زهده وقناعته صلى الله عليه وسلم، قد ضرب فيهما المثل الأعلى للناس جميعاً، للراعي والرعية، والأفراد والجماعات. انظروا إلى العالم الذي نعيش فيه، فإنه يشكو الجشع الذي أصاب أهله، فلا الغنى قانع بالآفه وملايينه، ولا الفقير راض بالكفاف من العيش؛ فالمالكون لأعنة المال يصرفونه في شئون الهوى، والأجراء كذلك يتطلعون إلى المال من أجل الهوى. ليس المسيطرون أقل رغبة في اللهو ممن هم دونهم، فقد تساوى الأمير والحقير، وجعلوا هدف الحياة وغايتها شهوات النفس، ومتاع العيش.
انظروا يميناً ويساراً في كل البيئات، بل في العالم أجمع، هل ترون إلا خلقاً قد انطلقوا للدرهم والدينار، لا يلوون على شيء، وانصرفوا لعبادة المال، فملك قلوبهم ومشاعرهم، وأصبح رفيقهم في حركتهم وسكونهم؟
وهل ترون إلا صراعاً بين أمم اتخذت حب المال والغلب عليه غايتها، فهو لها الأول والآخر، والظاهر والباطن؟ وهل ترون إلا طبقات من الأمم تتطاحن، ليس لها مطلب إلا السبق إلى المتاع، واختطاف بعضها ما في أيدي البعض؟ وهل ترون إلا أفراداً من فاز منهم بالغنيمة تنحى بها جانباً، وأرخى لهواه العنان، في قصور مشيدة، وجنان، ومراكب، ومواكب، ومتاع، وغرور، والناس ينظرون إليهم مع الحسد والإعجاب، لا يسألون أنفسهم شيئاً عن أصل هذا أو مصيره؟
تلك الأمم والطبقات والأفراد في صراعها على مواد الحياة قد هوت إلى الحيوانية، ليسوا فيها إلا كالقطيع يتزاحم ويتطارد، ليحظى بالعشب، أو الكلاب تتهارش وتتخاطف العظام.
هوى الإنسان في سبيل المال والهوى إلى الدرك الذي جاء الأنبياء والرسل جميعاً ليرفعوه عنه، ويوجهوه وجهة أسمى من المحسات، وجهة معنوية مقتصدة في رغبات البدن الزائل، متطلعة إلى مطالب الروح الخالدة.
جاء بطل الأبطال صلى الله عليه وسلم؛ والناس على مثل هذه الحال لا يعرفون فضلاً إلا للأموال والأحساب، ولا يدركون من لذة التقوى ومتاع الروح شيئاً، فضرب مثلاً من نفسه في القناعة والزهد واحتقار الدنيا، صرف الناس عما هم فيه، وأخرج الصحابة الزهاد الذين جعلوا للحياة الروحية المقام الأول، فاتخذوا الدنيا مطية إلى ما هو أسمى منها.
ضرب محمد عليه السلام المثل من نفسه، في فقره وغناه، وضعفه وقوته، ضربه وهو محاصر مع أهله في الشعب، وضربه وهو ملتجئ إلى المدينة، وهو يقيم دولة الإسلام فيها، وبعد أن أقامها، وبعد أن ملك الأموال والرقاب في جزيرة العرب كلها، فكان يهب هبات الملوك فيعطي الغني، ويرجع إلى داره وفراشه فيها الحصير وطعامه خبز الشعير.
قال ابن مسعود: دخلت على رسول الله وقد قام على حصير، وقد أثر في جنبه، فقلت: يا رسول الله، لو اتخذنا لك وطاء تجعله بينك وبين الحصير، يقيك منه، فقال: مالي وللدنيا! ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها.
وعن قتادة بن النعمان قال: قال رسول الله: إذا أحب الله عبداً حماه من الدنيا كما يظل أحدكم يحمى سقيمه الماء.
تلك نظرة بطل الأبطال صلى الله عليه وسلم إلى الحياة الحسية، تلك النظرة السامية التي اخترقت حجب هذه الدنيا، فلما كثر اتباعه، وانتشر دينه؛ فتحت القلوب إلى ما هو أوسع من البطن والفم والأنف، وسمت النفس الإنسانية فوق تلك الحجب، فتجلى لها النور الإلهي، واتسع الأفق، وأضاءت الأرواح العلية هذا الوجود، فشهد العالم دولة الصدر الأول للإسلام، فيها المثل الكامل للزهد والقناعة والعدل والمساواة والمعروف وطيب العيش، فيها مثل أبي بكر وعمر وهما في أثواب مرقعة، يحسدهما كسرى وقيصر.
وهل كان عمر في الثوب المرقع على الأرض أقل متاعاً بالحياة من المترفين الجبابرة؟ كلا، إنما هو نوع آخر من اللذات، أبعد من الحيوانية، وأدنى إلى الإنسانية، ذلك هو متاع الروح التي فرت إلى الله، وإلى أسمى الحياة الوجدانية، وذلك أبعد أثراً في النفس، وأحسن عاقبة للأبدان، وأحب إلى وجودنا البشري.
تلك المدرسة المحمدية مدرسة القناعة والزهد، أخرجت ولاة وحكاماً للشعوب، يقنعون بدرهم في اليوم أجراً، ويقيمون الولاية والملك على أحسن ما يرضى الله والناس.
يروي ابن هشام عن زيد بن أسلم: لما استعمل رسول الله عتاب بن أسيد على مكة رزقه كل يوم درهماً، فقام وخطب الناس، فقال أيها الناس أجاع الله كبد من جاع على درهم، فقد رزقني رسول الله درهماً كل يوم، فليست لي حاجة إلى أحد.
هل ترون خلال هذه الخطبة إلا رجلاً فرحاً برزقه، قد ضمن العيش بدرهم ويريد أن يفرغ إلى ما هو فوق العيش! هذه هي القناعة، التي تلقاها الصحابة من المعلم الأكبر.
انظروا إلى محمد نفسه، خرج مرة من المسجد، فوجد أبا بكر وعمر، فسألهما عن خروجهما، فقالا: أخرجنا الجوع، قال: وما أخرجني إلا الجوع، فذهبوا إلى أبي الهيثم، فأمر لهم بشعير، وقام إلى شاة فذبحها، واستعذب لهم ماء معلقاً عنده في نخلة، ثم أتوا بالطعام، فأكلوا وشربوا من ذلك الماء، فقال عليه الصلاة والسلام: لنسألن عن نعيم هذا اليوم!
كان النبي معروفاً بفرط الحب لأولاده، حتى أن فاطمة بنته كانت إذا دخلت عليه قام إليها وقبلها، وأجلسها مكانه، ومع ذلك كانت تعيش عيشة الفقراء، وتشكو من آلام الرحى، وتجرح يدها أحياناً من حمل الماء، فطلبت إليه يوماً خادماً من الأسرى فأبى.
وروى أنه قال لعلي: كيف تطمعون في شيء من هذا؛ وأهل الصفة على ما هم عليه من الفقر! ودخل على فاطمة وفي يدها سلسلة من ذهب، وهي تقول لامرأة عندها: هذه أهداها أبو الحسن، فقال صلى الله عليه وسلم: يا فاطمة، أيسرك أن يقول الناس ابنة رسول الله في يدها سلسلة من نار؟ ثم خرج ولم يقعد فأرسلت فاطمة بالسلسلة فباعتها، واشترت بثمنها عبداً، فاعتقته، فحدث رسول الله بذلك فقال: الحمد لله الذي نجى فاطمة من النار.
ذلكم هو الزهد الذي علمه بطل الأبطال أهل بيته وصحبه والناس جميعاً. وأن فاطمة، وقد باعت السلسلة، وأعتقت العبد، قد تمتعت ولا ريب بلذة وجدانية، وطمأنينة نفسية، أبعد أثراً في تشييد بيت السعادة، من تلك السلسلة من الذهب في عنقها، تفخر بها على صاحباتها.
روى البخاري عن عائشة أنها قالت لعروة: يا ابن أختي، إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار.. فقلت: يا خالة، ما كان عيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله جيران من الأنصار كانت لهم منائح(1)، وكانوا يمنحون رسول الله من ألبانها فيسقينا.
وقد ذكر مرة وهو في الصلاة: أن بيته تبراً، فخفف الصلاة، وسارع إلى التبر، ففرقه على الفقراء، كراهة أن يبيت الذهب في بيته.
قال عقبة بن الحارث: صلى بنا رسول الله العصر فأسرع وأقبل يشق الناس من سرعته، ودخل إلى بيته، ثم لم يكن بأوشك من أن خرج، فقال: ذكرت شيئاً من تبر كان عندي، فخشيت أن يحبسني فقسمته. هذا الذي يقسم التبر بين الناس هو الذي تقول عائشة أيضاً عن حال أهله: ما شبع آل محمد من خبز البر ثلاثاً، حتى قضى لسبيله، وما أكل آل محمد أكلتين في يوم واحد إلا أحداهما تمر.
ويقول أنس: قال رسول الله: لقد خفت في الله ما لم يخف أحد، وأوذيت في الله ما لم يؤذ أحد، ولقد أتى علي ثلاثون ما بين يوم وليلة، ومالي ولبلال من الطعام إلا شيء يواريه ابط بلال(2)".
وهاكم أمثلة من مأثور قوله في القناعة والزهد، وما كان قوله إلا مطابقاً لعمله، فما عرف عن بطل الأبطال حديث إلا كان صورة لنفسه الكريمة، معبراً عما رضي لها من خلق وما هو عليه من فطرة.
والذين يقرءون بإمعان سيرته الكريمة، يرون مطابقة أقواله أفعاله في كل أطوار الحياة مطابقة تامة، فلم يكن يخشى الفقر أكثر مما يخشى الثروة والغنى، وكان يكره الكنز، ويقول: أنه لم يترك في بيته ثلاثة دنانير يضم إليها ديناراً آخر، إلا لقضاء دين، وكان يقول: اللهم أجعل رزق آل محمد كفافاً وقيل قوتاً ( أي لا يزيد على الحاجة).
وعن أبي أمامة الأنصاري قال: ذكروا عند النبي الدنيا، فقال: ألا تسمعون، ألا تسمعون؟ إن البذاذة من الإيمان، إن البذاذة من الإيمان ( أي التواضع في اللباس، وترك الزينة).
وقال علي: بينما نحن جلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا مصعب بن عمير، ما عليه إلا بردة مرقعة بفرو، فلما رآه صلى الله عليه وسلم بكى للذي كان فيه مصعب من النعمة، ثم قال: كيف بكم إذا غدا أحدكم في حلة، وراح في أخرى، ووضعت بين يديه صحفة، ورفعت أخرى، وسترتم بيوتكم كما تستر الكعبة؟ قالوا: يا رسول الله نحن يومئذ خير منا اليوم، نكفى المؤنة، ونتفرغ للعبادة، فقال: بل أنتم خير منكم يؤمئذ.
