جانب عظيم من جوانب شخصية محمد صلى الله عليه وسلم هو جانب رحمته وبره، الذي لا يدانيه فيه أحد، وهو صورة لنفسه الكريمة، في أيام فقره وغناه، وضعفه وقوته، فقد كان البر أمامه، والرحمة محيطة به، وهو الذي يقول: " إن البر يهدي إلى الجنة. ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، لا يرحم الله من لا يرحم الناس، الراحمون يرحمهم الرحمن، لا تنزع الرحمة إلا من شقي"، وقد وصفه القرآن بهذه الصفة قال تعالى: " لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم".
كانت رحمته تسع الناس جميعاً، وكان بره يصل إلى المؤمنين والمشركين، وكان الفقراء والضعفاء أقرب الناس إلى قلبه الكبير، وعطفه الشامل، وبلغ حبه الفقراء أن دعا الله أن يبقى فيهم حياً وميتاً. روت عائشة أنه كان يقول:" اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين" فقالت عائشة: لم يا رسول الله؟ قال: إنهم يدخلون الجنة قبل الأغنياء بأربعين خريفاً. يا عائشة لا تردي المسكين ولو بشق تمرة. يا عائشة، أحبي المساكين وقربيهم يقربك الله يوم القيامة".
كانت حياته موصولة بالفقراء، وكان كل ما في بيته ويده لهم، وبلغ من عطفه عليهم أن مر رجل عليه، فقال لرجل عنده: ما رأيك في هذا؟ فقال رجل من أشراف الناس، هذا والله حري أن خطب أن ينكح وأن شفع أن يشفع. فسكت النبي ثم مر آخر، فقال النبي: ما رأيك في هذا؟ فقال: رجل من فقراء المسلمين، هذا والله حري أن خطب ألا ينكح، وأن شفع ألا يشفع، وأن قال ألا يسمع لقوله؛ فقال صلى الله عليه وسلم: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا.
لقد عمل محمد بما آتاه الله، وما أودع فطرته من الرحمة، على رفع شأن الفقير وإكرامه، والأخذ بيد الضعيف، وأرسل بره في هذه الطبقة، حتى قلب نظام المجتمع الذي ظهر فيه في سنين قليلة، وجعل من الفقراء المستضعفين أمة دان لها المشرق والمغرب فيما بعد؛ كما كان يقول صلى الله عليه وسلم: " ابغوني ضعفاءكم، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم" وكان يسره أن يجتمعوا إليه. وقد آثر بالحديث مرة واحدة بعض الأغنياء الأقوياء من قومه، فنزل القرآن بمعاتبته، فقال:
" عبس وتولى، أن جاءه الأعمى، وما يدريك لعله يزكى، أو يذكر فتنفعه الذكرى، أما من استغنى، فأنت له تصدى" .. الخ، وطالما سخرت قريش منه لحفاوته بالمساكين، وذهابه بهم إلى الحرم، فقالت أهؤلاء من الله عليهم من بيننا؟، ولكنه كان بالمساكين رءوفاً رحيماً. يقول عبد الله بن عمرو بن العاص: دخل النبي المسجد، فجلس إلى الفقراء، وبشرهم بالجنة، وبدا على وجوههم البشر، فحزنت، لأنني لم أكن منهم. ورأى سعد بن أبي وقاص يتعالى على المساكين، فذكر له أن ما ينال من الخير والنصر، إنما هو أثر هؤلاء الفقراء، وأنه مدين للمساكين، وقد تحقق ذلك واضحاً جلياً حينما قادر سعد هؤلاء الفقراء المستضعفين إلى القادسية، فهزم رستم، ووطئ دولة الأكاسرة، التي كان العرب بعض رعاياها.
كانت رحمته وبره بالمساكين تمتد إلى ما بعد الموت.
جاء في صحيح البخاري " أن النبي ذكر ذات يوم رجلاً أسود، فقال ما فعل ذلك الإنسان؟ قالوا: مات يا رسول الله، قال: أفلا آذنتموني؟ فقالوا: إنه كان كذا وكذا قصته، فحقروا من شأنه، قال: فدلوني على قبره، فأتى قبره، فصلى عليه".
وكان صلى الله عليه وسلم يجاهد لتحرير العبيد، ولرفع قيمتهم، فلم يدخر مالاً، ولا سلطاناً ولا دعوة في سبيلهم، وكانت نفسه تفيض بالرحمة عليهم والبر بهم، وأظهر مثل ما كان منه مع مملوكه زيد بن حارثة، الذي خير بين سيده محمد ووالده، فاختار محمداً في الوقت الذي كان لا حول له ولا قوة، بل كان موضع أذى قريش وسخريتها، وهو الذي جعل معتوقه زيداً هذا، القائد الأعلى للمهاجرين والأنصار حين وجههم لغزو الروم، فاستشهد في وقعة مؤتة، ولما استأنف النبي غزو الروم بعد الفتح أمر شاباً على الجيش، هو أسامة بن زيد هذا وهو حدث في العشرين ومشى أكابر الصحابة وأشراف قريش والنبي في موكبه.
أرأيتم أذن كيف رفع برحمته وبره شأن الأرقاء المستعبدين؟ وكان صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يدخل الجنة سيئ الملكة، ويقول: حسن الملكة يمن وسوء الملكة شؤم".
وكان باراً بالخدم والعمال، روى أبو هريرة أن النبي قال: " إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه، فإن لم يجلس معه فليناوله لقمة أو لقمتين" ! وقال معاوية بن سويد: كنا بني مقرن على عهد رسول الله ليس لنا خادم إلا واحدة، فلطمها أحدنا، فبلغ ذلك رسول الله فقال: أعتقوها، فقيل: ليس لهم خادم غيرها. قال: فليستخدموها، فإذا استغنوا عنها فليخلوا سبيلها. وعن أبي مسعود قال: ضربت غلاماً لي بالسوط، فسمعت صوتاً من خلفي، فإذا برسول الله يقول: أعلم يا أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام. وبلغ من رحمة محمد أنه كان لا يطيق أحداً يقول: عبدي أو أمتي، فأمر المسلمين أن يكفوا عن ذلك، وأن يقولوا: فتاي وفتات، وقد كان لهذه التربية أحسن الأثر في تحرير الأرقاء، ونشر المساواة، وتغليب روح الأخوة على ما كان من العصبية، والغرور، والتفاخر.
يقول المعرور بن سويد: رأيت أبا ذر وعليه حلة، وعلى غلامه مثلها، فسألته عن ذلك، فقال: سمعت رسول الله يقول: هم أخوانكم جعلهم الله تعالى تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم من العمل ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه. وقال أنس: خدمت رسول الله عشر سنين، فما قال لي أف قط، وكان صلى الله عليه وسلم يخالط المساكين والخدم والعبيد ويحادثهم ويجيب دعوتهم، ويعود مرضاهم، ويمشي في جنائزهم، ويصلي عليهم، وقد جعلت الشريعة المحمدية نصيباً في بيت المال لتحرير الأرقاء، وكان صلى الله عليه وسلم يعطي العبد بعد تحريره شيئاً يعينه على الكسب.
لم يكن رسول الله ليقصر رحمته وبره، الذي هو صورة صادقة لنفسه الكريمة، على الناطقين من بني الإنسان، فإن هذه الرحمة ملكت مشاعره، وحفزته لكفاح موفق في سبيل الرفق بالحيوان، فكم كان للعرب من عادات مرذولة أنكرها وأزالها. كانوا يقتطعون من حيواناتهم، وهي حية، فيشوون ويطعمون، فحرم ذلك ولا يزال إلى اليوم بعض الطوائف في الصحراء الكبرى بالرغم إسلامهم يعملون شيئاً من هذا، فهم إذا خرجوا للغزو، وبعدت عليهم الشقة، فصدوا البعير، فأخذوا من دمه، وطبخوه وأكلوه، أو شقوا عن سنامه فاقتطعوا من الدهن، ثم خاطوا السنام، وأكلوا الدهن. وكان وشم الحيوان، ولا يزال ضرورة لإثبات الملكية في البادية، فنهى عن ذلك الأذى، وخففه باختيار أقل الأثر في أقل الأعضاء إحساساً. وكان العرب يتخذون من دوابهم أهدافاً للرماية، فنهى عن ذلك، وعن أن يقطعوا ذيول الخيل. ومر مرة بناقة مربوطة جائعة، فحل وثاقها وأطلقها. وأوصى الناس أن يخشوا الله في البهائم؛ ومن الأمثلة التي ضربها صلى الله عليه وسلم أنه قال: بينما رجل يمشي بطريق أشتد عليه العطش فوجد بئراً، فنزل فيها، فشرب ثم خرج وإذا كلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني! فنزل البئر، فملأ خفه ماء، ثم أمسكه بفيه حتى رقى، فسقى الكلب فشكر الله تعالى له، فغفر له" فقالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم لأجراً؟ قال: في كل كبد رطبة أجر. وقال أيضاً: دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض.
