأزقة والشوارع ، وبنيت فيها المرافق اللازمة لمدينة جديدة كالمساجد والطواحين والحمامات والأفران ، بالإضافة إلي المنازل والدور والمتنزهات والميادين
وبلغ من كثرة العمران بالمدينة الجديدة أن اتصل عمرانها بعمران الفسطاط والعسكر ، حتى أصبحت المدن الثلاث كأنهامدينة واحدة لاتصال عمرانها .
ولم يبن بالمدينة الجديدة مسجد جامع عند إنشائها ،اعتماداً علي مسجد العسكر الجامع ، ولكن عندما ضاق بالمصلين وحتى يستكمل أحمد بن طولون المعالم الرئيسية لمدينته الجديدة قام ببناء المسجد الجامع سنة" 265هـ" والذي عرف ولا يزال يعرف باسم جامع أحمد بن طولون ، وتم بناؤه علي هضبة مرتفعة تعرف بجبل يشكر نسبة إلي اسم أحد الصالحين ، ويقال أن مهندساً نصرانياً وضع تصميمه ، وأغلب الظن أنه كان عراقياً جاء مع ابن طولون ، أو مع بقية الصناع والفنانين الذين استقدمهم ، ويعد المسجد من مظاهر العمارة الإسلامية لاتساعه الشديد وبنائه علي نمط المساجد الجامعة معه بسامرا عاصمة الخلافة العباسية في ذلك الوقت ولما يتميز به من خصائص معمارية وفنية ينفرد بها ، فمساحته تبلغ "26281" متراً مربعاً ،وأضيفت إلي مساحته ثلاث زيادات من جهاته الثلاث " عدا جهة القبلة " ويتخذ المسجد هيئة مربعة طول ضلعها "162 متراً " تقريباً ، كما زود الجامع بمئذنة فريدة في شكلها إذ يدور سلمها حول بدنها بعكس المآذن الأخرى التي تضم سلمها بداخلها ، كما استخدم " الطوب المحروق " في البناء مع كسوته بطبقة من الجص الزخرف ، كما استخدمت العقود المدببة الشكل بدلا من الأعمدة الرخامية التي رفض أحمد بن طولون الحصول عليها من المعابد أو الكنائس القديمة .وإن كانت بعض الروايات تفسر البناء بهذا الأسلوب بأن أحمد بن طولون كان قد طلب مهندسيه أن يكون مسجده محصناً لا يغرق ولا يحترق .
كان يضم المسجد ستة محاريب يقع كلها في رواق القبلة ، أحدها وهو الأصلي يتوسط جدار القبلة إلا جوار المنبر وهو محراب مجوف ، أما المحاريب الخمسة الأخرى فأضيفت إلي المسجد في العصرين الفاطمي والمملوكي علي سبيل التذكار ولهذا تعرف" بالمحاريب التذكارية" وكلها مستوي السطح أي غير مجوفة كالمحراب الأصلي للمسجد .
ومن المنشآت الأخرى الهامة التي شيدها أحمد بن طولون قناطر المياه التي عرفت باسمه أيضاً ، وتقع في الجهة الجنوبية الشرقية من القطائع ، ولا تزال بعض عقودها باقية حتى الآن ، وكانت وظيفتها نقل المياه إلي الصحراء من بئر جديد أمر بحفرها ، وقد بنيت القناطر بالطوب المحروق
وتكلفت أموالاً ضخمة وجهداً كبيراً ، وأغلب الظن أن المهندس الذي أشرف علي بناء الجامع تولي الإشراف علي بناء القناطر أيضاً .
وقد تابع خمارويه بن احمد بن طولون تعمير القطائع والزيادة في مبانيها وميادينها ، فزرع الميدان بالزهور والورد حتى تحول إلي بستان كبير ، كما زاد في قصر والده ، وحفر بركة كبيرة في قصره عرفت ببركة الزئبق ، كما بني قبة الدكة في قصره وكانت وأعظم ما بناه خمارويه ، كما أنشأ بجانب قصره حديقة للحيوان كانت تضم الأسود والنمور والفيلة والزرافات وأنواع الطيور المختلفة ،كما وسع خمارويه في اصطبلاته لكثرة دوابه ، فخصص لكل نوع منها اصطبلاً ، وفي عهده عاد الاهتمام بسباق الخيل في ميدان السباق عما كان عليه في عهد أبيه وبلغت حلبات السباق حداً من الروعة جعل المؤرخ" القضاعي" يعتبرها من عجائب الإسلام .