وكان صلى الله عليه وسلم يحبب إلى الناس صحبة الفقراء، حتى تنصرف آمالهم عن التطلع إلى الترف والزينة. يقول عون بن عبد الله بن عتبة: كنت أصحب الأغنياء، فما كان أحد أكثرهما مني؛ كنت أرى دابة خيراً من دابتي، وثوباً خيراً من ثوبي، فلما سمعت قول رسول الله: إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق؛ فلينظر إلى من هو أسفل منه، فذلك أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم. قال، لما سمعت ذلك صحبت الفقراء فاسترحت.
لابد أن يخطر لكم هنا هذا السؤال: ما الحد بين الغني والفقر في نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونظر أصحابه؟ وإنا محاولون أن نصوره لكم كما صورته كتب الحديث.
قال صلى الله عليه وسلم: من أصبح آمناً في سربه، معافي في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها. وروى عثمان عنه أنه قال: ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال: بيت يسكنه، وثوب يوارى عورته، وجلف(1) الخبز والماء. وسأل رجل عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال له: ألك زوجة تأوي إليها؟ قال نعم، قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم، قال فأنت من الأغنياء، قال: فإن لي خادماً، قال: فأنت من الملوك.
ولقد سأله أصحابه: ما الغنى الذي لا ينبغي معه المسألة؟ قال: قدر ما يغديه، أو يعشيه.
لذلك كان رسول الله يكره من الناس السؤال، ويقول: لو تعلمون ما في المسألة ما مشى أحد إلى أحد يسأله شيئاً؛ وكان يترفع بأنصاره عن ذلك السؤال.
أتى إليه رجل من الأنصار يسأله، فقال: أما في بيتك شيء؟ قال: بلى، حلس نلبس بعضه، ونبسط بعضه، وقعب نشرب فيه الماء. فقال: ائتني بهما، فأتاه بهما، فأخذهما صلى الله عليه وسلم بيده، وقال: من يشتري هذين؟ قال رجل: أن آخذهما بدرهم. قال رسول الله: من يزيد على درهم؟ مرتين أو ثلاثاً، قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين، فأعطاهما الرجل، وقال: اشتر بأحدهما طعاماً فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدوماً فأتنى به، فأتاه به، فشد فيه رسول الله عوداً بيده، وقال: اذهب فاحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشرة يوماً، ففعل، ثم جاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوباً، وببعضها طعاماً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير لك من أن تجئ المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة.
كان بطل الأبطال صلى الله عليه وسلم مثال الرجولة، يحب النظافة والطيب، ويبغض الخيلاء والتظاهر، وما يقصد به إلى الترف. قال علي: أخذ رسول الله حريراً فجعله في يمينه، وذهباً فجعله في شماله، فقال أن هذين حرام على ذكور أمتي.
ورأى عمر مرة حلة من استبرق تباع، فأتى بها النبي، فقال: يا رسول الله ابتع هذه، فتجمل بها للعيد والوفود، فقال رسول الله: إنما هذه لباس من لا خلاق له.
فهذا سيد العرب، ومالك الجزيرة يملأ بالأموال صحن المسجد، فيقسمها على الناس إلى آخر درهم، فإذا دخل إلى بيته نام على جلد محشو بليف، قالت عائشة: كان فراشه من أدم حشوه ليف.
وتقول عائشة: أنه كان لرسول الله حصير يحتجزه في الليل، فيصلي فيه، ويبسطه في النهار، فيجلس عليه وكان في طعامه قانعاً زاهداً يقول:
" حسب ابن آدم لقيمات يقمن أوده"(1).
يقول أنس خادمه: ما علمت النبي خبز له مرقق قط، ولا أكل على خوان قط.
وسئل سهيل بن سعد: هل أكل النبي النقي(2)؟ فقال ما رأى النبي النقي منذ ابتعثه الله حتى قبضه.
ولم يقصد رسول الله بهذا الزهد إضاعة المال، ولا تحريم ما أحل الله لعباده من الزينة والمتاع، فقد عرف الزهد بهذا المعنى السامي في قوله: ليست الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة أن تكون بما في يد الله تعالى أوثق منك مما في دك، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبحت بها، أرغب منك فيها، لو أنها بقيت لك، لأن الله تعالى يقول:
" لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم".
وكان يحب النظافة والطيب والهيئة الحسنة، ويحرص عليها. قال عطاء بن يسار: أتى رجل النبي ثائر الرأس واللحية، فأشار إليه كأنه يأمره بإصلاح شعره ففعل، ثم رجع فقال النبي: " أليس هذا خيراً من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان" ! ورأى رجلاً عليه ثياب وسخة، فقال: " أما كان هذا يجد ما يغسل ثوبه؟" وجاءته هند بنت عتبة تريد أن تبايعه، فقال: " لا أبايعك حتى تغيري كفيك.. كأنهما كفا سبع". يريد أن تصلح أظفارها، وتغير كفها بالحناء.
وكان صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة، كريم يحب الكريم، جواد يحب الجواد، فنظفوا أفنيتكم، ولا تشبهوا باليهود".
فرسول الله في زهده وقناعته إنما كان يكره الخيلاء والإسراف والترف، ويحب للمسلم أن يرضى بالكفاف، وأن يكون جواداً نظيفاً.
كان بطل الأبطال في زهده وقناعته مثلاً كاملاً، صور لنا كيف يتأتى للرجل أن يعيش كريماً، يضع تسعين ألف درهم على حصير أمامه، فينفقها جميعاً، وينام بعد ذلك على حصير يؤثر في جنبيه، فإذا أرادوا أن يتخذوا له وطاء قال: " ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها".
ذكر وهو في مرض موته أن في بيته سبعة دنانير، فأمر أهله أن يتصدقوا بها، فنسوا لاشتغالهم بمرضه، وأفاق يوم الأحد الذي سبق وفاته، فسأل عائشة ما فعلت بالسبعة الدنانير؟ فأجابت أنها لا تزال عندها، فطلبها ووضعها في كفه، ثم قال: " ما ظن محمد بربه لو لقي الله وعنده هذه !" ثم تصدق بها على الفقراء، وقد لقي الله في كساء ملبد، وإزار غليظ، هو لباسه الذي قضى فيه، ولكنه ترك وراءه نوراً يشع من جبين القناعة والزهد، يهدي البشر إلى الحياة الطيبة، ويوجههم إلى ما هو أسمى من متاع الأبدان الزائلة، إلى متاع الأرواح الخالدة، ولا يزال رسول الله في قناعته وزهده قدوة الأبطال والناس جمعياً، يتطلعون إلى منتهى قصده، فلا يدركون منه إلا قليلاً.
صفة بينه لبطل الأبطال صلى الله عليه وسلم، كانت ولا تزال على مر الأجيال بادية واضحة في طبعه الكريم، تلك هي: التياسر والتواضع، فبهما كان محمد صورة صادقة لكرامة الإنسان، يؤتاها من صميم نفسه، ولا يصطنعها مما يحيط به من مظاهر خادعة متكلفة.
كان محمد التياسر نفسه يتمثل في الرجل الكامل، وينبعث من أعماق قلبه، فيبدد ما يتجمع حوله من زخرف السيادة والملك، وما يتبعهما من الرياء والزينة، وما يخدع به الناس من قول أو فعل، كان محمد قريباً هيناً سهلاً، يلقي أبعد الناس وأقربهم، وأصحابه وأعداءه، وأهل بيته ووفود الملوك بلا تصنع ولا تكلف، بل بالحق سافراً.
فكانت أعماله تصدر طبيعية، كل منها يدل على خلقه، كما تدل الصورة على صاحبها.
واسمعوا إلى عدي بن حاتم الطائي يروي قصته، وقد قدم إليه من الشام، بعد أن فتحت جيوش المسلمين بلاده، وبعد أن فر إلى الروم هارباً.
يقول، وقد كان يظن أنه سيلقى ملكاً في المدينة: دخلت على محمد وهو في المسجد فسلمت عليه، فقال: من الرجل؟ فقلت: عدي بن حاتم. فقام وانطلق بي إلى بيته، فوالله لأنه لعامد بي إليه، إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة، فاستوقفته فوقف طويلاً تكلمه في حاجتها، قال: فقل: والله ما هذا بملك. قال: ثم مضى بي رسول الله حتى إذا دخل بي بيته، تناول وسادة من أدم محشوة ليفاً، فقذفها إلي، فقال: أجلس على هذه، قال: قلت: بل أنت فاجلس عليها، فقال: بل أنت. فجلست عليها، وجلس رسول الله على الأرض، قال: قلت في نفسي: والله ما هذا بأمر ملك. ثم قال: إيه يا عدي بن حاتم، ألم تك ركوسياً ( دين بين النصرانية والصابئية). قال: قلت: بلى، قال: أو لم تكن تسير في قومك بالمرباع؟ قال: قلت: بلى، قال: فإن ذلك لم يكن يحل لك في دينك. قال: قلت أجل والله، وعرفت أنه نبي مرسل، يعلم ما يجهل. ثم قال: لعلك يا عدي إنما يمنعك من دخول هذا الدين ما ترى من حاجتهم، فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه؛ ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم، وقلة عددهم، فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها تزور هذا البيت لا تخاف؛ ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، وأيم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم. قال: فأسلمت.
ولقد عاش عدي حتى رأى القادسية والقصور البابلية مفتحة للعرب.
هذه طبيعة محمد لا طلاء عليها، يأتيه عدي وقد وقع بعض أهله قبل ذلك أسرى لجيوشه، يأتيه مغلوباً فيجلسه على وسادة، ويجلس هو على الأرض، ويحدثه بلا كلفة عما كان، وما يعتقده كائناً. ثم انظروا إليه وقد مات ابنه إبراهيم، فكسفت الشمس، فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فيقول في المسجد يقول:
" إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تنكسفان لموت أحد ولا حياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وصلوا وتصدقوا".
هذه هي النفس البريئة التي تعشق الحق للحق، وتتعالى في تواضع عن استغلال وهم من الأوهام، أو مصادفة من المصادفات، بل تأبى السكوت على سخف أو ضلال، ولو كان من شأنه أن يبهر العامة.
وهاكم ما يروى جابر بن عبد الله عما وقع له، قال: كان بالمدينة يهودي وكان يسلفني في تمري إلى الجذاذ فخاست ( أي تأخر ثمرها عاماً، فجاءني اليهودي عند الجذاذ، ولم أجد شيئاً فجعلت استنظره إلى قابل، فيأبى، فأخبر بذلك النبي، فقال لأصحابه امشوا نستنظر لجابر من اليهودي، فجاءوني في نخلي، فجعل النبي يكلم اليهودي، فيقول: أبا القاسم، لا أنظره، فقام النبي فطاف في النخل، ثم جاءه فكلمه فأبى، فقمت فجئت بقليل رطب، فوضعته بين يدي النبي، فأكل ثم قال: أين عريشك يا جابر؟ فأخبرته، فقال: افرش لي فيه، ففرشته، فدخل فرقد، ثم استيقظ، ثم جئته بقبضة أخرى فأكل منها، ثم قام فكلم اليهودي، فأبى عليه فقال: يا جابر، جذ واقض، ( أي اقطع التمر، واقض دينك). ويقول جابر: إن الله بارك فيه فقضى الدين وزاد.