تلك الأمثال يضربها محمد لقوم ما كانوا يظنون في الرفق بالحيوان أجراً، وقد كان لها أكبر الأثر من الرحمة والرفق في نفوس المسلمين، ومن تأدب بأدبهم في الشرق والغرب، وكان من عادات الجاهلية أن يتخذوا ظهور دوابهم منابر، فنهى عن ذلك، وقال: إنما سخرها الله لكم لتبلغكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، وجعل لكم الأرض، فعليها فاقضوا حاجاتكم.
وهذه رحمته يفيض بها قلبه الكبير على عصفور صغير: قال عبد الرحمن بن عبد الله، كنا مع رسول الله في سفر، فرأينا حمرة، ( طائر في شكل العصفور) معها فرخان لها، فأخذناهما، فجاءت الحمرة تعرش ( أي ترفرف)، فلما جاء الرسول قال: من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها. وقال صلى الله عليه وسلم في قسوة عائشة على بعير ركبته: "من يحرم الرفق يحرم الخير كله".
هذه الرحمة بالإنسان والحيوان كانت تظهر أنساً وبشراً في وجهه إذا رأى الطفل، أو لقي الصبي، فقد كان يأخذ أطفال أصحابه بين ذراعيه، ويطرب لذلك، وكان إذا مر بالصبية يقرئهم السلام. وحدث جابر بن سمرة: أن النبي رأى صبية يتسابقون، فجرى معهم، وكان يلقى الصبي في الطريق فيركبه ناقته ليسره، وكان أبر والد بولده، يقول أنس: أنه لا يعلم رجلاً أبر بأهله وولده من محمد. وقال أسامة بن زيد: كان رسول الله يأخذني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن على فخذه الأخرى، ثم يضمهما، ثم يقول: اللهم ارحمهما فإني ارحمهما. وقد حدث أن عجب بعض الأعراب من رسول الله وهو يقبل أولاده وأولاد أصحابه، فقال الأقرع بن حابس مرة وقد رآه يقبل الحسين: أن لي عشرة أولاد ما قبلت أحداً منهم قط، واعترض آخرون بمثل هذا المعنى على الشفقة غير المألوفة، وكان محمد ينكر عليهم أن يكونوا غلاظ الأكباد قساة القلوب. قالت عائشة: جاء أعرابي إلى النبي، فقال: أتقبلون الصبيان؟ فما نقبلهم: فقال النبي: أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة؟
وهذه الرحمة في نفس محمد كما كانت تبدو بشراً وأنساً، كانت تفيض دمعاً وأسى، وكان جفاة القوم يستعظمون هذه عليه، فكان يبين لهم أنها رحمة، وأن لا عيب فيها.
مات لإحدى بناته ولد، فلما رفع إليه وكانت نفسه تتقعقع كأنها شن، ( أي قربة جف جلدها) فاضت عيناه، فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله ما هذا؟ قال: هذه رحمة جعلها الله في قلوب عبادة، وإنما يرحم الله من عبادة الرحماء. وجاءت نوبة سعد نفسه، فاشتكى، وذهب النبي يعوده، فلما دخل عليه، فوجده في غاشية بين أهله. قال: قد قضى؟ قالوا: لا يا رسول الله، فبكى النبي، وقال: ألا تسمعون أن الله لا يعذب بدمع العين، ولا حزن القلب، ولكن يعذب بهذا، وأشار إلى لسانه.
هذه الرحمة بالكبير والصغير لم تكن خاصة بأتباعه المؤمنين، بل كانت شاملة لأعدائه المشركين والمخالفين من أهل الملل الأخرى. رفع إليه بعد إحدى الوقعات أن صبية قتلوا بين الصفوف، فحزن حزناً شديداً، فقال بعضهم: ما يحزنك يا رسول الله وهم صبية للمشركين؟ فغضب النبي، وقال ما معناه: إن هؤلاء خير منكم، إنهم على الفطرة، فإياكم وقتل الأولاد، إياكم وقتل الأولاد. وروى البخاري عن جابر بن عبد الله قال: مرت بنا جنازة، فقام لها النبي وقمنا، فقلنا: يا رسول الله، إنها جنازة يهودي، فقال: أو ليست نفساً؟! إذا رأيتم الجنازة فقوموا. ولما مات النجاشي نعاه لأصحابه، ثم تقدم، فصف الناس خلفه وصلى عليه.
تلك هي الرحمة التي لا تعرف التخصيص بالدين أو الوطن، ولا فرق عندها بين الرفق بالإنسان والحيوان.
وسئل مرة أن يلعن أعداءه، فقال: ما جئت لعاناً، بل رحمة. ولما مات عبد الله بن أبي سلول، وكان زعيم المنافقين في المدينة، وهو الذي رجع بمن تبعه من الطريق يوم أحد، فخذل النبي في أحرج أوقاته، وله مواقف مشهورة كان فيها شراً على الرسول والمسلمين. لما مات طلب ابنه من النبي قميصه ليكفنه فيه، تطيراً له، فأعطاه قميصه كفناً لزعيم المنافقين. أرأيت أبر وأكرم من هذا الصنيع؟ ثم مشى النبي إلى قبره، فوقف يريد الصلاة عليه، فوثب إليه عمر بن الخطاب، وقال: يا رسول الله أتصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا كذا وكذا؟! يعد عليه قوله، فتبسم الرسول، وقال: عني يا عمر.. قال عمر: فلما أكثرت عليه قال: إني خيرت فاخترت، لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت عليها؛ وانصرف.
وذلك إشارة إلى قوله تعالى في المنافقين: " استغفر لهم أو لا تستغفر لهم، إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم"، ففي الخيار بين أن يستغفر، وألا يستغفر، نزعت به طبيعته الرحيمة إلى الاستغفار لأعدائه، بل قال لعمر: لو علمت أني لو زدت في الاستغفار على السبعين غفر لهم، لفعلت أكثر من سبعين مرة.
تلك هي الرحمة التي وسعت أعداءه وأصدقاءه والناس جميعاً.
وسمع مرة أعرابياً يصلي خلفه، يقول: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً، فلما سلم قال: لقد ضيقت واسعاً.
فمن هذا وغيره مما سقناه من الأمثلة على امتلاء نفسه بالرحمة، يتضح أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن نتاجاً للبيئة التي عاش فيها، وإنما كان الرحمة الشاملة في وسط الجفوة والعصبية والأثرة، تلك الرحمة التي لا حد لها هي التي جعلته يدعو لأعدائه، وقد سئل الدعاء عليهم في أحد وهو جريح، وعمه حمزة ممثل به، وأنصاره بين القتل والجرح والشتريد. وهي التي جعلته يدعو لثقيف يوم الطائف وقد امتنعت عليه. وتلك الرحمة هي التي جعلته يفتح لتجارة قريش طريق اليمامة، وطريق الشام، وقد سألوه صلة الرحم، وشكوا جوع أهليهم، وهم الذين أخرجوه من داره وحصروه في المدينة.
فرحمته وبره صلى الله عليه وسلم وسعتا العدو والصديق، والقوي والضعيف، والحر والعبد، والحيوان، وفاض بها قلبه الكبير، فكانت في فمه بشراً، وفي عينه دمعاً، وفي يده جوداً.
تلك الرحمة التي وسعت الجميع هي أبرز صفات محمد. وهي التي يتسابق الأبطال إليها، فيردون عن هذا المدى، ويبقى رسول الله المثل الكامل، والقدوة العظمى. وحقاً كان كما قال عن نفسه " إنما أنا رحمة مهداة" وكما قال القرآن الكريم له: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين".
لم يكن بطل الأبطال وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم إلا بشراً يوحى إليه، وما أوتي عن طريق الوحي قد فصلت آياته في الكتاب، وفيما عدا ذلك من الأقوال والأعمال، فإنما هي ثمرة عقل راجح، ولسان فصيح في ذات فذة، وله في غير الوحي من القول والعمل ما يكفيه ليبقى أبد الدهر أمام البلاغة والفصاحة، وسيد الرجال، بل الرجل الفذ في تاريخ البشرية، الذي اجتمعت له أمور ثلاثة:
الأول: تكوين أمة من قبائل وشعوب متنافرة، كأنما خلقت لتتباعد وتتطاحن.