والحكاية تصور لنا تياسره وتواضعه في سعيه بين اليهودي وجابر، وأكله ونومه، ولين جانبه، فلم يزد بعد أن يئس من اليهودي على أن يأمر صاحبه بأداء ما عليه.
انظروا كذلك إليه كيف يستأذن على أحد أصحابه، وكيف ينصرف؟
يقول قيس بن سعد: زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزلنا، فقال: السلام عليكم ورحمة الله. فرد أبي رداً خفياً. فقلت لأبي: ألا تأذن لرسول الله فقال: ذره حتى يكثر علينا من السلام، فقال صلى الله عليه وسلم: السلام عليكم ورحمة الله، ثم رجع فأتبعه سعد، فقال يا رسول الله: إني كنت أسمع تسليمك وأرد عليك رداً خفياً، لتكثر علينا من السلام. فانصرف معه النبي، وأمر له سعد بغسل فاغتسل، ثم ناوله ملحفه مصبوغة بزعفران، فاشتمل بها، ثم رفع يديه، وهو يقول: اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد. فلما أراد الانصراف قرب له سعد حماراً، فقال سعد: يا قيس، أصحب رسول الله، فصحبته، فقال أركب معي، فأبيت، فقال: أما أن تركب، وأما أن تنصرف، فانصرفت.
هذه زيارة سيد العرب والعجم لأحد أنصاره من كبار المدينة، تمر في غير حفل، ولا ظهور، يذهب إليه ماشياً، ويعود على حمار؛ يريد أن يردف عليه رفيقه، تلك السجية الطاهرة لم تحل دون أن يكون أمر محمد مطاعاً، وطاعته قربة، فإن يحسب الناس أن مظاهر الرياسة والسلطان لازمة لحسن الولاء، واستدامة الطاعة، فلقد كان ولاء سعد والأنصار لمحمد المتواضع مضرب الأمثال في تاريخ الدعوة الإسلامية.
ولم تكن دعوته قيساً إلى الركوب معه على الحمار أمراً غريباً، بل كانت هذه عادته يردف على حماره وبغلته وناقته، ويعاقب(1) مع رفاقه. قال ابن عباس: أن النبي لما قدم مكة استقبله أغيلمة بني عبد المطلب، فحمل واحداً بين يديه، وآخر خلفه، وقال معاذ: كنت ردف رسول الله على حمار يقال له عفير. وجاء إليه رجل، وهو يمشي، فقال: أركب وتأخر على حماره، فقال محمد: أنت أحق بصدر دابتك مني، إلا أن تجعله لي، فقال الرجل: فإني جعلته لك. ويقول جابر: كان رسول الله يتخلف في السير، فيزجى الضعيف ( أي يسوقه ليلحق الرفاق) ويردف، ويدعو لهم. ولم يكن أبغض إليه صلى الله عليه وسلم من الكبر والخيلاء، فقد قال: " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً، فقال صلى الله عليه وسلم: إن الله جميل يحب الجمال: الكبر بطر الحق، وغمط الناس". وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله: " لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا، إن الله أذهب عنكم عَبِيَّةَ الجاهلية ( أي كبرها) إنما هو مؤمن تقي، أو فاجر شقي، الناس كلهم بنو آدم، وآدم خلق من تراب".
هذا الحديث ينم بمعناه وعبارته على مقدار غضب محمد إذا ذكر الكبر والمتكبرون، ولو كان للناس أن يفخروا بآبائهم لما كان في جزيرة العرب أحق بالفخر من محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، ولكن محمداً لا يرى في المجتمع الذي أقامه إلا هيئة تتساوى فيها الحرف، والمراتب، والأعمال والأحساب، والأنساب، ولا تفاضل عنده إلا بالعمل الصلح يرفع صاحبه.
كان مرة في سفر مع صحبه، فأرادوا أن يهيئوا لهم طعاماً، فقسموا العمل بينهم، فقام يجمع الحطب، فأرادوا أن يكفوه ذلك فأبى، لأن الله يبغض الرجل يتعالى على رفاقه.
ولما وقف عليه أعرابي يرتجف خشية زجره وذكره أنه ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد(1). وخرج على جماعة من أصحابه يتوكأ على عصا، فقاموا له، فقال: لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضاً، وكان يرى كذلك في تقبيل اليد تشبهاً بالأعاجم، وينهى عنه.
وكان محمد يكره الإطراء والألقاب: انطلق إليه وفد بني عامر، فلما كانوا عنده، قالوا: أنت سيدنا، فقال السيد الله، فقالوا: وأفضلنا فضلاً، وأعظمنا طولاً فقال: قولوا قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان. ويقول أبو بكر رضي الله عنه. أثنى رجل على رجل عند النبي، فقال: ويلك! قطعت عنق صاحبك، أي أهلكته بالإطراء والمدح والتعظيم، فإنه يعجب بذلك فيهلك، كأنه قطع عنقه. ويقول أبو هريرة أمرنا الرسول أن نحثوا في أفواه المداحين التراب.
وكان محمد صلى الله عليه وسلم يكره كذلك الخيلاء والتفاصح والتأثير في الناس بالقول المزخرف، ويقول: إن من أحبكم إلي، وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة؛ أحاسنكم أخلاقاً، وأن أبغضكم إليّ، وأبعدكم مني يوم القيامة؛ الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون. والثرثارون هم الذين يكثرون الكلام تكلفاً، والمتشدقون هم الذين يتكلمون بملء أفواههم تفاصحاً وتعاظماً. وكان يكره الخطيب يسلب بفصاحته ألباب الناس، ويملك حواسهم، قال صلى الله عليه وسلم: من تعلم صرف الكلام ليستبي به قلوب الرجال، لم يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً. وكان يقول: هلك المتنطعون ويكررها. بغضاً منه في العمق والتفاصح، كان كل ذلك نفوراً بطبعه الميسر المتواضع عن التظاهر والرياء والتكلف.
كان في تياسره جم التواضع، وافر الأدب، يبدأ الناس بالسلام، وينصرف بكله إلى محدثه صغيراً أو كبيراً ويكون آخر من يسحب يده إذا صافح، وإذا تصدق وضع الصدقة بيده في يد المسكين، وإذا أقبل جلس حيث ينتهي المجلس بأصحابه. لم يكن يأنف من عمل يعمله لقضاء حاجته أو حاجة صاحب أو جار، فكان يذهب إلى السوق، ويحمل بضاعته، ويقول: أنا أولى بحملها، ولم يستكبر عن عمل الأجير والفاعل سواء كان في بناء مسجد المدينة، أو في الخندق وهو أمير الجيش يدفع الأحزاب.
وكان محمد كذلك متواضعاً في ملبسه وسكنه، يلبس كعامة من حوله، ويسكن ـ وقد واتته الدولة والسلطان ـ في صف من حجرات واطئة مبنية باللبن، بين كل حجرة وأخرى حائط من جريد النخل، ملبس بالطين، ومغطى بجلد أو كساء أسود من الشعر.
وكان يجيب دعوة الحر والعبد والأمة والمسكين، ويقبل عذر المعتذر، وكان يرقع ثوبه ويخصف نعله بيده، ويخدم نفسه، ويعقل بعيره، ويأكل مع الخادم، ويقضي حاجة الضعيف والبائس.
كان هذا التياسر والتواضع الصادق من نفسه الطاهرة، والذي هو صورة صادقة له، لم ينقص من هيبته ولا محبته، وقد قيل في وصفه: من رآه بداهة هابه، ومن عاشره أحبه، فكانت علاقة أصحابه والناس به علاقة أدب جم، وحب ووقار كامل، ولم يتكبر ولكنه لم يرضى سوء الأدب، وكثيراً ما بين لأصحابه كيف يتصرفون في حضرته، وفي خطابه.
يقول السير وليم موير، وهو من نقاد محمد الصرحاء، في وصف تواضعه وتياسره: " كانت السهولة صورة من حياته كلها، وكان الذوق والأدب من أظهر صفاته في معاملته لأقل تابعيه، فالتواضع، والشفقة، والصبر، والإيثار، والجود صفات ملازمة لشخصه، وجالبة لمحبة جميع من حوله، فلم يعرف عنه أنه رفض دعوة أقل الناس شأناً، ولا هدية مهما صغرت، وما كان يتعالى ويبرز في مجلسه، ولا شعر أحد عنده أنه لا يختصه بإقباله وإن كان حقيراً.
وكان إذا لقي من يفرح بنجاح أصابه، أمسك يده، وشاركه سروره، وكان مع المصاب والحزين شريكاً شديد العطف، حسن المؤاساة، وكان في أوقات العسر يقتسم قوته مع الناس، وهو دائم الاشتغال والتفكير في راحة من حوله وهناءتهم".
ولسنا في تاريخ محمد بحاجة إلى أحد؛ فإن مما اختص به من بين رسل العالم وأبطاله، وضوح حياته وجلاؤها من جميع نواحيها، وإنما سقنا عبارة السير موير هنا لشعورنا أنها صادرة عن إعجاب صادق؛ ولو أننا درسنا سيرة محمد الدراسة اللائقة بها، لكان اليوم حياً في قلوبنا، كما كان حياً بين أصحابه، ولوجدنا الصورة التي طبعها على الوجوه بعمله وقوله، لا تزال واضحة وضوح نفسه العظيمة، المتحلية بأخلاق لا يغطيها طلاء، ولا يحجبها رياء، ولا ترى إلا على حالة واحدة في الليل والنهار، وفي السر والعلانية، وفي الشدة والرخاء، وفي الضعف والقوة، في السوق وهو في شبابه، وفي الشيخوخة وهو على عرش النبوة والملك.
وكان محمد بأخلاقه شخصية من اليسر والتواضع لا تبديل ولا تغيير فيها، هي النفس التي اتصلت بالسماء، وعاشت على الأرض، دانية إلى الناس، محببة إليهم. ففي كل أطوار حياته كان بطل الأبطال، صلى الله عليه وسلم، المثل الذي نحن اليوم أحوج ما نكون إليه، ذلك المثل الذي قام عليه النظام الاجتماعي الإسلامي، والذي جعل الناس سواء، في نطاق الأخوة الإسلامية، لا يرفع من شأن أحدهم غني أو جاه، أو حسب أو نسب، وإنما هو مؤمن تقي، أو فاجر شقي، والناس من آدم، وآدم من تراب.
نسكه وتعبده صلى الله عليه وسلم، صفة بارزة في طبعه الكريم، فقد كان يجد في العبادة قرة عينه، وطمأنينة نفسه. ولو أنه كان من النساك الذين انقطعوا للرهبانية، أو المتصوفة الذين انصرفوا عن الدنيا، لما كان في نسكه وتعبده بدعاً، وإنما الذي يلفت نظر الباحث في حياة بطل الأبطال، هو ذلك الجمع الغريب بين النسك الذي يبلغ أرقى مراتب التعبد، وبين القيام على أمور الدنيا التي كان يعيش فيها بكده، ويعول كثيراً من الأهل والفقراء، ويناضل أمة بأكملها، ويسوس دولة فتية في وجه العالم، يوفد إلى الملوك ويدعوهم، ويستقبل الوفود ويكرمهم، ويبعث السرايا ويقودها، ويجادل من حوله من أهل الأديان وأهل السلطان، ويهيئ للنصر، ويحتاط للهزيمة، ويبعث العمال، ويجبي الأموال ويقسمها بنفسه، ويقول: إن لم أعدل فمن يعدل؟ ويشرع للناس دين الله فيفصل المجمل من الوحي، ويوضح الغامض، ويرسم السنن، فيخرج من الأصل فروعه، ويرد ما لم يطلعه الله عليه إلى ما أطلعه الله عليه. وهو في كل ذلك يؤدي العمل اليومي الذي ينوء به أبطال هذه الدنيا، وبين هذه الهموم والمشاغل يتجلى محمد الناسك العابد بالليل والنهار أعظم انقطاعاً إلى الله ممن انقطعوا إليه في رءوس الجبال.
ذلك الجمع بين الدين والدنيا يجعل من بطل الأبطال صلى الله عليه وسلم، مثلاً قائماً بنفسه في تاريخ البشرية منقطع النظري. كان يقسم يومه جزءاً للعبادة، وجزءاً للناس وجزءاً لأهله، فإذا طغى ما للناس انتقص من الوقت الذي هو لأهله، واحتفظ بما هو لله، وقد واظب على ذلك مواظبة عجيبة تستحق مزيد الإعجاب من أنصاره وخصومه على السواء.
فقد كان مثلا من الجد الكامل، والتوجه الخالص، إذا انصرف للعبادة انصرف بجملته، وإذا قام بعمل آخر لم يفتر عنه حتى يتمه، وقد أجمع مؤرخوه من أهل الملل المختلفة على أنه كان يعطي العمل الذي يشغله كل حسه وكل قلبه، وكان ذلك يتجلى في علاقته بالناس، فما حدثه أحد إلا التفت إليه بوجهه وجسمه، وأصغى إليه تمام الإصغاء، ولم يقطع الحديث حتى يكون المتكلم هو الذي يقطعه.
ذلك الجد الذي يلازم النفوس المؤمنة، هو سر النجاح في كل الأعمال، سواء أكانت للدين أم للدنيا، وفيه كان بكل الأبطال صورة صادقة منيرة لأصحابه وتلاميذه، بل ذلك المثل من الجد في كل شيء هو الذي أنجب ممن صحبه أكبر رجال الدولة، وسواس الأمم، فجعل من رعاة الإبل والغنم ومن صغار الزراع والتجار خلفاء كسرى وقيصر، يعلمونهما ما فاتهما من العدل والإحسان.
كان محمد بفطرته يحب النسك والعبادة، ويجد فيها قرة عينه، فكان قبل الرسالة ينقطع شهراً في غار حراء خارج مكة للتعبد.
ألف النسك والعبادة والخلوة طفلاً
وهكذا النجباء
وإذا حلت الهداية قلباً
نشطت للعبادة الأعضاء
وقد اختلف الأصوليون والفقهاء في صورة العبادة، وطريقتها، وعلى أية شريعة كان يتعبد، وهذا الخلاف نفسه يلقى الشك في تلك الأقوال والفروض، والثابت تاريخياً هو أن عبادته كانت فكراً في خالق الكون، يدور حول الوجود والمشرف عليه، فلم يعلم عنه أنه كان يرعى سنن العبادات في الشرائع التي سبقته، فقد رفض الأديان كلها قبل أن يهتدي إلى الحق في أمر الخالق، حتى في بعض ما لزمه من عبادة العرب كالحج؛ فإنه لم يتلزم مذهب الحُمْسْ، الذي هو مذهب عشيرته، بل وقف وأفاض من عرفة كما يقف ويفيض الناس، وحرم على نفسه كثيراً مما أحلت قريش في جاهليتها، فتبع ما يقره العقل الراجح، واستمر طالباً الهداية، باحثاً عن الحق، ناسكاً في الوصول إليه؛ عبادته التفكر والتأمل، حتى أتاه اليقين.
" وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان"، ويقول القرآن ممتناً عليه: " ووجدك ضالاً فهدى".
فلما جاءه الهدى أخذ يصلي، فيخرج إلى شعاب مكة، ومعه عليوهو صبي، فيصليان مستخفين، حتى إذا أمسيا رجعا.
حلت الهداية قلب محمد، فتعلق بالله، وفنيت نفسه في حبه، وأنا لنستطيع أن نقول: إنه صار معه في حركته، وسكونه، ويقظته، ونومه، وبلغ به الفناء في الذات العلية أن صار يقف بين يدي خالقه حتى تتورم قدماه: يقول المغيرة ابن شعبة: أن النبي كان يقوم ليصلي حتى تتورم قدماه أو ساقاه، فيقال له، فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً! ويقول ابن مسعود، صليت مع النبي ليلة، فلم يزل قائماً حتى هممت بأرم سوء، قيل: ما هممت؟ قال: هممت أن أقعد وأذر النبي. ويروي عبد الله بن عمرو بن العاص، أن النبي قال له: أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله صيام داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، ويصوم يوماً، يفطر يوماً.
كان قيام الليل، والتهجد فيه من عادته طول حياته، صلى الله عليه وسلم، وكان له فيه نجوى ودعاء، ما أدله على ضراعته وفنائه في حب الخالق وخشيته! كان يقول: اللهم لك الحمد، أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك الحق، وقولك الحق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت،وما أعلنت، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وهاكم القرآن يخاطبه في شأن التهجد: " يأ يها المزمل قم الليل إلا قليلاً، نصفه أو أنقص منه قليلاً، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً. إن سنلقي عليك قولاً ثقيلاً.
إن ناشئة الليل هي أشد وطئاً وأقوم قيلا". فكان يفعل ما أمر به، وفي ذلك يقول ابن رواحة من شعراء الصحابة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم:
وفينا رسول الله يتلو كتابه
إذا انشق معروف من الفجر ساطع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا
به موقنات أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه
إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
حلت الهداية قلب محمد، فعلق بالله في كل شيء، فهو ذاكره، واثق به، مراقب له، مطيع، خائف، محب، خاشع آناء الليل واطراف النهار؛ فإذا جاءه أمر يحبه قال: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات؛ وإذا أتاه أرم يكرهه قال: الحمد لله على كل حال؛ وإن قصد فعل شيء قال: اللهم خر لي واختر لي؛ وأن أراد سفراً قال: اللهم بك أصول، وبك أجول؛ وإن أراد نوماً قال: اللهم باسمك وضعت جنبي، وباسمك أرفعه؛ وإن استيقظ قال: الحمد لله الذي أحيانا بعد أن أماتنا وإليه النشور؛ وإن لبس ثوباً جديداً قال: الحمد لله الذي رزقني ما أتجمل به في حياتي؛ وإن أكل قال: الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا، وجعلنا مسلمين؛ وإن شرب قال: الحمد لله الذي جعل الماء عذباً فراتاً برحمته، ولم يجعله ملحاً أجاجاً بذنوبنا وإذا انقلب من الليل في فراشه قال: لا إله إلا الله الواحد القهار، رب السموات والأرض وما بينهما العزيز الغفار؛ وإذا هب من نومه في الليل قال: رب أغفر وارحم، وأهد للسبيل الأقوم.
تعلق قلب محمد بالله فهو معه في كل عمل وحين، وشغف بالعبادة والنسك، فهو يقوم الليل، ويصرف فيها جزءاً من النهار، ويجد في الصلاة لذته وقرة عينه، وينهى أصحابه أن يقلدوه فيما لا طاقة لهم به. تقول عائشة كان رسول الله يدع العمل وهو يحب أن يعمل به، خشية أن يعمل الناس به، فيفرض عليهم. ويروي أنس أن النبي واصل: أي صام مواصلاً الليل بالنهار، والنهار بالليل، يومين أو ثلاثة، وكان ذلك في آخر رمضان، فواصل ناس معه، فبلغه ذلك، فقال: لومد لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع له المعمقون"أي المبالغون" تعمقهم. أني لست مثلكم، إني أظل يطعمني ربي ويسقيني، " أي يعينني ويقويني"، وتقول عائشة: صلى رسول الله في المسجد، فصلى بصلاته ناس كثير، ثم صلى من القابلة، فكثروا، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة، فلم يخرج إليهم، فلما أصبح قال: قد رأيت صنيعكم، فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم، ويقول أنس: كان رسول الله يقوم في رمضان، فجئت فقمت إلى جنبه، فجاء رجل آخر، فقام أيضاً، حتى كنا رهطاً، فلما أحس أنا خلفه، جعل يتجوز في صلاته " أي يسرع"، ثم دخل رحلة فصلى صلاة لا يصليها عندنا، فقلت له حين أصبحت: أفطنت لنا الليلة قال: نعم، ذلك الذي حملني على ما صنعت.
لاشك أن نفس محمد المتصلة بالله، تستطيع ما لا يستطيع الناس، فهو يود أن ينفرد بما فوق الطاقة، فإذا نشط أصحابه لمتابعته، خشي عليهم التعمق والغلو، وهو الناسك الذي بلغ في تعبده مقاماً لا يدانى، وهو الرسول الذي جاء بالحنيفية الميسرة، تلامس حقائق الحياة، فخليق به أن يغضب إذ يرى الناس يهمون بترك الدنيا والانقطاع للعبادة، والله تعالى يقول:
" وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك".
رأى أحد أصحابه في سفر مغارة بجانبها ماء وخضرة، فمالت نفسه للعزلة بهما والتعبد، فغضب، وذكر له أنه ما جاء باليهودية، ولا النصرانية، وإنما جاءهم بدين إبراهيم ميسراً سهلاً. وأراد بعض الصحابة، ميلاً بفطرته، أو تأثراً بالرهبانية، أن ينقطع للعبادة، فغضب غضباً شديداً ومنعه؛ وأراد آخر أن يمتنع عن أكل اللحم تنشطاً وتعبداً، فرده. ويقول أنس: كنا مع النبي في سفر، فمنا الصائم، ومنا المفطر، فنزل منزلاً في يوم حار، أكثرنا ظلاً صاحب الكساء، ومنا من يتقي الشمس بيده، فسقط الصوام، وقام المفطرون، فضربوا الأبنية، وسقوا الركاب، فقال صلى الله عليه وسلم: ذهب المفطرون اليوم بالأجر.
وقد نفذت أوامره بالاعتدال والقصد في كل شيء إلى قلوب أصحابه، وأدركوا مقصد أستاذهم الأعظم، فأخذ بها بعضهم بعضاً، حتى أن سلمان الفارسي دخل بيت أبي الدرداء، وكانا ممن آخى بينهم النبي في المدينة، فوجد امرأته متبذلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء، فصنع له طعاماً، فقال: كل، فاني صائم. قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم، فنام، ثم ذهب يقوم، قال: نم، فلما كان آخر الليل قال سلمان: قم الآن فصليا، فقال سلمان: إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي فذكر ذلك له، فقال النبي: صدق سلمان.