والثاني: تأسيس دولة بقيت قروناً مصدر السلطان في وسط الدنيا، ولا يزال أثرها أكثر من ألف سنة ماثلاً أمام الأنظار يوحي بعظمة الرسول صلى الله عليه وسلم، التي لا تدانيها عظمة.
والثالث: إقامة دين يدين به مئات الملايين، ويخلص له العرب والعجم، والأبيض والأسود والأصفر.
وتلك الأمور الثلاثة التي اجتمعت له والتي تكفي كل واحدة منها لتخليد الذكر، هي بعد الوحي كما قلت نتاج ذلك اللسان الفصيح، والعقل المدبر.
وقد أجمع الناس على أن محمداً الأمي قد أوتي من الأسلوب السهل المعجز ما لم يؤت معلم ولا متعلم، ممن دانت لهم العربية، وملكوا زمامها، فله جوامع الكلم، وبدائع الحكم في لفظ ناصع. وقول جزل، ومعان صحاح خالدة، في عبارات مضيئة مشرقة، لا تكلف فيها.
قال له أصحابه يوماً: ما رأينا الذي هو أفصح منك! فقال: وما يمنعني، وإنما أنزل القرآن بلساني: لسان عربي مبين. وقد فسر صلى الله عليه وسلم فصاحته بنشأته في بني سعد، ومولده في قريش، يريد أنه جمع قوة عارضة البادية وجزالتها ورونق الحاضرة وزخرف صناعتها وروعتها. غير أن نشأته في بني سعد، ونسبته في قريش، لا تفسر لنا ناحية أخرى، وهي مقدرته على أن يخاطب كل قبيلة وشعب من الشعوب العربية بلهجته، ويبدي في هذه اللهجات جميعاً من مطرب القول وجامعة ما يسبي قلب سامعه، وسواء أكان السامع من قحطان أم عدنان، من أقصى جنوب الجزيرة أم شمالها، من حجازها أم تهامتها أم نجدها، فإنه مقر لمحمد بالإمامة في البلاغة والفصاحة، في أي لهجة جرى عليها الحديث.
كان كلامه بيناً لا فضول فيه ولا تقصير، يحفظه من جلس إليه. تقول عائشة: ما كان رسول الله يسرد كسردكم هذا ولكن كان يكلم بكلام بين فصل يحفظه من جلس إليه. وروى عنها أيضاً: أنه يحدث حديثاً لو عده العاد لأحصاه.
ولقد كان بطل الأبطال، علم البيان في قومه الذين اشتهروا بالفصاحة، والذين كانوا يقيمون للأدب أسواقاً، ويكتبون بالذهب، ويعلقون على الكعبة ما يستحسنون من القول، وكان أبو بكر رضي الله عنه نسابة مشهوراً في قريش في الجاهلية والإسلام وكان في حيرة من فصاحة محمد وبلاغته، قال له يوماً لقد طفت في العرب، وسمعت فصحاءهم، فما سمعت أفصح منك، فمن أدبك؟ قال: أدبني ربي فأحسن تأديبي. وذلك هو التفسير الصحيح، لأن محمداً فطرا على صفاء الحس، ونفاذ البصيرة، وصحة الحكم، واستقامة الطبع، مما هو جلي في قوله وعمله.
ويقول الجاحظ؛ ومكانته في الأدب ما تعلمون، يصف كلام الرسول: " ألقى الله على كلامه المحبة، وغشاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، وهو مع استغنائه عن إعادته، وقلة حاجة السامع إلى معاودته، لم تسقط له كلمة، ولا زلت له قدم، ولا بارت له حجة، ولم يقم له خصم، ولا أفحمه خطيب، بل يبذ الخطب الطوال بالكلام القصير، ولا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتج إلا بالصدق، ثم لم يسمع الناس بكلام قط أعم نفعاً، ولا أصدق لفظاً، ولا أعدل وزناً... من كلامه صلى الله عليه وسلم.
وإني محاول الآن أن أسوق لكم نبذاً من قوله في مواضع شتى، ومعان متفرقة، فيها ترون الفصاحة والبلاغة المحمدية حية منيرة، لم تبل القرون جدتها، ولم تذهب شيئاً من طلاوتها. انظروا إلى هذه الكلمات: قال رسول الله: أمرني ربي بتسع: خشية الله في السر والعلانية وكلمة العدل في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وأن أصل من قطعني، وأعطى من حرمني، وأعفو عمن ظلمني، وأن يكون صمتي فكراً، ونطقي ذكراً. ونظري عبرة.
وقد وجدوا مكتوباً على قائم سيفه صلى الله عليه وسلم: أعف عمن ظلمك، وصل من قطعك، وأحسن إلى من أساء إليك، وقل الحق ولو على نفسك.
ويقول ابن عباس: كنت رديف رسول الله فقال: يا غلام، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، فإن العباد لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم يقدروا على ذلك. جفت الأقلام، وطويت الصحف! فإن استطعت أن تعمل لله بالرضا في اليقين، فافعل، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً، وأعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً، ولن يغلب عسر يسرين.
وعن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن".
وعن ابن عمرو بن العاص قال رسول الله: خصلتان من كانتا فيه كتبه الله تعالى شاكراً صابراً، ومن لم تكونا فيه لم يكتبه الله لا شاكراً ولا صابراً: من نظر في دينه إلى من هو فوقه، فاقتدى به، ونظر في دنياه إلى من هو دونه، فحمد الله على ما فضله به عليه".
وعن حذيفة قال: قال رسول الله: " لا يكن أحدكم أمعة ( وهو الذي لا يثبت مع أحد ولا على رأي لضعفه) يقول: أنا مع الناس، إن أحسن الناس أحسنت، وأن أساءوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وأن أساءوا أن تجنبوا اساءتهم".
وعن معاوية أمير المؤمنين أنه كتب إلى عائشة: أن اكتبي إلى كتاباً توصينني فيه ولا تكثري، فكتبت: سلام عليك، أما بعد، فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله تعالى مئونة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله تعالى إلى الناس، والسلام عليك".
وقال صلى الله عليه وسلم: " شر ما في الرجل؛ شح هالع، وجبن خالع، اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم"، وقال: " إن الله كره لكم ثلاثاً؛ قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال"، وقال: " لا تظهر الشماتة بأخيك، فيعافيه الله ويبتليك"، وقال: " ألا أنبئكم بشراركم؟ الذي يأكل وحده، ويجلد عبده، ويمنع رفده".
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله: " يوشك أن طالت بك مدة أن ترى قوماً في أيديهم مثل أذناب البقر، يغدون في غضب الله ويروحون في سخط الله". وقال: " صنفان من أهل النار لم أرهما بعد: قوم معهم سياط كأذناب البقر، يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رءوسهن كأسنمة البخت لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها". وقال " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ".
ثم انظروا إلى هذه الكلمات الموجزة، وتدبروا ما فيها من حكم بالغة: لا خير في صحبة من لا يرى لك ما ترى له.
رحم الله عبداً قال خيراً فغنم، أو سكت فسلم. الناس بزمانهم أشبه. العدة عطية. العاقل ألوف مألوف. لا تزال أمتي بخير ما لم تر الأمانة مغنماً، والصدقة مغرماً. اتقوا المهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه.
كان صلى الله عليه وسلم خطيباً لا يبارى، يقصد إلى الحقيقة، فيضعها بين سمع الناس وبصرهم، لا يحاول أن يستبى القلوب بزخرف القول، يكره التفاصح والتنطع، بين العبارة، واضح المعنى، وله خطب طوال لا حشو فيها ولا تقصير. وقصارى القول أن كلامه هو الكلام الموجز الشامل المعجز.
يقول الخدري صلى بنا النبي يوماً صلاة العصر، ثم قام خطيباً، فلم يدع شيئاً يكون إلى قيام الساعة إلا أخبرنا به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، وكان فيما قال: إن الدنيا خضرة حلوة، وإن الله مستخلفكم فيها، فناظر كيف تعملون، ألا فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، ألا لا يمنعن رجلاً هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه، ألا أنه ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة بقدر غدرته، ولا غدرة أعظم من غدرة إمام عاق. ألا وأن الغضب جمرة في قلب بن آدم، أما رأيتم حمرة عينيه، وانتفاخ أوداجه، فمن أحس بشيء من ذلك فليلصق بالأرض.
ثم انظروا إلى هذه الخطبة الجامعة لكثير من أصول الشرائع، في صفحة موجزة، يلقيها على مائة ألف، في موقف عرفة، في حجة الوداع، ففيها ألغى مآثر الجاهلية، وقرر مبادئ المساواة، وحرم الثأر، وقضى بذلك على أقدم عرف للعرب، وأمس شيء بقلوبهم، وقضى كذلك على الربا، ورفع درجة المرأة، وحرم الفتن والنهب والغزو، وكان مفخرة وعزة، وذكر الأشهر الحرم، فسوى بين أوقات السنة فيما هو حلال أو حرام، وقد كان الروم يستغلون تحريم العرب للقتال في شهور معينة، فيعتدون على حدودهم، ونصح الناس في أمور شتى، وحذرهم ما يحقرون من أعمالهم، ويستهينون به من الآثام.