وعن أنس بن مالك قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي، يسألون عن عبادته، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي؟ قد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر! فقال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله إليهم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله أني لأخشاكم الله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني.
ذلك هو التوسط الذي أراده محمد، وكان فيه أعجب رجال التاريخ، فهو برغم خشيته أن يميل الناس عن القصد، وأن يفرطوا ويكلفوا أنفسهم مالا يطيقون، كان المثل الأعلى في التعبد والنسك، كما كان في الرجولة، وتصريف شؤون الدنيا، والقيام عليها.
والآن أعود إلى نوع من تعبده، ما أحلاه لفظاً! وأسماه معنى! ذلك هو الدعاء، والدعاء كما قال صلى الله عليه وسلم؛ هو العبادة:
" وقال ربكم ادعوني أستجب لكم".
انظروا إلى هذا الدعاء، وما فيه من الضراعة والتسليم الكامل: " إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت، وأنا أول المسلمين اللهم اهدني لأحسن الأعمال، وأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وقني سيئ الأعمال. وسيئ الأخلاق لا يقي سيئها إلا أنت، اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، وعليك توكلت، أنت ربي، خشع سمعي وبصري ولحمي ودمي وعظمي لله رب العالمين. اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت.
ذلكم هو محمد صلى الله عليه وسلم وصل في نسكه وعبادته إلى أرقى مراتب الإخلاص لله، والتفاني في طاعته وحبه، والمثول الدائم في حضرته، ووصل في شئون الدنيا إلى إقامة دولة من أنقاض الهمجية، وإلى إبراء المجتمع من علل الاضطراب والفساد، ففي شخصه التقت أغراض الحياة جميعاً على أكمل وجوهها.
تلك الناحية من صفات بطل الأبطال يحني لها الناس جميعاً رءوسهم، وإذا رفع إليها أبطال العالم أبصارهم غضوا الطرف أمام الإعجاز المحمدي، فما كان رجل ممن ملأ السمع والبصر من رجال التاريخ ليقوى على حمل هذا العبء الروحاني، من العبادة في الليل والنهار، وتلقى أعمال الدنيا في كل يوم على أنشط ما يكون، وأصلح ما يكون لخدمة نفسه وقومه، وكفاح أعدائه، وإقامة الدولة الخالدة، التي تركها بطل الأبطال صلى الله عليه وسلم في نشأتها وصولتها.
عفوه وصفحه صلى الله عليه وسلم عمن أسرفوا في إيذائه، هو الخلق الكريم الذي أدبه به القرآن، قال تعالى: " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين". وبين الوحي معناه بقوله: " أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك".
فالعفو عند المقدرة مرآة تتجلى فيها أحسن صور النفس، يتجلى فيها سمو المقصد، وبعد الغاية، والترفع عن الشهوات، وتبدو البطولة في أروع صورها... ولن تجد في تاريخ الأبطال، بل تاريخ البشر كلهم مثل محمد ظافراً، ناجحاً، مؤيداً، يعطي من حرمه، ويعفو عمن ظلمه.
كانت مكة والطائف مركزي العداوة الشديدة، تتنافسان في الوفاء للات والعزى، فلم يكن شراً على محمد من قريش، ولا أرغب في الشرك من ثقيف، وبرز في القريتين رجال مثل أبي جهل بن هشام، وعكرمة ابنه، وأمية بن خلف، وصفوان ابنه، والعاص بن وائل السهمي، والوليد ابن المغيرة، وأبي سفيان بن حرب، وبني عمرو بن عمير الثلاثة، وأبي مسعود الثقفي، ومالك بن عوف، وأضرابهم ممن اتخذوا إيذاءه صلى الله عليه وسلم والسخرية به وقتاله وهجوه متعة بها يلتذون، ومفخرة بها يفاخرون.
ينقسم ذلك الأذى والاضطهاد في رأيي إلى أربعة أطوار، ويبتدئ الطور الأول بإيذائه، والتصغير من شأنه، وقت أن كان مثل أبي لهب يقول له؛ وهو ينذر الناس فوق الصفا: تباً لك! ألهذا دعوتنا؟ والطور الثاني يبتدئ بصحيفة المقاطعة، وهي ميثاق علق بالكعبة، وتعاهد فيه المشركون على مقاطعة بني هاشم، لحمايتهم ابنهم محمداً صلى الله عليه وسلم فكاد يهلك ذلك البيت جوعاً؛ وهو مقطوع في شعب بني هاشم. كان هذا الطور شديداً، فإن الميثاق المقدس حرم على الناس أن يتزاوجوا مع آل محمد، أو يبيعوهم، أو يشتروا منهم، أو تكون لهم بهم صلة ما. ويبتدئ الطور الثالث بوفاة أبي طالب عمه وحاميه، وخديجة زوجة ومؤاسيته، حين اشتد عليه الأمر، وضاقت عليه الدنيا؛ ولو لا الإيمان والنبوة الصادقة ليئس من قومه وهام على وجهه في الأرض.
في ذلك الطور خرج إلى الطائف وحده يلتمس حماية ثقيف، والامتناع بهم من قومه، فردوه أشنع رد، وسخر به زعماؤها الثلاثة من بني عمرو بن عمير، فقال له أحدهم: أما وجد الله أحداً يرسله غيرك؟ وقال الآخر: والله لا أكلمك أبداً.. لئن كنت رسولاً كما تقول لأنت أخطر من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله، ما ينبغي لي أن أكلمك، فسألهم محمد أن يكتموا عليه، وقال لهم إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا ذلك عني، وكان يخشى سوء المنقلب إلى مكة، والشماتة والغلو في إيذائه، فأبوا حتى هذه عليه، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه، ويصيحون به، حتى أخرجوه من البلد، وتتبعه السبية والسوقة يصيحون مسيرة ثلاثة أميال، يعبثون به، ويقذفونه بالحجارة، حتى أدموا قدميه، وكلما جلس أقاموه، وأجبروه على المشي، فلجأ إلى حائط(1) لعتبة بن ربيعة، فلما أطمأن قال: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس. يا ارحم الراحمين! أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ أن لم يكن بك على غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك، أو تحل على سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك". فلما رجع إلى مكة لم يستطع أن يدخلها إلا في حماية مطعم بن عدي؛ ثم اختتمت مكة هذا الطور من أطوار الإيذاء بالعزم على قتله، وتفريق دمه بين القبائل، حتى يعجز عن طلبه بنو عبد مناف. فهاجر إلى المدينة، وابتدأ بذلك الطور الرابع. وحديث هجرته إليها، وما لقي في طريقه مشهور.
انظروا بعد ذلك إلى معاملته لأهل مكة والطائف، ورؤساء الفتنة، وزعماء الشر، الذين أسرفوا في إيذائه واضطهاده، لتتجلى نفسه الكريمة في مرآة عفوه وصفحه الجميل. انظروا إليه فاتحاً في جيش لم تر جزيرة العرب مثله يكتسح مكة، وتطؤها خيله، ويمر إلى حنين والطائف، فيقع بين يديه ستة آلاف من أسرى هوازن وثقيف، ويفر من بقى من السادة المتكبرين، ومالك بن عوف، وياليل ابن عمرو بن عمير. انظروا إليه والبلاد في رحمته يشملها عفوه، والسادة والزعماء الذين عتوا في الأرض يجزون بالبر والإحسان، وأبطال العالم لا تعرف لأمثالهم غير قطع الرءوس.
هذا محمد في ذروة المروءة لا يداني، وقبل أن يصل الجيش الفاتح إلى مكة خرج أبو سفيان في ثلاثة نفر مستطلعاً، فعلم أن لا طاقة له ولقومه بلقاء محمد، فأردفه العباس على بغلة النبي التي كان يركبها، ودخل به المعسكر ليلاً، يطلب الأمان له ولمكة، فكان كلما مر بنار من نار المسلمين قالوا: هذا عم النبي على بغلته، حتى مر بنار عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: من هذا؟ فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة، قال: أبو سفيان عدو الله! الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد.. ثم سارع إلى رسول الله يقول: دعني أضرب عنقه، فقد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد، ولكن رسول الله أمر أن يبيت أبو سفيان في رحل العباس. فلما أصبح جئ به، فأسلم وعفا عنه، فقال العباس: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئاً، فقال: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. وعاد أبو سفيان إلى مكة مسرعاً، والجيش يزحف إليها، وهو يقول: والله ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة! فلما جاء قومه صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
فقالوا: قاتلك الله! وما تغني عنا دارك؛ فقامت هند بنت عتبة زوجه التي لاكت كبد حمزة يوم أحد، فأخذت بشاربه، وقالت: اقتلوه، قبح من طليعة قوم! فقال أبو سفيان: ويلكم لا تغرنكم هذه عن أنفسكم، فإنه قد جاءكم مالا قبل لكم به، من دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن.
أي مثل في العفو الكريم أعظم من هذا؟ أبو سفيان الذي فعل الأفاعيل والذي أدمى كبد الرسول في أحد، والذي زلزل بحصاره المسلمين في الخندق، أبو سفيان العاق من ولد عبد مناف، الذي ناصر مخزوماً وسهماً على محمد وبني هاشم، يعفو عنه محمد، ثم يعطيه مع العفو ما يفخر به! وقد كانت هبة الحياة كل الرجاء، فإذا الحياة والجاه بعض عطايا محمد للمقهورين من أعدائه.
دخل رسول الله مكة، ولكن عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، ومن جمعوا من الناس أبوا الاقتالا، فهزموا وفروا، ثم استأمنوا فأمنوا، بل عفى عنهم، بل أعطوا من غنائم هوازن، تأليفاً لقلوبهم!
وانظروا إلى مثل لن تجدوا له شبيهاً في تاريخ البشرية، هذا صفوان بن أمية العدو ابن العدو يفر إلى جدة، ليبحر إلى اليمن، فيأتي عمير بن وهب لرسول الله، فيقول: يا نبي الله، إن صفوان بن أمية سيد قومه، قد خرج هارباً منك، ليقذف نفسه في البحر فأمنه، قال: هو آمن. قال: يا رسول الله عمامته التي دخل فيها مكة، فخرج بها عمير حتى أدركه؛ وهو يريد أن يركب البحر، فقال: يا صفوان، فداك أبي وأمي! الله الله في نفسك أن تهلكها! فهذا أمان رسول الله قد جئتك به، قال: إني أخافه على نفسي، قال: هو أحلم من ذاك وأكرم. فرجع معه حتى وقف به على رسول الله، فقال صفوان: إن هذا يزعم أنك قد أمنتني؟ قال: صدق. قال: فاجعلني فيه بالخيار شهرين. قال: أنت بالخيار أربعة أشهر.
هذا العدو ابن العدو صفوان بن أمية لا يلقى من بر رسول الله أن يعفو عنه فحسب، بل يبعث عمامته التي فتح بها مكة تطميناً للهائم على وجهه إلى البحر، ثم إذا ما طلب منه أن يتركه ليختار الإسلام أو الشرك شهرين، قال: بل أربعة، كي لا يقهره ولا يذله، فهل في تاريخ البشر مثال من العفو عند المقدرة أبر وأكرم من هذا الذي فعله بطل الأبطال محمد صلى الله عليه وسلم!
وهذا رجل آخر جاءه قبيل الفتح، وكان عاقاً مسرفاً في هجوه وإيذائه للرسول، هو أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وطلب الإذن عليه، فقال: لا حاجة لي به وقد هتك عرضي! وكان مع أبي سفيان بُنَيّ له، فقال: والله ليأذنن لي، أو لآخذن بيد بني هذا ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشاً وجوعاً. فلما بلغ ذلك رسول الله رق له، فدخل عليه وعفا عنه، فقال:
لعمرك إني يوم أحمل رايةً
لتغلب خيل اللات خيل محمد
لكالمدلج الحيران أظلم ليله
فهذا أواني حين أهدي وأهتدي
وفي مكة وهو طائف بالبيت أراد فضالة بن عمير أن يقتله، فلما دنا منه قال: أفضاله؟ قال: نعم، فضالة يا رسول الله. قال: ما كنت تحدث به نفسك؟ قال: لا شيء، كنت أذكر الله عز وجل، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: استغفر الله! ثم وضع يده على صدره، فسكن قلبه، فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حت ما من خلق الله شيء أحب إلي منه.
ثم هاكم مثلاً من عفوه عن رجل أبكاه، وقهر المسلمين، وحزنهم، وهو عبد حبشي يقال له: وحشي، ذلك هو قاتل حمزة. يقول وحشي: خرجت حتى ملت إلى رسول الله بعد فتح مكة والطائف، فلم يرعه إلا بي قائماً على رأسه تشهد بشهادة الحق، فلما رآني قال: أوحشي؟! قلت: نعم يا رسول الله! قال: أقعد فحدثني كيف قتلت حمزة؟ قال: فحدثته، فلما فرغت من حديثي قال: ويحك! غيب عني وجهك، فلا أرينك، قال: فكنت أتنكب رسول الله حيث كان، لئلا يراني، حتى قبضه الله.
ذلكم هو ضبط النفس والعفو في أحسن صورة. رجل لا يستطيع رسول الله أن ينظر إلى وجهه؛ وهو قاتل عمه، وهو عبد لا أصل له ولا عشيرة، يعفو عنه، وأحب شيء إلى المسلمين أن يروا دمه كما رأوا أحشاء حمزة الذي طعنه بحربته.
ولما اطمأن الناس بعد الفتح قام رسول الله على باب الكعبة، فقال: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج. يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب. ثم تلا هذه الآية: " يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم".
ثم قال: يا معشر قريش، ما تظنون أني فاعل فيكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ أخ كريم. قال اذهبوا فانتم الطلقاء.
ثم جلس رسول الله، فقام إليه على بن أبي طالب ومفتاح الكعبة في يده، فقال: يا رسول الله، اجمع لنا الحجابة مع السقاية ( وكانت الحجابة في غير بني هاشم)، فقال رسول الله: أين عثمان بن طلحة؟ فدعى له، فقال: هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء.
وها هي ذي ثقيف كلها بين يديه ووفدها في المدينة، وقد أكلتها العرب، وهانت على الناس، فماذا فعل بها، وفي وفدها رجل مثل ياليل بن عمرو بن عمير الذي طرده من الطائف؟ أما مالك بن عوف فذلك من سبق إليه عفوه، فرد إليه ماله وأولاده، ووهب له مائة ناقة؛ وأما هؤلاء فقد رجعوا إلى أهليهم بعفو شامل وأمان كامل، ولولا ضيق المقام لسمعتم قصة هوازن، وكيف رد الرسول سبيها، واشتراه ديناً عليه لأصحابه، ليعطيه أعداءه الذين كادوا يقضون على الإسلام يوم حنين، ولسمعتم من هذه الأمثلة آثات في كل قبيلة وكل بلد، مما تنقضي الأيام ويبقى فيها رسول الله المثل الأعلى، والقدوة الحسنة للناس جميعاً.
رحمته وبره
جانب عظيم من جوانب شخصية محمد صلى الله عليه وسلم هو جانب رحمته وبره، الذي لا يدانيه فيه أحد، وهو صورة لنفسه الكريمة، في أيام فقره وغناه، وضعفه وقوته، فقد كان البر أمامه، والرحمة محيطة به، وهو الذي يقول: " إن البر يهدي إلى الجنة. ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، لا يرحم الله من لا يرحم الناس، الراحمون يرحمهم الرحمن، لا تنزع الرحمة إلا من شقي"، وقد وصفه القرآن بهذه الصفة قال تعالى: " لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم".
كانت رحمته تسع الناس جميعاً، وكان بره يصل إلى المؤمنين والمشركين، وكان الفقراء والضعفاء أقرب الناس إلى قلبه الكبير، وعطفه الشامل، وبلغ حبه الفقراء أن دعا الله أن يبقى فيهم حياً وميتاً. روت عائشة أنه كان يقول:" اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين" فقالت عائشة: لم يا رسول الله؟ قال: إنهم يدخلون الجنة قبل الأغنياء بأربعين خريفاً. يا عائشة لا تردي المسكين ولو بشق تمرة. يا عائشة، أحبي المساكين وقربيهم يقربك الله يوم القيامة".
كانت حياته موصولة بالفقراء، وكان كل ما في بيته ويده لهم، وبلغ من عطفه عليهم أن مر رجل عليه، فقال لرجل عنده: ما رأيك في هذا؟ فقال رجل من أشراف الناس، هذا والله حري أن خطب أن ينكح وأن شفع أن يشفع. فسكت النبي ثم مر آخر، فقال النبي: ما رأيك في هذا؟ فقال: رجل من فقراء المسلمين، هذا والله حري أن خطب ألا ينكح، وأن شفع ألا يشفع، وأن قال ألا يسمع لقوله؛ فقال صلى الله عليه وسلم: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا.
لقد عمل محمد بما آتاه الله، وما أودع فطرته من الرحمة، على رفع شأن الفقير وإكرامه، والأخذ بيد الضعيف، وأرسل بره في هذه الطبقة، حتى قلب نظام المجتمع الذي ظهر فيه في سنين قليلة، وجعل من الفقراء المستضعفين أمة دان لها المشرق والمغرب فيما بعد؛ كما كان يقول صلى الله عليه وسلم: " ابغوني ضعفاءكم، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم" وكان يسره أن يجتمعوا إليه. وقد آثر بالحديث مرة واحدة بعض الأغنياء الأقوياء من قومه، فنزل القرآن بمعاتبته، فقال:
" عبس وتولى، أن جاءه الأعمى، وما يدريك لعله يزكى، أو يذكر فتنفعه الذكرى، أما من استغنى، فأنت له تصدى" .. الخ، وطالما سخرت قريش منه لحفاوته بالمساكين، وذهابه بهم إلى الحرم، فقالت أهؤلاء من الله عليهم من بيننا؟، ولكنه كان بالمساكين رءوفاً رحيماً. يقول عبد الله بن عمرو بن العاص: دخل النبي المسجد، فجلس إلى الفقراء، وبشرهم بالجنة، وبدا على وجوههم البشر، فحزنت، لأنني لم أكن منهم. ورأى سعد بن أبي وقاص يتعالى على المساكين، فذكر له أن ما ينال من الخير والنصر، إنما هو أثر هؤلاء الفقراء، وأنه مدين للمساكين، وقد تحقق ذلك واضحاً جلياً حينما قادر سعد هؤلاء الفقراء المستضعفين إلى القادسية، فهزم رستم، ووطئ دولة الأكاسرة، التي كان العرب بعض رعاياها.
كانت رحمته وبره بالمساكين تمتد إلى ما بعد الموت.
جاء في صحيح البخاري " أن النبي ذكر ذات يوم رجلاً أسود، فقال ما فعل ذلك الإنسان؟ قالوا: مات يا رسول الله، قال: أفلا آذنتموني؟ فقالوا: إنه كان كذا وكذا قصته، فحقروا من شأنه، قال: فدلوني على قبره، فأتى قبره، فصلى عليه".
وكان صلى الله عليه وسلم يجاهد لتحرير العبيد، ولرفع قيمتهم، فلم يدخر مالاً، ولا سلطاناً ولا دعوة في سبيلهم، وكانت نفسه تفيض بالرحمة عليهم والبر بهم، وأظهر مثل ما كان منه مع مملوكه زيد بن حارثة، الذي خير بين سيده محمد ووالده، فاختار محمداً في الوقت الذي كان لا حول له ولا قوة، بل كان موضع أذى قريش وسخريتها، وهو الذي جعل معتوقه زيداً هذا، القائد الأعلى للمهاجرين والأنصار حين وجههم لغزو الروم، فاستشهد في وقعة مؤتة، ولما استأنف النبي غزو الروم بعد الفتح أمر شاباً على الجيش، هو أسامة بن زيد هذا وهو حدث في العشرين ومشى أكابر الصحابة وأشراف قريش والنبي في موكبه.
أرأيتم أذن كيف رفع برحمته وبره شأن الأرقاء المستعبدين؟ وكان صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يدخل الجنة سيئ الملكة، ويقول: حسن الملكة يمن وسوء الملكة شؤم".
وكان باراً بالخدم والعمال، روى أبو هريرة أن النبي قال: " إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه، فإن لم يجلس معه فليناوله لقمة أو لقمتين" ! وقال معاوية بن سويد: كنا بني مقرن على عهد رسول الله ليس لنا خادم إلا واحدة، فلطمها أحدنا، فبلغ ذلك رسول الله فقال: أعتقوها، فقيل: ليس لهم خادم غيرها. قال: فليستخدموها، فإذا استغنوا عنها فليخلوا سبيلها. وعن أبي مسعود قال: ضربت غلاماً لي بالسوط، فسمعت صوتاً من خلفي، فإذا برسول الله يقول: أعلم يا أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام. وبلغ من رحمة محمد أنه كان لا يطيق أحداً يقول: عبدي أو أمتي، فأمر المسلمين أن يكفوا عن ذلك، وأن يقولوا: فتاي وفتات، وقد كان لهذه التربية أحسن الأثر في تحرير الأرقاء، ونشر المساواة، وتغليب روح الأخوة على ما كان من العصبية، والغرور، والتفاخر.
يقول المعرور بن سويد: رأيت أبا ذر وعليه حلة، وعلى غلامه مثلها، فسألته عن ذلك، فقال: سمعت رسول الله يقول: هم أخوانكم جعلهم الله تعالى تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم من العمل ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه. وقال أنس: خدمت رسول الله عشر سنين، فما قال لي أف قط، وكان صلى الله عليه وسلم يخالط المساكين والخدم والعبيد ويحادثهم ويجيب دعوتهم، ويعود مرضاهم، ويمشي في جنائزهم، ويصلي عليهم، وقد جعلت الشريعة المحمدية نصيباً في بيت المال لتحرير الأرقاء، وكان صلى الله عليه وسلم يعطي العبد بعد تحريره شيئاً يعينه على الكسب.