قال صلى الله عليه وسلم: أيها الناس اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً. أيها الناس: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة أثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان. أي شهر هذا؟ أليس ذا الحجة؟ قالوا: بلى، قال: فأي بلد هذا؟ أليس البلدة؟ قالوا: بلى، قال: فأي يوم هذا؟ قال: أليس يوم النحر؟ قالوا: بلى، قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضلال يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا ليبلغ الشاهد الغائب فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه، ألا هل بلغت؟ ألا هل بلغت؟. فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، وأن كل ربا موضوع (أي مهدر)، ولكن لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، قضى الله أنه لا ربا، وأن ربا عباس ابن عبد المطلب ( عم النبي) موضوع كله، وأن كل دم كان في الجاهلية موضوع، وأن أول دمائكم أضع دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ( أي ابن عم النبي). أما بعد أيها الناس، فإن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه أبداً، ولكنه أن يطمع فيما سوى ذلك، فقد رضي بما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم.
أيها الناس " إنما النسئ زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا، يحلونه عاماً، ويحرمونه عاماً، ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله".
أما بعد: أيها الناس، فإن لكم على نسائكم حقاً، ولهن عليكم حقاً، لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً غيركم تكرهونه، وعليهن ألا يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن، فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع، وأن تضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف.
أيها الناس: استوصوا بالنساء خيراً، فانهن عندكم عوان(1) لا يملكن لأنفسهن شيئاً، فاعقلوا ـ أيها الناس ـ قولي، فإني قد بلغت، وقد تركت فيكم ما أن اعتصمتم به فلن تضلوا: كتاب الله، وسنة رسوله.
أيها الناس: اسمعوا قولي واعقلوه تعلمن أن كل مسلم أخ المسلم، وأن المسلمين أخوة، فلا يحل لامرئ مال أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمن أنفسكم، اللهم هل بلغت؟
فأجاب الناس من كل صوب؛ نعم. فقال: اللهم أشهد، ونزل عن ناقته.
هذه الخطبة جمعت أصولاً قد تبدو الآن معترفاً بها، مجمعاً عليها، ولكن الذين درسوا حالة المجتمع العربي وقت القائها، بل حالة المجتمع الإنساني؛ يعرفون أنها كانت أساساً جديداً لأكبر انقلاب اجتماعي منذ ظهوره صلى الله عليه وسلم، ويلحظون احاطتها على قِصَرِها بالداء والدواء، وأن فيها أسس الحضارة التي جعلت من العرب الضلال أمة تسوس المشرق والمغرب قروناً كثيرة.
وهاهي ذي الأيام تمر فتبلى كل جديد، وفصاحة محمد وبلاغته لا تزال نضرة عذبة يبتهج بها المتطلع إلى الأدب والعلم، ويجد فيها الأديب ريا وشفاء.
صفة عظمى من صفات الرسول صلى الله عليه وسلم، هي مثل لرجال الدولة والسياسة والقادة في جميع ميادين الإصلاح. لعلهم كذلك واجدون فيها ما يمكنهم من النجاح، فإن محمداً بما أوتي من الأخلاق، وما وهب له من حسن السياسة، وتصريف الأمور، ووضعها في نصابها، قد أوتي النجاح الذي لم يؤته أحد قبله ولا بعده.
هذه الناحية من حياته يبدو فيها محمد مثلاً عالياً لرجل الدولة، وسترون بها ميزة على من سبقه من الأنبياء والرسل والأبطال، ولقد كانت أكثر وضوحاً في المدينة حيث استلزمت الأحوال أن يكون نبي الأمة وزعيمها وقائدها، وحيث أخذ التشريع الإسلامي يتناول الحياة السياسية والاجتماعية بتوسع وتفصيل أكثر مما كان في مكة، حين كانت الدعوة لا تزال في بدايتها، متجهة بكل قوتها إلى تعريف الناس بالله، وانذارهم حسابه وعقابه، ذلك الفرق بين مظهري الدعوة في بيئتين مختلفتين، جعل بعض كتاب الملل الأخرى يحاولون أن يصوروا محمداً في شخصيتين: مكي ومدني يقولون هذا نبي، وهذا رجل دولة وصاحب سلطان.
لو أن الذين يظنون هذا الظن كانوا بعيدي النظر لرأوا محمداً الواعظ في مكة، هو محمداً الناسك في المدينة، الذي تتورم قدماه من كثرة الوقوف بين يدي الله، والذي يموت وهو رأس الدولة، ودرعه مرهونة عند يهودي.
بل لرأوا محمداً الذي يشيعه العبيد والصبية والسوقة من الطائف بالسخرية والحجارة ويقيمونه إذا جلس من الإعياء فيدعو الله لهم بالهداية هو محمداً الذي يناول مفتاح الكعبة لعثمان بن طلحة يوم الفتح ويقول: اليوم يوم بر ووفاء.
لو أن هؤلاء الذين جعلوه نبياً في مكة، ورجل دولة في المدينة لاحظوا كيف وضعت نواة الدولة في أيام المحنة بمكنة، لما حسبوها من غرس يثرب، بل لعلموا أنها نتيجة محتومة للصراع العنيف، الذي دام ثلاث عشرة سنة، ونتاجاً للدعوة من وقت أن قال الله عز وجل:
" فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين".
وما قامت الدولة في يثرب إلا على أيدي تلاميذ النبي في مكة، ممن هاجروا في سبيل الله إلى الحبشة أولاً وثانياً، ومن هاجروا إلى يثرب بعد ذلك، وعلى سواعد الأنصار من أصحاب البيعة الأولى والثانية عند العقبة في مكة.
أولئك هم نواة الأمة النموذجية التي غرسها الرسول في المدينة، وشاد عليها الدولة المحمدية، ثم ظهرت ( الإمبراطورية ) الإسلامية على صورتها فيما بعد.
كان محمد في مكة والمدينة من ساعة أن استيقظ على صوت الرفيق الأعلى في حراء، إلى أن استجابت روحه لذلك الرفيق في بيت عائشة، واضح الهدف، متعدد الوسيلة، راجح العقل، حسن السياسة.
قبل في مكة أن ينتفع بعرفها، فعاش في جوار عبد المطلب وهو مشرك، وطلب في عودته من الطائف جوار المطعم ابن عدي فدخل مكة في حمايته وهو مشرك، ولذلك قبل الاستفادة من نظم أهل الأوثان، ليقهر الأوثان في مكة؛ وقبل في المدينة أن ينظم أهلها ويعاهدهم، ويستعين بهم ويقودهم إلى النصر، ليحمي نفسه وصحبه، ويقضي على الأوثان.
موهبة واحدة، ووسيلة واحدة، لغاية واحدة، في أحوال شتى، أخطأ هؤلاء الكتاب تصويرها.
وإن كان يبدو في المدينة كثير التشريع والتنظيم والتصريف لشئون الحياة، فليس ذلك برهاناً على تغيره، بل على تفوقه وأنه فياض الموارد، خصب العقل.
فذات الرسول التي وقفت في وجه المشركين ثلاثة عشر عاماً بمكة لا تعجز، ولا تهن، ولا تيأس، هي ذاته التي فاضت في المدينة على شئون الدنيا، فدلت على ما فيها من الحيوية والقوى التي جعلتها أهلاً للتغلب على كل معضلة في وقتها ومناسباتها.
تلك القوى والصفات التي لم تجتمع لأحد قبله ولا بعده، جعلته من أية ناحية نظرت إليه مثلاً كاملاً، وأسوة حسنة، بل من مجموع هذه القوى والصفات يبرز للناس رسول الله سواء أكان في أيام الدعوة المجردة عن السلطة، أم في أيام الدعوة المصحوبة بالرياسة الزمنية في المدينة، ذاتاً موفقة ناجحة، انصرفت إلى الله بكليتها فجعلته أمامها، ووضعت ما عداه وراءها! هو في كلتا القريتين الناسك العابد، الباكي بين يدي خالقه، وهو فيهما الزاهد، يعرض عليه أصحابه أن يوطئوا له فراشاً، فيقول: مالي وللدنيا! ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها.. لم يغره السلطان بشيء من المظاهر، ولا خرج به عن التواضع والتياسر.