لم يكن رسول الله ليقصر رحمته وبره، الذي هو صورة صادقة لنفسه الكريمة، على الناطقين من بني الإنسان، فإن هذه الرحمة ملكت مشاعره، وحفزته لكفاح موفق في سبيل الرفق بالحيوان، فكم كان للعرب من عادات مرذولة أنكرها وأزالها. كانوا يقتطعون من حيواناتهم، وهي حية، فيشوون ويطعمون، فحرم ذلك ولا يزال إلى اليوم بعض الطوائف في الصحراء الكبرى بالرغم إسلامهم يعملون شيئاً من هذا، فهم إذا خرجوا للغزو، وبعدت عليهم الشقة، فصدوا البعير، فأخذوا من دمه، وطبخوه وأكلوه، أو شقوا عن سنامه فاقتطعوا من الدهن، ثم خاطوا السنام، وأكلوا الدهن. وكان وشم الحيوان، ولا يزال ضرورة لإثبات الملكية في البادية، فنهى عن ذلك الأذى، وخففه باختيار أقل الأثر في أقل الأعضاء إحساساً. وكان العرب يتخذون من دوابهم أهدافاً للرماية، فنهى عن ذلك، وعن أن يقطعوا ذيول الخيل. ومر مرة بناقة مربوطة جائعة، فحل وثاقها وأطلقها. وأوصى الناس أن يخشوا الله في البهائم؛ ومن الأمثلة التي ضربها صلى الله عليه وسلم أنه قال: بينما رجل يمشي بطريق أشتد عليه العطش فوجد بئراً، فنزل فيها، فشرب ثم خرج وإذا كلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني! فنزل البئر، فملأ خفه ماء، ثم أمسكه بفيه حتى رقى، فسقى الكلب فشكر الله تعالى له، فغفر له" فقالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم لأجراً؟ قال: في كل كبد رطبة أجر. وقال أيضاً: دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض.
تلك الأمثال يضربها محمد لقوم ما كانوا يظنون في الرفق بالحيوان أجراً، وقد كان لها أكبر الأثر من الرحمة والرفق في نفوس المسلمين، ومن تأدب بأدبهم في الشرق والغرب، وكان من عادات الجاهلية أن يتخذوا ظهور دوابهم منابر، فنهى عن ذلك، وقال: إنما سخرها الله لكم لتبلغكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، وجعل لكم الأرض، فعليها فاقضوا حاجاتكم.
وهذه رحمته يفيض بها قلبه الكبير على عصفور صغير: قال عبد الرحمن بن عبد الله، كنا مع رسول الله في سفر، فرأينا حمرة، ( طائر في شكل العصفور) معها فرخان لها، فأخذناهما، فجاءت الحمرة تعرش ( أي ترفرف)، فلما جاء الرسول قال: من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها. وقال صلى الله عليه وسلم في قسوة عائشة على بعير ركبته: "من يحرم الرفق يحرم الخير كله".
هذه الرحمة بالإنسان والحيوان كانت تظهر أنساً وبشراً في وجهه إذا رأى الطفل، أو لقي الصبي، فقد كان يأخذ أطفال أصحابه بين ذراعيه، ويطرب لذلك، وكان إذا مر بالصبية يقرئهم السلام. وحدث جابر بن سمرة: أن النبي رأى صبية يتسابقون، فجرى معهم، وكان يلقى الصبي في الطريق فيركبه ناقته ليسره، وكان أبر والد بولده، يقول أنس: أنه لا يعلم رجلاً أبر بأهله وولده من محمد. وقال أسامة بن زيد: كان رسول الله يأخذني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن على فخذه الأخرى، ثم يضمهما، ثم يقول: اللهم ارحمهما فإني ارحمهما. وقد حدث أن عجب بعض الأعراب من رسول الله وهو يقبل أولاده وأولاد أصحابه، فقال الأقرع بن حابس مرة وقد رآه يقبل الحسين: أن لي عشرة أولاد ما قبلت أحداً منهم قط، واعترض آخرون بمثل هذا المعنى على الشفقة غير المألوفة، وكان محمد ينكر عليهم أن يكونوا غلاظ الأكباد قساة القلوب. قالت عائشة: جاء أعرابي إلى النبي، فقال: أتقبلون الصبيان؟ فما نقبلهم: فقال النبي: أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة؟
وهذه الرحمة في نفس محمد كما كانت تبدو بشراً وأنساً، كانت تفيض دمعاً وأسى، وكان جفاة القوم يستعظمون هذه عليه، فكان يبين لهم أنها رحمة، وأن لا عيب فيها.
مات لإحدى بناته ولد، فلما رفع إليه وكانت نفسه تتقعقع كأنها شن، ( أي قربة جف جلدها) فاضت عيناه، فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله ما هذا؟ قال: هذه رحمة جعلها الله في قلوب عبادة، وإنما يرحم الله من عبادة الرحماء. وجاءت نوبة سعد نفسه، فاشتكى، وذهب النبي يعوده، فلما دخل عليه، فوجده في غاشية بين أهله. قال: قد قضى؟ قالوا: لا يا رسول الله، فبكى النبي، وقال: ألا تسمعون أن الله لا يعذب بدمع العين، ولا حزن القلب، ولكن يعذب بهذا، وأشار إلى لسانه.
هذه الرحمة بالكبير والصغير لم تكن خاصة بأتباعه المؤمنين، بل كانت شاملة لأعدائه المشركين والمخالفين من أهل الملل الأخرى. رفع إليه بعد إحدى الوقعات أن صبية قتلوا بين الصفوف، فحزن حزناً شديداً، فقال بعضهم: ما يحزنك يا رسول الله وهم صبية للمشركين؟ فغضب النبي، وقال ما معناه: إن هؤلاء خير منكم، إنهم على الفطرة، فإياكم وقتل الأولاد، إياكم وقتل الأولاد. وروى البخاري عن جابر بن عبد الله قال: مرت بنا جنازة، فقام لها النبي وقمنا، فقلنا: يا رسول الله، إنها جنازة يهودي، فقال: أو ليست نفساً؟! إذا رأيتم الجنازة فقوموا. ولما مات النجاشي نعاه لأصحابه، ثم تقدم، فصف الناس خلفه وصلى عليه.
تلك هي الرحمة التي لا تعرف التخصيص بالدين أو الوطن، ولا فرق عندها بين الرفق بالإنسان والحيوان.
وسئل مرة أن يلعن أعداءه، فقال: ما جئت لعاناً، بل رحمة. ولما مات عبد الله بن أبي سلول، وكان زعيم المنافقين في المدينة، وهو الذي رجع بمن تبعه من الطريق يوم أحد، فخذل النبي في أحرج أوقاته، وله مواقف مشهورة كان فيها شراً على الرسول والمسلمين. لما مات طلب ابنه من النبي قميصه ليكفنه فيه، تطيراً له، فأعطاه قميصه كفناً لزعيم المنافقين. أرأيت أبر وأكرم من هذا الصنيع؟ ثم مشى النبي إلى قبره، فوقف يريد الصلاة عليه، فوثب إليه عمر بن الخطاب، وقال: يا رسول الله أتصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا كذا وكذا؟! يعد عليه قوله، فتبسم الرسول، وقال: عني يا عمر.. قال عمر: فلما أكثرت عليه قال: إني خيرت فاخترت، لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت عليها؛ وانصرف.
وذلك إشارة إلى قوله تعالى في المنافقين: " استغفر لهم أو لا تستغفر لهم، إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم"، ففي الخيار بين أن يستغفر، وألا يستغفر، نزعت به طبيعته الرحيمة إلى الاستغفار لأعدائه، بل قال لعمر: لو علمت أني لو زدت في الاستغفار على السبعين غفر لهم، لفعلت أكثر من سبعين مرة.
تلك هي الرحمة التي وسعت أعداءه وأصدقاءه والناس جميعاً.
وسمع مرة أعرابياً يصلي خلفه، يقول: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً، فلما سلم قال: لقد ضيقت واسعاً.
فمن هذا وغيره مما سقناه من الأمثلة على امتلاء نفسه بالرحمة، يتضح أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن نتاجاً للبيئة التي عاش فيها، وإنما كان الرحمة الشاملة في وسط الجفوة والعصبية والأثرة، تلك الرحمة التي لا حد لها هي التي جعلته يدعو لأعدائه، وقد سئل الدعاء عليهم في أحد وهو جريح، وعمه حمزة ممثل به، وأنصاره بين القتل والجرح والشتريد. وهي التي جعلته يدعو لثقيف يوم الطائف وقد امتنعت عليه. وتلك الرحمة هي التي جعلته يفتح لتجارة قريش طريق اليمامة، وطريق الشام، وقد سألوه صلة الرحم، وشكوا جوع أهليهم، وهم الذين أخرجوه من داره وحصروه في المدينة.
فرحمته وبره صلى الله عليه وسلم وسعتا العدو والصديق، والقوي والضعيف، والحر والعبد، والحيوان، وفاض بها قلبه الكبير، فكانت في فمه بشراً، وفي عينه دمعاً، وفي يده جوداً.
تلك الرحمة التي وسعت الجميع هي أبرز صفات محمد. وهي التي يتسابق الأبطال إليها، فيردون عن هذا المدى، ويبقى رسول الله المثل الكامل، والقدوة العظمى. وحقاً كان كما قال عن نفسه " إنما أنا رحمة مهداة" وكما قال القرآن الكريم له: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين".
فصاحته وبلاغته
لم يكن بطل الأبطال وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم إلا بشراً يوحى إليه، وما أوتي عن طريق الوحي قد فصلت آياته في الكتاب، وفيما عدا ذلك من الأقوال والأعمال، فإنما هي ثمرة عقل راجح، ولسان فصيح في ذات فذة، وله في غير الوحي من القول والعمل ما يكفيه ليبقى أبد الدهر أمام البلاغة والفصاحة، وسيد الرجال، بل الرجل الفذ في تاريخ البشرية، الذي اجتمعت له أمور ثلاثة:
الأول: تكوين أمة من قبائل وشعوب متنافرة، كأنما خلقت لتتباعد وتتطاحن.
والثاني: تأسيس دولة بقيت قروناً مصدر السلطان في وسط الدنيا، ولا يزال أثرها أكثر من ألف سنة ماثلاً أمام الأنظار يوحي بعظمة الرسول صلى الله عليه وسلم، التي لا تدانيها عظمة.
والثالث: إقامة دين يدين به مئات الملايين، ويخلص له العرب والعجم، والأبيض والأسود والأصفر.
وتلك الأمور الثلاثة التي اجتمعت له والتي تكفي كل واحدة منها لتخليد الذكر، هي بعد الوحي كما قلت نتاج ذلك اللسان الفصيح، والعقل المدبر.
وقد أجمع الناس على أن محمداً الأمي قد أوتي من الأسلوب السهل المعجز ما لم يؤت معلم ولا متعلم، ممن دانت لهم العربية، وملكوا زمامها، فله جوامع الكلم، وبدائع الحكم في لفظ ناصع. وقول جزل، ومعان صحاح خالدة، في عبارات مضيئة مشرقة، لا تكلف فيها.