فأي تنافر يجد النقاد في حياة الرسول، ليجعلوا من شخصه شخصين، وهو يكافح في مكة ولا سلطان له، ويجاهد في المدينة على رأس الدولة التي أنشأها؟ لقد كان همه فيهما جميعاً إلى اللحظة الأخيرة، نشر دينه، وغايته بسط سيادة الإسلام على الشرك.
وأي تناقض يجد نقاده بين حياته في مكة، وحياته في المدينة، وهو في الأولى يتوسل بالصبر على الأذى والسخرية ويتقي بعرف الجاهلية الموت مع أنه لا يقر ذلك العرف، ويسعى لهدمه، ويرسل المؤمنين مهاجرين إلى الحبشة، ويجادل عن دينه، ويدعو إليه، ويخرج من كل كارثة برأي صائب، ويعد لكل حالة تدبيراً محكماً، وفي الثانية يتخذ من نصرة أهلها تكأة، فيعاهد اليهود والمشركين، ويتقي الموت بدرع الدولة التي نظمها، وينجو من ( الأحزاب) بحسن الرأي، ويغلب المصائب بموفق التدبير؟
ثلاث عشرة سنة قضاها في فم الأسد، دون أن يستطيع الأسد أن يطبق عليه أنيابه، وعشر سنين في المدينة يحاول فيها الأسد أن يعمل فيه أنيابه، وفي هذه وتلك يبدي رسول الله من حسن الرأي، وبارع السياسة والصبر، وسعة الصدر والتدبير ما يوقع الأسد في الشبكة، فإذا ما انتهى النصر الحاسم المعجز، وبهت الذين كفروا، قالوا: لو أنه لم يقم دولة ولم يقد جيشاً، لكان النبي الخالص من الشوائب..!
لو أن الذين يأخذون على محمد أنه لم يقتصر على حياة الوعظ، وظنوا أن الأكمل له أن يقف عند الجهر بالدعوة حتى يقتل، فكروا في مصير الدعوة نفسها، لشاركونا في الإعجاب به مرشداً وواعظاً، ومنظماً وفاتحاً.
فبين جفاة الأعراب في بيئة الأوثان والعزة بالعصبية، والتفاخر بإباحة الدماء والأموال والأعراض، لم يكن لدعوة محمد بعد قتله مصير إلا الإندحار والسخرية به وبها، وقد علمت ذلك قريش، وأعدوا له عدته وهيئوا لبني هاشم من بعده الموقف الذي ليس لهم فيه إلا الدية صاغرين.
لو أن هؤلاء النقاد كانوا أكثر بصيرة بحياة العرب؛ لأدركوا مع السهولة هذه الحال، ولو سلك الرسول ذلك السبيل، بقي في موقفه ساكناً إلى آخر لحظة، لما بقي من دينه إلا بعض مواعظ تروى ضمن أساطير التاريخ، أو لبقيت الدعوة على أحسن الفروض موكولة إلى المصادفات كما بقي غيرها، حتى يتاح لها رجل من الجبابرة، أو من المصلحين، يأخذها ويضع سيفه بجانبها، حتى يظهرها على غيرها، وهي صورة محرفة لما أراد الله وأراد محمد. ومع ذلك ماذا يريد الناقدون من رجل كامل العقل والرجولة أن يعمل، وقد هم القوم بقتله ففر منهم، ويهمون بتعقبه للقضاء عليه في ملجئه؟ وكلما بينه وبينهم من خلاف قائم على نفس العقيدة التي ملكت قلب محمد، والتي احتمل في سبيلها صنوف الأذى والعذاب، والتي هي عنده أساس الخلود، ووسيلة الحياة الأخرى، أكان ينتظرهم في المدينة حتى يأتوا إليها فيقتلوه؟ لو كان مطلبه متعلقاً بشيء في النفس من متاع الدنيا؛ لأمكن أن نلحظ على ما بيننا وبين أولئك الكتاب من خلاف وجهة نظرهم، ولكن أمر محمد لم يكن شيئاً من هذا في قليل أو كثير.
لقد كان محمد أبعد الناس نظراً وأرجحهم عقلاً، فمنذ أن وصل إلى المدينة أخذ في إعداد العدة لحماية الدعوة من قوم لا يحترمون غير القوة، ولم يفلح فيهم النصح ثلاثة عشر عاماً.
نظر بثاقب فكره في وسائل الدفاع عن النفس والصحب، فأحسن ابتكارها وأحسن استعمالها وانتهى إلى النصر الذي تقول في صاحبه دائرة المعارف البريطانية: " إنه النجاح الذي لم ينل مثله مصلح ديني في زمن من الأزمان!".
ذلك النجاح المقطوع النظير لم يبدل من حالة محمد في نسكه وتعبده، وزهده وتواضعه وتياسره، وبره ورحمته،ومظهره ومخبره، ومطلبه وغايته، بل بقي والدعوة غالبة في المدينة كما كان والدعوة مغلوبة في مكة.
فعظمته عندنا هي في ملكه، وفي نبوته، وفي ملكه برهان آخر على نبوته؛ فإنه يقف وحده في تاريخ الفاتحين ناسكاً فقيراً زاهداً أوتي كل السلطان، ثم يموت لا يوصي لأحد بعده، ويحرم ذريته وأهله الأوفياء، لا من الملك الذي شاده وحده، بل مما يرث الناس عادة، ويقول: نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة.
يذكر في صلاته، وهو بكامل العافية شيئاً من تبر في بيته، فيسرع فيها، ويدخل البيت، فيخرجه ويوزعه، خاشياً أن يدركه الموت وله شيء من الدنيا.
ويدخل مكة فاتحاً، فيضع رأسه ويطأطئه على ناقته وهو يسير، وأعداؤه على الهوان والعجز، ويخشى أن تحدثه نفسه بشيء من العجب أو الغرور.
والحق الذي لا مراء فيه أن محمداً في حياته بالمدينة، وبقيادته للأمة وتوليه الحكم، أدى الرسالة التي اختصه الله بها أحسن أداء، فأرانا بالفعل لا بالقول ماذا يجب أن يكون عليه الحاكم في كل المناسبات والأحوال، والناس محتاجون للحاكم وللدولة ما دامت الحضارة بل ما دامت الدنيا.
فلو أنه قضى ولم تبرز لنا هذه الناحية، لما كان المثل الكامل الذي سعد الناس به، ولو كانت المواعظ وحدها كفيلة بالإصلاح، لوجد الناس في الكتب ما يغني عن المصلحين.
ولكن هي الأمثال تضرب، والأقوال تطبق، والعين ترى، والأذن تسمع، والحس يشارك الفكر.
هو ذلك كله الذي يطبع الناس بالمثل الصالح، ويحرك البشر إلى الجهود النبيلة المثمرة، ومحمد لهذا كما يقول: ( بورزوروث اسميث) أكبر المصلحين على الإطلاق.
***
في هذا الحديث رد موجز على بعض كتاب الملل الأخرى، الذين أرادوا أن يصوروا محمداً في شخصيتين: مكية ومدنية، وبيان لخطأ هذا التصوير. والآن أنتقل إلى قصدي من الحديث، وهو بيان ناحية من نواحي الرسول فيها درس كامل، وفيها ضياء يكشف لنا عن الأخلاق السامية، التي كانت موضع الفصول السابقة، بل فيها صور لا تقرب من وصف محمد للناس إلا بمحاولة إخراجها.
جاء صلى الله عليه وسلم إلى يثرب ورفيقه أبو بكر بعد سفرة شاقة، وخوف زلزلت له نفس صاحبه، جاءها لاجئاً يطلب لنفسه وصحبه الأمن في جوار أهلها، فما استقرت به النوى حتى لحظ بثاقب بصره حاجتها إلى السلام، وإلى التنظيم الداخلي، وحاجتها إلى الأمن الخارجي.
جاء يثرب ( التي سميت مدينة النبي فيما بعد) والأوس(1) والخزرج (2) فيها قريباً عهد بوقعة بعاث(3)، والعداوة القديمة بينهما تثير الأحداث الجديدة، واليهود يذكون نار الفتنة، ويخشون سوء المنقلب إذا ما أتحدت الأوس والخزرج.
جاء إلى المدينة وأصحابه الذين هاجروا إليها ليس فيها حول ولا قوة إلا حصول اللاجئ المستظل بجوار قوم لا يحبون أهله وعشيرته، فاستقبل من المسلمين بحماسه عظيمة، ومن اليهود والمشركين ببشر لا بأس به. هؤلاء يأملون أن يصلح الله به ذات بينهم، وأولئك يطمعون في استخدام العربي الخارج على الأوثان، المتودد لأهل الكتاب، للاعتزاز على العرب من ناحية، ومقاومة النصرانية في الشمال من ناحية أخرى. فكان مركزه لذلك على جانب عظيم من الدقة، عرضة لانتكاس اليهود والمشركين، كما هو عرضة لبغي مكة، وشرها المستطير.