قال له أصحابه يوماً: ما رأينا الذي هو أفصح منك! فقال: وما يمنعني، وإنما أنزل القرآن بلساني: لسان عربي مبين. وقد فسر صلى الله عليه وسلم فصاحته بنشأته في بني سعد، ومولده في قريش، يريد أنه جمع قوة عارضة البادية وجزالتها ورونق الحاضرة وزخرف صناعتها وروعتها. غير أن نشأته في بني سعد، ونسبته في قريش، لا تفسر لنا ناحية أخرى، وهي مقدرته على أن يخاطب كل قبيلة وشعب من الشعوب العربية بلهجته، ويبدي في هذه اللهجات جميعاً من مطرب القول وجامعة ما يسبي قلب سامعه، وسواء أكان السامع من قحطان أم عدنان، من أقصى جنوب الجزيرة أم شمالها، من حجازها أم تهامتها أم نجدها، فإنه مقر لمحمد بالإمامة في البلاغة والفصاحة، في أي لهجة جرى عليها الحديث.
كان كلامه بيناً لا فضول فيه ولا تقصير، يحفظه من جلس إليه. تقول عائشة: ما كان رسول الله يسرد كسردكم هذا ولكن كان يكلم بكلام بين فصل يحفظه من جلس إليه. وروى عنها أيضاً: أنه يحدث حديثاً لو عده العاد لأحصاه.
ولقد كان بطل الأبطال، علم البيان في قومه الذين اشتهروا بالفصاحة، والذين كانوا يقيمون للأدب أسواقاً، ويكتبون بالذهب، ويعلقون على الكعبة ما يستحسنون من القول، وكان أبو بكر رضي الله عنه نسابة مشهوراً في قريش في الجاهلية والإسلام وكان في حيرة من فصاحة محمد وبلاغته، قال له يوماً لقد طفت في العرب، وسمعت فصحاءهم، فما سمعت أفصح منك، فمن أدبك؟ قال: أدبني ربي فأحسن تأديبي. وذلك هو التفسير الصحيح، لأن محمداً فطرا على صفاء الحس، ونفاذ البصيرة، وصحة الحكم، واستقامة الطبع، مما هو جلي في قوله وعمله.
ويقول الجاحظ؛ ومكانته في الأدب ما تعلمون، يصف كلام الرسول: " ألقى الله على كلامه المحبة، وغشاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، وهو مع استغنائه عن إعادته، وقلة حاجة السامع إلى معاودته، لم تسقط له كلمة، ولا زلت له قدم، ولا بارت له حجة، ولم يقم له خصم، ولا أفحمه خطيب، بل يبذ الخطب الطوال بالكلام القصير، ولا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتج إلا بالصدق، ثم لم يسمع الناس بكلام قط أعم نفعاً، ولا أصدق لفظاً، ولا أعدل وزناً... من كلامه صلى الله عليه وسلم.
وإني محاول الآن أن أسوق لكم نبذاً من قوله في مواضع شتى، ومعان متفرقة، فيها ترون الفصاحة والبلاغة المحمدية حية منيرة، لم تبل القرون جدتها، ولم تذهب شيئاً من طلاوتها. انظروا إلى هذه الكلمات: قال رسول الله: أمرني ربي بتسع: خشية الله في السر والعلانية وكلمة العدل في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وأن أصل من قطعني، وأعطى من حرمني، وأعفو عمن ظلمني، وأن يكون صمتي فكراً، ونطقي ذكراً. ونظري عبرة.
وقد وجدوا مكتوباً على قائم سيفه صلى الله عليه وسلم: أعف عمن ظلمك، وصل من قطعك، وأحسن إلى من أساء إليك، وقل الحق ولو على نفسك.
ويقول ابن عباس: كنت رديف رسول الله فقال: يا غلام، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، فإن العباد لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم يقدروا على ذلك. جفت الأقلام، وطويت الصحف! فإن استطعت أن تعمل لله بالرضا في اليقين، فافعل، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً، وأعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً، ولن يغلب عسر يسرين.
وعن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن".
وعن ابن عمرو بن العاص قال رسول الله: خصلتان من كانتا فيه كتبه الله تعالى شاكراً صابراً، ومن لم تكونا فيه لم يكتبه الله لا شاكراً ولا صابراً: من نظر في دينه إلى من هو فوقه، فاقتدى به، ونظر في دنياه إلى من هو دونه، فحمد الله على ما فضله به عليه".
وعن حذيفة قال: قال رسول الله: " لا يكن أحدكم أمعة ( وهو الذي لا يثبت مع أحد ولا على رأي لضعفه) يقول: أنا مع الناس، إن أحسن الناس أحسنت، وأن أساءوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وأن أساءوا أن تجنبوا اساءتهم".
وعن معاوية أمير المؤمنين أنه كتب إلى عائشة: أن اكتبي إلى كتاباً توصينني فيه ولا تكثري، فكتبت: سلام عليك، أما بعد، فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله تعالى مئونة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله تعالى إلى الناس، والسلام عليك".
وقال صلى الله عليه وسلم: " شر ما في الرجل؛ شح هالع، وجبن خالع، اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم"، وقال: " إن الله كره لكم ثلاثاً؛ قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال"، وقال: " لا تظهر الشماتة بأخيك، فيعافيه الله ويبتليك"، وقال: " ألا أنبئكم بشراركم؟ الذي يأكل وحده، ويجلد عبده، ويمنع رفده".
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله: " يوشك أن طالت بك مدة أن ترى قوماً في أيديهم مثل أذناب البقر، يغدون في غضب الله ويروحون في سخط الله". وقال: " صنفان من أهل النار لم أرهما بعد: قوم معهم سياط كأذناب البقر، يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رءوسهن كأسنمة البخت لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها". وقال " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ".
ثم انظروا إلى هذه الكلمات الموجزة، وتدبروا ما فيها من حكم بالغة: لا خير في صحبة من لا يرى لك ما ترى له.
رحم الله عبداً قال خيراً فغنم، أو سكت فسلم. الناس بزمانهم أشبه. العدة عطية. العاقل ألوف مألوف. لا تزال أمتي بخير ما لم تر الأمانة مغنماً، والصدقة مغرماً. اتقوا المهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه.
كان صلى الله عليه وسلم خطيباً لا يبارى، يقصد إلى الحقيقة، فيضعها بين سمع الناس وبصرهم، لا يحاول أن يستبى القلوب بزخرف القول، يكره التفاصح والتنطع، بين العبارة، واضح المعنى، وله خطب طوال لا حشو فيها ولا تقصير. وقصارى القول أن كلامه هو الكلام الموجز الشامل المعجز.
يقول الخدري صلى بنا النبي يوماً صلاة العصر، ثم قام خطيباً، فلم يدع شيئاً يكون إلى قيام الساعة إلا أخبرنا به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، وكان فيما قال: إن الدنيا خضرة حلوة، وإن الله مستخلفكم فيها، فناظر كيف تعملون، ألا فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، ألا لا يمنعن رجلاً هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه، ألا أنه ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة بقدر غدرته، ولا غدرة أعظم من غدرة إمام عاق. ألا وأن الغضب جمرة في قلب بن آدم، أما رأيتم حمرة عينيه، وانتفاخ أوداجه، فمن أحس بشيء من ذلك فليلصق بالأرض.
ثم انظروا إلى هذه الخطبة الجامعة لكثير من أصول الشرائع، في صفحة موجزة، يلقيها على مائة ألف، في موقف عرفة، في حجة الوداع، ففيها ألغى مآثر الجاهلية، وقرر مبادئ المساواة، وحرم الثأر، وقضى بذلك على أقدم عرف للعرب، وأمس شيء بقلوبهم، وقضى كذلك على الربا، ورفع درجة المرأة، وحرم الفتن والنهب والغزو، وكان مفخرة وعزة، وذكر الأشهر الحرم، فسوى بين أوقات السنة فيما هو حلال أو حرام، وقد كان الروم يستغلون تحريم العرب للقتال في شهور معينة، فيعتدون على حدودهم، ونصح الناس في أمور شتى، وحذرهم ما يحقرون من أعمالهم، ويستهينون به من الآثام.
قال صلى الله عليه وسلم: أيها الناس اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً. أيها الناس: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة أثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان. أي شهر هذا؟ أليس ذا الحجة؟ قالوا: بلى، قال: فأي بلد هذا؟ أليس البلدة؟ قالوا: بلى، قال: فأي يوم هذا؟ قال: أليس يوم النحر؟ قالوا: بلى، قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضلال يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا ليبلغ الشاهد الغائب فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه، ألا هل بلغت؟ ألا هل بلغت؟. فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، وأن كل ربا موضوع (أي مهدر)، ولكن لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، قضى الله أنه لا ربا، وأن ربا عباس ابن عبد المطلب ( عم النبي) موضوع كله، وأن كل دم كان في الجاهلية موضوع، وأن أول دمائكم أضع دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ( أي ابن عم النبي). أما بعد أيها الناس، فإن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه أبداً، ولكنه أن يطمع فيما سوى ذلك، فقد رضي بما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم.
أيها الناس " إنما النسئ زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا، يحلونه عاماً، ويحرمونه عاماً، ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله".
أما بعد: أيها الناس، فإن لكم على نسائكم حقاً، ولهن عليكم حقاً، لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً غيركم تكرهونه، وعليهن ألا يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن، فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع، وأن تضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف.
أيها الناس: استوصوا بالنساء خيراً، فانهن عندكم عوان(1) لا يملكن لأنفسهن شيئاً، فاعقلوا ـ أيها الناس ـ قولي، فإني قد بلغت، وقد تركت فيكم ما أن اعتصمتم به فلن تضلوا: كتاب الله، وسنة رسوله.
أيها الناس: اسمعوا قولي واعقلوه تعلمن أن كل مسلم أخ المسلم، وأن المسلمين أخوة، فلا يحل لامرئ مال أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمن أنفسكم، اللهم هل بلغت؟
فأجاب الناس من كل صوب؛ نعم. فقال: اللهم أشهد، ونزل عن ناقته.
هذه الخطبة جمعت أصولاً قد تبدو الآن معترفاً بها، مجمعاً عليها، ولكن الذين درسوا حالة المجتمع العربي وقت القائها، بل حالة المجتمع الإنساني؛ يعرفون أنها كانت أساساً جديداً لأكبر انقلاب اجتماعي منذ ظهوره صلى الله عليه وسلم، ويلحظون احاطتها على قِصَرِها بالداء والدواء، وأن فيها أسس الحضارة التي جعلت من العرب الضلال أمة تسوس المشرق والمغرب قروناً كثيرة.
وهاهي ذي الأيام تمر فتبلى كل جديد، وفصاحة محمد وبلاغته لا تزال نضرة عذبة يبتهج بها المتطلع إلى الأدب والعلم، ويجد فيها الأديب ريا وشفاء.