فلننظر كيف تناول الموقف بحكمته؟ وبرهن على أنه أهل لكل جليل من الأمر، ليس بما اختصه الله به من الوحي فقط، بل بما أوتيه رجلاً في ذروة الإنسانية، من حسن التدبير وكمال العقل.
شرع في الحال في بناء المسجد، وما هذا المسجد؟ فيه كانت الأساس التي وضعها لصلاح الدين والدنيا، وأصبح معبداً و( برلماناً) ومقراً للسلطة التنفيذية، ومركزاً للقيادة العليا، منه تصدر الدعوة إلى الله، والشرائع لخلقه، وجميع الخطط والتدابير الإدارية والسياسة والعسكرية وفيه تستقبل الوفود، ويلقن العلم.
كان المسجد على سذاجة بنائه وأثاثه، وعلى قلة الأوضاع فيه، يتناسب كل التناسب مع تياسر محمد وأصحابه وانصرافهم للجوهري من الأمر ويذكر الناس في كل حين بهذه الحقيقة، وهي أن الانقلابات العظيمة، وأن النجاح فيها أثر لهذه السهولة التي تعني بالروح والخلق، لا بالافتنان في الأوضاع، والإسراف في المظاهر.
ومن هذا المسجد الصغير نمت تدريجياً الإدارة الإسلامية إلى أن شملت الجزيرة كلها، ودانت الروم والفرس لها، وفي هذا المسجد اتخذت تدابير قد تكون مما استلزمته أسباب مؤقتة، وأحوال طارئة، ولكنها بما انطوت عليه من الحكمة السامية، وما صدرت عنه من الإدراك، كانت بذوراً لأوسع الإدارات الإمبراطورية، وقواعد لأكبر إصلاح بشري.
من هذه التدابير ظهرت يثرب وطناً لأهلها، لا مسكناً لأقوام متنازعين فيها، وطناً آمناً للمسلمين والمشركين واليهود، وللنازحين إليها من أية قبيلة كانوا، ولأي عنصر انتسبوا، عرباً أو عجماً.
فظهر لأول مرة معنى الوطن، تتساوى الناس فيها تحت نظام يعطي حقوقاً ويلزم تكاليف، من غير نظر إلى الأحساب والأنساب والعصبيات والعقائد.
انظروا إليه صلى الله عليه وسلم يضع دستور الوطن الجديد في صحيفة بين أهل الأديان والأجناس، تجعلهم جميعاً وطنيين مكلفين بالدفاع عن الوطن أمام أي اعتداء عليه، متكافلين في الحرب والسلم، لا ينصرون غيرهم ولا يمالئونه على أهل الوطن، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم، وتكفل حرية العقيدة لأهل الوطن، وحرمة أموالهم ودمائهم وأعراضهم.
تبتدئ الصحيفة هكذا: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم، ولحق بهم، وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس.
ثم تقرر أن من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين، ولا متناصر عليهم، وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم، ثم تقرر لبقية اليهود المعاهدين ما ليهود بني عوف، ثم تذكر الصحيفة أن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، إلى أن تقول: وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وأنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها، وأن ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بهذه الصحيفة انقادت إلى النبي سلطة يثرب الزمنية دون قصد، فقد اقتضت العهود أن تنص على حكم في حالة الخلاف، ولم يكن إلا هو ليحكم، ومنذ تلك الساعة وضع الحجر الأساسي لدولة الإسلام.
فقضى رسول الله على الفوضى، والإباحة للقوة، وجعل لأول مرة في البلاد العربية حق الأمة فوق حق القبيلة، وجعل مرجع إقامة الحدود إلى الله، أي إلى شريعته، وإلى رسوله منفذ هذه الشريعة، وكانت إلى ذلك الحين تتولاها القوة الغاشمة وحدها، قوة العصبية لا تفرق بين المذنب والبرئ، وبذلك غرس لاجئ إلى يثرب بذرة الحضارة في أشد الأقوام نزوعاً إلى الاختلال والهمجية، ووضع نواة الإمبراطورية التي أزهرت قروناً طويلة، ولا تزال فخر المشرق، وحديث المغرب.
أدرك محمد صلى الله عليه وسلم بما أوتي من العقل الراجح، أن النظام الذي يريده ليثرب أولاً، وللعالم أخيراً لا تكفله صحف الدساتير وحدها في قوم غلاظ، سراع إلى الفتنة، شديدي التمسك بالعصبية، بل لابد من القوة لحماية الدعوة، وصون النظام الذي وضعت قواعده في هذه الصحيفة، وما تبعها من عهود صارت في مجموعها دستور الوطن الجديد، هذه القوة لا تكون إلا في سواعد المؤمنين الذين هجروا وطنهم إلى الحبشة وإلى يثرب، فراراً من النظام العتيق، وخروجاً على دعوة الجاهلية والعصبية، فهم حماة عهد الحرية والنظام، الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، من هؤلاء المهاجرين كان الفوج الأول من الجيش المحمدي، ومن الأنصار كان الفوج الثاني، فهم المتطوعون الذين صادفت الدعوة من نفوسهم موقع القبول والبشر، فلم يكن هناك سند للحرية والنظام الجديد غير المهاجرين والأنصار من بطون قريش وقبائل أخرى بينها من المنافسة ما بينها. والأنصار هم خصوم قريش ومنافسوها، وقد كادت كذلك العداوة والبغضاء التي بين أهل المدينة تقضي على وجود الأوس فيها قبيل وصوله صلى اليه عليه وسلم.
فتأليف هذا الجيش من المهاجرين والأنصار، ومزجه، وتدريبه، وتربيته حتى يكون وحدة متماسكة، غايتها نصر الدعوة، ووسيلتها الطاعة والنظام، وعدتها الإيمان، هو العمل العظيم الذي برزت فيه صفة رسول الله العسكرية. ومن أبطال هذا النوع من الفاتحين السابقين واللاحقين في المدينة، وبعد مضي ستة أشهر فقط من وصوله إليها، أخذ يعد هذا الجيش ويهيئه، حتى اصطدم به بعد سنتين في بدر مع قوة تفوقه في العدة، وفي شهرة صناديدها، كما تزيد على ثلاثة أمثاله في العدد، فرأى الناس معجزة النظام والتدرب. ومنذ هزيمة بدر لم تقم للوثنية قائمة، ولا وقف الجيش المحمدي حتى بلغ قلب فرنسا، وقلب الهند.
رأى هذا الخليط من أتباعه في يثرب عرضة لدعوة العصبية، فدعاه إلى التآخي وجعل للرجل من قريش أخاً من الأوس، وللآخر أخاً من الخزرج، ومازال يؤاخي بين هذا وذاك، ويعقد بينهم أواصر أخوة في الله، حتى شمل القبائل والبطون، ووصل بهذا التآخي في العقيدة إلى مقام أسمى من أخوة الدم، فقدمه عليها، وجعل الميراث للأخ في العقيدة، دون الأبناء والآباء من غيرها.
هذه المؤاخاة التي تجدون حديثها في كتب السير مطولاً، وفيها تفصيل الأسماء والأنساب، هي أساس الأمة الإسلامية، وأساس النصر في كل مواقع الإسلام فيما بعد.
وقف أبو سفيان ينظر إلى جيش محمد يوم الفتح، فكلما مر فوج قال: من هؤلاء؟ فيقال: سليم أو مزينة أو غيرها، وهو لا يعبأ بهم، حتى لاحت الكتيبة الخضراء من هؤلاء الأخوان، فقال للعباس: ومن هؤلاء؟ قال المهاجرون والأنصار، فقال أبو سفيان: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة والله يا أبا الفضلّ لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً.
هذه الأخوة في الله التي قضت على عرف القبيلة، وعصبية الجاهلية، والتي تعهدها رسول الله بعنايته، أخرجت الأمة العربية من الاختلال والتشتت إلى حياة الوحدة والنظام، وهيأت ( للإمبراطورية) الإسلامية مكانتها التاريخية.
كان محمد صلى الله عليه وسلم رجل جد، بصيراً بالعواقب، شديد اليقظة، دائم التفكير، علم أنه لا يكفي لأمن يثرب أن يضع لها دستوراً يكفل الحرية والتعاون بين مسلميها ويهودها ومشركيها. ولا يكفي أن يؤاخي بين أنصاره المؤمنين لكي يكفل النظام الداخلي في المدينة، مادامت المدينة كلها كالجزيرة في المحيط، لا تصل إلى ناحية من النواحي إلا بإذن المشركين وتسامحهم، وهي في هذا المحيط الذي تتولى زعامته الدينية قريش أضيع منها قبل هجرته إليها، إذا لم تعترف قريش والعرب لها بالوجود وتوادعها. ولننظر كيف أخذ يعالج هذا الخطر، ويجعل من المدينة الضائعة المحصورة قاعدة الجزيرة العربية، ثم عاصمة الإمبراطورية في بضع سنين.
كان في المدينة على مفترق طريقين: طريق يريده له بعض كتاب الملل الأخرى، وبعض قصار النظر ممن يحلو لهم الكلام، ويعجزون كل العجز إذا اعترضتهم عقبات الحياة، وسخافات البشر، وسنن الوجود، وطريق آخر هو الذي سلكه لأن الله أرشده وأعده ليكون المثل الكامل في القول والفعل. أما الأول فهو الطريق السلبي، وأما الثاني فهو الطريق العامل؛ ففي الأول كان عليه أن يكتفي بالإقامة في المدينة كما كان في مكة واعظاً مرشداً، معولاً على حماية من عاهدوه من أهل المدينة، منتظراً ما تفعل قريش ومن حول يثرب من الأعراب فإن أحسنوا وتركوه في عزلته كان لهم الفضل، وإن جاءوا فقضوا عليه، كان له أجر الشهادة، ولهم فخر النصر... وأما الطريق العامل، فهو أن يدرك هذا الخطرِ، ويعمل على منعه، ويقوم على دعوته، مناضلاً مجادلاً مجاهداً حتى يفوز بغايته، ويضمن للذين آووا ونصروا والذين هاجروا معه، السلامة والعزة.
لم يكن محمد من الوعاظ الذين يمرون على الحياة يلقون إلى الدنيا كلمة الخير، ثم لا ينظرون: أذهبت مع الريح أم بقيت؟ فهو بمقتضى رسالته ومروءته ورجولته الكاملة شخص آخر، هو الجد في صورة رجل، والإيمان العامل الراسخ ينسف الباطل نسفاً.
ما جاء المدينة ليبني صومعة، ويسأل المشركين واليهود حمايتها، فلم يكن بمقتضى طبعه ومناسباته يستطيع أن يسلك السبيل السلبي الكلامي دون أن يصل به إلى الإخفاق المحقق.
نصر بعض أهل المدينة محمداً إيماناً به، ووافقهم المشركون طمعاً في الاعتزاز على مكة، وتحويل تجارتها إلى سوق يثرب، وكان في المدينة اليهود يعتقدون أنهم شعب الله المختار، وأنه لا يختص بالنبوة أحداً غيرهم، ويطمعون في أن يعتزوا بمحمد على العرب ويؤيدوا به دعوتهم.
وفي المدينة المهاجرون أصيبوا بحمى يثرب من أول حلولهم فيها، وتشاءموا من عقم نسائهم، حتى أن امرأة الزبير لما ولدت كان نفاسها عيداً، وصحبهم الفقر بعد أن تركوا أموالهم في مكة، ذلك هو الأمر الذي لا مخرج منه إلا بالجد والعمل، ورسول الله قد برهن فيه على فيض من العقل وحسن السياسة، لم يؤت مثله مصلح ولا فاتح في زمن من الأزمان.
***
فيما سبق وصف موجز لحالة المدينة، وبيان باختصار لآمال اليهود، وأطماع المشركين، وحركة المسلمين، وأنه لم يكن أمام الرسول مخرج إلا الجد والعمل الحاسم. والآن ننظر في حالة مكة والمشركين حول المدينة، ليتبين فضل حسن السياسة والحزم في التغلب على ما يشبه المستحيل.
يظن أن مكة قرية بائسة، محرومة، في واد غير ذي زرع، وقليل من يعلمون أنها في وقت ظهور الدعوة الإسلامية كانت من أغنى القرى، بل كانت سوقاً من أربح أسواق التجارة في العالم القديم، وكانت قريش فيها من أعظم التجار همة، وأخبرهم بحال من حولهم من الأمم. ولعل الموقع نفسه، والحرمان الطبيعي، هو الذي حفز هممهم، وضاعف نشاطهم، فساحوا في الأرض، وابتغوا فضل التجارة، ألم نسمع بمغامرات فينيقية في التاريخ القديم، وبريطانيا في التاريخ الحديث؟ أليس سر نجاح هذه الأمم هو في عجز أوطانها عن تقديم حاجات الحياة، مما دفعهم إلى المغامرة وطلب الرزق في أسواق العالم، فصاروا أغنى أهل الأرض، في أفقر بقاع الأرض؟ كذلك كانت مكة وقت ظهور الدعوة المحمدية: كان أهلها في بسطة من الرزق، ومتاع بكل ما لذ وطاب من منتجات العالم القديم.
يقول البحاثة " اسبر نجر" أن صادرات مكة في وقت الهجرة لم تكن تقل قيمتها عن خمسين ومائتي ألف دينار من الذهب، والدينار خمسة عشر فرنكاً، أي نحو ثلثي الجنيه المصري.
فإذا ذكرنا ارتفاع قيمة المعادن النفيسة في ذلك الزمن، وذكرنا أن " اسبرنجر" إنما يقدر قيمة الصادرات وحدها، أدركنا مقدار البضائع التي تتبادلها مكة، وهي وسيط بين اليمن والحبشة، والإمبراطوريتين الرومانية والفارسية، وكانت هذه التجارة الواسعة غير محصورة في بيت أو فريق من الناس، بل تجدون في كتب السيرة أن أبا سفيان حين أحس الخطر على القافلة قبيل بدر، استنهض مكة كلها فخرج إليه ألف من المقاتلة، معها مائة من الخيل، وسبعمائة من الإبل، ولما أصيبت قريش في بدر تبرع أهل مكة بقافلة أبي سفيان كلها ليعدوا بها للانتقام من محمد وأصحابه وقد كانت أرباح مكة من هذه التجارة الواسعة تقدر بخمسين في المائة من رأس المال مما أتاح لها حياة من البذخ تلحظونه في كرم أهلها وهم يضيفون حاج الجزيرة كله، ويسرفون في اللهو بالخمر والميسر والقيان والطرب.
أما حالة النبي وأصحابه بالمدينة فقد مر في بعض الأحاديث ما يكشف عنها. فالمهاجرون وقد صودرت أموالهم ومساكنهم في مكة، جاءوا المدينة وليس لهم من الدنيا غير إيمانهم، فهذا ابن عمير لا يجد ما يتستر به، وهذا علي بن أبي طالب يطل من ثقب الباب على يهودي ليعمل في بستانه، كلما نزع دلواً نال تمرة حتى نال حفنة. وهذا رسول الله يخرج إلى المسجد فيجد أبا بكر وعمر، فيقول: ما أخرجكما؟ فيقولان: الجوع، فيقول: وما أخرجني إلا الجوع. فإذا ترك الرسول مكة تنعم بما هي فيه، وتسمع بما هم فيه، أيكون ذلك مؤيداً لانتشار الدعوة، وخذلان الشرك؟ كلا؛ فإن قريشاً كانت تجعلهم مضرب الأمثال، وموضع السخرية، تمر على المدينة بمتاجرها وعزها، تستهوي الضعيف، وتفتن البائس، ثم تبطش انتصاراً لهبل، وتترضى بأذى المسلمين اللات والعزى.
لقد كان محمد صلى الله عليه وسلم أصدق لرسالته، وأبر بأصحابه، وأسمى همة، وأعظم شجاعة من أن يستكين، وأن يقيم على هذا الهوان، فشرع في الحال يتهيأ للعمل الحاسم، يرد به قريشاً إلى رشدها، باصابتها في أعز شيء لديها، وهو تجارتها، ويرد الأعراب عن ذلك الحصار، الذي يجعل من الشرك نطاقاً حول المدينة، ويؤمن المدينة نفسها من الفتن التي يثيرها اليهود بين أوسها وخزرجها، وبين المشركين والمسلمين عامة.
تلك أغراض ثلاثة لابد لإدراكها من القوة، وخلق هذه القوة وتنظيمها، والاستعانة بها على أسمى المقاصد، هو عمل امتاز به محمد صلى الله عليه وسلم على من سبقه من الرسل. وذلك الدور في تكوين المدينة وتدريب المهاجرين والأنصار، والخروج بهم على الناس جميعاً، هو من أدق ما امتحن به محمد مصلحاً، ورجل دولة، وفيه تجلى له من حسن الذوق السياسي والعسكري ما لا يضاهيه إلا أخلاقه الفاضلة.
(1) (1، 2) أنصار النبي من أهل المدينة هم قبيلتا الأوس والخزرج ابنا قيلة، وهي أمهما نسبا إليها وهما ابنا حارثة بن ثعلبة من اليمن.
(3) يوم بعاث بضم الباء: يوم معروف من أيام العرب كان فيه حرب بين الأوس والخزرج في الجاهلية، وبعاث اسم حصن للأوس.
بعد وصوله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بستة أشهر فقط عقد أول راية في الإسلام لعبد الله بن الحارث بن المطلب، ثم أخذت سراياه وغزواته تتتابع؛ وبالرغم من أن كل هذه السرايا قبل بدر لم تدرك غرضاً من الأغراض الظاهرة من قريش، فإنها أدركت أغراضاً سياسية وعسكرية كان لابد منها لتثبيت الحكم، وظهور الدولة، فقد أحيت آمال المهاجرين، ورفعت حالتهم المعنوية، ونشطت أبدانهم التي كانت دائماً غرضاً لحمى يثرب، كما عودت المسلمين العمل المشترك في قيادة موحدة، ليس للأحساب والأنساب سلطان فيها، ولا للقبيلة والعصبية علاقة بها، بل أن هذه الحركات العسكرية المستمرة هي التدريب الدائم ليوم الفصل.
وقد علمت المدينة من هذه الحركات العسكرية أن محمداً جاد في مقاومة القوة بالقوة، وعلم الأعراب أن الرجل الذي يخرج بسراياه ليتعرض لقريش، ليس بالذي يغمز جانبه، أو يباح حماه، ولو علموا فيه ضعفاً لتطاولوا على المدينة، وجعلوا من نهب حيوانها وقتل رعاته، حديث فخرهم، وأناشيد نسائهم.
وكذلك علمت قريش أن محمداً وأصحابه الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، صاروا في المدينة أخطر على حياتها الاقتصادية، وأن ظنتهم أقل خطراً على حياتها الدينية، وفهمت أنه الآن يصادرها في أعز شيء لديها، وهو التجارة، كما صادرته في أعز شيء لديه، وهو العقيدة، فإن كانت تريد حرية التجارة فلابد لها من الاعتراف بحرية العقيدة، وهو ما وصل إليه في معاهدة الحديبية بعد تلك الحوادث الدموية في بدر وأحد والأحزاب.
دامت هذه التدريبات العسكرية نحو سنتين، فلما أحس النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه القدرة على قبول معركة ترفع مقامهم في نظر العرب كافة، لم يتردد في التقدم لها، فنزل بدراً وانتظر فيها قريشاً، فجاءته في العدد والعدة، في ألف مقاتل بأحسن أسلحة العصر، ومائة فارس وسبعمائة بعير.
وكان هو في قوة من أربعة عشر وثلاثمائة راجل، سلاحهم السيوف، ومعهم ثلاثة أفراس ونحو سبعين بعيراً. أراد أن يطمئن إلى حسن استعداد أصحابه للقتال، فسألهم الرأي، فأما المهاجرون فتكلموا وأحسنوا، حتى قال المقداد بن عمرو: امض يا رسول الله، فوالذي بعثك بالحق؛ لو سرت بنا إلى برك الغماد(1) لجالدنا معك من دونه حتى نبلغه، فشكره رسول الله، ثم قال: أشيروا على أيها الناس ـ يريد الأنصار ـ لأن بيعتهم له كانت على أن يمنعوه ما دام في ديارهم، فكان يتخوف أنهم لا يرون نصرته إلا على من دهمه في المدينة من عدوه، وليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو خارج ديارهم. فقال سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل، فقال سعد: قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، على السمع والطاعة؛ فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق! لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقي بنا العدو غداً، إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسربنا على بركة الله... فسر عليه الصلاة والسلام بقول سعد، وقال سيروا وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم!
هذا هو روح الجيش قبيل بدر، يعبر عنه رجل من المهاجرين، وآخر من الأنصار؛ نفوس صاغها الإيمان، وصقلتها الطاعة والتدريب والنظام، وذلك هو عقل بطل الأبطال يتجلى في المشورة والأدب والوفاء. أما المشورة ففي ترديده: أشيروا علي أيها الناس، وهو يعلم أنه لو خاض بهم البحر، أو اجتاز القفر، ما خالفوه؛ وأما الأدب والوفاء فهو استئذانه الأنصار قبل أن يعرضهم لحرب يبايعوه على مثلها من قبل.
فلما خاض المعركة انتصرت القلة في العدد والعدة، على الكثرة، والفريقان عرب وشجعان وإنما رجح جيش محمد كل هذا الرجحان بأمرين ظاهرين: الأول النظام، والثاني احتقار الموت. وشهد الناس في بدر معجزة ذلك النظام حين أغارت خيل المشركين على الصفوف المرصوصة، فلم تحركها من مكانها قدماً واحدة، وارتدت عنها حائرة، إذ رأت ما لم تسمع به من قبل؛ ذلك أن للخيل إذا أقبلت في زحفها مغيرة رهبة يعرفها من مارسوا الحروب، وقلما تثبت لها الراجلة.
شهد الناس في بدر ثلاثمائة رجل رباهم محمد ونظمهم، يستفتحون الجهاد في سبيل الله على الأحمر والأسود والأبيض، فتفتح لهم الأرض، فعلم الناس منذ يوم بدر ما للنظام واحتقار الموت من قوة، كما رأوا بعد في الخندق كيف يمكن قوماً أحبوا الحق أكثر مما يحبون الحياة أن يردوا الأحزاب عن مدينتهم، وبان كذلك كيف يرجح النظام على العدد والعدة.
ففي وقعة الخندق أو الأحزاب ذر(1) قرن النفاق، ونقض اليهود عهد رسول الله، وجاء العدو المدينة من فوقها، ومن أسفل منها، وزلزل المسلمون زلزالاً شديداً، ولكن التدريب المحمدي للكتائب المرصوصة، وتلك القيادة الماهرة التي لا تحرج بشيء، ولا تضيق ذرعاً، وذلك العقل الخصب، قد أتم بالرأي والحيلة ما بدأته الشجاعة والصبر، وانصرفت الأحزاب عن المدينة في ظلام الليل، يركب زعيمها ناقته، فيسوقها ولما يفك عقالها، فتقوم على ثلاث.
تلك القيادة المحمدية الماهرة، هي التي أنقذت المدينة كذلك من قبل في أحد، فسارعت، ولما يفق الجيش من صدمته، إلى الحركة والظهور للعدو بمظهر الطالب له، المتقدم إليه، ولو لا هذه المسارعة التي لا تكون إلا للنظام والطاعة، لدهمت قريش المدينة، وقضت على بقية جيش المسلمين فيها. تلك القيادة الماهرة لجند مدرب، هي التي جعلت قريشاً تتراجع، والمهزومون بالأمس يتعقبون الذين انتصروا عليهم.
هذه بعض مثل نعرضها موجزة، وتجدون تفصيلها في كتب التاريخ، ليتبين قدر محمد صلى الله عليه وسلم رجل دولة وقيادة، وما أوتي من حسن السياسة، وحسن القيادة، ولتتجلى لطلاب الحق ذاته الجامعة.
ومن العجيب أن هذه التدريبات العسكرية، والواقعات والحروب والمكايد والحيل والرأي والتدبير الذي أشرنا إلى شيء منه سابقاً قد أخرج الدولة المحمدية، التي صارت أساس أعظم الإمبراطوريات في تاريخ البشر، من غير أن تكون مقصودة لذاتها! وإنا لنكون مقصرين نحو الحق التاريخي، ونحو ما نعتقده نتيجة للبحث، إذا تركنا الناس يتوهمون أن الدولة كانت غرضاً أصلياً للرسول صلى الله عليه وسلم، بل الواقع أنها جاءت عرضاً، ووجدت كوسيلة صالحة للغرض الأول، وهو القضاء على الشرك، وإحلال الإيمان بالله وحده محل عبادة الأوثان، فإن مكة لما بالغت في القسوة وأسرفت في اضطهاد المسلمين، نفدت كل مساعي الرسول السلمية في أن يجد للعقيدة الإسلامية حياة حرة، وللدعوة مجالاً طليقاً، فلجأ إلى دفع القوة بالقوة مطالباً بحرية الأديان كلها:
" ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله".
كان كل هذا الصراع المسلح يرمي إلى شيء أساسي واحد، وهو تقرير حرية العقيدة في أشد الأقوام همجية، فظهرت صفات بطل الأبطال في التنظيم وبناء الدولة كما ظهرت من قبل خارقة في الثبات على المبدأ، والصبر على الأذى، وبيان الحجة، واستقامة الوسيلة، ووضوح الغاية. وسنتحدث فيما بعد عن الحرية الدينية، وكيف كانت هي الغرض الحقيقي لسياسة بطل الأبطال في المدينة.